الاشتراكي نت - الاشتراكي نت - د. ياسين سعيد نعمان http://aleshteraky.com Fri, 29 Mar 2024 10:12:16 +0300 ar-aa اليمن بلسان عاشق لتاريخه ومتفائل بمستقبله http://aleshteraky.com/views/item/24465-اليمن-بلسان-عاشق-لتاريخه-ومتفائل-بمستقبله http://aleshteraky.com/views/item/24465-اليمن-بلسان-عاشق-لتاريخه-ومتفائل-بمستقبله

الصديق Jack Stewartعاشق لليمن ولتاريخ الحضارة اليمنية. زار اليمن، جنوبه وشماله، مرات كثيرة في الثمانينات والتسعينات حتى أوائل الألفية الثالثة. أذهلته كوكبان وشبام حضرموت، وأعمدة وصرح عرش بلقيس، وبقايا السد القديم في ركني الوادي وآثار القنوات المائية الممتدة من السد عبر الصحراء حتى حضرموت، وكان يراها بقايا حضارة مائية عريقة.

وقف مبهوراً أمام مدرجات الزراعة في المرتفعات اليمنية ومنها حجة، المحويت، إب، مناخة، الحيمتين، رازح، ريمة، وصاب، عتمة، النجد الاحمر، صبر، يافع  وغيرها، ويحلو له أن يقرنها بمعلقات بابل التاريخية. شاهد من أعلى قمة سمارة الشعاب الخضراء وهي تخترق سلسلة الجبال الشاهقة، تحمل معها الحياة إلى المدى الذي تصل إليه، ثم تسلمها لشعاب فرعية تتدفق حياةً من مرتفعات أخرى، وكأنها تتناوب مهمة منح الإنسان الصامد في تلك الأرض القدرة على مواجهة تحديات البقاء والإعمار. تتبّع مجرى وادي بنا من مصدره في الجبال المطلة على الوادي في إب الشرقية، بما وهبه الله من طبيعة خلابة، حتى مصبه في بحر العرب باتجاه أبين.

زار تهامة وخلص إلى أنها خزان بشري يتمدد فوق أرض غنية وذات تضاريس تاريخية، يتسم ابناؤها بالتنوع في قدرات هائلة على العمل والانتاج في الميدان الاقتصادي والفكري والفني والرياضي والعسكري. تعرضت هذه القدرات للقمع والاهمال والافقار من قبل الأنظمة السياسية المركزية، وتم إخراجها بالكامل من معادلة الحكم، وتم تحويل أراضيهم الخصبة إلى مزارع خاصة لذوي النفوذ.

تجول في صهاريج عدن، وزار قلعة صيرة المطلة على خليج عدن؛ شاهد منها مدينة كريتر في درعها الصخري وهي تنام بهدوء فوق بركان خامد بشوارعها التي تتقاطع رأسياً وأفقياً في تخطيط بديع أخذت تعصف به العشوائية، كريتر المدينة العريقة المثقلة بالتاريخ والتي تعايشت فيها أجناس متعددة من البشر لتغدو متحفاً للإنسانية بكل معنى الكلمة. ومن القلعة تطلع إلى البحر في مداه البعيد حيث قوارب الصيادين تتراقص فوق أمواج صاخبة لا تهدأ، وعلى مرمى أبعد نظر إلى خط الملاحة الدولية وكانت سفن تمخر عباب الماء في طريقها نحو الشرق وأخرى متجهة غرباً. ومن القلعة شاهد جانباً من تاريخ عدن يحكيه المجمع السكني الرابض فوق جبل "معاشق" والذي كان مملوكا للتجار الأجانب ولبعض شرائح الارستقراطية العدنية التي أخذت تتشكل بمعايير الحداثة الغربية، وراحت تنفصل تدريجياً عن مجتمعها.

وفي نقاش مع بعض مثقفي عدن في أحد المنتديات، يعتقد أنه منتدى "الايام"، يقف عند مصدر كلمة "صيرة"، ويتذكر أنها مرادفة للكلمة اللاتينية "سييرا"، ومعناها سلسلة جبلية، وأنها جاءت مع البرتغاليين الذين بنوا القلعة أثناء احتلالهم لعدن في القرن السادس عشر الميلادي. وكان يحلو للبعض أن يطلق عليها "سييرا عدن" تيمناً بـ "سييرا مايسترا" التي انطلقت منها الثورة الكوبية بقيادة كاسترو ورفيق دربه جيفارا.

قال، شعرت وأنا أذكر "سييرا مايسترا" أن كثيراً  من الحضور في المنتدى يريد أن يعرف المزيد، فحكيت لهم قصة جيفارا الذي كان يرافق الثوار كطبيب، بعد انطلاقهم من "سييرا ماسترا" باتجاه "هاڤانا"، كيف تدخلت الصدفة ليتحول من طبيب إلى مقاتل حينما سقط حامل المدفع الرشاش في سريته قتيلاً، وتفرق بقية أعضاء السرية وكان معظمهم جرحى، ووجد جيفارا نفسه وحيداً، وأمام خيارين، إما أن يواصل حمل حقيبة الأدوية، أو يتخلى عنها لينقذ المدفع الرشاش الذي سيشكل فقدانه خسارة كبيرة على الحملة.. كان عليه أن يقرر ذلك سريعاً، ومعها يتقرر مستقبله. وقرر أن يترك حقيبة الدواء وينقذ المدفع الرشاش الذي لازمه بعد ذلك وأصبح جزءاً منه. هناك كثيرون كانت الصدفة هي من قررت مسيرتهم.

شهد إعلان الوحدة عام ١٩٩٠.. وأعجب بخطاب البيض في ميدان السبعين الذي ألقاه قبل إعلان الوحدة بأيام، ويرى البيض وطنياً عاطفياً أكثر منه سياسياً. ويعتقد أن علي صالح توفرت له فرصة لبناء دولة مستقرة لليمن لكنه ضلّ الطريق واعتقد أن الدولة ستنافسه السلطة وتوقف بها عند وظيفة الشرطي الذي يحمي مصالح الحكام وذوي النفوذ، وأن ذلك الحدث الكبير تحجر عند الحديث عن الوحدة كـ "منجز" بذاته دون تمكينه من إثبات ذلك؛ ثم سُلمت الوحدة، في أكثر اللحظات التاريخية خطأً للحرب، تلبيةً لمن أرادوا أن يعمدوها بالدم ويخلصوها من "لوثة الكُفر"، وكان أن تم تفريغها والعبث بها وإلحاقها، من ثم، بنظام سار بالبلاد إلى طريق مغلق ثم إلى المجهول.

كلما ألتقيه يتغزل بدار الحجر في وادي ظهر بصنعاء ومنارة المحضار في تريم، ويعتقد أن مبنى العامرية في رداع، وقصر السلطان عبد الكريم فضل في الرزمت في عدن (البُراق)، من المباني المعمارية التي يطلق عليها (landmarks)؛ ويرى أن جوامع العبادة في اليمن فيها بساطة في المعمار وعمق روحي وهو مغرم بالقصور المبنية من الطين في شبوة وحضرموت، ومتأكد أن المنطقة التي تمتد ما بين ثمود والعبر ورملة السبعتين في اتجاه شبوه مأرب حتى الجوف تحتوي على كنوزٍ أثرية مذهلة.

أكل "المندي" عند بلحمر في طريقه من عدن براً  إلى حضرموت، ويقسم أنه لم يذق طعاماً بتلك اللذة إلا مرة أو مرتين في مطعم الشيباني بصنعاء، ويتمنى لو يعود به الزمن إلى تلك الرحلة التي التقى فيها على الطريق كثيراً من الناس ممن كانوا يصرون على استضافته، ويتذكر صاحب النوب في "النقبة" عند مفرق طريق حضرموت، الصعيد- يشبم-عتق، والذي أهداه قارورة عسل جردان، كما يتذكر أنه أمضى مع مرافقيه بقية اليوم في بئر علي يصطادون السمك. وكان قد قرر أن يزور حوف وسقطرى، لكنه زار حوف المطلة على بحر العرب وتمتع بجمالها الأخاذ، أما سقطرى فلم يتمكن من زيارتها لأسباب تتعلق بالطيران.

حضر منتديات كثيرة، بعضاً منها في صنعاء وشارك في نقاشات تاريخية وسياسيه وأدبية، ويعتقد أن المثقف اليمني يمتلك الرؤيا لكنه يتوقف برؤيته عند حدود واقع صادم لأحلامه، ولطالما خذل رؤيته بمسايرة الواقع، كما يرى أن هناك تراث أدبي وفكري غني بالمعرفة، وأنه إذا ما أعيد بناءه وتجديده وتحقيقه في يوم من الأيام ستكتشف البشرية فيه جواهر علمية مذهلة.

زار مشاريع اقتصادية، والتقى برجال أعمال في كثير من المدن اليمنية، وتوصل إلى قناعة بأن اليمن محطة اقتصادية وتجارية هامة، وأن رجال أعمالها مؤهلون للتجارة، لكنهم لا يريدون أن يكونوا رواداً في العمل السياسي الوطني لأن التاريخ القريب يقول إن بعضاً من رجال الأعمال الناجحين ممن التحقوا بالعمل السياسي الوطني واجهوا مصاعب كثيرة، وبعضهم أفلس. ويرى أن العلاقة بين رجل الأعمال والسياسي غير مستقرة، فالسياسي ذي النفوذ يبتز رجل الاعمال، ويبني رجل الأعمال علاقته بالسياسي بقواعد الافساد. ولاحظ أن الأحزاب السياسية في اليمن لم تستطع أن تجسد بعد الحاجة الفعلية للتعددية السياسية والتنوع، ذلك أن تكويناتها تعرضت لاختراقات عصبية اجتماعية ودوغمائية جعلت منها حاضناً للصراعات المجتمعية التي تلبس ثوب السياسة، وهو ما سلبها القدرة على أن تكون قوة تغيير وتجديد مستمر للمجتمع. والأنظمة السياسية المستبدة لا تجد أفضل من هذا النموذج لإشهار ديمقراطية تقوم على التعدد والتنوع الذي لا يفضي بالنتيجة إلى أي تداول سلمي للسلطة. ويلاحظ أن قبائل اليمن تعرضت من قبل الأنظمة السياسية لإفساد نظامها الاجتماعي الذي ظل يحمل المجتمع عند غياب الدولة، والذي من المفترض أن يتحول تلقائياً - مع توسع نفوذ الدولة ووظائفها - إلى حالة تكون معها القبيلة قد أنجزت مهمتها كمرحلة من مراحل نشوء المجتمع والدولة. لكن مع الافساد الذي تعرضت له من داخلها ومن قبل الأنظمة تأخر هذا التحول وصار عقبة كبيرة أمام انجاز مهمة بناء الدولة.

