الاشتراكي نت - الاشتراكي نت - طاهر شمسان http://aleshteraky.com Thu, 28 Mar 2024 17:26:06 +0300 ar-aa عن قانونية وأخلاقية حملة "جوازي بلا وصاية" http://aleshteraky.com/views/item/24974-عن-قانونية-وأخلاقية-حملة-جوازي-بلا-وصاية http://aleshteraky.com/views/item/24974-عن-قانونية-وأخلاقية-حملة-جوازي-بلا-وصاية

 

         يوم 11 مارس الجاري نشرت مقالا بعنوان "ألفت الدبعي: الرمزية والقضية والموقف" أكدت فيه أن مجتمع "الميم" هو قصة مختلقة من وحي خيال عادل الشجاع الذي لم يعجبه نجاح حملة "جوازي بلا وصاية" فذهب يخرجها-كلاميا-من مسارها القانوني إلى مسار آخر مصادم لقيم المجتمع اليمني بغرض الإساءة إلى رئيس الوزراء معين عبد الملك في إطار الصراع بين هوامير الفساد. أما إقحام ألفت الدبعي فهو اجتهاد غير موفق من عادل اعتقادا منه أن ذلك سيضفي على القصة المختلقة نوعا من المقبولية المنطقية لدى الرأي العام. والحقيقة أن عادل باختلاق هذه القصة قد أساء لنفسه أكثر مما أساء لمعين وألفت.

         وردا على مقالي المذكور كتب عبد الفتاح الحكيمي مقالا بعنوان: "منطق التهافت.. طاهر شمسان وحكاية سبع نسوان". والحقيقة أن ما كتبه هذا الرجل دال على وعيه ومستواه إن كان فعلا قد كتبه بنفسه. أما إن كان قد كُتِبَ له ووُضِعَ اسمُه عليه فهو أدرى كيف يعيد الاعتبار لنفسه إن كان كاتبا حقا ويعرف أن الكتابة لا تكون إلا لرفع الوعي وليس للتقول والتجني والشتيمة والتدليس والافتراء.

         واحتراما لعقل القارئ الكريم أكتب هذا المقال في صلب الموضوع نائيا بنفسي وبوقت القارئ عن أن أنتصر لشخصي مكتفيا بالرد في الموضوع وفي الموضوع فحسب. ذلك أن القضية قضية حقوق وحريات وليست قضية هزيمة وانتصار، وهي ليست قضية عادل الشجاع وألفت الدبعي، إنها قضية الوعي والمسئولية في مواجهة التعدي على الحقوق والحريات والخروج على الدستور والقانون.

          وفي هذا المقال سأهتم ببيان البعد القانوني والأخلاقي لحملة "جوازي بلا وصاية"، وكيف ذهب عادل الشجاع عن قصد وسابق إصرار وترصد يخرجها-كلاميا-من سياقها القانوني والأخلاقي ويضعها في سياق غير أخلاقي. وهدفي من هذا أولا: المزيد من تنوير القارئ، وثانيا: أن أبعث بأصدق التحايا-إلى السبع الماجدات اللائي وقفن مع المحامي ياسر المليكي أمام مصلحة الأحوال المدنية في مدينة تعز رافعات شعار "جوازي بلا وصاية"-وأقول لهن: أنتن رائدات، ومطالبتكن بحق قانوني سُلبَ منكن لا يكون عملا منحلا وغير أخلاقي إلا عند من هو منحل وبلا أخلاق.

 البعد القانوني لحملة " جوازي بلا وصاية".

         تنص المادة (31) من دستور الجمهورية اليمنية لعام 2011 على أن "النساء شقائق الرجال، ولهن من الحقوق وعليهن من الواجبات ما تكفله وتوجبه الشريعة وينص عليه القانون"، وتنص المادة (41) من هذا الدستور على أن "المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات"، وتنص المادة (57) من الدستور نفسه على أن "حرية التنقل من مكان إلى آخر في الأراضي اليمنية مكفولة لكل مواطن، ولا يجوز تقييدها إلا في الحالات التي يبينها القانون لمقتضيات أمن وسلامة المواطنين، وحرية الدخول إلى الجمهورية والخروج منها ينظمها القانون، ولا يجوز إبعاد أي مواطن عن الأراضي اليمنية أو منعه من العودة إليها".

         واضح إذَنْ أن دستور الجمهورية اليمنية يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وبما أن المرأة اليمنية مواطن فلها حق دستوري في الحصول على جواز سفر دون وصاية أو قيود من أي نوع كانت. وبقي الآن أن ننظر كيف فصَّلَ القانون اليمني هذا الحق الدستوري وكيف نظَّمه. 

         تقول المادة (6) من القانون رقم (7) لسنة (1990) بشأن الجوازات: "تصرف جوازات السفر العادية ووثائق السفر المنصوص عليها في الفقرات من (1-4) من المادة (3) لكل من بلغ سن السادسة عشر من العمر ممن يتمتعون بجنسية الجمهورية اليمنية، أما القصر فيضافون في جواز سفر أحد الأبوين إن كانوا مسافرين بصحبته، ويجوز صرف جواز سفر للقاصر عند الضرورة وبعد موافقة ولي أمره"، وتقول المادة (11) من هذا القانون: "يحق لمن يتمتعون بجنسية الجمهورية اليمنية مغادرة الأراضي اليمنية والعودة إليها من الأماكن المخصصة لذلك وبإذن من الموظف المختص، ويكون ذلك بالتأشير على جواز سفره أو الوثيقة التي تقوم مقامه"، وتقول المادة (17) من القانون نفسه: "يلغى أي نص يخالف هذا القانون أو يتعارض مع أحكامه"، وأخيرا تقول المادة (18) من القانون المذكور: "على وزير الداخلية إصدار اللائحة التنفيذية لهذا القانون وبما لا يتعارض مع أحكامه".

         واضح إذن أن القانون رقم (7) لسنة (1990) بشأن الجوازات لم يخرج عن نص وروح الدستور قيد أنملة وإنما ساوى بين الرجال والنساء في حق الحصول على جواز سفر دون تمييز ودون وصاية أو قيود من أي نوع كانت. وواضح أيضا أن حملة "جوازي بلا وصاية" كانت متسقة تماما مع نص وروح الدستور، وكانت حملة قانونية 100%، وكل من يشكك في أخلاقية هذه الحملة فإنه ضمنيا يشكك في أخلاقية الدستور والقانون اللذين يؤيدانها.

ألفت الدبعي وحملة "جوازي بلا وصاية":

         لا علاقة لألفت الدبعي بحملة "جوازي بلا وصاية"، لا من حيث التخطيط ولا من حيث التنفيذ وتنظيم التظاهر الاحتجاجي المدني أمام مصلحة الأحوال المدنية في مدينة تعز، وكل ما فعلته أنها استحسنت هذه الحملة وأيدتها واقترحت على منظميها الذهاب إلى رئاسة الوزراء ومقابلة رئيس الحكومة وساعدتهم على لك.

          استمع رئيس الحكومة إلى منظمي حملة "جوازي بلا وصاية" وبناء على ذلك وجَّهَ بطلب الفتوى من وزارة الشئون القانونية وتلقى منها رداً يؤيد ضمنا مصداقية حملة "جوازي بلا وصاية" ويؤكد أن مصلحة الأحوال المدنية فيما يتعلق بحق المرأة في الحصول على جواز سفر تمارس تمييزا تعسفيا ضد النساء في مخالفة صريحة للدستور والقانون. وفي ضوء هذه الفتوى صدر التوجيه من رئيس الحكومة إلى وزير الداخلية بسرعة وضع حد نهائي للتمييز التعسفي الذي يمارس ضد النساء في مصلحة الأحوال المدنية وإلغاء كل الاشتراطات الغير قانونية التي تحول دون حقهن في الحصول على جواز سفر. وبالفعل جاء توجيه وزير الداخلية لينهي معاناة آلاف اليمنيات من ظاهرة التمييز في مصلحة الأحوال المدنية وفي سفارات الجمهورية اليمنية حول العالم.

عادل الشجاع وتشويه حملة "جوازي بلا وصاية": 

         عوضا عن توجيه الشكر لرئيس الحكومة على تفاعله الإيجابي مع حملة "جوازي بلا وصاية" ذهب عادل الشجاع وعن قصد وسابق إصرار وترصد يخرج هذه الحملة كلاميا من سياقها القانوني والأخلاقي ويضعها في سياق غير قانوني وغير أخلاقي بكتابته مقالا بعنوان "جوازي بلا وصاية مقدمة للمطالبة بالحرية المثلية في اليمن". المقال المذكور طافح بالسب والقذف والتشهير ضد ألفت الدبعي التي لم تجد بداً من التوجه إلى القضاء المختص. وما يهمني في هذه الجزئية أن أبين للقارئ كيف لوى عادل الشجاع عنق الحقيقة وبذهنية عدوانية ليخرج حملة "جوازي بلا وصاية" عن مسارها الأخلاقي ويضعها كلاميا في مسار غير أخلاقي.

         يقول عادل الشجاع:".... وبسرعة البرق وعلى الطرف الآخر أصدر رئيس الوزراء معين عبد الملك توجيهاته بمنح النساء جوازات بدون العودة إلى آبائهن أو أزواجهن". هكذا حرفيا "بدون العودة إلى آبائهن أو أزواجهن" وكأنَّ الهدف من حملة "جوازي بلا وصاية" هو تحريض النساء للتمرد على الآباء والأزواج وليس رفع الوصاية التي تمارسها عليهن مصلحة الأحوال المدنية ضدا على الدستور والقانون مسببة الكثير من المعاناة لآلاف اليمنيات.

         إن عبارة "بدون العودة إلى آبائهن وأزواجهن" في السياق الذي جاءت فيه تنطوي على قدر كبير من الخداع وسوء النية بغرض التشويش على القارئ من خلال الخلط بين أمرين اثنين لا يجوز الخلط بينهما من المنظورين القانوني والأخلاقي. الأمر الأول هو حق المرأة في الحصول على جواز سفر، وهذا حق دستوري وقانوني من حقوق المواطنة يناله أي يمني باعتباره مواطنا بصرف النظر عن جنسه. والأمر الثاني هو موافقة ولي الأمر على السفر. وهذا الأمر الثاني خصوصية عائلية تنظمه التفاهمات المتبادلة بين أفراد الأسرة وإدراكهم لمصلحتهم ككل ومصلحة كل فرد فيهم على حدا، وفي هذه التفاهمات يتساوى الرجال مع النساء تحت سقف بيت الأسرة الواحدة بعيدا عن منطق الوصاية، وليس بمقدور جواز سفر حصل عليه أحد أفراد الأسرة-ذكرا كان أو أنثى-أن يعكر صفو هذه التفاهمات بالنظر إلى أن الأسرة مؤتمنة على أفرادها أخلاقيا وليس حقوقيا.

         وفي المجمل الآباء والأزواج لا يمارسون الوصاية على البنات والزوجات بمعنى "الحرمان والتمييز التعسفي" الظالم الذي تمارسه مصلحة الأحوال المدنية ضد النساء وإنما بمعنى "الرعاية" القائمة على الحب والرحمة والمودة. ولهذا كانت حملة "جوازي بلا وصاية" موجهة ضد "وصاية" مصلحة الأحوال المدنية المخالفة للدستور والقانون على النساء، ولم تكن أبدا ضد "رعاية" الآباء والأزواج للبنات والزوجات. وإذا كانت "الوصاية" تمارس أحاديا من طرف قوي على طرف ضعيف فإن الرعاية علاقة إنسانية تكاملية بين طرفيها حيث تأتي من الآباء والأزواج تجاه البنات والزوجات مثلما تأتي من البنات والزوجات تجاه الآباء والأزواج. 

         وعادل الشجاع في موقفه من حملة "جوازي بلا وصاية" أمام احتمالين اثنين لا ثالث لهما: إما أنه لم يفهم شعار الحملة ومقاصدها وأبعادها القانونية والأخلاقية وذهب يكتب مقاله ذاك عن جهل، وإما أنه فهم شعار الحملة جيدا وذهب يحرفه ويشوهه عن قصد. وأنا أستبعد تماما الاحتمال الأول لأن الشجاع أستاذ جامعي وليس من عامة الناس حتى يتعذر عليه فهم الأبعاد القانونية والأخلاقية لحملة "جوازي بلا وصاية). وقد سبق لي أن قلت في مقالي السابق على هذا أن الشجاع كتب مقاله المسيء لتلك الحملة بناء على طلب الغير وليس بدافع النخوة والشرف والغيرة كما حاول أن يقنعنا بذلك عبد الفتاح الحكيمي.

الدولة القانونية والدولة غير القانونية:

         الدولة القانونية هي تلك التي تكون فيها السيادة للقانون ولا سيادة لأحد عليه. والدولة القانونية لا تطبق القانون بصرامة وشمول على مواطنيها فقط وإنما على نفسها أيضا، وفيها يستطيع أي مواطن أن يقاضي أي مؤسسة من مؤسسات الدولة ويحصل على الإنصاف أمام قضاء مستقل ونزيه حتى وإن كانت هذه المؤسسة هي مؤسسة الرئاسة أو مؤسسة الجيش أو مؤسسة الأمن والاستخبارات. أما الدولة غير القانونية فالسيادة فيها ليست للقانون وإنما لمراكز القوى وأهل النفوذ ولكل من له سلطة من أي نوع كانت، بما في ذلك سلطة التراث والثقافة التقليدية السائدة التي تتسم بقدر كبير من الهيمنة في ظل شيوع الجهل والأمية والتعليم المؤدلج والإعلام المسيَّس وضعف الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وانعدام التحديث. 

         ولأن الدولة في اليمن غير قانونية فإنها لا تطبق القانون على مؤسساتها، والقانون فيها لا يعرف الشمول والصرامة وإنما يطبق بطريقة انتقائية بحسب ثقافة ومزاج القائمين على تطبيقه. ومصلحة الأحوال المدنية هي المؤسسة المعنية بتطبيق قانون الجوازات، وهي، مثلها مثل غيرها من مؤسسات الدولة، لا تتعرض للمساءلة القانونية إذا أساءت استخدام سلطتها في تطبيق أي قانون من القوانين التي هي معنية بتطبيقها ومن بينها قانون الجوازات الذي يهمنا في هذا المقال.

         والحقيقة أن إساءة استخدام السلطة في تطبيق قانون الجوازات-بالنسبة للنساء-هو العام والشائع في مصلحة الأحوال المدنية وفروعها بينما التطبيق الجيد لهذا القانون هو الاستثناء والنادر. فالرجل إذا قرر أن يسافر خارج البلاد للنزهة والترفيه على النفس فإنه يحصل على الجواز دون وصاية خلال يوم أو يومين بالكثير حتى وإن كان حظه من التعليم متواضعا جدا، أما المرأة فإنها لا تحصل على الجواز للسفر بغرض العلاج أو الدراسة-مثلا-ما لم يكن برفقتها "مَحْرَمْ" يوافق على حقها في الحصول على الجواز حتى وإن كانت قاضيا لها ولاية الفصل في المنازعات بين الرجال في المحاكم، أو كانت محاميا يركن عليها الرجال في الحصول على الإنصاف أمام العدالة، أو كانت أستاذا جامعيا يقدم المعارف للأجيال التي ستصبح مؤتمنة على مستقبل الوطن ....الخ

         إن الموظف المختص في مصلحة الأحوال المدنية حين يشترط على المرأة أن تكون برفقة "محرم" يزكي حصولها على جواز السفر فإن المرجعية التي يصدر عنها في هذا التصرف ليست الدستور ولا قانون الجوازات وإنما الثقافة السائدة التي تمارس سلطتها عليه من حيث لا يدري، وهي بطبيعة الحال ثقافة ذكورية المركزية فيها للرجل "الكامل" وما المرأة إلا تابع "ناقص" حتى في العقل والدين.

         وإذا كان قانون الجوازات ينظر إلى المرأة على أنها "مواطن" كامل الأهلية مثلها مثل الرجل فإنه في هذه النظرة إلى المرأة يصدر عن مفهوم "الوطن" ومفهوم "المواطنة" وهما مفهومان محوريان في الدستور. أما الثقافة التقليدية السائدة-وهي كما أسلفنا ثقافة ذكورية-فإنها لا تنظر إلى المرأة على أنها "مواطن" وإنما على أنها "أنثى" خلقت لإمتاع الرجل وإنجاب من يحملون اسمه ويحمونه ويكررون دوره في الحياة. والثقافة الذكورية في نظرتها إلى المرأة لا تصدر عن مفهومي "الوطن، والمواطنة" وإنما عن مفهومي "القبيلة" و"العصبية" وما يتوالد عنهما من مفاهيم كالنخوة والشرف والغيرة والعيب والعار والثأر. وإذا كانت الدولة هي التي تنتج القوانين الوطنية المنظمة لحقوق وواجبات المواطنين فإن القبيلة لا تنتج القانون وإنما تنتج الأعراف التي تنظم العلاقة بين أفرادها وعلاقتها مع القبائل الأخرى. وإذا كانت قوانين الدولة مكتوبة في مدونات وتخضع للمراجعة والتعديل والتطوير فإن أعراف القبيلة لا تكتب وإنما تستوعب منذ الطفولة في إطار التنشئة وتصبح ثقافة متأصلة عند أفرادها، وهي لذلك تتمتع بقدر كبير من الثبات بالنظر إلى الركود الطويل في حياة القبيلة حيث كل جيل يكرر حياة الجيل السابق عليه كما هي تقريبا ولقرون. وأخيراً مقابل "المواطن" في الوعاء الوطني يأتي "الغرَّام" في الوعاء القبلي.