ويرى أن المجتمع اليمني يغلب عليه التسامح، وأن العنف يأتيه من خارجه محمولاً بأيديولوجيات صدامية ودموية.

التقينا منذ أيام، وكان في غاية الشوق لمعرفة الأوضاع في اليمن، حدثته عن المستجدات في الشأن اليمني، وذكرته بحديثه عن أن العنف في اليمن يأتيه من خارجه محمولا بأيديولوجيات دموية. هز رأسه موافقاً، وأكد أن اليمن اليوم أمام أخطر أيديولوجية دموية على الإطلاق. وعند حديثنا عن جهود إنهاء الحرب وتحقيق السلام، قال إن إنهاء الحرب لن يتحقق إلا بهزيمة مشروع الحرب ذاته، والحوثي هو مشروع حرب، واليمن لا يحتاج إلى سلام يواصل تهشيمه، وإنما يحتاج إلى سلام يبنيه.

وجرنا الحديث إلى ما يشهده العالم من تغيرات وأحداث: أوبئة، حروب، تقلبات مناخية، ودورات اقتصادية يتعاظم معها الفقر، وجميعها تنذر بكوارث طبيعية لا تحمد عقباها. وقال إن المنطقة العربية ستتعرض بسبب ذلك لضغوط ضخمة باعتبارها منطقة هشة لم تستطع أن توفر لنفسها الحماية الذاتية الكافية، وهي في حاجة إلى أنظمة مؤهلة ومستقرة وقوية ومتعاونة فيما بينها على التنمية وإنهاء الفقر، وتستمد قوتها من هذا التعاون ومن ثقة الشعوب بها. ويرى أنها تحتاج إلى قيادات تؤمن بالتقدم العلمي الذي بات يرتب أدوات مختلفة لحل مشاكل الحياة، وهو ما يعني أن من يمتلك ناصية العلوم والتقدم التكنولوجي والعلمي سيكون صوته أقوى وفرصته أفضل لمواجهة هذه التقلبات.

وخلص إلى أن المنطقة العربية مليئة بالألغام التي لم يتفجر منها سوى النزر اليسير. وأنه على الرغم مما يتوفر لديها من فرص للخروج من حقل الالغام هذا إلا أن قرار الخروج لا زال بيد غيرها من القوى الدولية والقوى المحيطة بها؛ وأنها باتت في حاجة إلى توفر عوامل ثلاثة لتحقيق هذه العملية التاريخية:

- إرادة وطنية تتجاوز خطاب السياسة وتفاعيلها المراوغة التي تنشغل بها الأنظمة وتخدر بها الشعوب، إرادة تمنحها الثقة في التعاون فيما بين دولها وشعوبها على أسس الشراكة.

- توفر حامل علمي ومعرفي لهذه الإرادة يتجاوز الزعامة في صورتها التقليدية، ويهيئ لها قاعدة مجتمعية يتغير معها  التفكير النمطي في التعاطي مع المشكلات، تكون معه قادرة على مد جسور التواصل مع العالم بشروط مختلفة عن تلك التي أخضعتها للتبعية عهوداً طويلة من الزمن.

- إعادة إنتاج الجهد الإنساني المتراكم من الماضي، فيما كنت قد أشرت إليه عند حديثي عن اليمن من آثار وتكوينات حضارية وتاريخية وغيرها مما أنتجه الإنسان، وشكل الشخصية الجامعة التي تضفي على الحاضر المستمر قيمة أصيلة من قيم الحياة والتي تملأ وجدان إنسان اليوم بالفخر والاعتزاز، وتضعه دائماً في تحدي مع نفسه وهو يقارن حاضره مع منجزات أسلافه.

ثم قال: لا تستغرب إذا قلت لك أن ما شاهدته في اليمن من جهد بشري متراكم من غابر الأزمان يكفي لأن يحمل هذا البلد نحو المستقبل والتقدم بروح لا تقبل الهزيمة أو الانكسار مهما كانت التحديات. اليمن من الأمم التي لديها ماضٍ يستطيع أن يكون حاضناً جيداً لحاضر أفضل.

ويقول: خلصت إلى هذه الحقيقة ذات يوم، وجادلت الكثير من الباحثين المهتمين بالشأن اليمني حولها. سخر مني من جادلتهم مستدلين على "سذاجة" أفكاري بعد كل هذا الذي حدث من صراعات وحروب، لكنني مع ذلك لا زلت أعتقد جازماً أن اليمن يحوي في ثناياه من التاريخ ما يمكن أن يصنع تاريخاً إضافياً يهزم هذا الحاضر البائس. المهم هو أن لا ينام اليمن فوق هذا التاريخ.. يجب أن يجعل منه محركاً للنهوض. كل الذين ناموا فوق ماضيهم خسروا الحاضر.

خنقته العبرات، وبدا وكأنني أشاهد أمامي رساماً في مواجهة لحظة عصيبة وهو يشاهد لوحته التي أفنى عمره في تخيلها ورسمها وقد تشققت وتلاشت معالمها.

من صفحة الكاتب في فيسبوك

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Wed, 14 Sep 2022 20:01:20 +0300
لم يكن فبراير مشروعا للتغلب http://aleshteraky.com/views/item/23890-لم-يكن-فبراير-مشروعا-للتغلب http://aleshteraky.com/views/item/23890-لم-يكن-فبراير-مشروعا-للتغلب

 

لن يكون الهجوم على فبراير من قبل البعض سوى دعوة للفبرايريين لإعادة نبش صفحات الماضي لتبرير ثورتهم والتمسك بها وبأهدافها .

لم يكن الجميع في حاجة لإغراق المشهد بمثل هذا الجدل الذي لا يعني أكثر من أن هناك ممن أخذوا المبادرة بتشويه فبراير لا زالوا يتحركون خارج حقائق التاريخ التي من بينها مستجدات الحياة السياسية والتي تتطلب من الجميع رصد مسارات التطور لأوضاع البلاد ، ومآلاتها ، بعيداً عما تضخه نوابض الانتماء إلى عصر لم يعد مفيداً أن نستحضر خصوماته ، لمجرد التسلية ، في زمن جاء فيه من يعمل على سحق الجميع : المعارضين والموالين .

إن ربط الوضع المأساوي الذي وصل إليه اليمن بفبراير هو محاولة يائسة من قبل البعض لدحض الحقائق التاريخية التي دائماً ما ارتبطت بصلتها بحاجة البشر إلى تجديد مسار حياتهم حينما ينتهون إلى طريق مسدود ؛ وهذا ما وصل إليه اليمن في لحظة تاريخية لم يعد فيها ممكناً آنذاك تحقيق أي تراكم كمي أو نوعي لتجسيره مع المستقبل .

من غير الممكن النظر إلى فبراير بمعزل عن عدد من الحقائق التي ارتبطت به كحركة سياسية شعبية سلمية على طريق التغيير :

١/ كان فبراير ضرورة موضوعية اقتضتها الحاجة إلى وضع حد فاصل بين دولة الغلبة التي سادت اليمن لعهود طويلة ولم تمكنه من النهوض ومغادرة التخلف والصراعات والحروب ، والحاجة إلى قيام دولة المواطنة والقانون الحديثة التي ناضلت من أجلها الحركة الوطنية اليمنية عقوداً من الزمن .

٢/ اشتعل الجنوب بالحراك السلمي في تحد مع ما انتجته الحرب من ظروف قاهرة في الجنوب وما كرسته من معادلات سياسية مختلة على صعيد البلاد ، وهو ما فتح الباب أمام حراك سياسي سلمي في الشمال أفضت جميعها إلى رفع شعار التغيير السلمي وإكسابه محتوى اجتماعياً وسياسياً وشعبياً غزير المعنى عندما يتعلق الأمر بضمان المستقبل في إطار واسع من الحرية واحترام انسانية الفرد وتمكينه من التمتع بحقوقه في العيش الكريم .

٣/لم يتحرك فبراير بارادة ملتبسة بحسابات كثيرين ممن التحقوا به فيما بعد ، فقد كان محصلة طبيعية لحالة الغليان الشعبي الذي نتج عن وصول النظام إلى طريق مسدود في معالجة القضايا البنيوية التي أخذت أحدثت شروخا هائلة في جسم الدولة "المركبة" وتوليفة النظام السياسي والاجتماعي الذي استنفد قدرته على الاستمرار دون مزيد من الأخطاء التي تسببت في الكارثة .

٤/ كان فبراير مشروعاً للبناء ، ولم يذهب ،بما شكله من مقاومة للتحديات الموضوعية ، إلى خصومة شخصية مع أركان النظام ، لذلك كانت أهم حلقاته هي التفاهم والحوار الوطني بين كل القوى السياسية لصياغة عقد اجتماعي يعالج مشاكل اليمن ويضع القواعد المنظمة لنشوء الدولة وحل قضية الجنوب . لذلك يمكن القول إن فبراير لم يكن مبعثه الصراع على السلطة بقد ما كان معبراً عن حاجة شعبية لحماية السلطة من الفرد في إطار دولة ديمقراطية تحترم الناس وخياراتهم .

٤/ كغيره من الأحداث التاريخ الهامة التي لا يمكن أن تجري من غير أخطاء ، فقد كانت هناك أخطاء كثيرة  ، حيث تسلق على سلمه كثيرون ممن أثبتت الأيام انه لم تربطهم بفبراير سوى مصالح خاصة حققوها على حساب أهدافه الحقيقية.

٥/ كان علي عبد الله صالح أكثر فطنة وإدراكاً من معاونيه في فهم حقيقة الأوضاع المسدودة التي وصلت إليها البلاد ، ومعها أدرك بعمق أنه لا يوجد ما يدفعه لأن يغامر بقمع الاحتجاج الشعبي السلمي ، وكان قادراً على ذلك ، لأنه لن يستطيع أن يخطو بعد ذلك بالبلاد خطوة نحو الخروج من المأزق . ولذلك فقد تجاوز كثيراً من الاحداث ومن بينها حادث تفجير مسجد الرئاسة الذي كان يمكن أن يوظفه عنوة لقمع الاحتجاجات . تماسك في أهم اللحظات ولعب لعبته في توظيف التناقضات التي كانت تقتلي داخل المجتمع ، وعمل على توفير فرص الانتقام من معارضيه ومن فبراير بأيادي أخرين ( الحوثيين) .

٦/ انتقم الحوثيون من فبراير نيابة عن صالح ، وفي مسار انتقامهم حاولوا إعادة صياغة معادلات سياسية واجتماعية وتاريخية لفرض مشروعهم الطائفي على اليمن واعتقدوا أنهم قادرون على استيعاب صالح ومنظومته التي بقيت إلى جانبه ضمن هذه المعادلة ، واعتقد صالح أن توظيفهم في الانتقام لم يكن سوى الخطوة الأولى نحو استيعابهم ، وكلنا يعرف كيف سارت الأحداث بعد ذلك .

٧/ كان فبراير مشروعاً سياسياً وشعبياً ناجحاً لأنه أوصل مسار التغيير الثوري الى الحوار الوطني متجنباً الغلبة التي دمرت تاريخياً كل محاولات النهوض بالبلد ، غير أن المشروع الذي لا يمتلك القوة التي تحميه يكون عرضة لخطر الهيمنة عليه من قبل قوى لا تحمل لمبادئه المودة ، وهذا ما حدث مع فبراير .

٨/ على الرغم من كل ذلك فإن صيغة التفاهم والتعايش التي خطها فيراير قد شكلت مرجعية تاريخية لبناء الدولة ، ومعها العدالة الانتقالية ، ومعها احترام إرادة الناس في تقرير خياراتهم السياسية .

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Thu, 10 Feb 2022 21:42:09 +0300
بين الذاكرة السياسية وصحيفة الاتهام.. هناك ما يمكن قوله http://aleshteraky.com/views/item/23227-بين-الذاكرة-السياسية-وصحيفة-الاتهام-هناك-ما-يمكن-قوله http://aleshteraky.com/views/item/23227-بين-الذاكرة-السياسية-وصحيفة-الاتهام-هناك-ما-يمكن-قوله

أتابع كثيراً مما تبثه بعض الفضائيات العربية حول ما يسمى الذاكرة السياسية، واستطيع القول إن الكثير منها يتم إعدادها كصحيفة اتهام لتجارب وأحداث منتقاة لأغراض ليس لها أي وجه من أوجه التنقيب في الذاكرة السياسية بصورة موضوعية تحترم المستمع العربي، وتمنحه فرصة الاستفادة والتقييم، بل تمارس عليه التلقين السلبي.

ذلك الأسلوب هو صورة من صور القمع المعرفي الذي يمارسه الاعلام الموجه، تمشياً مع دوره في ترويض العقل العربي على قبول الرواية الرسمية.

وفي المساحة ما بين مفهوم الذاكرة السياسية والاستجواب، الذي يتم وفقاً للائحة اتهام يتم إعدادها سلفاً، مساحة يرمح فيها خيل راقص على انغام الفيلم الأمريكي الشهير "زوربا اليوناني" لأنتوني كوين.

يتحول الشخص الذي "يعد" ويجري المقابلة إلى محامي ادعاء يستمد أسئلته من لائحة الاتهام المعدة سلفاً. وبأسلوب متمكن، يحول السياسي الذي أمامه إلى مجرد شاهد (ادعاء) على صحة ما حوته صحيفة الاتهام.تتحول المقابلة إلى ما يشبه البحث في الزاوية القلقة من الذاكرة، وما يشبه الرقص في الزاوية المظلمة من التاريخ.

أتمنى أن لا يحدث هذا مع تجربة اليمن الديمقراطية الشعبية، كما تعرض الآن على قناة العربية. فنحن أمام شخصية قيادية محورية في تجربة الجنوب، وهو الاخ العزيز حيدر أبو بكر العطاس؛ وهو دون شك أحد مستودعات هذه التجربة  التي لا تحتاج سوى إعادة برمجة وتريب لمحتوياتها بمنهج هو أكثر من غيره معرفة بتقنياته كمهندس.   

أقول هذا لأن الاخ حيدر، بما له من مكانة ودور، وبما يحتفظ به من مخزون ومسئولية تاريخية تجاه هذه التجربة، يستطيع أن يفرض إيقاع المقابلة، بدلاً من ترك المبادرة للأسئلة الانتقائية التي يستعرضها المحاور بطريقة بدت وكأنها استجواب شاهد، لا إدارة نقاش مع قائد سياسي كبير، لكلمته مكانتها في تقييم هذه التجربة، كما أن للفضاء الذي يعرض فيه رأيه معنى هاماً في استيعاب ملامح التجربة.

لم تكن تجربة اليمن الديمقراطية مختزلة فيما عرضته أسئلة المقابلة وإجاباتها من نماذج لأحداث منتقاة حتى الآن، كانت تجربة ذات فضاء واسع امتد من تحقيق الاستقلال الوطني، وبناء دولة حديثة من إمارات وسلطنات ومشيخات مجزأة ومتناحرة، إضافة إلى مستعمرة عدن.. حققت هذه الدولة التي أقيمت على هذه الرقعة الواسعة من الارض كثيراً من المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لم يكن سهلاً دمج التراكيب الاجتماعية والسياسية المتناقضة والهشة في تكوين سياسي واجتماعي متجانس، وتكوينات إدارية للحكم المحلي، إلا بجهد شاق، وأحياناً تضحيات كبيرة. اعترف بها العالم، وتعامل معها باحترام، وأقامت علاقات دبلوماسية مع دول العالم والمنظمات الدولية، وكانت من أوائل الدول العربية التي احتلت مقعداً في مجلس الأمن من مقاعد الأعضاء غير الدائمين، وحققت جوانب كثيرة من الأمن، والعدالة الاجتماعية، وبناء الانسان، ومعهما توفير فرص العمل لكل القادرين عليه، وفتحت فرص التأهيل والتدريب والتعليم من الابتدائي حتى الجامعي مجاناً، وانشأت نظاماً متكاملا للتعليم الفني والتقني وهو ما كان يسمى "البوليتكنيك"، واهتمت بالثقافة والفن والرياضة والشباب وبناء المعرفة، وكفلت للمرأة حقوقها الاجتماعية والمدنية والسياسية كاملة، وكان قانون الاسرة مثالاً للتقدم الاجتماعي على هذا الطريق، وكفل القانون الترقي الوظيفي حسب المؤهلات لكل المواطنين دون تمييز، وأقامت نظاماً صحياً شمل كل المواطنين، فاختفت كل الأوبئة الفتاكة، وكان حقاً لكل مواطن أن يحصل على العلاج والدواء في مؤسسات الدولة العلاجية مجاناً بما في ذلك إجراء العلميات الجراحية  الكبرى في الداخل أو في الخارج، وأنشأت شبكة طرقات حديثة على طول وعرض البلاد بمساحاتها الواسعة، وأنشأت الجسور التي سهلت المواصلات، وأقامت السدود لخزن المياه وتوزيعها للأراضي الزراعية، ووفرت مياه الشرب النقية والكهرباء وخدمات البريد والاتصالات، وانشأت نظام للتجارة الداخلية استقرت وتساوت بموجبه اسعار السلع الضرورية على مستوى الجمهورية، وطورت ميناء عدن تطويراً شاملاً، ووفرت الخدمات الساحلية للصيادين، وانشأت المطارات المدنية في حضرموت والمهرة وشبوة إلى جانب تطوير مطار عدن، وأخذت تتدرج في بناء مساكن للمواطنين، وواجهت الضغوط، وقلة الموارد، وحافظت على سيادتها ودافعت عن سيادة أراضيها.. وكانت هناك أخطاء سياسية واقتصادية، بعضها كبير، وهو أمر لا يمكن نكرانه، ويحدث في كثير من التجارب في مراحل التحول الاجتماعي الحادة حينما تكون البنية الاجتماعية هشة أمام هذه التحولات التي يؤطرها نظام سياسي تنقصه التعددية الديمقراطية، وتنتظم في إطار نظام قانوني وقضائي غير مكتمل وقبل أن يصبح نظاماً مشهوداً له بالكفاءة، وتتحقق في ظل الموارد المحدودة وما تمثله من صعوبات لبناء الاقتصاد الذي يشكل القاعدة المادية لهذا التحول، وغياب دور القطاع الخاص بسبب الموقف الايديولوجي منه من ناحية، وضعف بنيته هو الآخر من ناحية أخرى. ولا ننسى هنا الحصار الذي قامت به شركات النفط الكبرى المهيمنة على المنطقة في تعطيل اكتشاف النفط لأسباب منها ما يتعلق بأسواق النفط والعرض والطلب حفاظاً على الاسعار وأرباح الدول المنتجة.

كان الطموح يصطدم بالصعوبات فيرتد إلى داخل المؤسسة السياسية في صورة خلافات حول المنهج السياسي والايديولوجي، ولم تكن القاعدة الاجتماعية التي تشكلت بفعل هذه التحولات غائبة حتى في نقاشات القيادة السياسية أو الحكومة مما يشكل ضغوطاً قوية على اتخاذ القرار داخل الهيئة، ناهيك عن الميراث الاجتماعي المتراكم والمرحل من مرحلة ما قبل الاستقلال.