         بسبب هيمنة الثقافة التقليدية-وهي بطبيعتها ثقافة ذكورية متعالية على المرأة-فإن الموظف في مصلحة الأحوال المدنية-ومن حيث لا يعي-لا يحمل ثقافة وروح الدولة وإنما ثقافة وروح القبيلة، وهو تبعا لذلك لا يتصرف في حدود صلاحياته واختصاصه كممثل للدولة وإنما كممثل للقبيلة، وهو بالتالي لا يطبق قانون الدولة وإنما يطبق أعراف القبيلة التي هي متأصلة في ثقافته التقليدية وتأثيرها عليه أكبر بما لا يقاس من تأثير القانون الذي يفترض أنه يعمل على تطبيقه كواجب عليه يرتب له حق الحصول على راتب. وفي هذا السياق أتذكر أني قرأت في محرك البحث "جوجل" تحقيقا صحفيا استقصائيا أعده أنور دهاق بعنوان: "اليمنيات وجواز السفر: الحق الممنوع" وفيه أورد نماذج لمعاناة اليمنيات في مصلحة الأحوال المدنية وفي سفارات الجمهورية اليمنية في الخارج. وكانت قصة شذى أحد هذه النماذج.

         يقول دهاق ما معناه: بعد كفاح طويل تمكنت شذى من الحصول على منحة كاملة لدراسة الدكتوراه في هولندا، وعندما ذهبت إلى مصلحة الأحوال المدنية في ديسمبر 2019 لاستخراج جواز سفر طلب منها الموظف المختص موافقة ولي أمرها وحضوره معها. وأمام هذا الطلب وقفت شذى حائرة لأن والدها طريح الفراش منذ ثلاث سنوات بسبب إصابة بليغة تعرض لها في حادث قصف الصالة الكبرى بصنعاء في أكتوبر 2016، أما اخوتها الذكور فجميعهم يقيم خارج البلاد. حاولت شذى أن تقنع الموظف المختص بأنها ستفقد المنحة المتاحة لها ما لم تسافر في الوقت المحدد، لكن الجواب كان جاهزا: كيف أعرف أنك لن تهربي؟ وأصر على حضور والدها. 

         فكرت شذى بالذهاب إلى مصلحة الأحوال المدنية بعدن غير أن صديقة لها أقنعتها أنها ستواجه المشكلة نفسها. وبعد خمسة أشهر من المعاناة اضطرت شذى أن تنقل والدها المقعد إلى مصلحة الأحوال المدنية بصنعاء لتتمكن من الحصول على وثيقة جواز سفر.

         نموذج آخر مثلته سارة العريقي (أم تقيم في تركيا) حيث طلبت منها القنصلية اليمنية هناك موافقة ولي الأمر لتجديد جواز سفرها. الجدير بالذكر أن عدم وجود جواز سفر ساري المفعول يمثل معضلة كبيرة أمام اليمنيات في الخارج، بما في ذلك الطالبات، حيث لا يكون بمقدورهن لا السفر ولا استلام حوالات مالية.

         زينب أرادت السفر للدراسة العليا في الخارج واتخذت من أخيها ولياً لأمرها، لكن طلبها قوبل بالرفض لأن أخاها بحسب موظف الجوازات أصغر منها وقد يعينها على الهرب. وقصة زينب واحدة من قصص كثيرة مؤلمة روتها النساء عن أثر الإجراءات التمييزية في حرمانهن من حق السفر للعلاج ولم الشمل وإثبات الهوية وكثير من الفرص الخاصة بالتعليم في بلدان العالم.

         إن اشتراط موافقة ولي الأمر لحصول المرأة على جواز سفر ليس فقط وصاية غير دستورية وغير قانونية ولكنها أيضا لا أخلاقية، ذلك أنها متكئة على عرف تستند حيثياته إلى اتهام النساء ضمنيا في أخلاقهن وشرفهن وكرامتهن. فالمرأة عندما تذهب إلى مصلحة الأحوال المدنية للحصول على جواز سفر أو إلى سفارة الجمهورية اليمنية لتجديد جواز سفرها فإنها في تلك اللحظة لا تكون محترمة ولا "بنت ناس" إلا إذا جاء رجل-وليس امرأة حتى وإن كانت الأم- يقول غير ذلك ويضمن أنها لن تهرب ويثبت أقواله في استمارة خاصة، وهذا الرجل إما أن يكون الأب أو الزوج أو الأخ الأكبر أو العم أو الخال أو الجد.

دلالات استجابة معين عبد الملك لحملة "جوازي بلا وصاية":

         مشكلتنا في اليمن أننا نلهث وراء الجملة السياسية المعارضة أو الموالية ولا نهتم بقضايا الحقوق والحريات ولا ندرك أهميتها بما فيه الكفاية. ونحن إما أن نعارض بالمطلق أو نوالي بالمطلق على طريقة "بين أخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب". وليس بمقدورنا تقدير استجابة معين عبد الملك لحملة "جوازي بلا وصاية" حق قدرها وانتصاره للقانون إلا إذا علمنا أن غياب سيادة القانون هو سبب وصولنا إلى ما نحن فيه اليوم. لكن انتصار معين عبد الملك لقانون الجوازات لن يدوم ما لم يكن في إطار نهج شامل ينتصر لمبدأ سيادة القانون في كل أجهزة الدولة.

         إن انتصار حملة "جوازي بلا وصاية" بادرة رائعة ونموذج لما يمكن أن يفعله الوعي المدني، وهذا الانتصار إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن لدينا إمكانيات حقيقة للانتصار للقانون إذا تسلحنا بالوعي القانوني وأحسنا تنظيم أنفسنا لانتزاع الحقوق والحريات. 

         إن انتصار حملة "جوازي بلا وصاية" لم يتمظهر فقط في استجابة رئيس الوزراء لمطالبها وإنما أيضا في قدرتها على فضح كثيرين ممن تعرفنا على مستوى وعيهم بعد أن كنا مخدوعين بهم لسنوات.

         وأخيرا ليسمح لي القارئ الكريم أن أتوجه بعظيم الشكر ووافر التقدير لياسر المليكي المحامي المدرك لأهمية القانون والمستوعب لحقيقة أن تغيير الواقع يبدأ من خلال رفع الوعي بحقوق المواطنة. والشكر موصول للدكتورة ألفت الدبعي التي بادرت وناصرت وماتزال تقدم المثال في الوعي والثبات

                                                                                               طاهر شمسان

                                                                                      صنعاء 19 مارس 2013

 

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Mon, 20 Mar 2023 21:15:25 +0300
الفت الدبعي: الرمزية والقضية والموقف http://aleshteraky.com/views/item/24941-الفت-الدبعي-الرمزية-والقضية-والموقف http://aleshteraky.com/views/item/24941-الفت-الدبعي-الرمزية-والقضية-والموقف

 

         من الناحية النظرية معروف لكل مختص ولكل مطلع ولكل مهتم أن قانون الجوازات اليمني رقم (7) لسنة (1990) يساوي بين الرجال والنساء في حق الحصول على جواز سفر دونما أي تمييز، ووفقا لهذا القانون بمقدور أي امرأة بلغت سنَّ الرشد وترغب في السفر إلى خارج البلاد أن تتقدم إلى مصلحة الجوازات أو إلى أيٍ من فروعها للحصول على جواز باعتبارها مواطنا كامل الأهلية مثلها مثل الرجل.

         أما على صعيد الممارسة فالأمر مختلف جدا وفيه قدر كبير من التمييز بين الرجال والنساء بسبب الثقافة الذكورية السائدة وركام التخلف الذي يغشى تفاصيل حياتنا كأفراد وجماعات وكمجتمع. وقد سمعنا وقرأنا عن أستاذة جامعية مُنِعتْ من دخول ورشة لإصلاح عطل في سيارتها وسط العاصمة صنعاء بحجة أنها بلا محرم. ومظاهر التمييز-التي من هذا القبيل-ضد المرأة كثيرة، ولا توجد فوارق جوهرية من هذه الناحية بين المناطق التي تدار من صنعاء وتلك التي تدار من عدن. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لدخول ورشة إصلاح سيارات أو مطعم أو كافيه أو فندق للمبيت أو مستشفى للعلاج أو السفر من محافظة إلى أخرى في الوطن أو من مديرية إلى أخرى داخل المحافظة الواحدة ....الخ فما بالكم عندما يتعلق الأمر بجواز للسفر خارج البلاد؟ بغير شك التمييز في هذه الحالة كبير والتخلف المساند له أكبر. فالرجل يحصل على الجواز بسهولة حتى وإن كان أمياً لا يعرف كيف يكتب اسمه، بينما على المرأة أن تأتي بمحرم حتى وإن كانت قاضياً يفصل في المنازعات بين الرجال في المحاكم أو محامياً يترافع عنهم في ساحة القضاء، أو أستاذا جامعياً يقدم المعارف لمن سيحملون رايات مستقبل الوطن، أو طبيبا يداوي الباحثين عن الشفاء من الأمراض، ولا مانع بعد ذلك أن يكون هذا المحرم هو ابنها الذي تنفق عليه وتكدح من أجل تنشئته وتعليمه أو أخاها الأصغر الذي يعتمد عليها في حاضره كي يتمكن من العبور إلى المستقبل!!!

         إن الثقافة الذكورية والتخلف عموما-وليس الدستور ولا القانون-هو الذي يميز بين الرجال والنساء في حق الحصول على جواز سفر. وجزء كبير من معركتنا في مناطق سيطرة الحوثي ومناطق سيطرة الشرعية هو أساسا مع التخلف. والثقافة الذكورية التي تحرِّض عبد الله العديني ضد المرأة في تعز هي نفسها الثقافة التي تسببت في مأساة انتصار الحمادي في صنعاء. ولمواجهة التخلف نحن بحاجة إلى نضال مدني واعٍ يتبنى قضايا الحقوق والحريات وينتصر لها في إطار الدستور والقانون ومن خلال الاحتجاجات الجماعية السلمية التي من شأنها الضغط على أصحاب القرار. وهذا النوع من الاحتجاجات بحاجة إلى طليعة مسلحة بالوعي القانوني وممتلئة بروح المواطنة وبثقافة الدولة، وهذا بالتحديد ما فعلته ألفت الدبعي.

         وبعجالة شديدة: ألفت الدبعي هي أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، وهي عضو مؤتمر الحوار الوطني، وعضو لجنة صياغة الدستور، وعضو هيئة التشاور والمصالحة، وقد نشأت وتربت في أسرة جمعت بين الثراء المادي وروح المحافظة المتوازنة برعاية أب عصامي حاضر بمهابة في تفاصيل حياة ابنته دون أن يصادر شخصيتها وفرادتها، فهو صديقها الصدوق ولكن دون أن ينسى للحظة واحدة أنه أبوها. وألفت كانت لسنوات عضوا قياديا في حزب التجمع اليمني للإصلاح ثم اختارت بوعي أن تستقيل من هذا الحزب لتصبح شخصية عامة تقف على مسافة واحدة من كل الأحزاب وتحتفظ بعلاقات طيبة مع كل المكونات السياسية في اليمن.

         وفيما يتعلق بحق النساء اليمنيات في الحصول على جواز سفر تصرفت ألفت الدبعي في إطار الدستور والقانون حيث ناصرت بقوة حملة "جوازي بلا وصاية" التي أسسها المحامي ياسر المليكي الذي استشعر معاناة المرأة اليمنية من خلال خبرته المهنية كمحامٍ، وشارك معه في التأسيس مجموعة من الناشطات اللواتي وقفن معه أمام مصلحة الجوازات في مدينة تعز ورفعن لافتة مكتوباً عليها "جوازي بلا وصاية". وعلى إثر ذلك سارع رئيس الحكومة معين عبد الملك إلى طلب الفتوى القانونية من الوزارة المختصة، وبالفعل جاءت الفتوى تؤيد حملة "جوازي بلا وصاية" وتؤكد صراحة على أن هناك تمييزا تعسفيا ضد النساء في مصلحة الجوازات وفروعها مخالفا للدستور وللقانون. وبناء على ذلك صدر توجيه رئيس الحكومة إلى وزير الداخلية بالعمل وفقا للقانون، ومن جانبه وجه وزير الداخلية مصلحة الجوازات وجميع فروعها أن تلتزم بالقانون وأن تلغي كل الاشتراطات التي ليس لها وجود في قانون الجوازات وتمكين المرأة من حقها القانوني في الحصول على جواز السفر دون وصاية من أحد.

         لقد ناصرت ألفت الدبعي ودعمت حق المرأة اليمنية في الحصول على جواز سفر دون وصاية من أحد، وهذا أمر طبيعي لا يجب أن يكون محل استغراب من أحد في هذا العصر. والمستغرب أن تكون المرأة حتى الآن منتقصة الحقوق إلى درجة لا تستطيع معها الحصول بحرية على جواز سفر. لكن الأكثر غرابة أن يأتي الاعتراض -وبطريقة سوقية-على حملة "جوازي بلا وصاية" من شخص يحمل لقبا أكاديميا عاليا ويقدم نفسه منذ سنوات على أنه إنسان مستنير ومشبع بالثقافة المدنية وبثقافة الدولة وأنه عضو أعلى هيئة قيادية في المؤتمر الشعبي العام، وبدلا من أن يتوجه بالشكر لرئيس الحكومة لسرعة تجاوبه مع حملة "جوازي بلا وصاية" ذهب يمارس السَّب والقذف والتشهير ضد ألفت الدبعي، وإلى حد ما ضد رئيس الحكومة. 

         الكلام-للأسف الشديد-يدور حول الدكتور عادل عبده قاسم الشجاع على خلفية مقال كتبه ونشره في صفحته على فيسبوك بعنوان "جوازي بلا وصاية مقدمة للمطالبة بالحرية المثلية في اليمن" قال في مطلعه: (قبل ثلاثة أشهر وبدون مقدمات استأجرت امرأة متقلبة الأطوار سبع نساء وذهبت بهن إلى أمام جوازات تعز ورفعن لافتات كتب عليها "جوازي بلا وصاية". وبسرعة البرق وعلى الطرف الآخر أصدر رئيس الوزراء معين عبد الملك توجيهاته بمنح النساء جوازات بدون العودة إلى آبائهن أو أزواجهن، وصورت المسألة وكأن المرأة اليمنية ممنوعة من الحصول على جواز سفر، مع العلم أن ملايين النساء اليمنيات لديهن جوازات سفر ويسافرن مع أسرهن وبدون أسرهن وألفت الدبعي واحدة من اللاتي تسافر خارج اليمن وتحضر مؤتمرات واجتماعات مشبوهة بدون مرافق)، ثم ذهب أخونا هذا يكرس بقية مقاله الطافح بالشتائم لإضفاء المصداقية على كلامه المجانب تماما للحقيقة، وفيما يلي نقتبس القليل القليل مما قاله في هذا السياق:

(لا أظن أن أحدا يجهل الحملة العالمية الممنهجة والتي تتزعمها إسرائيل لدعم مجتمع "الميم" أي المثليين)+ (وكما قلت هناك ضغوط على الدول العربية للقبول بمجتمع "الميم" أي القبول باللواط والسحاقيات)+ (وألفت الدبعي واحدة من الناشطات اللاتي يتاجرن بقضية المرأة ويعبثن بالنساء وتحويلهن لأداة ابتزاز رخيصة. وقضية "جوازي بلا وصاية" ما هي إلا بمثابة جس نبض للرأي العام)+ (نأتي الآن إلى من يقف وراء مجتمع "الميم" الذي تخطط له ألفت الدبعي ومعين عبد الملك، وهي تستأجر من يرفع اللافتات وهو يصدر توجيهات).

         واضح أننا ليس أمام مقال من مقالات التعبير عن الرأي وإنما أمام محض سبٍ وقذفٍ وتشهير في حق شخصية عامة محترمة هي الدكتورة ألفت الدبعي دون أن نعثر على ما يبرر للأخ عادل الشجاع الإقدام على كل هذا القبح، وبخاصة أنه صادر عن أستاذ جامعي يسعى منذ سنوات طويلة لأن يكون صاحب حضور لافت في الشأن العام. ولكن لماذا ظهر معين عبد الملك إلى جانب ألفت الدبعي في المقال المذكور على أنه يخطط لمجتمع "الميم" ويصدر التوجيهات من موقعه كرئيس للحكومة؟ الحقيقة أنا لست معنيا بالرد على هذا السؤال دفاعا عن معين وإنما للدفاع عن حق القارئ اللبيب في معرفة الحقيقة الكامنة خلف مقال الأخ عادل الشجاع أصلحه الله وأخذ بيده إلى ما فيه صلاح محبيه والمعجبين به ممن يحرقون له البخور جهلا أو نفاقا أو من باب "طلبة الله". وردنا على السؤال المذكور سيأتي تباعا في السياق. 

          في مواجهة السَّب والقذف والتشهير لم تنجر ألفت الدبعي إلى ما يجعل الأمر مهاترة أو يجعلها في موقف الدفاع عن شخصها وإنما ذهبت تقدم المثال الحي بضرورة الدولة في مواجهة الخروج على قيم التعايش المجتمعي وعلى حق الأفراد في حماية أعراضهم من أي خدش أو تعدي، وعلى هذا الأساس لجأت إلى القضاء المختص بمكان وقوع الفعل الجنائي وإقامة الجاني، وهذا أمر يفهمه جيدا طلاب سنة أولى حقوق، لكنه لم يكن حاضراً في وعي وحسابات أخينا الدكتور عادل الشجاع الذي اعتقد أن مدينة القاهرة مكان آمن لممارسة السَّب والقذف والتشهير لمجرد أن الجاني والمجني عليه ليسا من مواطني الدولة المصرية.