تجربة هذا البلد بكل، ما رافقها من إيجابيات وسلبيات، لا يحوز للإعلام العربي أن يقدمها بهذه الطريقة الانتقائية التي تستهدف أحداثاً  بعينها خارج سياقها التاريخي والموضوعي.

أنا لا أقوال إنها تجربة بلا أخطاء، لديها أخطاء كبيرة كما قلت، ولكن ليس من الصح أن تقدم على هذا النحو وكأنها مجرد صراعات، ومؤامرات فقط .. حتى القائد الذي يقبل الحوار على قاعدة الوجه السلبي للتجربة سواء كناقد أو كمدافع لن ينظر إليه في النهاية إلا بأنه أحد مكوناتها أياً كانت طروحاته. والتاريخ له أدواته المحايدة بالطبع.

وأنا هنا لا أجادل فيما يقوله الشخص من رأي، من حق كل إنسان أن يقول رأيه فيما عاشه من أحداث، لكنني أتحدث عن المنهج وخاصة عندما يتعلق الأمر بتجربة لا يمكن تقييمها بمثل هذه الانتقائية في استعراض أحداث بعينها بصورة مفككة وغير مترابطة وخارج مساراتها.

إذا لم يتم تناول التجربة، إيجاباً وسلباً، بمنهج يضع الذاكرة السياسية في مسار صحيح ويجنبها الانسياق إلى الانتقائية التي تحاصرها في مساحات ضيقة من التجربة، فإنه لا معنى لذلك، وتبقى هناك تجربة إنسانية تستحق أن تقيم بصورة أفضل، وبأسلوب يتناول فضاءاتها التي لا يمكن اختزالها في صحيفة اتهام لا تبحث عن غير الأخطاء والسلبيات فقط .

لدي ثقة كبيرة أن تصحيح المنهج الذي يستعرض الذاكرة في الحلقات القادمة وذلك بتسليط الضوء على الفضاء الأوسع للتجربة سيبكون بمستوى الشخصية القيادية التي يتطلع الكثيرون لسماعها.

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Sat, 14 Aug 2021 21:32:39 +0300
وكان السؤال.. هل هو صراع على السلطة؟ http://aleshteraky.com/views/item/22168-وكان-السؤال-هل-هو-صراع-على-السلطة؟ http://aleshteraky.com/views/item/22168-وكان-السؤال-هل-هو-صراع-على-السلطة؟

 

في المقال الذي كتبته بمناسبة الذكرى ٥٣ للاستقلال والذي كان بعنوان: "في ذكرى الاستقلال وبناء الدولة في الجنوب" ناقشني كثير من الأصدقاء مباشرة حول أحد العناوين الفرعية ، والذي اعيد نشره وكان عنوانه الفرعي  :

- "الجميع أبناء بيئتهم" : وجاء فيه :

" في عملية التعايش والصراع تلك لم يكن أي طرف من الأطراف مختلفاً عن الآخر عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالموروث الذي شكل تلك التناقضات ، وبالثقافة الملتبسة في فهم التقدم والتخلف ، ناهيك عما تولده عملية بناء الدولة من تبدلات على صعيد البنية الاجتماعية وما تنشئه من مصالح متعارضة . فير أن الموقف من إدارة هذه التناقضات كان هو الذي يميز هذا الطرف أو ذاك ، ذلك أن اللجوء إلى العنف والقوة لطالما تسبب في أضرار ضخمة ، وكان بمثابة المسبار  الذي يكشف أكثر الأطراف تأثراً بهذا الموروث ، مع أن الجميع كانوا أبناء بيئتهم التي تشكل جانباً من ثقافتهم ووعيهم الاجتماعي ، والذي غالباً ما تسبب في نشوء وعي سياسي متراجع عما تعبر عنه المؤسسة الحزبية من موقف متقدم .

كان العنف غالباً ما يغطيه القرار المؤسسي الحزبي ، عدا حالات معينة كان يتم فيها العنف ضد قرار المؤسسة السياسية الحزبية . وبينما كان العنف الذي يتم دفاعاً عن قرار المؤسسة السياسية ( الحزب) لا تتجاوز  آثاره المؤسسة الحزبية ومؤسسات السلطة لأنه يحسم الأمور داخل المؤسسة الحاكمة ، فإن العنف الموجه ضد قرارات المؤسسة السياسية يطال المجتمع برمته لأن العنف هنا لا ينحصر  داخل المؤسسة السياسية وإنما يمتد إلى تعبئة المجتمع . وغالباً ما كانت التعبئة هنا تستنفر البعد القبلي أو المناطقي في البنى الاجتماعية الهشة مما يتسبب في إبطاء عملية الاندماج الاجتماعي .

وبينما نجد أن العنف في صورته الأولى قد أوجد شروخاً داخل المؤسسة السياسية كان يجري تجاوزها سريعاً ، إلا النوع الأخير من العنف ، واستخدام القوة في مواجهة المؤسسة كان سبباً في خلق شروخ عميقة داخل المجتمع ، تتسع  وتعجز المعالجات السطحية من انهائها .

لا يمكن النظر الى هذه الصراعات بمعزل عن حقيقة هامة وهي أن بناء الدولة قد أحيط بصعوبات وتناقضات موضوعية في الأساس كانت تتسرب أحياناً ، وبصورة طبيعية ، إلى ثقافة الفرد لتحوله من صانع للتحول والتغيير إلى ضحية للتاريخ بما يتفاعل فيه من ميراث . كم هم الرفاق الرائعين والمناضلين الذي راحوا ضحية هذه الظاهرة ."

كان معظم الذين تحدثوا معي يسألون عما كنت أقصده بأن "الجميع أبناء بيئتهم"، وهل لذلك التحديد علاقة بتوصيف الصراعات بأنها كانت من أجل السلطة ؟

وفي نقاشي معهم أشرت إلى النقاط التالية :

-إن كثيراً من التقييمات التي انتقدت تجربة بناء الدولة في الجنوب كانت تناقش النزعة الشخصية بعيداً عن البئية المادية التاريخية والثقافية التي شكلت هذه الشخصية ، وهو أمر كثيراً ما كان يأتي ناقصاً بسبب تجنب ذكر العوامل المختلفة المؤثرة في السلوك الخاص والعام .

-حاولت على نحو سريع ومتواضع ، في ذلك المقال ، أن أنبه إلى حقيقة أن التقييم الموضوعي للحدث يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الواقع الموضوعي الذي كانت تعمل في ظله القيادة بما يضخه من صعوبات وإنفعالات بدوافع وتأثيرات مختلفة .

-أن هؤلاء القادة جاءوا من داخل هذه البيئة ، صحيح أنهم جاءوا ليغيروها لتغدو المكان الملائم  الذي يقيمون فيه مشروعهم ، لكنهم كثيرا ما اختلفوا حول عملية التغيير وأدواتها ، ومدى نضج الظروف لإقامة ذلك المشروع .

-كانوا كثيراً ما ينقلون خلافهم إلى داخل الحزب لا لإنضاج النقاش والحوار وإنما لإحداث حالة استقطاب ضد ، أو مع هذا الخيار أو ذاك .

-كانت البيئة من خارج الحزب محرضة على الإختلاف بسبب حالة عدم الاندماج الإجتماعي .

-لهذه الأسباب كان الصراع يتجه نحو السلطة ، ولكن من منظور أن كل طرف يريد أن يستخدمها لتحقيقه خياراته ، أي أن الصراع على السلطة لم يكن مجرداً من الخيار السياسي الذي يسعى كل طرف إلى تحقيقه .

-لم يبرئ هذا الوضع حقيقة أن السلطة لم تكن جسراً إلى الهدف السياسي العام في كل الأحوال فلها منطقها الذي تتفوق فيه على الخيارات العامة حينما تبدأ تدق اسفين في العلاقة بين جهاز الدولة الحكومي والمؤسسة السياسية ، ويبدأ هذا الجهاز في انتاج شرعية طاردة للمؤسسة السياسية ومقدسة للفرد .

-لا بد أن للبيئة بمكوناتها المادية التاريخية والثقافية أثرها الكبير في ذلك ، خاصة وأن الحوار الديمقراطي الداخلي كان يتعثر بعصبية البيئة .

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Sat, 05 Dec 2020 18:32:04 +0300
في ذكرى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية في الجنوب http://aleshteraky.com/views/item/22137-في-ذكرى-الاستقلال-وبناء-الدولة-الوطنية-في-الجنوب http://aleshteraky.com/views/item/22137-في-ذكرى-الاستقلال-وبناء-الدولة-الوطنية-في-الجنوب

 

لا يكتمل الحديث عن "ثورة ١٤ أكتوبر" إلا بثلاثين نوفمبر  ١٩٦٧ يوم الاستقلال ، الحدث الذي شكل حلقة توسط بين مرحلتين للثورة :

١/ النضال من أجل الاستقلال الوطني ومقاومة المشاريع الاستعمارية .

٢/ العمل من أجل بناء الدولة الوطنية بتوحيد أجزاء الجنوب ، وتحقيق الامن والإستقرار والتطور الاقتصادي والعدالة الإجتماعية .وبناء الانسان صحياً ومعرفياً وعلمياً وسياسياً ، التمسك بالميراث النضالي للحركة الوطنية اليمنية ، دعم نضال الشعوب العربية وغيرها من أجل الحرية والعدل والمساواة .

- عدن "سفر التكوين" ومهد بناء الدولة :

بعد أيام سيحل ٣٠ نوفمبر ، حاملاً معه أسئلة كثيرة من التاريخ ، وعن الحاضر ، و المستقبل . سيبقى بناء الدولة الوطنية على رأس الاهتمامات التي لا يمكن للمؤرخ أن يتجاهلها فيما يتعلق بما أنجزه نوفمبر ، وما خسره في نفس الوقت .

وستحضى عدن بأكثر الأسئلة ، وأشدها عاطفة وإثارة ، باعتبارها مهد الدولة الوطنية ، والمكان الجامع الذي تشكلت فيه أحلام المناضلين الأوائل ، وباعتبارها "سفر التكوين" الذي تبلور في منتدياتها ومعاهدها ونواديها ، وفي المجرى العام لكفاح عمالها وشغيلتها ومثقفيها وأبنائها الكادحين ، وكل القادمين إليها من مختلف أنحاء اليمن ، جنوبه وشماله ، وبلاد الكومنولث وغيرها .

في عدن حط هؤلاء رحالهم ، ونصبوا خيامهم في توافق إنساني هزم كل المحاولات التي ظلت تروج للانقسام العرقي ، والتمييز المكرس للاستبعاد الإجتماعي القادم في قوالب مهربة من وراء أعالي البحار  في صور مختلغة من التجارب العنصرية والطائفية وغيرها من تفريعات الانتقال من الاستعمار المباشر القديم إلى الاستعمار غير المباشر الجديد .

وستمتد الأسئلة لتشمل أبين ولحج وشبوة والضالع وحضرموت والمهرة وسقطرى ، باعتبارها مكونات الدولة الوطنية التي حملت في جوفها مقومات النجاحات وعوامل الانتكاسات ، وكانت بتضحياتها وثقافتها وفنها واقتصادها ومجتمعاتها وتراكيبها الاجتماعية وميراثها وعلاقات ماقبل الدولة تحمل نقيضين : الحالة الثورية المجسدة لروح الدولة الوطنية وبواعث نشوئها وقواها الجديدة وأهدافها وأحلامها ، والحالة اللاثورية المجسدة للثقافة الانقسامية العالقة في موروث سياسي واجتماعي لم يكن للدولة الوطنية الوليدة أن تتجاوزه بالرغبة ، أو بالإرادوية ، وإنما بتغيير قوى وعلاقات الانتاج ، وخلق مصالح مادية وروحية لجميع السكان من منطلق المواطنة التي أخذت تتشكل بأسس قانونية ودستورية .

- تناقضات ذات منشأ موضوعي :

سيسجل التاريخ أن هذه الدولة حملت في جوفها تناقضات ذات منشأ موضوعي تاريخي ، وهي تناقضات طبيعية ، أخذت تستولد منظومة من التحديات ، التي كان أهمها على الإطلاق "الإندماج الاجتماعي" باعتباره انعكاساً للتطور كعملية موضوعية لا تتم إلا بالتطور الإقتصادي والإجتماعي ، وخلق مصالح مشتركة تدار بنظام المواطنة الذي يحمي الجميع .

لقد كان من الطبيعي أن يتعايش القديم والجديد في إطار بنى الدولة الجديدة ومؤسساتها ، وهي في تلك المرحلة المبكرة من التشكل ، على أن هذا التعايش لا يعني الاستمرارية ، فالنقيضين ، بطبيعتهما ، يحمل كل منهما عوامل نفي الآخر . غير أن هذه العملية تغدو معقدة فيما لو تركت دون إسناد سياسي واع لحالة الجدل التي ترافق عمل القوانين الموضوعية والمتمثلة في العمل بمثابرة على تحويل وتفكيك القديم وإحلال الجديد بدلاً عنه . ولا بد من الاعتراف بأن هذا القديم لم يكن ممكناً تحويله وتفكيكه ، ومن ثم تجديد المجتمع ، إلا بتطوير علاقات وقوى الإنتاج من إقتصاد ، ونظم سياسية ، وعلوم ، وفنون ، وبنى تحتية وخدمات اجتماعية شاملة ، وقضاء ، وقانون ، والأخذ بيد المرأة لبناء مكانتها في المجتمع كأحد أعمدته الاساسية ، وانصاف ودعم القوى الاجتماعية المهمشة ، وتصفية الامية الأبجدية في المجتمع ؛ أي بناء هياكل التطور العام . والتطور يعني فيما يعنيه الانتقال التدريجي المنظم من القديم  إلى الجديد .

- التدخل بأدوات غير إقتصادية:

في تلك الظرف ، كان من الطبيعي أن تكون مقاومة القديم قوية لأن قوى الانتاج التي تم الاستعانة بها لازاحته لم تكن بالقوة الكافية التي تسمح بتحقيق ذلك بدون مشاكل وصعوبات حقيقية . فالوضع الاقتصادي لم يكن مؤهلاً لتسريع هذه العملية بأدوات التطور المادية ، ولذلك فقد كان التدخل بوسائل غير إقتصادية محاولة لإنضاج التحول على هذا الطريق ، إلا أن التدخل بوسائل غير إقتصادية قد يكون مفيداً إلى مستوى معين ، ولكنه يصبح بعد ذلك مضراً ، بل وعلى درجة عالية من الخطورة .

كان التدخل بأدوات إدارية وسياسية "ثورية"  لتعويض ضعف البنى الاقتصادية يتجاوز الحاجة في بعض الأحيان ، وكان لا يلبث أن يرتد في صورة توترات إجتماعية ، تتكثف بدورها في خلافات سياسية ، كما حدث في الانتفاضات الفلاحية التي كان يراد منها تغيير علاقات الانتاج في الريف بأدوات غير إقتصادية . ولم يستقم هذا الأمر على نحو متوازن بعد ذلك إلا بعد أن تحقق في المجال الزراعي قدر كبير من الميكنة الزراعية ، وإعادة تنظيم هياكل الانتاج الزراعي ، وإصلاح نظام الحيازة والملكية ، والتسويق ، وتحسن نظام الري ، وإدخال نظم انتاج لتعويض تسرب اليد العاملة منه إلى القطاعات الاقتصادية الحديثة .

والحال أنه في المفهوم العام للتطور الشامل لا غنى عن الإقتصاد ، وتطوير وسائل الإنتاج ومن ثم تغيير العلاقات الاجتماعية نحو التقدم .

- البنى الحديثة للدولة ، ولادة الطبقة المتوسطة :

مع خطوات بناء الدولة يمكن القول إن تناقضات القديم والجديد تعايشت وتصادمت .. ومن هذا التصادم والتعايش بني نموذج لنظام سياسي واجتماعي مقاوم للهزات العنيفة التي تكررت على نحو موضوعي للأسباب المتعلقة بمقاومة البنى القديمة وتباطؤ الاندماج الاجتماعي . وكان أن أخذت الدولة تستقر داخل بنى حديثة ومعاصرة ، وأخذ الناتج المحلي ، والدخل الوطني يتكونان بمعدلات أسرع في القطاعات الحديثة ، حيث أخذت الطبقة المتوسطة في هذه القطاعات تنمو وتأخذ مكانتها في البنية الاجتماعية ، غير أن هذه الطبقة الهامة لم تجد فرصتها الكاملة لتكون جزءاً من العملية السياسية ، إلا من التحق بعضوية المؤسسة الحزبية الحاكمة . وكان هذا الوضع مصدراً جديداً لمشكلة الاندماج الاجتماعي التي أخذت تجر عملية بناء الدولة إلى مواجهات ليس مع الموروث من التحديات القديمة وإنما مع ما خلقه التطور من مخرجات في صورة تحديات جديدة .

وهو ما شهده البلد منذ أن بدأ بناء الدولة وإقامة نظام الحكم  بنفس " الحجارة" الموروثة وبأدوات حديثة وبمنهج وطني أتاح تمييز الصلب من الهش وذلك بمقدار ما أتاحت تفاعلات النهوض الوطني من فرص لمزيد من الاختيارات الناجحة .

لم تكن عملية بناء الدولة سهلة ، فقد تداخل بناؤها مع إقامة نظام للحكم يستوعب الطبيعة الخاصة للجنوب المجزأ والغارق في بحر من التخلف ، فيما عدا عدن وبعض المناطق الحضرية الأخرى . غير أنه بمجرد أن دارت عجلة التغيير حتى نشأت مشكلة العلاقة بين الدولة والمؤسسة السياسية الحزبية ، فالدولة  اتسعت قاعدتها الاجتماعية مع نمو الطبقة المتوسطة ، بينما أخذت القاعدة الاجتماعية للمؤسسة الحزبية الحاكمة تتشكل بشروط حادة أبقت قطاعات واسعة من هذه القاعدة الاجتماعية خارج المؤسسة السياسية ، على الرغم من أن مؤسسات المجتمع المدني كانت قد استوعبت جزءاً من هذه القاعدة الاجتماعية . لكن هذا الاستيعاب لم يشكل تعويضاً كاملاً لحاجة الكثيرين إلى الانخراط في العمل السياسي ، وظلت  هذه واحدة من الأسباب التي أخذت تضغط باتجاه التوترات السياسية والاجتماعية التي كانت تشتد على المؤسسة السياسية الحزبية فتعمل على احتوائها بتوسيع قاعدة المشاركة في أبنية الدولة ومؤسساتها ، وتوفير الخدمات الاجتماعية ، وفرص العمل ، والتعليم بمستويات المختلفة ومجانية التطبيب ، وتحقيق قدر كبير من العدالة الاجتماعية عبر نظام عادل لإعادة توزع الدخل .

لكن التغيرات الكبيرة التي أخذت تصيب المجتمع الريفي والتقليدي كانت تدفع بآلاف الباحثين ، ممن تأهلوا علمياً ومهنياً ، عن فرص للعمل في القطاع المدني وهو ما رفد الطبقة المتوسطة بقوى إضافية مع ما ولدته من ضغوط على الحياة السياسية .

كان تصنيف الطبقة الوسطى بالبورجوازية الصغيرة قد أفضى إلى التمسك بتعريفات تضمنت موقفاً أيديولوجياً أقرب الى الخصومة الطبقية منه إلى إدراك ما تحمله هذه الطبقة من نزعة متقلبة تجعلها في مركز اهتمام الدولة ، ومن ثم العمل على استيعابها أو السماح لها بخلق تعبيراتها السياسية  . تجاهلت القيادة السياسية أن هذه الطبقة لم تكن سوى ما أسفر عنه بناء الدولة من مخرجات ، ولم تكن موروثة حتى ينظر إليها بأنها غريبة المنشأ وبخصائص تتناقض مع الجوهر الاجتماعي للنظام السياسي ، ولذلك كان من الطبيعي أن يتشكل قدر من التباعد الذي كانت له آثار سلبية على القاعدة الاجتماعية للنظام ، باعتبار أن هذه الطبقة هي جزء أصيل من هذه القاعدة ، لكنها لا ترتبط بها إلا بروابط يملؤها الشك من الطرفين .