         وفي أول رد فعل حسن النية على لجوء ألفت الدبعي إلى القضاء المصري تواصل معها بعض الأسماء المعروفة في مسعى حميد منها للتوسط بينها وبين الأخ عادل الشجاع، على أن يقدم هذا الأخير اعتذارا معلنا أمام الرأي العام مقابل أن تعفو هي عنه وتسحب ملف القضية من النيابة المختصة. وبينما أفلح الوسطاء مع ألفت فشلوا في إقناع الشجاع فاعتقدوا خطأً أنه رجل عنيد أخذته العزة بالإثم. وهنا لابد لي من إبداء ملاحظتين الأولى تخص الوسطاء والثانية تخص الأخ الشجاع:

(1) ملاحظتي على الوسطاء أنهم نظروا إلى القضية على أنها صراع بين شخصين وليس صراعا بين اتجاهين في التفكير ينتمي أحدهما إلى العصر ويدافع عن الحقوق والحريات ويحاول أن يرفع سقفها حتى ولو كان الثمن الكثير من الشائعات والكثير من الضوضاء في مجتمع ذكوري معاد لقضايا النساء، بينما الطرف الآخر-والحكم عليه هنا من ظاهر مقاله-يمثل اتجاها تقليديا ينتمي لثقافة التخلف وينصب نفسه صوتا لها بذرائع ودوافع رأينا كم هي متهافتة. 

2-وملاحظتي على الأخ عادل الشجاع أن علاقته بالمقال المذكور أعلاه-إذا جاز أن نسميه مقالا-هي علاقة أجير بعمل قام بإنجازه لصالح صاحب العمل-وليس بدافع الغيرة على قيم المجتمع كما قال هو وصدقه البعض-ولذلك ليس لعادل سوى الأجر مقابل العمل، أما العمل نفسه فقد أصبح ملكا للغير. وهذا يفسر لماذا رفض عادل مساعي الوساطة وهي لصالحه. باختصار شديد: إن مطالبة الأخ عادل الشجاع بالاعتذار معناه مطالبته بالتخلي عن مصدر دخل يبدو أنه أصبح المصدر الوحيد بعد أن دمَّرَ علاقاته مع كل الناس الذين بمقدورهم تقديم العون له. وإني حين أبدي ملاحظتي هذه لم أبدها من فراغ وإنما من التجوال في صفحته على فيسبوك.

         في الوقت الذي قدَّمت فيه ألفت الدبعي أنموذجاً متحضرا في سلوك الطريق القويم لأخذ الحقوق ورفع الوعي القانوني من خلال لجوئها إلى القضاء ذهب الأخ عادل الشجاع-ردا على ذلك-يكتب مقالا ثانيا زاد فيه الطين بلة. وفيما يلي تفنيدنا للمقال الثاني حتى يكون القارئ اللبيب على بينة من الأمر أكثر وأكثر:

1-عنوان المقال: (قضيتي مع رشاد العليمي وآل جابر ومعين وليست مع ألفت الدبعي).

         أولا: إذا كانت قضيتك مع هؤلاء يا أخ عادل فلماذا تركتهم وذهبتَ تتعرض لألفت الدبعي بالسَّب والقذف والتشهير؟ ولماذا لم تعتذر لها عندما طُلبَ منك ذلك؟ لماذا لم تعلن أنك فيما قلته عن ألفت الدبعي قد وقعتَ فيما لا يجب أن يقع فيه أي إنسان مستقيم لديه الحد الأدنى من السَّوية واحترام الذات؟

         ثانيا: إذا كانت لديك قضية موضوعية مع هؤلاء الثلاثة الذين ذكرتهم ولها وجاهة قانونية فما هي هذه القضية تحديدا؟ وأين هو دفاعك المدني المتسق مع موضوعيتها ووجاهتها القانونية؟ ألا ترى أنك أمام أسئلة من هذا القبيل إنسان بلا قضية، وأن القارئ اللبيب لا يحتاج إلى ذكاء استثنائي كي يدرك أنك فيما تقوله عن هؤلاء لا تمثل نفسك وإنما أنت مجرد "شاقي" عند شخص آخر يأكل الثوم بفمك، وأن هذا الشخص من هوامير الفساد الكبير جدا وله مع معين وآل جابر خلافات حول مصالح كبيرة غير مشروعة؟

2-جاء في المقال: (الموضوع ليس دعوى قضائية، بل هي حملة تشهير واغتيال معنوي ممنهج وتحريض على ملاحقتي ومحاكمتي).

         أولا: الاغتيال المعنوي يا أخ عادل لا يكون باللجوء إلى القضاء وإنما باللجوء إلى السَّب والقذف والتشهير والإساءة إلى أعراض الآخرين، وكل هذا صدر عنك لاعتقادك أن التشهير بامرأة محترمة في مجتمع ذكوري سوف يصيبها في مقتل، لكنك تفاجأتَ بامرأة قوية لديها وعي مدني عال وتعرف كيف تقتص ممن يسيء إليها.

         ثانيا: حين ذهبت ألفت الدبعي إلى القضاء فإنها بها تكون قد تصرفت كما يتصرف أي إنسان عصري يحمل قيماً مدنية ويؤمن بالقانون وينتمي إلى فكر الدولة، وإذا كان هذا التصرف يقلقك فلأنك تعلم حجم القبح في الفعل الجنائي الذي وقع منك، ومن غير المستبعد أنك قد ذهبت إلى محامٍ تسأل عن حجم العقاب الذي ينتظرك.

3-جاء في المقال: (المسألة تتعلق بترهيبي وإسكات صوتي المطالب بالتعاقد مع شركة تدقيق عالمية للتدقيق في الأموال التي يدعي محمد آل جابر أنه أنفقها في إعمار اليمن، وكذلك التدقيق في الفساد الذي تمارسه حكومة معين عبد الملك).

         أولا: واضح من هذا الكلام أنك يا أخ عادل تدعي البطولة وتخلط الأوراق وتستجدي التضامن، وكل هذا من أجل إخفاء هامور الفساد الذي يأكل الثوم بفمك. 

         ثانيا: الذي نعلمه أن الترهيب وإسكات الأصوات القوية والمؤثرة لا يكون باللجوء إلى القضاء وإنما باللجوء إلى العنف والتهديد بالقتل في أحسن الأحوال. أما اللجوء إلى القضاء فلا يكون إلا لإسكات الأصوات الضعيفة التي تنتهك أعراض الناس وتخدش الذوق العام.

         ثالثا: سبق وأن سألنا: لماذا ظهر معين عبد الملك في مقال الأخ عادل على أنه يخطط لمجتمع "الميم" ويصدر التوجيهات من موقعه كرئيس للحكومة. وقلنا إن الجواب سيأتي تباعا في السياق. وها نحن الآن بصدد إعطاء الجواب:

         يقول الأخ عادل-مُهَدِداً ومتوعداً-إنه "يطالب بالتعاقد مع شركة تدقيق عالمية للتدقيق في الأموال التي يدعي محمد آل جابر أنه أنفقها في إعمار اليمن، وكذلك التدقيق في الفساد الذي تمارسه حكومة معين عبد الملك". وهنا نطرح على الأخ عادل الشجاع ثلاثة أسئلة مفتاحية:

(1) من هي الجهة التي تطالبها بالتعاقد مع شركة تدقيق عالمية للتدقيق في الأموال التي يدعي محمد آل جابر أنه أنفقها في إعمار اليمن؟ (2) ما هي الصفة التي تخولك القيام بهذه المطالبة التي من الواضح أنها تنطوي على تهديد ووعيد (3) هل فكرت بملايين الدولارات التي يجب دفعها مقابل أتعاب للشركة التي تطالب بالتعاقد معها؟

        بمقدور القارئ أن يلاحظ الآن أن صاحب التهديد والوعيد ليس الأخ عادل الشجاع وإنما شخص آخر يأكل الثوم بفم عادل بمقابل وليس بالمجان، وأن لهذا الشخص خلافات حول مصالح كبيرة غير مشروعة مع آل جابر ومعين عبد الملك، وبسبب هذه الخلافات جرى-من باب المناكفات والمكايدات وتشويه السمعة-اتهام معين عبد الملك أنه يخطط لمجتمع "الميم" ويصدر التوجيهات من موقعه كرئيس للحكومة. 

         إن مجتمع "الميم" هو قصة مختلقة من وحي الخيال المريض لعادل الشجاع الذي استثمر نجاح حملة "جوازي بلا وصاية" لإخراجها من مسارها القانوني إلى مسار آخر مصادم لقيم المجتمع اليمني بغرض تشويه سمعة رئيس الوزراء في إطار الصراع بين هوامير الفساد. أما اقحام الفت الدبعي فهو اجتهاد غير موفق من عادل اعتقادا منه أن ذلك سيضفي على القصة المختلقة نوعا من المقبولية المنطقية لدي الرأي العام. والحقيقة أن عادل باختلاق هذه القصة قد أساء لولي نعمته أكثر مما أساء لمعين وألفت، وهذا ما ستكشف عنه الأيام.

4-جاء في المقال: (السؤال موجه إلى رشاد العليمي: كيف تسمح لمن يدعي أنه مستشارك، وهو بنفس الوقت عضو في مجلس المصالحة يتقاضى أموالا من رصيد الفقراء والجرحى ومرتبات المدنيين والعسكريين لملاحقة مواطن ليس لديه مكان إقامة، مشرد ومحروم من وطنه وحقه في الحياة والأمن والاستقرار، وتريدون أيضا إعدامه سياسيا، إما أن يقبل بالكفيل أو يتم تدميره وتدمير أسرته).

         أولا: لم تقل ألفت الدفعي يوما ما أنها مستشار لرشاد العليمي، وعادل الشجاع هنا يقوِّلها كلاما لم تقله.

         ثانيا: يدعي عادل الشجاع أن ألفت الدبعي تتقاضى أموالا غير مشروعة لملاحقته. وهذه إساءة تستطيع ألفت أن توثقها وأن تضيفها إلى ملف القضية إلى جانب إساءات أخرى كثيرة تضمنها المقال الثاني لعادل الشجاع، وعلى هذا الأخير أن يثبت ما يدعيه أو يستعد لما ستقوله العدالة.

         ثالثا: معروف للقاصي والداني أن ألفت الدبعي من أسرة ثرية لا تحتاج إلى أموال من أحد كي تذهب إلى القاهرة لمقاضاة عادل الشجاع، وهي تنفق على هذه القضية من حر مال أَبٍ فذ ومستنير يدرك أهمية الدور الذي تقوم بها ابنته ويساندها بقوة، ولو أن معظم الآباء مثل هذا الدبعي لكان لدينا حراك نسوي قوي ومنظم يحسب له ألف حساب ولا يستطيع معه أي كان أن يستسهل الإساءة إلى أي امرأة.

         رابعا: لم تدخل ألفت الدبعي المعترك السياسي العام بدافع التكسب من بيع المواقف-فهي ليست بحاجة إلى أحد-وإنما دخلته كإنسان مدني ومثقف عضوي ينتمي إلى مجتمعه ويعرف دوره الاجتماعي ويشعر بالمسئولية وبواجب المشاركة. وألفت أستاذ علم اجتماع يعلم جيدا أن تغيير المجتمع وتحديثه لا يمكن أن يحدث بالتمنيات وإنما بالعمل أي كانت الكلفة.

         خامسا: عادل الشجاع ليس مشردا من وطنه ومثله الألاف ممن تركوا اليمن للحوثي واختاروا حياة الدعة في القاهرة والرياض واستنبول. وإذا جاز أن نتحدث عن مشردين فهم يعدون بأصابع اليد وعلى رأسهم حميد الأحمر وعلي محسن الأحمر والزنداني وغيرهم من مراكز القوى التي ظلت لعقود تعيق بناء دولة يمنية لكل مواطنيها، وها هم الآن يدفعون ثمن ما اقترفت أيديهم.

6-جاء في المقال: (لا تهمني طريقة نهايتي، سواء كانت الفرم على طريقة خاشقجي أو السجن على طريقة يوسف عليه السلام. يكفي أني كنت أتعرض لذلك أمام صمت رئيس مجلس القيادة وتحريض من رئيس الحكومة وسفير قائدة التحالف). وسوف أترك التعليق على هذا الكلام للقارئ الذي لا شك أنه قد أصبح في الصورة ولم يعد بمقدور عادل الشجاع أن يمارس عليه الخداع.

         وقبل أن أذهب إلى ختام هذا المقال أود التأكيد أنني في مساندتي لألفت الدبعي لم أساندها لشخصها وإنما للوعي الذي تمثله وتريد لنا جميعاً أن نصدر عنه ونتمثله في خلافاتنا واختلافاتنا حتى لا تتحول مجتمعاتنا إلى بيئة حاضنة للسفهاء، وحتى لا يظل السفهاء بمنأى عن سلطة القانون يرهبون من يشاؤون بالافتراء والأكاذيب والشتائم والبذاءات وتشويه الحقائق.

         في مواجهة البذاءات تصرفت ألفت الدبعي كما هو متوقع من أي إنسان مدني في القرن الواحد والعشرين، وهي في هذا التصرف تدرك جيدا أنها تدفع كلفة تحول المثقف إلى رمز، وتدفع ثمن هذه الكلفة بشجاعة ووعي وتقدم أنموذجا راقيا في الترفع عن الصغائر والإصرار على احترام القانون ليكون وحده المعيار. ولا شك أن المعارف التي تتسلح بها ألفت والتنشئة الأسرية الواعية يحضران بقوة في تفسير الثبات الذي أبدته وهي تصر على تحكيم القانون وكسر حاجز الخوف من استغلال العادات والتقاليد ضد المرأة.

         من مناصرتها لحملة "جوازي بلا وصاية" بدا واضحا أن الفت الدبعي تقرن القول بالعمل وتصنع رمزيتها بحكمة وكبرياء وتدرك أن التضحية صارت ضرورية لتمكين المرأة اليمنية من أن تكون مواطنا كامل الحقوق. ومن غير شك أن ألفت الدبعي قد نجحت في فضح النفاق الذي ينخر مجتمعنا اليمني، كما فضحت هشاشة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها المنظمات التي تأسست للاشتغال على قضايا المرأة. 

         إن مناصرة ألفت الدبعي فيما تتعرض له من سبٍ وقذف وتشهير هي مناصرة للمرأة اليمنية عموما، شريطة أن تكون مناصرة قانونية وليس لمجرد أنها امرأة فقط وإنما لأنها مواطن له صوت يجب الدفاع عنه عملا بحقوق المواطنة والمساواة. ومن الجدير في هذا السياق التأكيد على أن المرأة المنتظمة في حركة نسوية فاعلة ومتعاونة ومتعاضدة تستطيع أن تحدث التغيير الذي لم يقدر عليه الرجال سواء كانوا من المثقفين أو كانوا من مراكز القوى الاجتماعية أو من أولئك المحسوبين على السياسة في الأحزاب وخارجها. فوحدها المرأة من يجب الرهان عليها في تغيير واقعها من بوابة الدفاع عن حقوقها وعن مواطنتها المسلوبة وإزالة الانتقاص الدائم لحقوقها. فأين هي المنظمات النسوية؟ وأين هي دوائر المرأة في الأحزاب السياسية؟

                                                                        صنعاء 11 مارس 2023

 

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Sun, 12 Mar 2023 22:59:12 +0300
الممانعون للدولة الحديثة في اليمن http://aleshteraky.com/views/item/20311-الممانعون-للدولة-الحديثة-في-اليمن http://aleshteraky.com/views/item/20311-الممانعون-للدولة-الحديثة-في-اليمن

 

         تتلخص مشكلة اليمن في أن مسار تطوره التاريخي لم يفضِ إلى بناء دولة حديثة تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها وتمكنهم من الانخراط الجماعي في التنمية الشاملة وصناعة الرفاه العام. ويمكننا تصنيف اليمنيين في موقفهم من الدولة الحديثة إلى ثلاث مجموعات ممانعة ومجموعة واحدة فقط يمكنها القبول بهذه الدولة.

         المجموعة الممانعة الأولى هم أولئك الذين يرفضون الدولة الحديثة بحسابات الأيديولوجيا، وفي هذا يتساوى عبد المجيد الزنداني وأتباعه وكل من هم على شاكلته مع عبد الملك الحوثي وأشياعه على ما بين الإثنين من عداوة ناجمة عن تنوعات الأيديولوجيا وتقاطعاتها مع المصلحة. والقاسم المشترك بين كل الأيديولوجيين على ما بينهم من خلافات واختلافات أن كل جماعة منهم تريد دولة منضبطة لأيديولوجيتها هي وليس لمبدأ المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان.

         المجموعة الممانعة الثانية هم أولئك الذين يرفضون الدولة الحديثة بحسابات المصلحة. وللمصلحة تنوعات ومستويات تتدرج من الأدنى إلى الأعلى وجميعها تشترك في خط ناظم واحد هو خط الفساد على اختلاف مقاديره وأحجامه. وفي هذا يتساوى كل الذين مارسوا الفساد أو استفادوا من وجوده وفي مقدمة هؤلاء يأتي أولئك الذين راكموا ثروات مهولة بطرق غير مشروعة سواء كانوا عسكريين أو مدنيين أو رجال دين أو شيوخ قبائل أو كانوا من الشمال أو الجنوب.

         المجموعة الممانعة الثالثة هم أولئك الذين يدينون بالولاء لعصبيات ما قبل الدولة ويتراجع عندهم الشعور بالولاء للوطن لصالح الولاء للقبيلة أو المنطقة أو الفئة.

         أما المجموعة التي يمكنها القبول بالدولة الحديثة فهم أولئك الذين لا توجد لديهم لا موانع أيديولوجية ولا موانع المصلحة التي تتغذى على الفساد ولا موانع العصبيات القبلية. وإلى هذه المجموعة ينتمي معظم اليمنيين. والمانع الوحيد الذي يوجد عند هؤلاء هو مانع معرفي. ومعنى ذلك أن معظم اليمنيين هم مع الدولة الحديثة إذا تعرفوا عليها على مستوى الوعي المجرد وتعرفوا على الطريق الذي يفضي إليها على مستوى الممارسة الملموسة، أما إذا لم يتعرفوا عليها فسيكونون ضدها من حيث لا يعلمون ولا يقصدون، وهذا هو واقع الحال في المشهد اليمني الراهن الذي تتصدره قوى تراهن على نار السلاح لا على نور العقول، بينما لا نرى أثرا للقوى التي تدعي الحداثة والنضال من أجل الدولة الحديثة. ومن أجل الوصول إلى هذه المجموعة الرابعة ينبغي أن يتداعى كل اليمنيين الباحثين عن دولة حديثة إلى تنظيم أنفسهم مدنيا في كتلة تاريخية مؤهلة للنهوض بهذه المهمة.

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Mon, 16 Dec 2019 17:25:15 +0300
في معنى العلمانية http://aleshteraky.com/views/item/20226-في-معنى-العلمانية http://aleshteraky.com/views/item/20226-في-معنى-العلمانية

 

         العلمانية ليست عقيدة ولا هي أيديولوجيا، وهي بهذا المعنى لا تفتش في ضمائر الناس لا عن إيمانهم ولا عن إلحادهم، وليس لها تحيزات مع الملحد ضد المؤمن ولا مع المؤمن ضد الملحد. وإذا جاز القول بأن فلاناً ملحد وعلاناً مؤمن فمن الخطأ الاستنتاج بأن الأول علماني والثاني غير علماني، ذلك أن الإيمان الديني عقيدة والإلحاد عقيدة مضادة له، بينما العلمانية ليست عقيدة، بل هي أعلى مستويات الحياد العقائدي والأيديولوجي.

         إن العلمانية ليست صفة لصيقة بالأفراد وإنما بالدولة الحديثة في أوروبا المعاصرة، فالدولة هناك علمانية. والدولة العلمانية هي بالضرورة دولة محايدة تجاه الأديان والمذاهب والأيديولوجيات. والمواطن الأوروبي متمسك بعلمانية الدولة التي يعيش في ظلها لا فرق في ذلك بين ملحد وراهب في كنيسة. والذي يجعل المواطن الأوروبي متمسكا بعلمانية دولته الوطنية هو الوعي بماهية الدولة الحديثة كمكسب حضاري ما كان بمقدور الحضارة الأوروبية المعاصرة أن توجد بدونه.

         إن المعجزة الكبرى التي ابتكرتها أوروبا المعاصرة هي الدولة الحديثة، أما الإنجازات التي نراها على صعيد العلم والتكنولوجيا وثورة الاتصال فلم تنشأ إلا على هامش هذه الدولة وبفضلها، ولولاها لكانت أوروبا –مثلنا-غارقة في الحروب، ولكان العالم في ظلام دامس يقتاته الفقر والجهل والأوبئة والأمراض الفتاكة.

         وبما أن العلمانية لصيقة بالدولة الحديثة فمن الصعب على أي منا أن يتصورها ما لم تكن لديه أولا فكرة عن الدولة الحديثة نفسها. وبما أن الأشياء تعرف بأضدادها فمن المتعذر علينا التعرف على الدولة الحديثة ما لم نتعرف أولا على الفروق الجوهرية بينها وبين الدولة القديمة.

          وقبل الذهاب إلى عقد المقارنات بمقدورنا أن نتخيل الدولة منذ أن انبثقت في التاريخ على أنها آلة (ماكينة) ظلت لمئات القرون تعمل بالطريقة نفسها في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة وفي كل الحضارات مع بعض الفروق الناجمة عن اختلاف الثقافات. وعندما بدأت أوروبا تغادر القرون الوسطى وتخطو خطواتها الأولى باتجاه النهضة والأنوار ومن ثم باتجاه العصر الحديث ألقت هذه المتغيرات بظلالها الكثيفة على ماكينة الدولة وأخذت التحسينات تدخل على هذه الماكينة بالتدريج ولكن ليس بغير صراع. وكان من نتائج التحسينات التي توالت على الماكينة-الدولة أن خرجت أوروبا الغربية من عصر الامبراطوريات الدينية إلى عصر الدول القومية. والتحول الجوهري في هذه العملية هو تحول الشعوب من الأخوة في الدين في ظل الدولة القديمة إلى الأخوة في الوطن في ظل الدولة الحديثة التي لم تعد تنظر إلى الشعب على أنه جماعة من المؤمنين وإنما باعتباره تنوعا هائلا لأفراد توحدهم في منظور الدولة الحديثة حقوق وواجبات المواطنة.

         بمقدورنا أن نسرد عشرات الفروق الجوهرية بين الدولة القديمة والدولة الحديثة لكنا هنا سنكتفي فقط ببعض الفروق التي تساعدنا على إدراك ماهية العلمانية. وعلى هذا الأساس فإن أول ما يستوجب لفت الانتباه إليه هو أن الدولة القديمة قامت في كل زمان ومكان على قاعدة الغلبة والاستقواء بينما الدولة الحديثة لا تقوم إلا على قاعدة التوافق الوطني بين كل أطياف المجتمع. ويترتب على ذلك أن معرفتنا بالدولة القديمة لم تنشأ إلا بعد أن رأيناها متجسدة ومتعالية علينا في الجغرافيا بينما يتعذر على الدولة الحديثة أن توجد في الجغرافيا قبل أن تتخلق وتتكون في الوعي أولا، وذلك لأنها نتاج إبداع حضاري وليست نتاج غلبة واستقواء. ومن حيث التسيير تدار الدولة القديمة على قاعدة الاقصاء والاستبعاد والتقريب الانتقائي بينما تدار الدولة الحديثة على قاعدة التنافس الديمقراطي بين مواطنين أحرار. وإذا كانت الدولة القديمة تطبق قانونها انتقائيا على رعاياها وتقاوم تطبيقه على نفسها فإن الدولة الحديثة تخضع هي نفسها للقانون مثلها مثل مواطنيها، ولذلك بمقدور أي مواطن في الدولة الحديثة أن يقاضي أي مؤسسة من مؤسسات الدولة حتى وإن كانت هي مؤسسة الرئاسة. وإلى ذلك يلاحظ على الدولة القديمة أنها دائما دولة متحيزة أيديولوجيا سواء كانت الأيديولوجيا دينية أو دنيوية. وأخيرا الدولة القديمة دولة محافظة تقاوم التغيير بينما الدولة الحديثة دولة مرنة تقبل التغيير، وقد ترتب على مقاومة التغيير أن الدولة القديمة لا تؤسس لاستقرار دائم وسلام مستدام وإنما تجتاحها الثورات والحروب الدورية الأمر الذي يجعل منها دولة غير تنموية، وعلى العكس من ذلك تتسم الدولة الحديثة بالاستقرار الدائم والسلام المستدام الذي يوفر ظروفا مثالية لانخراط المجتمع كله في التنمية الشاملة وصناعة الرفاه والحضارة.

         وبغير العلمانية ومعها الديمقراطية ما كان بمقدور الدولة الحديثة أن تكون على هذا النحو الذي بينًّاه. فكيف تم ذلك؟ بما أن الدولة الحديثة تتخلق أولاً في العقل كإبداع وفتح معرفي فإن الوعي بها قام على وضع حدود صارمة بين مجالين هما المجال العام والمجال الخاص. ويتألف المجال العام من: الجيش؛ الشرطة والأمن؛ القضاء؛ الجهاز البيروقراطي للدولة (الخدمة المدنية)؛ التعليم بكل مكوناته ومستوياته؛ العلاقات الخارجية والسلك الدبلوماسي. أما مكونات المجال الخاص فهي: المواطن الفرد؛ الأسرة؛ النقابة؛ الحزب السياسي؛ ثم الكنيسة، المعبد، الجامع.

         والملاحظ على مكونات المجال العام أنها مما يجب أن يكون مشتركا بين كل مواطني الدولة، ولهذا سمي بالمجال العام ليقف على مسافة واحدة من كل المواطنين دون أي تمييز بينهم على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو محل الميلاد أو الثقافة أو المعتقد أو الطبقة الاجتماعية...الخ. بينما الملاحظ على المجال الخاص أنه ميدان واسع للتنوع والخصوصيات التي لا حصر لها.

         أما الحدود الصارمة بين هذين المجالين فالمراد بها حماية المجال الخاص من تغوُّل المجال العام وحماية المجال العام من أي اختراق يمكن أن يأتي من داخل المجال الخاص. وبطبيعة الحال لم تتكون الحدود الصارمة بين المجالين من أسلاك شائكة وإنما من منظومة حمائية من القوانين والتدابير المؤسسية، فضلا عن الوعي الجمعي الذي يقاوم أي مساس بهذه الحدود. والعلمانية والديمقراطية هما عمادا المنظومة الحمائية التي تمنع المجال العام من التغول على المجال الخاص وتمنع المجال الخاص من اختراق المجال العام، مع ملاحظة أن العلمانية والديمقراطية لا تلتقيان داخل مجال واحد وإنما لكل منهما اختصاصه وحدوده التي لا يتعداها.

         إن العلمانية لا تمارس فاعليتها إلا داخل المجال العام حيث عيناها مفتوحتان على أي اختراق يمكن أن يأتي من داخل المجال الخاص للتأثير على حيادية المجال العام ومنعه من الوقوف على مسافة واحدة من كل المواطنين، وليس للعلمانية أي عمل غير هذا. بينما لا تمارس الديمقراطية فاعليتها إلا في المجال الخاص لحمايته من أي تغول يمكن أن يأتي من داخل المجال العام.

         وتأسيسا على ما سبق يستحيل على الدولة أن تكون حديثة إذا كانت علمانية فقط أو ديمقراطية فقط، وذلك لأن العلاقة بين العلمانية والديمقراطية في الدولة الحديثة علاقة ضرورية كالعلاقة بين أضلاع المثلث وزواياه. فمثلما لا نستطيع أن نتصور مثلثا بزوايا دون أضلاع أو بأضلاع دون زوايا فمن الصعب أيضا أن نتصور دولة حديثة بالعلمانية دون الديمقراطية أو بالديمقراطية دون العلمانية.

         إذا حضرت العلمانية وغابت الديمقراطية فإن العلمانية تتخلى عن طبيعتها كمنظومة تدابير وإجراءات محايدة وتتحول إلى عقيدة استبدادية متحيزة ومتغولة على المجال الخاص الذي يفتقر إلى الحماية، وقد رأينا كيف كانت العلمانية متغولة في تركيا الحديثة قبل أن تأتي إليها الديمقراطية.

         وإذا حضرت الديمقراطية وغابت العلمانية فإن المجال العام يبقى مكشوفا وعاريا من أي حماية، وبالتالي تكون الديمقراطية عبارة عن بقاء دائم في السلطة بالنسبة للحزب الحاكم الذي يستحوذ على المجال العام ويصادره، وتكون عبارة عن بقاء دائم في المعارضة بالنسبة للحزب الذي ليس له أي نصيب في المجال العام.

         الملاحظ أن الكنيسة والمعبد والمسجد جميعها في الدولة الحديثة تقع داخل المجال الخاص وليس مسموحا لأي منها أن تخترق المجال العام. وبالتالي ليس صحيحا القول بأن العلمانية تفصل بين الدين والدولة، والصحيح أنها تفصل بين بين المؤسسة الدينية ومؤسسات الدولة. والمؤسسة الدينية ليست مؤهلة للوقوف على مسافة واحدة من كل المواطنين لأنها إذا كانت مسيحية كاثوليكيه فسوف تتحيز مع الكاثوليك ضد البروتستانت وسوف تتحيز مع البروتستانت ضد الكاثوليك إذا كانت مسيحية بروتستانتية، وقل مثل ذلك عن المسجد الذي سيتحيز ضد أهل التشيع إذا كان سنيا وسيتحيز ضد أهل السنة إذا كان شيعيا. ولذلك ليس مسموحا للمؤسسة الدينية أن تخترق المجال العام.

         إن وقوع المؤسسة الدينية داخل المجال الخاص يعني أنها تتمتع بحماية الديمقراطية التي تضمن حرية المعتقد وحرية العبادة على أي دين مثلما تضمن حرية عدم التعبد بأي دين. لذلك نلاحظ أن المؤمنين في الدولة الحديثة يمارسون طقوسهم وشعائرهم الدينية بدافع القناعات الشخصية المتحررة من أي ضغط عليها، وهذا يجعل تلك الممارسات خالصة من أي شبهة نفاق.

         إن المجال العام المعلمن ينظر إلى كل فرد في المجتمع على أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات ولا يهتم بما هو غير ذلك، وهذا هو الأمر الذي يجعل الدولة الحديثة تقيم علاقة مباشرة مع كل فرد في المجتمع باعتباره مواطنا فحسب ولا تقبل بأي وساطة أو توسط بينها وبين المواطن. فالدولة الحديثة لا تنظر إلا إلى السيرة الذاتية للمواطن (CV) التي على أساسها تقاس معارفه وخبراته ومهاراته وبموجبها تكون المفاضلة بينه وبين غيره من المواطنين، وهي بهذا المعنى لا تهتم أبدا بالمعتقد الديني للمواطن. وعليه ليست العلمانية إذاً موقفا من الدين وإنما هي موقف من الدولة، وهي لا تحمي المجال العام من الأيديولوجية الدينية فقط وإنما من كل الأيديولوجيات التي تسعى لاختراقه تمهيدا لاختطاف الدولة.

         إن القول بأن العلمانية عقيدة هدفها إقصاء الدين من داخل الدولة ومن الحياة عموما هو قول فاسد لا يصمد أمام أي حجاج متسق يقوم على ضبط المفاهيم التي تتعرض لسوء الاستخدام، وفي حدود معارفنا لا يوجد مفهوم تعرض لسوء الاستخدام مثل مفهوم "الدين" الذي يجري الخلط بينه وبين مفهوم "التدين". إن الدين هو الموجود بين دفتي الكتاب (القرآن)، بينما التدين هو الممارسة البشرية للدين. فالدين عندما يغادر حالته المثالية بين دفتي الكتاب إلى مسرح التاريخ فإنه يتأثر بظروف الزمان والمكان ويصبح تدينا مفتقدا لمثالية الدين. وإذا كان الدين ثابتا فإن التدين متغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وهذا يفسر التعدد في المذاهب مثلما يفسر التنوع في التعاطي مع الدين بتنوع الثقافات ولهذا رأينا كيف أن البيئة البدوية القاسية في نجد جاءت بالتدين الوهابي بينما نشأ التدين الصوفي على ضفاف النيل. وإذا كنا نرى جماعات الإسلام السياسي على اختلاف مشاربها تنادي بهيمنة الدين على الدولة فإن هذه المناداة ليست من الدين وإنما من التدين أو قل من الأيديولوجية الدينة التي تبرر لاختطاف الدولة من قبل الإسلام السياسي.

         إن الإسلام السياسي لا يرى الله إلا كائنا سياسيا له أجندة لا يريد أن يحققها إلا عبر الدولة. وبما أن الله لن ينزل من عليائه للهيمنة على الدولة فإن الإسلام السياسي هو الذي يتعالى كي يختطف الدولة نيابة عن الله وباسمه. وأمام ذهنية تفكر بهذه الطريقة تغيب السياسة لتحضر الشعوذة. إن السياسة تدافعٌ سلمي بين أحزاب ديمقراطية جميعها يقف على أرضية بشرية، بينما شعوذة الإسلام السياسي لا تنظر إلى السياسة إلا على أنها منازلة بين ملائكة وشياطين، وبهذا المعنى يؤسس الإسلام السياسي لحروب أهلية يستدعيها من ظلمات القرون الوسطى حين كانت الدولة دينية والشعب هو الجماعة المؤمنة التي توحدها الأخوة في الله. ومعروف أن القضية المركزية لدولة القرون الوسطى هي إعداد الناس من أجل الآخرة وقيادتهم إلى الجنة، بينما الدولة الحديثة لا تهتم إلا بتنظيم شئون الحياة تاركة الآخرة للمواطن الفرد كشأن شخصي يقيم علاقته مع الله مباشرة دون وسطاء.

         في بلد مثل اليمن يصرخ الإسلام السياسي بأعلى صوته: "لماذا نختلف حول تحكيم الشريعة الإسلامية ونحن جميعا مسلمون". وحجاج كهذا ينطلي كثيرا على الأميين وأشباه المتعلمين الذين شكلت عقولهم مناهج مؤدلجة صاغها الإسلام السياسي. صحيح نحن جميعا مسلمون، ولكن من حيث موقعنا في الخريطة الدينية للعالم، نحن مسلمون بالنسبة لأتباع الديانات الأخرى الذين يقاسموننا العيش على كوكب الأرض، أما بالنسبة للدولة التي نريدها فنحن جميعا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات لا فرق في ذلك بين رئيس جامعة الإيمان وعامل النظافة. والدولة التي نريدها لا تفاضل بين الناس بتقسيمهم إلى أصحاب فضيلة متعالين على المجتمع وآخرين بلا فضيلة لا يستقيم إيمانهم إلا إذا باركه "العلماء".

         وفي بلد مثل مصر يصرخ الإسلام السياسي مطالبا بتحكيم شريعة الأغلبية السكانية زاعما أن دين الأغلبية شديد التسامح مع الأقليات. وهذه مغالطة منطقية تكذبها الممارسة البشرية التاريخية للدين حيث يتحول إلى تدين متوحش يقترف جرائمه باسم الدين، والماضي والحاضر طافحان بهذه الجرائم، ويمكننا سرد مئات الوقائع من التاريخ بما في ذلك تاريخ فتوحات المسلمين التي تسمى خطأ ب “فتوحات الإسلام".