- الجميع أبناء بيئتهم :

في عملية التعايش والصراع تلك لم يكن أي طرف من الأطراف مختلفاً عن الآخر عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالموروث الذي شكل تلك التناقضات ، وبالثقافة الملتبسة في فهم التقدم والتخلف ، ناهيك عما تولده عملية بناء الدولة من تبدلات على صعيد البنية الاجتماعية وما تنشئه من مصالح متعارضة . غير أن الموقف من إدارة هذه التناقضات كان هو الذي يميز هذا الطرف أو ذاك ، ذلك أن اللجوء إلى العنف والقوة لطالما تسبب في أضرار ضخمة ، وكان بمثابة المسبار  الذي يكشف أكثر الأطراف تأثراً بهذا الموروث ، مع أن الجميع كانوا أبناء بيئتهم التي تشكل جانباً من ثقافتهم ووعيهم الاجتماعي ، والذي غالباً ما تسبب في نشوء وعي سياسي متراجع عما تعبر عنه المؤسسة الحزبية من موقف متقدم .

كان العنف غالباً ما يغطيه القرار المؤسسي الحزبي ، عدا حالات معينة كان يتم فيها العنف ضد قرار المؤسسة السياسية الحزبية . وبينما كان العنف الذي يتم دفاعاً عن قرار المؤسسة السياسية ( الحزب) لا تتجاوز  آثاره المؤسسة الحزبية ومؤسسات السلطة لأنه يحسم الأمور داخل المؤسسة الحاكمة ، فإن العنف الموجه ضد قرارات المؤسسة السياسية يطال المجتمع برمته لأن العنف هنا لا ينحصر  داخل المؤسسة السياسية وإنما يمتد إلى تعبئة المجتمع . وغالباً ما كانت التعبئة هنا تستنفر البعد القبلي أو المناطقي في البنى الاجتماعية الهشة مما يتسبب في إبطاء عملية الاندماج الاجتماعي .

وبينما نجد أن العنف في صورته الأولى قد أوجد شروخاً داخل المؤسسة السياسية كان يجري تجاوزها سريعاً ، إلا النوع الأخير من العنف ، واستخدام القوة في مواجهة المؤسسة كان سبباً في خلق شروخ عميقة داخل المجتمع ، تتسع  وتعجز المعالجات السطحية من انهائها .

لا يمكن النظر الى هذه الصراعات بمعزل عن حقيقة هامة وهي أن بناء الدولة قد أحيط بصعوبات وتناقضات موضوعية في الأساس كانت تتسرب أحياناً ، وبصورة طبيعية ، إلى ثقافة الفرد لتحوله من صانع للتحول والتغيير إلى ضحية للتاريخ بما يتفاعل فيه من ميراث . كم هم الرفاق الرائعين والمناضلين الذي راحوا ضحية هذه الظاهرة .

- مقاومة الموروث لبناء الدولة :

كان بناء الدولة يسير جنباً إلى جنب مع جهود التغلب على هذا الموروث . والذي يعتقد أن هذه العملية كان ممكن أن تتم بدون مقاومة عنيدة من قبل هذا الميراث إنما يتجاهل حقيقة أن هذا الميراث كان قد تجذر في بنى إجتماعية وسياسية مغلقة على ثقافة ، وتاريخ سياسي ، ونظم حكم وفرت لها مقومات العزلة أكثر من فرص الانفتاح . وبهذا الصدد لا ننسى الدور الرائد الذي لعبه المناضلون الأوائل ممن كسروا حاجز العزلة وبناء جسور التواصل وذلك في بواكير العمل السياسي الذي كانت عدن الحاضنة الأولى له . إن عملية البناء تلك سارت بخطى جسدت الفكر السياسي الذي حمل منذ منذ ما قبل الاستقلال قضية بناء الدولة الوطنية بكل ما تعنيه من تحديات .

لقد أوضح ميثاق الجبهة القومية هذه المسألة بوضوح . وكان برنامجها الذي شكل رافعة سياسية للنضال الوطني قد تفاعل على نحو إيجابي مع نضال نقابات العمال التي كان لها دوراً مبكراً في تكوين الوعي السياسي الوطني ، والذي شكل بيئة مناسبة لكفاح مشترك لمناضلي الجبهة القومية ومناضلي جبهة التحرير ، وقبلهما الاتحاد الشعبي الديمقراطي وحزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب وغيرها من المكونات السياسية التي ، وإن اختلفت مساراتها ، إلا أنها شكلت الأرضية التي تحرك فيها الجنوب من حالة الجمود السياسي ليفرغ شحناته الوطنية في مسار انتهى ببناء دولته من العام ١٩٦٧-١٩٩٠ .

- التطور مفهوم إشكالي :

أمام نجاح بناء الدولة كان من الممكن أن تبقى تلك الأحداث على هامش عملية البناء تلك ، باعتبارها تحديات موضوعية ، غير أن للحياة منطقها الذي كان يجب أخذه بعين الاعتبار ، وهو أنه مع كل عملية مواجهة كانت القوة الحاملة للتطور تخسر جزءاً من دينامياتها ، لأن الذي كان يخرج من المعادلة هو جزء من "المجموع الحي" لمعادلة التطور ، وإن بدا أنه يحمل رأياً مغايراً ، إلا أن "التطور" في حقيقته كان مفهوماً إشكالياً في بلد لم تتشكل عناصر بنائه على قاعدة مستقرة من المفاهيم .

على هذا النحو سار بناء الدولة الوطنية في الجنوب وبأدوات ومفاهيم ومعايير كانت تتطور كلما استطاع "الجديد" أن يحتل المزيد من المساحة في رقعة الصراع ، حتى أخذت المسارات السياسية والاجتماعية تقترن بتطور معقول لقوى الانتاج ، وأخذت القطاعات التقليدية ، التي تضم الغالبية العظمى من السكان ، تتحول عبر خلق أنماط حديثة من عناصر الانتاج ، والادارة ، وتطبيق القانون ، والإشراف السياسي ، والدعم الذي قدمته الفنون ، وانتشار التعليم بشقيه الأكاديمي والمهني ، وكان للأخير دوراً كبيراً في ربط التطور الاقتصادي بقاعدة واسعة من الفنيين المهرة ممن غيروا تراكيب وبنى المجتمع وتأهيلها ، من ثم ،  لتنمية شاملة .

كان الوضع الذي استقر عنده بناء الدولة يعكس حقيقة من حقائق نجاح هذه العملية . فالتراكيب التقليدية للمجتمع كانت قد تفككت وتراجعت ، وأصبحت نسبة كبيرة من سكانها جزءاً من البنى الحديثة للدولة ، وكانت التجارة الداخلية ، وانشطة النقل ، والاتصالات ، والتسويق ، والبناء والانشاءات والمقاولات ، والصناعات الصغيرة والحرفية ، والسياحة ، والفن والموسيقى والتمثيل والرسم ،والرياضة قد فتحت أبواباً ومجالات لتعاون مشترك بين القطاع العام والتعاوني والخاص ، وقدمت فرصاً هامة للاندماج الإجتماعي الذي أخذ يتشكل بأدوات إقتصادية أكثر منها سياسية . كما أن النظام اللامركزي في إدارة الدولة كان قد حقق نجاحات كبيرة في تفويض صلاحيات المركز لمجالس الشعب المحلية ، وهو الأمر الذي أخذ يعالج جوهر مشكلة الاندماج الاجتماعي التي ظلت دالة في الميراث السياسي والاجتماعي والثقافي للمكونات والكيانات السياسية التي تشكلت منها الدولة .

- الدولة عند قيام الوحدة:

وعند قيام الوحدة كانت الدولة في الجنوب قد غطت المساحة الشاسعة من المهرة حتى باب المندب بنظام للحكم جمع بين المركزية واللامركزية الادارية والمالية على نحو أخذت فيه الحاجة لتعزيز اللامركزية تضغط بشدة و تنتج ديناميات اتجهت بالمسار كله نحو التعددية باعتبارها المعادل الموضوعي للتنوع السياسي والاجتماعي  الذي راح يعكس التغيرات الهامة والكبيرة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والحاجة الى التعددية السياسية المرافقة لذلك .

وثيقة الاصلاحات السياسية والادارية الهامة لخصت الحاجة إلى صياغة مشروع انتقال الى التعددية السياسية ، خاصة وأن الدولة قد اكتمل بناؤها ، ولا يمكن حماية هذا البناء وتطويره إلا بالاعتراف بالتنوع والتعدد الديمقراطي .

أخذت النقاشات في الأطر السياسية والحزبية والشعبية تتفاعل مع الحاجة الى إحداث تغيرات جوهرية في البناء السياسي لنظام الحكم يستوعب التطورات الاجتماعية الكبيرة التي رافقت بناء الدولة ، وعبرت عن توسع القاعدة الاجتماعية وتنوعها وحاجتها الى إصلاحات سياسية معادلة .

في خضم هذه النقاشات برزت قضية "الوحدة"

وتصدرت المشهد كله ، واشترط الجنوب ربط الوحدة بالديمقراطية ، وكان ما كان من أمر الوحدة والديمقراطية معاً ، فقد دفنتا بالحرب .. ومنها تناسلت المأساة .

وكل عام وأنتم بخير .

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Sat, 28 Nov 2020 21:21:26 +0300
نقتل حصاناً لنصطاد أرنب http://aleshteraky.com/views/item/21560-نقتل-حصاناً-لنصطاد-أرنب http://aleshteraky.com/views/item/21560-نقتل-حصاناً-لنصطاد-أرنب

 

 

كنا نحلم بما يوحدنا ونحن مشطرون، فمارسنا في الواقع العملي ما يفرقنا ونحن  موحدون.

هكذا، نحن اليمنيين، نعمل ونتعب ونضحي في الوصول الى هدف ما، وعندما نصل إليه نبدأ نثير الاسئلة تشكيكاً في صحة ما عملناه.