          إن جماعات الإسلام السياسي تؤمن فقط بالأخوة في الدين وتكفر بالأخوة في الوطن. ولهذا التفكير مخاطر كبيرة على الوحدة الوطنية وعلى استقرار البلاد. ومن تجليات الكفر بالأخوة في الوطن القول بأن الوحدة اليمنية "فريضة إسلامية" وهو شعار رفع في سياق التحريض على الحرب. والحقيقة أننا لم نتوحد في 22 مايو 1990 لأننا جماعة دينية وإنما لأننا جماعة وطنية، لم نتوحد لأننا مسلمون وإنما لأننا يمنيون بصرف النظر عن معتقدنا الديني. والإسلام ليس قيمة منتجة لليمن الحضاري الثقافي وإنما قيمة مضافة إليه.

         إن الإسلام السياسي الذي يزعم أن الوحدة فريضة إسلامية هو نفسه من كفَّر أولئك كانوا يتعبدون بالوحدة منذ ما قبل ظهور الإسلام السياسي، وهو نفسه  من قال " إن الوحدة لا تجوز بين من كان مؤمنا ومن كان كافرا" وهو نفسه من ظل يقرع طبول حرب 1994 ويحرض "المؤمنين" على القتال الذي يدفع اليمنيون ثمنه إلى الى اليوم. والإسلام السياسي بشقيه الوهابي والزيدوي هو المسئول عن الحرب التي تطحن اليمن واليمنيين منذ خمس سنوات.

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Thu, 28 Nov 2019 22:15:22 +0300
حول اتفاق الرياض http://aleshteraky.com/views/item/20154-حول-اتفاق-الرياض http://aleshteraky.com/views/item/20154-حول-اتفاق-الرياض

 

         أول سؤال يأتي على البال فيما يتعلق باتفاق الرياض هو سؤال الجدوى. فإلى أي مدى تحققت في هذا الاتفاق مصلحة وطنية؟ هل جاء متسقا مع روح الدولة؟ هل جاء محملا بروح السياسة أم بإملاءات القوة؟ هل جاءت تعبيراته دستورية وقانونية؟

         الملاحظ على هذا الاتفاق ابتداء أن الشرعية ليست هي من بادر إليه ولا هي من صاغ مضامينه، وأنه لم يتخلق على أرض يمنية، وأن الرعاية الإقليمية تؤكد ظل الرعاة عليه وإملاءاتهم وتدخلهم في الشأن اليمني على النحو الذي يخدم مصالحهم في المقام الأول.

         لا أثر في مضامين الاتفاق على أصل الخلاف بين الحكومة الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي" رغم أن هذا الأصل مبيَّنٌ دون أدنى مواربة في شعارات وخطابات المجلس الانتقالي الذي ما برح يقدم نفسه كممثل لجغرافيا الجنوب وسكانها من أجل "الاستقلال واستعادة الدولة" كما يقول.

         إن المجلس الانتقالي لم يخرج إلى الشارع بمطالب حقوقية –كما يوحي بذلك اتفاق الرياض-وإنما خرج بأعلام انفصالية لفرض إرادته على إرادة الدولة بقوة السلاح الذي لولاه لما كان هذا المجلس شيئا مذكورا. لم يخرج المجلس الانتقالي إلى الشارع مناديا بتغيير الحكومة وإنهاء الفساد ودفع الرواتب، ولا خرج مطالبا بحق الناس في الأمن والخدمات، كما لم يخرج مطالبا بالرقابة على موارد الدولة وتوزيعها بما يحقق العدالة للجميع. أما الجانب الحقوقي للقضية الجنوبية الذي أقره اليمنيون واعترفوا به في مؤتمر الحوار الوطني فليس هو ما يشغل المجلس الانتقالي لأن هذا الأمر ابتداء لا يهم لا دولة الإمارات ولا مملكة آل سعود.

         ولو أن المجلس الانتقالي خرج إلى الشارع من أجل المطالب الحقوقية المبينة أعلاه لكان قد قدم نفسه كحراك اجتماعي-سياسي مدني. لكن الذي سمعناه ورأيناه ولمسناه أن هذا المجلس نشأ منذ البداية كحركة تمرد مسلح ومَوْضَعَ نفسه في مواجهة الشرعية على أنه دولة وله رئيس يتصرف وكأنه هو صاحب الفخامة في الجنوب. والأنكأ من كل ذلك أن المجلس الانتقالي ذهب يقيم علاقات عسكرية وأمنية مع جهات خارجية بالمكشوف معلنا ولاءه الكامل لتلك الجهات. بينما ذهب اتفاق الرياض يقدم المجلس الانتقالي وكأنه حراك مطلبي مستاء من طريقة إدارة الدولة وفساد أجهزتها ومسؤوليها على اختلاف مستوياتهم متجاهلا أن هذا المجلس تلقى الأموال والسلاح من الخارج وشكل مليشيات غير قانونية واستخدم منابر إعلامية من خارج الوطن تحرض على الدولة وعلى الشرعية.

         إذا أردنا الحديث عن انتصارات حققها اتفاق الرياض فعلينا أن نقر بانتصارين اثنين: الأول للمجلس الانتقالي الذي حوله اتفاق الرياض من متمرد على الدولة إلى طرف تعترف به الشرعية المغلوبة على أمرها. وهذا يذكرنا بما فعله اتفاق السلم والشراكة مع تمرد مليشيا الحوثي وانقلابها على الدولة. والثاني للسعودية والإمارات اللتين تمكنتا من القيام بنقلات نوعية على رقعة الشرعية باتجاه مشروعهما الخاص في المنطقة، كما تمكنتا من دعم وتثبيت الأيادي الموكل إليها المساعدة في تحقيق هذا المشروع الرامي –في أحسن الأحوال-إلى إعادة بناء دولة يمنية محملة بأمراض هيكلية وضعف مستدام يفضي في الأخير إلى تشظي اليمن تلقائيا بأياد يمنية دون أن تتحمل السعودية والإمارات وزر هذه النتيجة التي سيبدو مسارها واضحا في ترتيبات ما يسمى بالحل النهائي حيث سيغدو الحوثي والانتقالي المكوِّنين الأقوى والأهم في هذا الحل.

         إن المشروع السعودي الإماراتي في اليمن ليس مشروعا طارئا وإنما هو مشروع إقليمي قديم وطويل المدى يهدف إلى تحقيق مصالح هاتين الدولتين على حساب اليمن واليمنيين، ومن وراء هاتين الدولتين تقف دول عظمى راعية وآذنة وحامية ترى في جمهورية ملالي إيران مصدر تهديد وقلق دائم. أما المصالح الماثلة في هذا المشروع فهي إحداث نقلات نوعية على اليابسة وعلى الماء تضمن دوام تدفق النفط كسلعة عالمية ذات طابع استراتيجي تحسبا لأي شر يحيط بالمنطقة بالإضافة إلى التحكم بالممرات المائية والسيطرة على الموانئ والجزر المهيأة لأن تكون قواعد عسكرية معلنة وغير معلنة.

         وعلى المدى العاجل جدا سيصبح المجلس الانتقالي غطاء سياسيا يعمل من داخل الحكومة وتحت مظلة الشرعية على تمرير كل ما تريده السعودية والإمارات ولكن عبر اتفاقيات رسمية هذه المرة تجنب هاتين الدولتين حرج الممانعة الشعبية التي رأينا غيرتها على الوطن في سقطرى والمهرة الأمر الذي جعل الرياض وأبو ظبي تعملان على تغطية قبح وجهيهما بعد أن كان هذا القبح مكشوفا ومستفزا للوجدان الشعبي الجمعي في كل اليمن. لقد عمدت السعودية والإمارات إذا –من خلال اتفاق الرياض-على تغيير قواعد اللعبة بأن جعلتا الصراع يبدو يمنيا-يمنيا خالصا لتكتفيا بتغذيته من وراء الستار.

         وتأسيسا على ما سبق علينا أن نسأل: ماذا بقي للشرعية من شرعيتها؟ وماذا بقي لها من عوامل القوة إن هي أرادت تعديل شروط اتفاق الرياض على مستوى التطبيق والممارسة من الداخل اليمني وبقوة الواقع؟ وهنا لا يكون الرهان إلا على الوعي الشعبي في كل اليمن شمالا وجنوبا، وعلى شحذ هذا الوعي وتنميته يجب الاشتغال.

         يعتقد بعض المتفائلين باتفاق الرياض أن الشرعية –بالتوقيع على هذا الاتفاق -أجبرت المجلس الانتقالي على الاعتراف بها والعمل تحت مظلتها. وعلى هؤلاء أن يدركوا أن المجلس الانتقالي ولد ملقحا بجينات العقوق والتمرد منذ لحظة التكوين عندما كان نطفة إماراتية وقبل أن يكون مضغة فعلقة، وبالتالي لا يهتم هذا المجلس برضا الشرعية عنه أو عدم رضاها، ولطالما جمع بين الأختين من خلال التمرد على الشرعية عسكريا حتى محاصرة قصر معاشيق وفي الوقت نفسه يعلن اعترافه وتمسكه بشرعية الرئيس هادي، وهذا من تجليات مفاعيل النطفة الإماراتية حيث الإمارات هي الأخرى تتمسك بشرعية هادي لتفعل ما تريد هي لا ما يريده هادي. فالتمسك بشرعية هادي هو ما يبرر الوصاية السعودية والإماراتية على اليمن، وليس بمقدور المجلس الانتقالي –كمخلب سعودي إماراتي-أن يخرج عن هذا السيناريو.

         صحيح أن المجلس الانتقالي كان ومازال يصرح أنه ليس ضد الشرعية وإنما ضد قوى اخترقت الشرعية (يقصد حزب الإصلاح والإخوان المسلمين)، وهذا كلام سبق وأن سمعناه من الحوثي حين قال إن اجتياحه لصنعاء ليس موجها ضد الشرعية وضد هادي وإنما ضد الدواعش الذين أصبحوا في القصر الجمهوري وداخل حكومة الوفاق (يقصد حزب الإصلاح والاخوان المسلمين). وكلاهما (الحوثي والانتقالي) تجاهلا تماما أن الشرعية وحدها هي من تقرر أنها مخترقة أو غير مخترقة، ولا يجوز لأي كان أن يتعامل معها كقاصر وإعلان نفسه وصيا عليها.

         لقد اتخذ (الحوثي والانتقالي) من الحرب ضد مخترقي الشرعية ذريعة كلٌّ لفرض إرادته والتأسيس لشرعيته التي لا وجود لها، وكلاهما يدرك تمام الإدراك أنه جاء من خارج الدستور والقانون، وكلاهما يستغل ضعف الدولة ويعمل على المزيد من الإضعاف والتمزيق والتشظي ليقدم نفسه بديلا يضع الناس في مقارنة قسرية بين سيء وأسوأ. وهذه عقلية انتهازية من خارج السياسة لأن الاشتغال من داخل السياسة لا يتم إلا عبر الأطر القانونية (البرلمان والجماهير ومنظمات المجتمع المدني) ليجبر الطرف الآخر على الذهاب إلى انتخابات مبكرة يظهر هو من خلالها جدارته واستحقاقه. أما الاستقواء بالسلاح فلا علاقة له بالسياسة وهو محض همجية.

         وهناك فرق سياسي هائل بين أن تستغل نقاط ضعف خصمك وبين أن تتعمد إضعاف الدولة، لأنك في الحالة الثانية تؤسس للفوضى وتدفع الكل دفعا إلى اللعب خارج السياسة. أما إضعاف الخصم فلا يكون إلا من خلال استغلال نقاط ضعفه في الواقع جماهيريا وشعبيا وبالتالي إجباره مدنيا على قبول التحدي الانتخابي. والحقيقة أن كل الأطراف في اليمن ضعيفة أمام الشعب إذا منحت الجماهير فرصة الاختيار والمفاضلة، ولذلك نرى الكل يستسهل استخدام السلاح لفرض إرادته بالقوة.

         إن ما يريده المجلس الانتقالي هو أن يضع الجنوب كله تحت البندقية التي جاءته من الخارج وأن يختزل الجنوب كله في شخصه، وهذا ما يفعله الحوثي في الشمال بعد أن فشل في قهر كل اليمن واختزاله في ميلشياته. وليس في وعي الانتقالي ولا في وعي الحوثي ما يدل على إنهما يدركان أن البندقة لا تكون شرعية إلا في مواجهة الغزاة).

         في سنوات الحرب الباردة كانت السعودية وصية على الشمال، ومن خلال هذه الوصاية كانت تغذي صراع الشمال والجنوب. وعندما انتهت الحرب الباردة وتم إعلان الوحدة بين شطري اليمن امتد نفوذها إلى الجنوب أيضا من خلال صنائعها (صالح والشيخين الأحمر والزنداني) ومن خلف هؤلاء الثلاثة وقف ما كان يسمى بالتحالف الاستراتيجي بين المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح، وهو التحالف الذي دفع اليمن دفعا وبسرعة قياسية إلى حرب 1994 التي أغرقت اليمن في مآسيها والتي لولاها لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.

         وفي لحظة من اللحظات اعتقد النظام في الشمال أنه بالوحدة قد كبر وتضخم فذهب يؤيد عراق صدام حسين في غزو الكويت. ومن أجل تأديب علي صالح دخلت السعودية والإمارات على الخط في أزمة دولة الوحدة لدعم الطرف الذي فيه علي سالم البيض ليس حبا في هذا الطرف وإنما نكاية بالطرف الآخر. وعندما لم تسر الأمور على هوى السعودية والإمارات ظلتا في حالة كمون وتربص، بينما أدرك علي صالح أن رهاناته على العراق كانت فاشلة وأن اللحظات القومجية التي انتابته كانت مجرد لحظات صرع. ولكي يعيد ترميم عرشه ذهب صالح يقدم تنازلات كبيرة –لا من أجل مداواة جروح الوحدة الوطنية الناجمة عن حرب 1994 – وإنما من أجل استرضاء أسياده في الرياض. وقد تجلت تلك الاتفاقيات أكثر ما تجلت في اتفاقيات الحدود اليمنية السعودية التي شملت كل حدود اليمن مع السعودية، بما في ذلك تلك التي كانت محسوبة على جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. ولو أن المجلس الانتقالي -الذي يريد استعادة دولة الجنوب-تَخَلَّقَ من نطفة جنوبية لكان أعلن عدم اعترافه بكل نتائج حرب 1994 بما في ذلك اتفاقية الحدود مع السعودية، أما أن ينكر شرعية الوحدة ويقبل بشرعية بيع الأرض والموانئ فذلك مما لا يستقيم له عقل ولا منطق.

         من بديهيات الأشياء أن القوي يكون دائما في حالة جاهزية لالتقاط نقاط ضعف الضعيف حتى وإن لم يخطط لذلك. والسعودية والإمارات هما حاليا القوي في معادلة العلاقة بينهما وبين اليمن. ونحن اليمنيين موزعين بين من يخطب ود هاتين الدولتين وبين من يناصبهما العداء (الفعلي أو الظاهري). وليس بيننا حتى الآن من يدرك أن قوة اليمن يجب أن تأتي من داخل اليمن كي نجبر -نحن اليمنيين-الخارج على أن يعيد لنا الاعتبار شاء أم أبى. ومن أجل ذلك ليس مطلوبا منا أن نهاجم السعودية والإمارات أو أن نخطب ودهما، وإنما مطلوب منا أن نعترف ببعضنا البعض وأن نقدم التنازلات لبعضنا البعض، وأن ندرك أن أيادي الخارج لا تمتد إلا بسبب ضعف الداخل، ولو قدر للصومال أو إريتريا أو حتى جيبوتي أن تصبح قوة إقليمية معتبرة فسوف تعمل على مد نفوذها إلى جوارها الضعيف وأوله اليمن، وهذا ما تؤكده خبرة العلاقات بين الدول عبر التاريخ.

         والآن، لمن يعتقد أن المجلس الانتقالي قد انتصر في اتفاق الرياض نقول: نعم لقد انتصر باعتباره أداة من أدوات الخارج وليس في ذلك أي شك. ومعنى ذلك أنه انتصر لغيره وليس لنفسه. أما أنه انتصر للجنوب فهذا لم يحدث ولن يحدث أبدا لأن هذا المجلس ليس أكثر من حالة جهوية في إطار الجنوب وليس حالة جنوبية في إطار اليمن، وهو بهذا المعنى غير مؤهل لا معرفيا ولا سياسيا ولا أخلاقيا لتمثيل الجنوب.

         ثم أن المجلس الانتقالي يدرك تمام الإدراك أن قوته لم تأت من ذاته ولا من جماهير الجنوب ولا يمكن أن تأتي من هذين المصدرين لأنه من خلال كل الشعارات التي رفعها منذ ظهوره إلى الآن لم يستطع أن يحظى بثقة الشارع الجنوبي، ولولا السلاح الإماراتي لما استطاع هذ المجلس أن يكون شيئا مذكورا. يضاف إلى ذلك أن المجلس الانتقالي يدرك أكثر من غيره أن سلاحه غير شرعي وأن فعله خارج القانون وأن انتصاره المزعوم مجرد فقاعة، ولولا الطيران الإماراتي لكان في خبر كان.

         أما بالنسبة للطرف الآخر في التوقيع وهو الشرعية فلم تحقق أي انتصار فعلي غير أن اتفاق الرياض مدَّ في عمرها، والدليل أنها لم تستطع أن تفرض شروطها للحوار مع الانتقالي حين أعلنت أنها لن تجلس على الطاولة ما لم يتراجع الانتقالي عن انقلابه ويسلم السلاح والمعسكرات التي بيده، وهو ما لم يحدث حيث اضطرت الشرعية مرغمة أن تجلس مع الانتقالي إرضاء لخاطر السعودية.

 

         لقد تخلت الشرعية عن فكرة إدانة انقلاب المجلس الانتقالي، وما قاله الميسري بأن التوقيع كان مكافأة للانقلاب حقيقة لا تقبل التشكيك بدليل أن الحكومة المزمع تشكيلها بموجب اتفاق الرياض ستخلو من كل الشخصيات التي رفضت انقلاب الانتقالي وناوأته.

         وأخيرا بقي أن نأتي على السعودية والإمارات في اتفاق الرياض لنؤكد أن جزءا كبيرا من تحسين شروط معركتهما مع الحوثي هو البقاء في الجنوب باعتباره عمقا للمناطق المتاخمة للحوثي في الشمال (مأرب والجوف والبيضاء وتعز والشريط الساحلي الممتد من المخاء إلى الحديدة)، فالبقاء هو جزء من المعركة المعلنة إضافة إلى الأهداف والمصالح الغير معلنة. وتمسك السعودية والإمارات بأهداب الشرعية ليس حبا فيها وإنما تشبثا بورقة التوت التي تغطي عورتيهما.

         ومن داخل الحكومة المزمع تشكيلها علينا أن نتوقع إعادة إنتاج الشرعية بولاء كامل وإذعان تام للسعودية والإمارات على مستوى الحكومة والرئاسة والمحافظين ومدراء الأمن في المحافظات، وقد يموت هادي أو يُماتُ ليأتي نائبه المصنوع خارج البلاد.

         إن جوهر اتفاق الرياض هو تصفية كل من بقي لديه أدنى اهتمام بسيادة اليمن. أما الإمارات فلم تخرج من اليمن كليا بعد ولكنها في طريقها إلى الخروج لتبقى حاضرة بأياد يمنية. أما حلول السعودية الشكلي محل الإمارات في بعض المربعات العسكرية والأمنية فلكي تكسب قلوب بسطاء الناس بأنها حافظت على الشرعية اليمنية، وسوف تضخ –بالتفاهم مع الإمارات-بعض المال، وهذا ما بدأ فعلا وظهرت نتائجه من خلال تراجع قيمة الدولار. وسوف تتخذ السعودية من هذه الشكليات ستارا ناعما لوجودها وإعادة انتشارها وتمددها في المناطق التي تريد أن تقتحمها ولكن بأقل قدر من الكلفة والحساسية هذه المرة. ولعل تعقيدات الوضع في اليمن هي التي فرضت على السعودية والإمارات إعادة منهجة سياساتهما وموضعة قواتهما.

         وخلاصة القول إن اتفاق الرياض هو اتفاق سعودي إماراتي، وهو بهذا المعنى اتفاق وصاية، والشرعية سلمت بذلك عن ضعف وليس لديها خيارات أخرى خصوصا أنها قد أضعفت نفسها من قبل ولم تعد قادرة على المناورة، ولم يعد بيد هادي حتى قرار موته انتحارا.

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Thu, 14 Nov 2019 19:54:12 +0300
اليوسفي يأكل لحم الحمدي بعد عقود من الغداء الأخير. http://aleshteraky.com/views/item/19337-اليوسفي-يأكل-لحم-الحمدي-بعد-عقود-من-الغداء-الأخير http://aleshteraky.com/views/item/19337-اليوسفي-يأكل-لحم-الحمدي-بعد-عقود-من-الغداء-الأخير

 

         في إطار ردود الأفعال المتباينة التي أثارها فيلم "الغداء الأخير" الذي بثته قناة الجزيرة عن واقعة قتل الرئيس إبراهيم الحمدي وقع بين يدي مؤخرا مقال لسمير رشاد اليوسفي منشور في موقع "نيوز يمن" بتاريخ 30 أبريل 2019 تصدره عنوان لافت: "قطر تأكل لحم الحمدي في الغداء الأخير". وعندما انتهيت من قراءته تبين لي أن سمير، وليس قطر، هو من أكل لحم الحمدي ومعه لحم شهداء ثورة فبراير 2011 التي وصفها ب "الهوجاء". والحقيقة أنني لم أكن أتوقع هذا من سمير الذي وإن كنت لا أعرفه شخصيا فإنني أحتفظ له بصورة ذهنية إيجابية إلى حد ما أيام كان رئيس تحرير صحيفة الجمهورية في عهد علي صالح، بينما هو الآن يهدر موهبته التي افترضتها ويبيع قلمه وكأن أوجاع الحاجة قد بلغت المعدة. وأنا هنا لا أقرأ في النوايا وإنما أستدل على ما أقول من السطور التي كتبها سمير نفسه ووضع اسمه عليها.

         الفيلم أعده وأخرجه الصحفي والباحث المجتهد والمدرب المقتدر جمال المليكي، وهو جهد يشكر عليه، ولا يجوز تبخيسه لمجرد أنه لم يأتِ على هوى زيدٍ أو عمرو. وإذا وجد من لديه تصويب موضوعي لجزئية أو معلومة أو ملاحظة فنية فلا عيب في إظهارها ما دامت الغاية أن يستفيد المتلقي. والحقيقة أننا نحتاج لمئات وربما آلاف الأفلام الوثائقية ونشد سلفا على يد كل من يبذل جهدا في سبيل ذلك. وفي هذا السياق نريد أن نقول كلمة إنصاف ضد كل كتابة تهدف إلى التعمية على فيلم "الغداء الأخير" والتقليل من أهمية القضية التي أثارها. ونحن عندما نفعل ذلك لا نتوخى إظهار الحقائق المغيبة فحسب وإنما من قبيل احترام عقل القارئ حتى لا يظل مفتونا بأسماء كان لها رواج أيام الهالك –ولا أقول المرحوم خشية أن أجرح مشاعر معظم اليمنيين-علي صالح وتريد الآن أن تستأنف دورها في تزيين سوءات الطغاة والقتلة واللصوص وتملق أصحاب الأعطيات حتى وإن كان هؤلاء من خارج الحدود الجغرافية والوطنية والإنسانية.

         بدا "الغداء الأخير" لسمير عملا مكرورا لم يأتِ بجديد مع أنه بني على شهادات ووثائق، بينما خلا مقاله من أي ملاحظة موضوعية أو إضافة جوهرية. وعندما أراد أن يبرئ المملكة تذكر أيام ولايته على صحيفة الجمهورية وقال حرفيا: "نشرت صحيفة الجمهورية حوارا مع شقيق الحمدي كان لافتا فيه تأكيده لمعلومة مهمة مفادها أن الملك الراحل خالد بن عبد العزيز انزعج من تدبير عملية القتل وأظهر سخطه علنا في اجتماع لمجلس الوزراء السعودي، وهو ما تجاهله سبع الجزيرة المدهش". وهنا نسأل سمير: ما قيمة استشهادك هذا أمام ما فعله "سبع الجزيرة" عندما نقل إلينا شهادة زعيمك صوتا وصورة وهو يقول للناس كافة إن المملكة هي من قتل الحمدي؟ لماذا تجاهلتَ هذه الجزئية الخطيرة جدا؟ الجواب واضح: لأن ما يعنيك ليس النقد الموضوعي للفيلم وإظهار الحقيقة للمتلقي وإنما التزلف والملق للسعودية، وما الفيلم إلا مناسبة للتعمية على وضاعة النية ورخص المقصد.

         ومن باب الإنصاف: لستَ وحدك في هذه المهانة فالرياض اليوم تكتظ بالطبقة السياسية التي أنتجها زعيمك على شاكلته وطبعها بطابعه. والآن قل لنا يا سمير: لماذا لزمتْ المملكة الصمت ولم تهتم بالرد على شهادة الزعيم؟ ولماذا كتم زعيمك هذه الشهادة لأكثر من ثلاثة عقود ظلت السعودية خلالها تتعامل معه كما لو كان ملحقها العسكري في اليمن.

         يعتقد سمير أنه نجح في تقديم نفسه مدافعا جيدا عن السعودية ولم يخطر في باله أن المتزلف –حتى عندما يكون ذكيا-لا يمكن أن يكون صاحب أفكار متسقة ولا بد أن يقع في تناقضات تفضحه من حيث لا يتوقع. لقد قال حرفيا: "ولعلَّ تعامل الملك سلمان وولي عهده مع مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وإحالة المتورطين فيها للقضاء يكشف لنا أن سعودية اليوم تختلف عن الأمس"!!! ومع ما ينطوي عليه هذا الكلام من سذاجة واستخفاف بعقل المتلقي الحصيف فإن سمير يقر –من حيث لم يكن يريد-بأن سعودية الأمس كانت سيئة، وهذا تناقض فاضح مع محاولته البائسة غسل يدها الملطخة بدم الحمدي.

         يقول سمير إن علي صالح لم يكن موجودا في صنعاء يوم "الغداء الأخير" وإنه وصلها من تعز على متن مروحية بعد أن وقعت الواقعة. أما المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة فهو علي حسن الشاطر. والسؤال: من هو هذا الشاطر وما هي حجيته في أمر كهذا؟ لقد وقع سمير في الخلط بين مكان علي صالح يوم مقتل الحمدي ومكانه يوم مقتل الغشمي، والمسرحية اقتضت ألاَّ يغادر تعز زمن الغشمي، وأن يتوجه منها إلى صنعاء يوم الذبح ليكون رئيسا للجمهورية العربية اليمنية، والبعد الإقليمي للمسرحية واضح في مذكرات الشيخ عبدا لله بن حسين الأحمر أما بعدها الأمريكي فيمكن تلمسه في كتاب بول فندلي "من يجرؤ على الكلام".

         ولعلَّ محمد خميس ذهب ضحية دوره في هذه المسرحية وما رتبه ذلك الدور من معلومات ضاعفت من خطورته في عيون الرئيس القادم من الأقبية القذرة والدهاليز المظلمة ومغارات تهريب الممنوعات. وعلى اليمنيين اليوم أن يعيدوا النظر في حكاية الحقيبة الدبلوماسية الملغومة التي قيل إن المبعوث الرئاسي القادم من عدن هو من حملها لتقتله والغشمي فقط لا غير، خاصة وأن الأقوال التي تسربت من المستشفى العسكري وقتها أكدت أن الانفجار الضخم أتى على النصف الأسفل للرئيس أكثر مما أتى على نصفه الأعلى.

         يقول سمير: إن فيلم "الغداء الأخير" "لم ينشر صور رمي الغشمي بالأحذية أثناء حمل جنازة الحمدي". والسؤال: ما جوهرية هذه الجزئية؟ إن موضوع الفيلم هو "الغداء الأخير" ترتيبا وتنفيذا وليس ما بعده. ولأن سمير منشغل جدا بتبرئة زعيمه وإلقاء كل شيء على الغشمي وحده وقع ذهنه في الشتات وعدم القدرة على التركيز، ومن مظاهر شتاته قوله "تجاهل الفيلم ذكر دور الشيخ الأحمر (الراعي السابق للإخوان المسلمين) لكونه مع المتنفذين الذين جمعهم عام 1975 حلف خمر كانوا المتضررين فعليا من بقاء الحمدي رئيسا بعد أن منعه من البقاء في العاصمة". واضح أن سمير أراد بهذا الكلام الفج أن يصيب عصفورين بحجر، فهو من ناحية يرضي السعودية بإظهار كراهيته للإخوان المسلمين، وهو من ناحية أخرى يبرئ زعيمه من جريمة القتل. والحقيقة المعروفة للقاصي والداني لها وجهان: الوجه الأول أن الشيخ عبد الله كان يعارض الحمدي من خمر ولم يكن موجودا في صنعاء منذ فترة طويلة نسبيا، وموضوع الفيلم هو عن قتلة الحمدي وليس عن معارضيه وكارهيه. والوجه الثاني أن الحمدي لم يقتل على يد أي من خصومه الذين ناصبوه العداء علنا وإنما قتل مغدورا على يد بعض من قربهم إليه ومنحهم كل ثقته وعلى رأس هؤلاء الغشمي و"تيس الضباط" وهنا تكمن فضائحية وتراجيدية عملية القتل التي تمثل لبَّ فيلم "الغداء الأخير"، لكن سمير المهموم بتبرئة زعيمه ذهب يخلط بين قتلة الحمدي وبين المستفيدين من قتله. فالشيخ عبد الله كان مستفيدا دون شك، لكن لا يوجد حتى الآن ما يستدل به على شراكته، أما سكوته عن الجريمة وعدم إثارتها بشكل أو بآخر فهذا من مقتضيات التحالف الوثيق بين "شيخ الرئيس ورئيس الشيخ" برعاية محكمة من قبل "الشقيقة الكبرى". ومن ذا الذي لا يعلم أن تحالف الشيخ والرئيس كان برعاية سعودية سخية وكان من الناحية العملية تحالفا ثلاثي الأضلاع، شمل القبيلة وجيشها وإخوان اليمن، الذين طالما تغنوا بتحالفهم الاستراتيجي مع علي صالح!!! كيف لا وقد مكنهم من اقتطاع الجبهة الأيديولوجية للنظام وتدمير منظومة التعليم وإهدار الثقافة الوطنية لصالح مذهبية وهابية وافدة مشبعة بقيم التطرف والإرهاب، وقد سار هذا التحالف بدالة متصاعدة لم يبدأ عدها التنازلي إلا بعد نهب الجنوب وتدمير الوحدة اليمنية ماديا ومعنويا، حينها خرج علي صالح على الناس ليقول لهم "إن حزب الإصلاح لم يكن خلال عقدين ونيِّف إلا مجرد كرت في يده" وعليه الآن أن يقبل بمشروع التوريث أو ينتظر مصير الناصري والاشتراكي!! وعلى سمير أن يجيبنا: هل هذا منطق رئيس دولة لديه قليل من الإحساس بالمسئولية الوطنية أم هو منطق قاطع طريق؟

         يقول سمير إنه أثناء الاحتفاء بالعيد التاسع عشر للوحدة كان في بيت علي صالح بتعز وهناك سمعه يشيد بالحمدي قائلا: "الحمدي كان قائدا فريدا من نوعه، وذكيا وخطيبا مفوها ومتواضعا لولا ثقته المفرطة بمن حوله وعدم اهتمامه بحماية نفسه خاصة بعد إقصائه للمشايخ والقوى المتنفذة". وعلى افتراض أن علي صالح قال هذا الكلام فعلا فسمير لم ينتبه لمقام القول زمانا ومكانا. فلو لم يكن الزمان هو العام 2009 – وما أدراك ما العام 2009 -والمكان هو بيت الرئيس لكنت سارعت إلى اتهام سمير بتقويل زعيمه ما لم يقله. ومع ذلك أقول: لو أن علي صالح كان رجل دولة يتمتع بالحد الأدنى من الثقافة السياسية الوطنية والحد الأدنى من الوعي القانوني لكانت أول مهمة له كرئيس للبلاد هي التحقيق في ملابسات مقتل الحمدي والغشمي وكشف الحقيقة للشعب، خاصة وهو يعلم علم اليقين أن معظم اليمنيين يعتقدون أنه إن لم يكن هو المتهم الأول في قتل الحمدي فإنه المتهم الثاني بعد الغشمي، وهناك من يعتقد أن الغشمي أكل الطعم وذهب ضحية مخطط أكبر منه. والخلاصة أن صالح لم يهتم لا بملف الحمدي ولا بملف الغشمي وإنما جاء من اليوم الأول (يوم 17 يوليو 1978) يقرع طبول الحرب نحو الجنوب للتغطية على الجريمتين أولاً، وثانياً ليثبت لأسياده في الرياض أنه لا يمكن أن يكون إبراهيم حمدي آخر. ورجل على هذه الشاكلة الشوهاء من الطبيعي جدا أن ينتهي على النحو الذي عرفناه. ونحن لا نقول هذا لمجرد الرغبة في القول وإنما ردا على سمير الذي لم يناقش فيلم "الغداء الأخير" نقاشا موضوعيا وإنما أقحم نفسه في الدفاع عن علي صالح بطريقة فجة ومستفزة لمشاعر اليمنيين الذين يعلمون علم اليقين أن علي صالح ظللأكثر من ثلاثة عقود يدمر تاريخ الحمدي ويعتم عليه وينهج نهجا معاديا للنهج الوطني الذي سار عليه. وعلى افتراض أن صالح لم يشارك في ذبح الحمدي ماديا على ذلك النحو المشين فالثابت عليه أنه ذبح مشروعه الوطني من الوريد إلى الوريد حتى أوصلنا إلى حيث نحن اليوم.

         يقول سمير إنه أثار مع علي صالح موضوع اتهام الناصريين له بقتل الحمدي وأن صالح ردّ عليه قائلا: "من الطبيعي أن يقول الناصريون هذا بسبب فشل محاولتهم في الانقلاب علي ومحاكمة وإعدام بعض المتورطين فيه". والملاحظ هنا أن سمير خلط بين السبب والنتيجة. إن حركة 11 أكتوبر 1978 الناصرية كانت نتيجة للانقلاب الدموي على المشروع الوطني للحمدي، وإعدام قياداتهم جاء في إطار التصفية الممنهجة والعنيفة لذلك المشروع إرضاء للسعودية. ومعروف للقاصي والداني أن حركة الناصريين لم تتسبب في نزيف قطرة دم واحدة. ولو لم يكن علي صالح متعطشا للدم كقاتل محترف لما أعدم واحدا وعشرين من خيرة رجال اليمن. وللعلم ظل صالح طوال فترة حكمه مذعورا من استحقاقات ذلك الدم الذي سفك خارج القانون.