كم هي الفرص التي أضعناها بسبب أن الأسئلة التي كان يجب الرد عليها قبل تحقيق الهدف أجلناها إلى ما بعد تحقيقه.

الفرصة الوحيدة التي توفرت ووضعنا فيها أسئلة الماضي والحاضر لبناء مستقبل، بدون أسئلة مؤجلة، كان مؤتمر الحوار الوطني، لكن حتى هذه الفرصة اشتبكت مع مخلفات الموروث التي تراكمت على مدى قرون، ولم ننتبه إلى حقيقة أن الحامل السياسي للفرصة كان مثقلاً بصراعاته وحسابات إلغاء الآخر، وأن الحامل الإجتماعي كان مهمشاً وغير قادر على خلق تنظيماته القادرة على حمل الفرصة باعتباره الأولى بها.

من هذه الحقيقة، وبعد أن وضعتنا الأيام أمام خيارات الضياع أو المراجعة، كان بالضرورة أن نستخلص الحاجة إلى إصلاح مكامن الضعف في هذه العملية المركبة، أي آصلاح الحامل السياسي وإعادة بناء الحامل الاجتماعي، وهو ما زال غائباً، ومعه نستمر في قتل الحصان لنصطاد الأرنب.

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Sun, 12 Jul 2020 19:29:08 +0300
ليتوقف البعض عن الرغي http://aleshteraky.com/views/item/21224-ليتوقف-البعض-عن-الرغي http://aleshteraky.com/views/item/21224-ليتوقف-البعض-عن-الرغي

 

يصبح المهزوم في المعارك الكبرى موضوعا للتندر رغماً عن وجاهة حججه ، لا ينصفه أحد ، يهيلون التراب على كل صوت يرتفع دفاعا عن موقف تاريخي يفضح المنتصر..

كلما حضر ٢٢مايو تحضر معه الاراجيف التي تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويتنطع أصحاب الاصوات العالية باذلين كل جهد لتمريغ الوقائع التاريخية في تراب النفاق.. ويواصلون تفريغ التاريخ من شحناته ليلقوا به جثة هامدة أمام سماسرة التسلط والهيمنة.

في هذا السياق يتحدث البعض هذه الايام بسخرية عن قيادة الجنوب التي وقعت على الوحدة، فينسب سبب فشل الوحدة السلمية إلى أن الاتفاقية التي وقعت بين الدولتن كانت من صفحتين فقط ولم تشمل قضايا جوهرية كان يفترض أن تشملها!!

وعندما تسأل بعضهم عن طبيعة هذه "القضايا الجوهرية" يرد بأن طبيعة الدولة التي كان يجب أن تقوم وكذا نظامها ومحتواها اغفلتها الاتفاقية.

الحقيقة أن هذا التفسير مردود عليه من الوقائع التاريخية التي رافقت الوحدة وهي أن الاتفاقية لم تكن الوثيقة الوحيدة التي انتظمت الوحدة في إطارها، وإنما كان هناك الدستور المتفق عليه، والقوانين التي تم الاتفاق على انجازها خلال الفترة الانتقالية التي حددت بسنة (نوفمبر ١٩٨٩/ نوفمبر ١٩٩٠) والتي تم اختصارها فيما بعد الى ستة اشهر بدون أي تفسير مقنع، وأنجز خلالها أكثر من ١٧١ قانون شملت مختلف مناحي الحياة المنظمة للجوانب الادارية والاقتصادية والامنية والعسكرية والحياة العامة.

ما يعني أن الوحدة قامت وهناك دستور واكثر من ١٧١ قانون متفق عليها شكلت بمجملها الوثائق الاساسية لإقامة الدولة.

تكمن المشكلة في مقاومة إقامة دولة الوحدة!!

البحث عن أسباب الفشل يجب أن ينصب على العوامل الحقيقية التي تضافرت لتعرفل بناء دولة الوحدة.

إن اختزال المسألة على هذا النحو الذي يجعل "الاتفاقية" سبباً في فشل الوحدة السلمية إنما هو تبرئة للعوامل الحقيقية التي قادت إلى ذلك.

حدث بهذا المستوى لا يجب أن يتم التعامل معه بهذه الخفة، وانما يجب البحث في عمق وجوهر الاسباب الكامنة أساساً في وعي اجتماعي وسياسي متنفذ تعامل مع الوحدة على أن طرفاً هرب إليها، وآخر كان مضيفاً وتصرف من موقع أن هذا الهارب يجب أن يقبل بشروط الضيافة.

من هذا السبب تناسلت الاسباب والتداعيات والحروب ومن ثم السقوط..

ليتوقف هؤلاء عن الرغي ، وينظروا كيف أن المنطق الذي دسه المتنفذون في قلب العملية التاريخية قد قلب المعادلة كلها رأساً على عقب لينتهي الوضع إلى ما انتهى إليه.

الارتقاء بالوعي إلى مستوى الاحداث الكبيرة عملية معقدة ونضالية وتشاركية، وهي ضرورية لنجاح هذه الأحداث في الواقع العملي.

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Thu, 21 May 2020 00:56:52 +0300
معادلة التغيير: اتفاق- اختلاف – اتفاق http://aleshteraky.com/views/item/21066-معادلة-التغيير-اتفاق-اختلاف-–-اتفاق http://aleshteraky.com/views/item/21066-معادلة-التغيير-اتفاق-اختلاف-–-اتفاق

إلى العزيز محمد صبري في ذكرى الأربعين لوفاته:

الموت الذي يغيَّبُ إنساناً كمحمد الصبري لا يمكن تعريفه إلا بأنه فاجعة.

نعم.. لقد كان رحيله فاجعة، بكل ما حملته من وجع وحزن وذهول وشعور بالخسارة.

في معادلة الحياة والموت، تقاس خسارة الرحيل بمستوى حضور المرء في الحياة العامة.. كان حضوره كبيراً في المحيط الواسع الذي امتد إليه نشاطه السياسي والاجتماعي والإنساني، ؛ولذلك، لا بدَّ أن تكون خسارة رحيله كبيرة.

على نحو يثير الإعجاب والاحترام، استطاع محمد الصبري -رحمه الله- أن يشق طريقه في الحياة السياسية العامة إلى الصفوف الأمامية بثقة المقتدر على التعاطي مع تعقيداتها، وكان واحداً من قيادات اللقاء المشترك في محطة من أهم المراحل السياسية. وكان أن استطاع اللقاء المشترك، قبل أن تلتهمه خديعة السلطة، أن يعمل بدأب على خلق معادلة سياسية على الأرض تتجاوز حواجز الايديولوجيا إلى ما تحتاجه ضرورات التغيير من برامج وإصلاحات سياسية داخل كل حزب وفي الحياة السياسية عموماً.

سيظل اسم محمد صبري مرتبطاً بالتغيير في أي موقع كان فيه.. كناصري، هو رجل تغيير، ولو كان اشتراكياً أو إسلامياً أو ليبرالياً  سيكون بلا شك رجل تغيير.. وكان ذلك تجسيداً لروح “المشترك” الذي غير وجه الحياة السياسية في اليمن ومعادلاتها.

كان لا يتوقف بتفكيره عند حدود ما تشكله النظرية من فهم للظاهرة، لكنه يعمل عقله بدينامية الواقع الذي يتحرك فيه.. وهو إلى جانب أنه رجل تغيير بالمفهوم الذي يرى فيها الإنسان الحياة في حركتها لا في سكونها.

كان يتطور سياسياً وفكرياً في ظروف المعاناة الشخصية التي تكبدها بسبب مواقفه التي ظلت تعبر عن حاجة اليمن إلى إصلاحات جذرية في مجمل بناه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن البنى الثقافية والعلمية المنهكة بنفايات الايديولوجيا التي عمقت التخلف في كافة مناحي الحياة.

ولا أنسى مناقشتنا المستمرة لمسألة تغيير المعادلة المركبة التي حكمت الحياة السياسية اليمنية من: (اختلاف- اتفاق- اختلاف)، إلى (اتفاق – اختلاف- اتفاق).

وكان لا بد من وضع هذا التعديل في إطار  نظري منهجي يساعد على معرفة مضامينه بعيداً عمَّا يمكن أن يفهم منه بأنه اعتباطي أو تحكمي.

فكان الإطار المنهجي كالآتي:

(اتفاق): وتعني أن التنوع والتعدد السياسي والثقافي قيمة إنسانية لا غنى عنها لإدراك حاجات الإنسان المتنوعة؛ ولذلك فهي متكاملة وليست متصادمة. وأن القوى التي تمثلها لا بد أن تتفق على حقيقة أن هذا التنوع والتعدد يجب أن يدار بأدوات سياسية ومعرفية.

(اختلاف): التنوع بطبيعته يحمل اختلافاً في الرؤى والبرامج، على أن يبقى هذا الاختلاف محكوماً بالاعتراف بضرورات التنوع دون طغيان من أحد أو شعور بالتفوق والتميز، وأن التفوق هو ميدان العمل الذي تتحقق فيه مصالح المجتمع.

(اتفاق): على أن الديمقراطية وحق الناس في تقرير اختياراتهم السياسية هي الكلمة النهائية التي يحتكم إليها الجميع.

تغيير المعادلة على هذا النحو (اتفاق – اختلاف- اتفاق) كان وسيظل هو الرهان الذي لا يمكن لليمن أن يستقر بدونه.

لروحك السلام أخي أبي عبد العزيز.

د.  ياسين سعيد نعمان.

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Mon, 20 Apr 2020 16:12:32 +0300
الوثيقة الحوثيةاستثمار لمعاناة اليمنيين http://aleshteraky.com/views/item/21006-الوثيقة-الحوثيةاستثمار-لمعاناة-اليمنيين http://aleshteraky.com/views/item/21006-الوثيقة-الحوثيةاستثمار-لمعاناة-اليمنيين

هاهي الوقائع تؤكد مجددا أن الحوثية فكرة تعيش بالحرب، وتتلاشى بالسلام، وهي لذلك لن تقبل بأي وقف للحرب ما لم يكن ذلك تعبيراً عن القبول بإنقلابها كمسلمة لا يجوز مناقشتها من قريب أو بعيد.