         وفي سياق الرغبة في الإساءة المجانية للناصريين ذهب سمير يستنتج أن عبد الله سلام الحكيمي كان مشاركا في التغطية على جريمة مقتل الحمدي وتناسى أن الرجل كان هو المكلف بقراءة بيان حركة اكتوبر 1978 ثأرا للحمدي واستعادة مشروعه الوطني كما قال للمليكي. وإمعانا في الإساءة لشخص الحكيمي قال سمير إنه "كان أحد الوشاة على الناصريين بعد فشل انقلابهم"، وكل من له علاقة من قريب أو بعيد بالناصريين يعلم أنهم لم يقولوا هذا الكلام عن عبد الله سلام الحكيمي وإنما عن عبده الجندي. وأخيرا وصل الخيال المريض بسمير ليقول عن الحكيمي إنه حاليا "مسئول ارتباط بين الحوثيين والمخابرات البريطانية" وللحكيمي أن يعلن الاحتفاظ بحقه في مقاضاة هذا الفهلوي المحسوب على مهنة الصحافة. ولست أرى سببا واحدا يستدعي الإساءة للحكيمي بهذه الطريقة سوى تملق السعودية بالنظر إلى أن الحكيمي يراها دولة معتدية على اليمن، ويعلن ذلك جهاراً نهاراً. والحقيقة أن خمس سنوات من الحرب كشفت لنا أن دعم الشرعية ليس هو ما تفكر به السعودية والإمارات العربية المتحدة في اليمن، فللدولتين أهداف عدوانية واضحة ضد اليمن أرضا وإنسانا.

         وصف سمير ثورة فبراير 2011 بأنها "هوجاء". وهذا كلام لا يدل على الغباء وإنما على الانتهازية في ظل مؤشرات الدعم الكبير "للعفافيش" سعوديا وإماراتيا. والدعم هنا لا يتوقف عند أحمد وطارق وإنما يمتد إلى طابور كبير يتصدره مع آخرين "قالع العداد" الذي أصبح رئيسا لبرمان "الشرعية" ومن غير المستبعد أن يصبح صاحب حظوة كبيرة في اللجنة الخاصة تضاهي الحظوة التي كانت للشيخ عبد الله الأحمر.

          ومهما يكن من أمر فإن وصف ثورة فبراير بأنها "هوجاء" ينطوي على الاستهانة بتضحيات آلاف اليمنيين الذين خرجوا للتظاهر السلمي في شوارع مدن اليمن وساحاتها العامة ورابطوا فيها لأكثر من عام رغم الدماء الغزيرة التي سفكتها أجهزة عفاش. ولأن الثوار نجحوا في خلع عفاش أصبحت الثورة "هوجاء"!!!. ولنا أن نسأل سمير: كيف تنظر إلى ما فعله عفاش المخلوع الذي تسميه شهيداً وزعيماً وقائد انتفاضة؟ لقد أراد أن يعلم خصومه السياسة – كما قال هو بغطرسته المعهودة – وذهب من أجل ذلك يسلم مقدرات البلاد العسكرية والمدنية للحوثي. وبغير دعم وتحالف علي صالح ما كان بمقدور هذا الأخير أن يتجاوز حرف سفيان. لكن الحوثي كان الأكثر ذكاء في فهمه لطبيعة علي صالح كشخصية مجبولة على الغدر بحلفائه ولهذا لم يهدأ له بال حتى أجهز عليه وأمن شرَّه. وقديما قال المتنبي: "ومَنْ يجعلِ الضرغامَ بازاً لصيدِهِ تصيدَهُ الضرغامُ فيما تصيدَ"

          ولو أن علي صالح خرج منتصراً من شارع صخر لكانت مأساة اليمن أكبر بما لا يقاس مما هي عليه اليوم والذين يعتقدون عكس ذلك لا يفكرون بعقولهم وإنما بالمكبوتات المتراكمة عبر القرون من أيام الهادي إلى أيام أحمد يا جنَّاه. ومن باب الإنصاف علينا أن نعترف للحوثي بحسنة الإجهاز على علي صالح بالنظر إلى القبح الكبير والممتد الذي مثله عهد هذا الرجل.

         لم أكن أبدا متجنيا على سمير عندما قلت إن مقاله عن "الغداء الأخير" ليس إلا مناسبة للتعمية على وضاعة النية ورخص المقصد. وهذا واضح جدا من خلال ما قاله عن قطر وكأنه صحفي سعودي متعصب جدا لمليكه. يقول سمير: "لو لم تكن قطر متورطة بقتل الزعيم صالح من خلال توفير الدعم اللوجستي لعملت عنه فيلما استقصائيا، فدمه لم يجف بعد ومرتبط بالحرب الدائرة منذ أكثر من أربع سنوات، ولا تزال ملابسات انتفاضته وقتله أكثر غموضا من اغتيال الحمدي، وكشفها أهم لحاضر ومستقبل اليمن"!! والحقيقة أن هذا ليس بحجاج وإنما هو إلى السخف أقرب إن لم يكن هو السخف نفسه.

         أولاً: لم يكن الحوثي بحاجة إلى دعم لوجستي من قطر للإجهاز على علي صالح لأن مقدرات الدولة أصبحت كلها في يده، وقد أجهز على "الزعيم" برجال كانوا قبل

سبتمبر 2014 حول "الزعيم" وبسلاح كان يوما ما سلاح "الزعيم". والشيء الوحيد الذي كان يحتاج إليه الحوثي هو ذريعة الإجهاز ليس إلا. وقد قدم صالح هذه الذريعة على طبق من ذهب من خلال خطاباته التحريضية الطافحة بأوهام الزعامة معتقدا أن الجماهير ستهب بالملايين لنجدته في شارع صخر وسط العاصمة صنعاء.

         ثانياً: بمنطق "من المستفيد من قتل علي صالح قطر أم السعودية؟" فالقراءة السياسية الحصيفة تقول إن السعودية هي المستفيد لأنها بقتله ستكون قد أخفت ملفا كبيرا من القذارة المشتركة، وهذا يتسق تماما مع طبعها في التعامل مع كل عملائها وحتى مع مواطنيها حين يتمردون عليها أو يظنون أن لديهم القدرة على مساومتها وخاشقجي واحد من هؤلاء.

         وحتى في المبادرة الخليجية يوجد ما يدل على أن السعودية بقيت متمسكة بعلي صالح وظلت توعده بدور آخر غير الدور الذي لعبه خلال ثلاثة وثلاثين عاما، وهو نفسه قبل بهذا الدور الجديد –مكرها لا بطل-تحت ضغط ثورة الشباب وثقة منه بأن السعودية لن تتخلى عن خادمها الأكبر في اليمن بالنظر إلى ما قدمه من خدمات "جليلة" قبل وأثناء رئاسته. وليس في المبادرة الخليجية ما يدل على أن السعودية أرادت لدور علي صالح أن ينتهي، وهي ربما لم تستقر على بديل بعينه بعد ولم تختبر أي بديل وليس لديها معرفة بالخدمات التي سيقدمها البديل أو سيكون قادرا على تقديمها.

         ولو شئنا أن نبسط القول في علاقة صالح بالسعودية فلن ننسى أن هذا الرجل هو من باع الأراضي اليمنية في خيانة عظمى أطلق عليها مسمى "ترسيم الحدود" في يوليو من العام 2000. كما لن ننسى أنه كان الأكثر حظوة في كشف اللجنة الخاصة بمبلغ أربعين مليون ريال سعودي شهرياً، وأن المملكة هي من ساعده في البقاء على قيد الحياة بعد مذبحة جامع النهدين. وأكثر ما أزعج السعودية هو أن علي صالح حاول في لحظة من اللحظات أن يتنكر لأولياء نعمته. صحيح أنه أدرك لاحقا حجم خطأ حساباته وأرسل ابنه أحمد إلى محمد بن سلمان لتلطيف الأجواء. لكن ما لم يكن يعلمه صالح أن محمد بن سلمان يمثل جيلا جديدا في العائلة المالكة، ومن سمات هذا الجيل أنه عاري الوجه لا يقبل المساومة من أي خادم وإنما يملي وعلى الخادم أن ينفذ، ولهذا أخفق أحمد.

         ثالثا: ليس من حق سمير ولا غيره أن يملي على قطر ما ذا تفعل وماذا لا تفعل، وإذا كان بحاجة إلى فيلم استقصائي عن زعيمه فهذا اهتمام عاطفي خاص به وبمقدوره أن يطلب ذلك من الشقيقة الكبرى وستكون مناسبة لفضح قطر وبيان شراكتها في قتل الزعيم، ونتمنى على كل من تدعمه السعودية أن يظهر ما لديه من وثائق تدل على علاقتها المضيئة باليمن وعلاقة قطر المظلمة.

           أما أن الكشف عن ملابسات مقتل علي صالح أهم لحاضر ومستقبل اليمن من الكشف عن ملابسات مقتل الحمدي فهذا كلام يحتاج إلى تصحيح وأقترح من أجل ذلك الصيغة التالية: "ما لم ينبرِ أصحاب العقول النيرة لدراسة ظاهرة علي صالح دراسة موضوعية فإن هذا الظاهرة الكارثية ستظل مرشحة للتكرار"

         يقول سمير في مقاله: "إن جريمة قتل الحمدي معروفة بتفاصيلها حتى للبهائم، وأن توقيت فيلم الغداء الأخير جاء لمناغشة السعودية ونكش أوجاع اليمنيين، وأن حقد إمارة قطر على المملكة انتقل من الطفح المصحوب بالحكاك إلى السعار الذي لا برء منه" ثم يضيف قائلا: "من الغباء توظيف أسباب ودوافع قتل الحمدي للإساءة لمن يحكم المملكة حاليا". وللقارئ اللبيب أن يلاحظ أن سمير أرهق ذهنه كثيراً لتجميل وجه السعودية وتقبيح وجه قطر ومع ذلك لم يوفق.

         أولاً: إذا كانت جريمة قتل الحمدي معروفة بتفاصيلها حتى للبهائم فنحمد الله أننا لم نكن على بينة من الأمر لأننا لسنا بهائم. ثانياً: التقليل من قيمة الفيلم لم يأتِ من باب النقد الموضوعي وإنما من باب الحسد للنجاح الذي حققه جمال المليكي، وهنا أرفع قبعتي وانحني احتراما لهذا الشاب العصامي الذي يكافح بشرف ويصنع نجاحاته بشرف، وليس صحيحا أن كل من يعمل في قناة الجزيرة هو بالضرورة من الإخوان المسلمين. ولكن على افتراض أن جمال المليكي من الإخوان المسلمين فمن العيب كل العيب أن يسقط سمير موقفه من الإخوان على جمال المليكي. ذلك أن مثل هذا الاسقاط ينم عن غياب الثقافة المدنية واستحكام النزعات العصبوية المتخلفة.

          إنني شخصيا ضد الإخوان كبنية أيديولوجية قائمة على تسييس الدين وتديين السياسة لكني لست ضد الإخوان كأفراد بينهم الكثير الكثير ممن يجبرون المرء على حبهم واحترامهم. ومشكلة سمير مع المليكي أن هذا الأخير أوجع السعودية كثيرا بفيلم "الغداء الأخير" فأسرع الأول إلى تسويق نفسه كمسكِّن ضد هذا النوع من الوجع. وهنا يلزم أن نعترف لسمير بالقدرة على انتهاز الفرص وعليه فقط أن يطور مهاراته في الكتابة حتى لا يظهر متهافتا جدا في عيون القراء.

          ثالثاً: لماذا كل هذا الانزعاج من قطر؟ وكأنك يا سمير لا تعلم أن السعودية كيان قذر في تعامله مع كل جيرانه وهي أكثر قذارة في تعاملها مع اليمن واليمنيين. دع قطر تفضح السعودية كما تشاء. وأنت وأمثالك دافعوا عن السعودية واظهروا لنا ولو قبسا من نورها الذي تعتقدون أنه يبدد ولو بعض الظلام في اليمن.

         أخيرا يقول سمير: " حتى لا تظل قطر تصطاد في الماء العكر داخل اليمن للإساءة لجيرانها ينبغي على السعودية المسارعة لإزالة كل ما يعكر صفو علاقتها مع الداخل اليمني، ولن يتأتى ذلك بغير توحيد صف اليمنيين على قيادة تضع نصب عينها مصلحة اليمن وتحريرها من الحوثة المتمردين لأن التشتت الحالي ستحصد ثماره الدول المعادية".

         شخصيا شعرت بالغثيان وأنا أقرأ هذا الكلام الأخير لشخص يعتقد أن الصحافة الحكومية في اليمن أصبحت مختطفة فقط عندما سيطر عليها الحوثي، أما أيام الزعيم فلم تكن كذلك بدليل أن سمير كان رئيسا لتحرير صحيفة الجمهورية. يا سمير: لو لم تكن البلد كلها مختطفة لما كان بمقدور زعيمك أن يسلمها للحوثي هكذا بكل بساطة. وبقي فقط أن ألفت انتباهك إلى أنك أنت أيضا مختطف

ومقالك طافح بهذا المعنى.

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Fri, 17 May 2019 22:36:18 +0300
ياسين نعمان ليس فوق النقد، ولكن.... http://aleshteraky.com/views/item/16023-ياسين-نعمان-ليس-فوق-النقد،-ولكن http://aleshteraky.com/views/item/16023-ياسين-نعمان-ليس-فوق-النقد،-ولكن

 

يتعرض الدكتور ياسين نعمان – بين فترة وأخرى - لحملة تشويه ممنهجة وصبيانية في الوقت ذاته.أما أنها "ممنهجة" فمن حيث التوقيت والأغراض ومن حيث اختلاق القضايا المراد إثارتها .وأما أنها صبيانية فمن حيث النبرة العدوانية لخطاب التشويه وصيغه الإنشائية وضحالة أفكاره ومن حيث أنه موجه إلى شخص الرجل لا إلى ما يقول وما يفعل.ولست أخفي على القارئ اللبيب أني وأنا ألاحظ حجم الكراهية في هذه الحملة تذكرت على الفور قاتل جار الله عمر، والفارق أن صحيفة ادِّعاء علي جار الله كانت واضحة ولم تعمد إلى الرطانة لإخفاء الزنداني وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري خلف عناوين وأسماء مستعارة من الروايات، وهذا فارق في الدرجة وليس في النوع لأن ما استقر في اللاوعي وصاغ الطبعَ أقوى بكثير مما علق في السطح ولم ينفذ إلى الجوهر لتشذيبه وتهذيبه، ولعلَّ الله كان يشير إلى هذه الحقيقة وهو يستنكر غرور بعض مخلوقاته قائلا:" مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا" . 

إن كل ما صدر عن ياسين نعمان، كتابة أو شفاهة، معروف لكل متابع، ويمكن أن يكون موضوع نقاش قبولا ورفضا، فحق الاختلاف مكفول، وعلى قاعدة المساواة لا نرى في الدكتور ياسين شخصا فوق النقد، ولا هو يرى نفسه كذلك.وكلما كان المنقود فاعلا ومؤثرا في محيطه كلما كان النقاش الذي تثيره أفكاره وطروحاته أقدر على تعميق الوعي وترسيخ قيم المدنية وتقديم نموذج يحتذى لما يجب أن تكون عليه الثقافة السياسية. أما الثرثرات والتقولات فلا تسيئ إلا لأصحابها وليس لمن أرادت الإساءة له، خصوصا عندما تأتي خالية من أي سند وعارية من كل قرينة وتكون مجرد هذيانات وانثيالات نرجسية لا همَّ لها سوى الإساءة لمجرد الإساءة وإهدار كرامة الكلمة والاستخفاف بعقل المتلقي وبلبلة وعيه.وعندما تنحط الثرثرة إلى هذا المستوى من الوضاعة فلا فرق حينئذ بين المثرثرين وأولئك الذين يعتدون على المجتمع بزعم الدفاع عنه على نحو ما يفعل الانقلابيون الذين يدَّعون الدفاع عن الوطن وهم يقتلون المواطن، وعلى نحو ما يفعل علي صالح حين يدعي أنه بطل قومي في مواجهة العدوان ويتناسى أن عهده متحالفا مع الإسلاميين هو الحلقة الأطول والأخطر والأكثر تدميرا في مسلسل العدوان السعودي الطويل على اليمن. وما المشهد المأساوي الراهن سوى نتيجة حتمية لذلك التحالف الذي قام على إهدار قيمة الوطن ومعنى الدولة وعلى تدمير منظومة قيم التضامن المجتمعي وعلى رأسها قيمة التعاون والتعاونيات التي أراد الشهيد ابراهيم الحمدي أن يذهب اليمن من بوابتها إلى التنمية وإلى القضاء على الكهوف التي فرَّخت عبد الملك الحوثي ومليشياته القروسطية في ظل سلفية وهابية كانت هي الأخرى كهوفا محفزة لهذا التفريخ، ومن يعتقد أن معهد دماج كان فرعا من "السوربون" وليس كهفا فعليه أن يراجع ضميره وأن لا يدع المذهبية تعمي بصره وبصيرته، وقل مثل ذلك عن كل المعاهد الوهابية المسماة "سلفية" وعن أم الكهوف المسماة جامعة "الإيمان".

إنه لمن غير الممكن أن نتحدث عن قيم مدنية تؤمن بحق الاختلاف وفي الوقت نفسه نمارس التهجم والتقول والتشهير بسمعة من يغايرنا ونأتي كل هذه الموبقات بزعم حرية التعبير كاشفين بذلك عن شوزفرينيا تصبح معها الممارسة عكس القول فنبيح لأنفسنا ما نحرمه على غيرنا وننصب في أعماقنا حُكَّاما يحكمون غيابيا بغير دليل لنتحول بعد ذلك إلى مجتمع من المحتسبين والمخبرين نفتش في ضمائر الناس عما يمكننا من شيطنتهم فإن لم نجد نعمد إلى الدس والتدليس من قبيل "العيار الذي لا يصيب يدوش"، وقديما قال الشعر عن هؤلاء:" إن يعلموا الخير أخفوه وإن علموا شرا إذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا".