بمجرد ما أعلن تحالف دعم الشرعية أنه سيقدم مبادرة لوقف الحرب استجابة لنداء الأمم المتحدة لتمكين اليمن من مواجهة جائحة "الكورونا" العالمية، قامت الجماعة فوراً بتسريب ما اسموه "وثيقة الحل الشامل لإنهاء الحرب على الجمهورية اليمنية" في إستباق يرفض بوضوح أي مبادرة للتخفيف من معاناة اليمنيين.

وبعيداً عن العنوان الملغوم للوثيقة ومحتوياتها التي تستخف بوعي الناس وبما ارتكبته بحق اليمن، فإن الجماعة تعمل على استثمار معاناة الشعب، وتضع شروطها بالإنتقال من التهدئة إلى الحل الشامل وهي تعرف أن الحل الشامل يبدأ بخطوة تجسد إحترام حاجة الناس في هذا الظرف الصعب إلى حشد الجهد لمواجهة كارثة الوباء، وتخفيف المعاناة الانسانية، ومعها تتراكم وتتعزز شروط إنهاء الحرب بقواعد الحل الشامل لسلام دائم تنتهي بموجبه الأسباب الحقيقية التي قادت الى الحرب.

في الوثيقة، التي سربتها قبل إعلان مبادرة التحالف بساعات قليلة، لم تترك فرصة لتفسير مقاصدها على أي نحو مغاير، ولو بالحد الأدنى، لإصرارها على مواصلة الحرب ما لم يكن وقف العمليات العسكرية استجابة لشروطها.

ولم تكتف بذلك، فبمجرد أن أعلن التحالف مبادرته بوقف العمليات العسكرية، قامت بإطلاق صواريخ باليستية إلى قلب مدينة مارب في عمل لا مسئول، ولا ينم عن اعتبار أو تقدير لما يرتبه هذا السلوك من مخاطر على اليمنيين في قادم الأيام.

اليمن في ظل الأوضاع الراهنة معرض لكوارث المرض والأوبئة والمشاكل الاقتصادية والجوع، وللذين لا يعرفون حقيقة ما ينتظر اليمن من آلام وأوجاع مضنية خلال الأيام القادمة نذكرهم بأن برنامج الاغاثة لهذا العام تأجل الى هذا التاريخ لانشغال الدول المختلفة بكارثة الوباء، ولن يكون لديها المساحة المعتادة للدعم الانساني، أي أن "فائض الإنسانية" الذي يوزعه العالم على المنكوبين بحماقة العصبيات وطيش السلاح والقوة الغاشمة قد تبدد بالكارثة التي بات معها الجميع يئن من وطأة المعاناة.

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Fri, 10 Apr 2020 01:38:44 +0300
الحوثية حاصل جمع ميراث الإمامة وتخريب الجمهورية "3" http://aleshteraky.com/views/item/20961-الحوثية-حاصل-جمع-ميراث-الإمامة-وتخريب-الجمهورية-3 http://aleshteraky.com/views/item/20961-الحوثية-حاصل-جمع-ميراث-الإمامة-وتخريب-الجمهورية-3

٣- اليمن وطن وليس غنيمة حرب .

واليمني مواطن ، وهو مالك السلطة ومصدرها ، وليس رعوياً أو أسير حرب.

---------------------------------

تعتبر "الحوثية" مجرد مجموعة هامشية حينما يتعلق الأمر بالإمامة وعلاقتها بالأسر الإمامية التي حكمت اليمن. وهي تعرف تمام المعرفة أن تراتبيتها بين هذه الأسر لا تؤهلها لقيادة هذا التكوين "الثيوقراطي" المتشعب إلى أسر لطالما تطلعت جميعها إلى الإمامة والسيادة، واصطرعت بين إمام مفضول وإمام أفضل، وأسر حاكمة وأخرى هامشية، ومرجعيات أصيلة واخرى ملتبسة. 

حكمت هذا التكوين قواعد روتها الدماء التي سالت، سواء فيما بينها، أو في إقحام المجتمع فيها، لتستأثر بالإمامة والسلطة، وانهكت معها اليمن ليبقى من أكثر دول العالم تخلفاً وفقرا.

ولذلك فإن الحرب التي تخوضها اليوم هي في حقيقتها امتداد لهذا التاريخ الدامي، وهي ذات أبعاد متداخلة، فهي من جانب محاولة لتأكيد أهليتها للإمامة والسيادة ببعديها الثيوقراطي والعصبوي معاً، بعد أن ظلت مهمشة وخارج المكون "المرجعي" للأسر الحاكمة وتشكيلاتها التاريخية وهي، من ناحية أخرى، إستمرار لنظرة الإمامة إلى اليمن كغنيمة حرب وإلى أبنائه كرعية وأسرى حرب، وليس كوطن، لبنائه شروط مختلفة.

والحوثية، كجماعة عصبوية وفكرة عنصرية، ترى في الحرب وسيلة لإخضاع أطراف هذا التكوين بالبعدين "العرقي" والثيوقراطي معاً، وإخضاعه لسطوتها لتأكيد حقها في الإمامة بمرجعيات "حسين الحوثي" التي شكلت فرعاً لزيدية سياسية وفقهية وعرقية منفتحة بلا حدود لعلاقة متداخلة مع الاثنى عشرية الجعفرية. وهو انفتاح يهدف إلى بناء تحالفات خارجية تدعم مشاريعها التسلطية الفوضوية وإبقاء اليمن مخلباً إيرانياً في جسم المنطقة. ولتمرير هذا البعد فلا بأس من المراوغة مع الجمهورية بشعارات بمحتوى إمامي استبدادي يسمح لها بتمرير مخططاتها في السيطرة، أو أقله بالتعايش، ولكن من الموقع الذي تستطيع من خلاله التأثير في القرار السيادي وتعطيله بإتفاقات تصبح جزءاً من دستور البلاد.

غير أن ما يشغلها، ويثير لديها الهواجس، هو أن كثيراً من مكونات الثيوقراطية الامامية لن تعترف لها بالإمامة أو السيادة، كما أن كثيرين من أبناء اليمن ممن ينسٌبون تنسيباً إلى الهاشمية لن يقبلوا، كما لم يقبلوا من سابق، بجرهم إلى صراع عصبوي يجدون فيه أنفسهم وقد تحوصلوا في دائرة صراع أبدية مع بقية الشعب اليمني وهم الذين لا يعرفون اليمن إلا موطنا.. وأن يكون اليمن وطنا دائماً أفضل من أن يكون غنيمة مؤقتة. فالمغامرون قد يظفرون باليمن كغنيمة مؤقتة، كما تخطط الحوثية اليوم، وكما كان حال الإمامة دائماً، ولكنهم سيخسرونه كوطن دائم. خاض الكثيرون من هؤلاء نضالاً وطنيا ضد هذه النزعة الشوفينية وأيديولجيتها الثيوقراطية التسلطية، بل كانوا في طليعة هذا النصال الوطني في محطات تاريخية مختلفة.

تدرك الجماعة الحوثية، التي تستخدم مسمى " أنصار الله" كعنوان جامع تحاول أن تتجاوز به هامشية مكانتها في التراتبية الاسرية، أن بقية الأسر لن تقبل بإمامتها أو بتربعها كرسي السيادة، كما أن الكثيرين لن ينخرطوا في الفرز السلالي بذلك الشكل الذي يجعلهم في مواجهة دائمة مع مبدأ الوطن والمواطنة الذي يؤمن لجميع اليمنيين حياة آمنة ومستقرة، لذلك فإن الحوثية تعتقد أن فرض سطوتها هنا أمر لا بد منه. ومع السطوة يتم توريط الأغلبية في الحرب وممارسة القمع، والانخراط في دورة الانتقام بما يرتبه ذلك من فرز ومن ثأرات وردود أفعال تنتج خطاباً ومواقف معادية تجاه الهاشميين، وهذا هو بيت القصيد عند الحوثية، فكلما طال أمد الحرب كلما أوغلوا في توريط المزيد والمزيد، فمن يتورط لا يستطيع العودة الى الخلف، وفي نفس الوقت تكون الحرب قد شرخت المجتمع، وشرب هذا الشرخ الكثير والكثير من الدم، ومعه تكون قد أكلت الكثير من أبناء هذه الاسر ممن يعتقد الحوثيون أنهم لا يظهرون لهم الولاء إلا خوفاً، أو طمعاً، بينما هم في حقيقة الأمر لا يقيمون لهم وزنا في تراتبية الامامة والسيادة من ناحية، كما أن آخرين خاضوا نضالات وطنية خارج هذه المنظومة برمتها من ناحية أخرى ومنذ البواكير الأولى للحركة الوطنية.

وينطبق نفس الشيء على القبائل التي حازبت الحوثية وحاربت الى جانبها، والتي أرهقت بألاف القتلى من أبنائها، ممن تعتقد الجماعة بأن قتالها إلى جانبهم محكوم بدوافع لا صلة لها بالولاء العقائدي بقدر ما هو تعبير عما أصاب البنية الاجتماعية والسياسية اليمنية من تفكك واستقطابات، وشعور بالإبعاد والإقصاء، بسبب سياسات الأنظمة المستبدة. ولأن هذه القبائل لا تشكل، من وجهة نظر الجماعة، قاعدة عقائدية راسخة للسيطرة التي تسعى اليها، فإن هذه القبائل يجب أن تنهك وتستنزف إلى أبعد مدى، والجماعة لهذا لا تراها غير مخرن بشري للقتال والموت بمقابل.

الحوثية اذاً تقاتل، وهذا البعد من قتالها هو امتداد تاريخي للصراعات الداخلية للأئمة وعلاقتهم بالمجتمع الذي يسعون للسيطرة عليه وإخضاعه. ومعه ، فإن إدارة هذا الصراع لا زالت تعتمد على:

....يتبع الجزء الرابع

]]>
yaseen@hotmail.com (د. ياسين سعيد نعمان) وجهات Thu, 02 Apr 2020 19:14:36 +0300