إننا نعيش في مجتمع مغلوب على أمره لا يعرف التنشئة النقدية وتتفشى فيه الأمية الأبجدية والثقافية والسياسية، ومن الظلم كل الظلم أن نستغل ظروفه الصعبة للتدليس عليه وتدمير ما بقي عنده من قيم الإنصاف لنكون بذلك امتدادا قبيحا لفعل الطغاة والمتسلطين الذين تغولوا على الدولة والمجتمع ومارسوا القهر والتدجين وتجريف العقول والقيم ثم بعد ذلك ندعي أننا نخبة ومثقفون بينما نحن سفهاء من حيث ندري ولا ندري.

إن ياسين نعمان – أي كان تقديرنا له – يظل فردا ومن حق أي شخص أن ينتقده متى ما رأى موجبا وجيها لذلك، أما أن يقوم بالتضليل والتأويل لأمر في نفس يعقوب فهذا مما لا يمكن السكوت عليه سواء تعلق الأمر بياسين أو بغير ياسين.وفي السياق أشير إلى عبد الباري طاهر الأهدل وإلى وجدي الأهدل اللذين يحاكمان على أهدليتهما التي لم يخترها أي منهما ولا هي محل فخر واعتزاز عندهما، فالأول باحث وكاتب وناقد وسياسي ومناضل وناشط وقد دفع ثمن كل هذا فقرا وسجنا وخوفا ورعبا واختفاء وسفرا اضطراريا خارج البلاد، لكن كل هذا العذاب ليس شيئا يذكر أمام جريمة محاسبته على أهدليته، والكلام موجه لزعيم حزب الإصلاح الأستاذ محمد اليدومي باعتباره الأقدر على إيقاف الفلتان المذهبي داخل حزبه، وهو فوق ذلك خير من يعلم أن عبد الباري طاهر هو النقيض الفكري والثقافي والمدني والإنساني للعملة الحوثية بينما الذين يختزلونه في لقبه هم وجهها المرعب الآخر. أما وجدي الأهدل فروائي مبدع أخرجه التكفيريون ذات يوم من الدين كله لاستباحة دمه وتجويز قتله، وهاهم اليوم يعيدونه إلى بعض الدين لتحقيق الغاية نفسها.

بقي أن أوجه بعض الكلام حصرا إلى الأستاذ اليدومي - وهو شخص أحترمه وأخجل من أدنى إساءة إليه :

أولا: هل فعلا اعترضتَ لدى الرئيس هادي على تعيين الدكتور ياسين نعمان سفيرا في لندن؟ وهل أسَّستَ اعتراضك على ما نُسبَ إليك من كلام مؤدَّاه "أن الرجل انفصالي وأن لبريطانيا مطامع في الجنوب"؟. هذا كلام لم نسمع به من قبلُ، ولأنه صادم للدكتور ياسين شخصيا ولأهله ولحزبه ولملايين اليمنيين الذين يحترمونه ويحبونه فعليك أن تنفي ما نسب إليك أو أن تعتذر إن كنت قد قلته فعلا في لحظة ما من لحظات الضعف الإنساني التي لا تعتري كبار السياسيين فحسب وإنما القديسين والأنبياء أيضا.

ثانيا: هل الدكتور ياسين نعمان هو من أنهى تحالف اللقاء المشترك في خطابه أمام الكونفرنس الحزبي، أم أنه لم يفعل أكثر من تسريب واقعة القتل والدفن؟ إسمح لي أن أكتب مقالا في هذا وأن أهديه لشخصك القدير مع الوعد بالحرص على الموضوعية والابتعاد عن أي إساءة.

رابعا: تعلم أن الأستاذ القدير سعيد شمسان كان أحد كبار الخطباء في الجلسة الافتتاحية لكونفرنس الحزب الاشتراكي. هل تقبل أن يأتي من يقفز على هذه الحقيقة ويتحدث عن تلك الجلسة كما لو كانت محفلا حوثيا ويفعل كل ذلك في معرض الدفاع عنك؟

خامسا: معظم قواعد حزبك في مواقع التواصل الاجتماعي لا يذكرون الدكتور ياسين نعمان بالإسم وإنما يقولون تهكما : " صاحب عبور المضيق"!!! لماذا كل هذه الحساسية من هذا الكتيب؟ علما بأن 99.9% من المتحسسين لم يلمسوه ولم يروه. 

سادسا: علي عبد الله صالح وعلي محسن الأحمر والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وعبد ربه منصور هادي وعبد المجيد الزنداني وعبد الوهاب الآنسي ومحمد اليدومي وآخرون، هؤلاء جميعا كانوا حاضرين كحلفاء في حرب 1994 وهم اليوم أبرز وأهم الحاضرين في الحرب الراهنة كأعداء.. هذه واحدة من أبرز حقائق الراهن اليمني، فلماذا تتحسسون عندما ترد في كتاباتنا وأقوالنا؟ شخصيا لا أرى في ذكرها استجرارا للماضي لأنها حاضر نعيشه بشخوصه وتفاصيله، ثم لماذا تستكثرون علينا الحديث عن هذا الحاضر الذي نقف على جمره ونكتوي بناره بينما أنتم تعيدون إنتاج حروب علي ومعاوية؟

سابعا: الحزب الاشتراكي ليس دكانا لبيع العسل والحبة السوداء حتى يأتي شخص يحسب نفسه عليك ليقول : " إن الدكتور ياسين نعمان سلَّمه لشخص آخر".لا أعتقد أنك تقبل أن يشار إلى الحزب الاشتراكي وإلى أمينه العام الحالي بهذه اللغة المتعالية هبوطا لمجرد أن لقب الأمين العام هو "السقاف"، كما لا أعتقد أن التجمع اليمني للإصلاح قد بيَّت النية لإفراغ صفوفه من أصحاب هذه الألقاب. 

ثامنا: ما هي مصلحتكم في شيطنة الحزب الاشتراكي؟ لماذا أنتم مصرون على ملاحقتنا بتهم الحوثية ؟ في الماضي القريب كنتم تلاحقوننا بتهمة الإلحاد وعندما نزاحمكم في الجوامع تقولون عنا منافقين، واليوم تلاحقوننا بتهمة الحوثية وعندما نقول عنها ما تعجزون أنتم عن قوله تتهموننا بالرياء السياسي، وتفسير ذلك أن بنية وعيكم لم تتغير بعد.ومثلما كنتم تتطيرون من صلواتنا وتتمنون أن نخرج على الناس شاهرين رايات الإلحاد فإنكم اليوم تتطيرون من قراءتنا للظاهرة الحوثية وتتمنون أن نخرج على الناس بالزوامل والبيارق الخضراء. ولاختزال المسافة بينكم وبين ما تريدون قولوا لنا ما هي مصلحتكم من تحويثنا فلربما استطعنا أن نحققها لكم من موقعنا كعلمانيين غير متحزبين لا لعلي ولا لمعاوية وغير مشايعين لا لإيران ولا للسعودية.

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Sat, 07 Oct 2017 18:37:11 +0300
الجذور التاريخية لحصار الهيمنة المركزية http://aleshteraky.com/views/item/13187-الجذور-التاريخية-لحصار-الهيمنة-المركزية http://aleshteraky.com/views/item/13187-الجذور-التاريخية-لحصار-الهيمنة-المركزية

         إن حصار السبعين يوما كان من المنظور الجغرافي حصارا لصنعاء، أما من المنظور السياسي والاجتماعي والثقافي فقد كان حصارا لكل اليمن، ولتعز على وجه الخصوص.وسنحاول في هذه الورقة أن نبين أن تعز التي تحاصر اليوم في تعز هي نفسها تعز التي حوصرت بالأمس في صنعاء.وليس في هذا الحكم أي تحيز مناطقي وإنما هي إرادة المكان الذي جعل من هذه المحافظة وسطا جامعا وهيأها لأدوار وطنية تتجاوز حدودها الإدارية إلى كل اليمن، ونقصد بذلك:

1 – دورها في الصراع بين الجمهوريين والملكيين والانتصار للجمهورية.

2 – دورها في العلاقة بين الشمال والجنوب والإبقاء على وحدة اليمن.

3 – دورها في التنمية وتحديث اقتصاد البلاد وترسيخ ثقافة العمل وضخ الكوادر وأهل المهن والحرف إلى كل اليمن.

4 – دورها الثقافي والتمديني.

5 – دورها في ترسيخ ثقافة الولاء للدولة.

6 – دورها في العمل التعاوني وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات.

         والأهم من هذا كله أن تعز التي يستميت الانقلابيون من أجل جرجرتها إلى صراعهم المناطقي والمذهبي هي التي تكسر هذا البعد المتخلف للصراع رغم ما أصابها من موت ودمار وجروح، ورغم بقع الدم والقيح والصديد التي تملأ أحياءها وقراها. وهي بهذا السلوك مثل الفارس الذي يغشى الوغى ويعفُّ عند المغنم، ويسري على أهلها قول النبي (ص) للأنصار: " تكثرون عند الفزع وتقلِّون عند الطمع".  

          وللكشف عن الجذور التاريخية للهيمنة المركزية – حصار اليوم والأمس - يلزم التمييز تحت مسمى اليمن بين اليمن الحضاري الثقافي، واليمن السياسي.

اليمن الحضاري الثقافي:

         اليمن الحضاري الثقافي هو نتاج تفاعل الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة من العالم المعروفة باليمن.وقد بدأ هذا التفاعل في لحظة ما من التاريخ واستمر حقبا زمنية طويلة ونتج عنه بروز جماعة بشرية اسمها الشعب اليمني.ولهذا الشعب هوية جامعة متعددة الأبعاد برموزها المستقرة في الذاكرة الجمعية لليمنيين.ومن غير الجائز اختزال هذه الهوية في بعد واحد ديني أو مذهبي أو جهوي.واليمن الحضاري الثقافي يندرج في إطار اللامختار لأن اليمنيين ليسوا أحرارا في قبوله أو عدم قبوله.إنه قدرهم الذي لا فكاك منه.وبهذا المعنى يكون اليمن الحضاري الثقافي واحدا غير قابل للتجزئة ولا يعترف بأي حدود سياسية داخل الجغرافيا اليمنية وليس بمقدور الأفراد ولا الجماعات ولا حتى الدول أن ترسم له حدودا نهائية من هذا القبيل.وإذا وجدت مثل هذه الحدود سيقاومها من كل الجهات عاجلا أم آجلا .

اليمن السياسي:

         اليمن السياسي هو التعبير السياسي المجسد في دولة.وعلى هذا الأساس يكون اليمن الحضاري الثقافي هو الأصل وتعبيراته السياسية هي الفرع .والأصل كان واحدا دائما بينما تراوحت تعبيراته السياسية بين الوحدة والتجزئة في كل مراحل التاريخ القديم والوسيط والحديث.

         إن مراوحة اليمن السياسي بين الوحدة والتجزئة كانت دائما نتاجا لصراع العصبيات على السلطة والثروة والنفوذ في بلد ذي جغرافية صعبة لم تكن حينها قادرة على إسناد التاريخ بقدر كاف من الفاعلية التي تحول دون تعدد التعبيرات السياسية.فعندما يكون مستوى التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا يكون هناك في الغالب الأعم تعبير سياسي واحد عن الكيان الحضاري الثقافي الواحد.وأقرب مثال على ذلك مصر التي حُكمتْ دائما بدولة مركزية واحدة وأدى التساند القوي بين تاريخها وجغرافيتها إلى نشوء شعب متجانس نسبيا يعيش في منطقة مستوية على امتداد النيل.وبسبب هذا التجانس غدا من الصعب الحديث في مصر المعاصرة عن هيمنة ذات طابع عصبوي.

         أما في اليمن لم يكن التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا على النحو الذي كانته مصر.ولهذا تعددت في كثير من الأحيان التعبيرات السياسية داخل الكيان الحضاري الثقافي الواحد.ففي الأزمنة القديمة نشأت الدولة اليمنية عن اتحاد تجمعات قبلية عصبوية.وعندما اختلف أصحاب النفوذ فيها تفككت الدولة وتعددت التعبيرات السياسية المتصارعة داخل اليمن الحضاري الثقافي الواحد.وبسبب هذا الصراع غاب الأمن والاستقرار وتراجع الاقتصاد واضمحلت الحضارة.

         وعندما انتصر الإسلام في جزيرة العرب لم يكن اليمنيون مستقرين في ظل تعبير سياسي واحد مجسد في دولة واحدة.وعندما أسلموا كان قاسمهم المشترك الأعظم هو اليمن الحضاري الثقافي الواحد وليس اليمن السياسي المتشظي.فهم أهل اليمن رغم تعدد مسمياتهم وعصبياتهم القبلية من كندة إلى مذحج  إلى همدان وغيرها. 

         وفي زمن الخلافة الراشدة كان اليمن عبارة عن مخاليف على رأس كل منها "عامل" معين من قبل أمير المؤمنين في المدينة المنورة.وقد استمر الحال على ما هو عليه تقريبا زمن الأمويين.وفي زمن العباسيين شكلت جغرافية اليمن الصعبة عامل إغراء للطامحين في الخروج على مركز الخلافة في بغداد.وحينها عاش اليمن عصره الوسيط المعروف بعصر الدويلات التي حكمت متعاقبة أحيانا ومتزامنة متصارعة أحيانا أخرى.وفي هذا العصر ظهرت تعبيرات سياسية جديرة بمسمى الدولة سواء من حيث الامتداد الجغرافي والزمني أو من حيث الانجازات المتحققة على الأرض.وإلى هذه التعبيرات تنتمي دولة الرسوليين ودولة الصليحيين والدولة الزيدية في بعض فتراتها والدولة الطاهرية، مع بعض التفاوت في مساحة النفوذ والسيطرة والامتداد الزمني.

         غير أن أهم ملمح ميز العصر الوسيط هو الصراع بين الدويلات.وهنا يجب أن نلاحظ أن القوة وليست الجغرافيا هي التي كانت ترسم حدود هذه الدويلات وأن الوحدة والانفصال لم تكن من بين الشعارات التي حركت صراعاتها وحروبها.لهذا السبب كانت حدود اليمن السياسي المتعدد متغيرة ومتنقلة داخل فضاء اليمن الحضاري الثقافي الواحد.وكان الشعب اليمني الواحد موزعا كسكان- وليس كشعوب - على الدويلات التي رسمت القوة حدودها.لكن هذه الحدود لم تكن صارمة أو مغلقة أمام حركة السكان وهجراتهم الداخلية وتعايشاتهم المشتركة ولم تكن تهدد انتماءهم العفوي إلى اليمن الحضاري الثقافي.وكان السكان في ظل كل دويلة ينظرون إليها بعيون اليمن السياسي المنقسم وليس بعيون اليمن الحضاري الثقافي الواحد ويحاكمونها من خلال مقولتي العدل والظلم وليس من خلال مقولتي الوحدة والإنفصال. بينما نتعامل نحن اليمنيين المعاصرين مع دول تاريخنا القديم والوسيط كماض لا علاقة له بالصراع على السلطة والثروة في حاضرنا.وهذا يجعلنا- من حيث ندري أو لا ندري- نقف على مسافة واحدة منها ناظرين إليها بعيون اليمن الحضاري الثقافي الواحد وحاكمين عليها من خلال مقولتي الوحدة والتجزئة.فهي دول عظيمة تستحق أن نفرد لها مساحات كبيرة في كتب المطالعة المدرسية إذا قدر لها أن تتمدد داخل كامل فضائنا الحضاري الثقافي بما هو تفاعل كامل الجغرافيا مع كامل التاريخ. وهي مجرد دويلات إذا لم تسعفها قوتها على التمدد.أما إذا ذهبنا نفاضل بين دول ماضينا الوسيط التي قدر لها أن تتمدد داخل كامل فضائنا الحضاري الثقافي منطلقين من مقولات العدل والظلم والانجاز فسوف يكون من الصعب علينا أن نتفق على رأي واحد خاصة إذا كان لتحيزاتها المذهبية حضور في حياتنا الراهنة. وهذا يعني أن اليمن السياسي هو قطب التعدد الذي قد يؤدي إلى الفرقة بينما اليمن الحضاري الثقافي هو قطب الواحدية الذي لا ينفي التعدد.

         واليمن السياسي لا يؤدي إلى الفرقة والتفكك إلا عندما يتمدد داخل الفضاء الحضاري الثقافي الواحد بالقوة الغاشمة ويفرض نفسه ككيان عصبوي متغلب ومهيمن على ما في هذا الفضاء من تعدد.وهذا ما يفسر تفكك وتشرذم الدول اليمنية في التاريخ القديم والوسيط حيث كان التعدد المهمش يتكئ على ضعف التساند بين الجغرافيا والتاريخ ويعمل على تفكيك واحدية الدولة أو تلاشيها لتأتي على أنقاضها دويلات أو دولة أخرى قوية كانت هي أحد عوامل ضعف واضمحلال الأولى.

         وهذه قاعدة شذت عنها الدولة الزيدية التي كانت تتوسع على حساب غيرها وعندما يظهر منافس قوي تنكمش ويتراجع حاملها الاجتماعي السياسي إلى جبال شمال الشمال حيث يجد موطئ قدم دائم يتربص داخله وعندما تأتي فرصة مواتية ينقض ويتمدد.لهذا تعددت نسخ الدولة الزيدية بتعدد الأسر الهاشمية التي حكمت اليمن. وقد تراوحت بين الضمور والظهور حتى 1962. ومن هذه الزاوية نستطيع أن نقرأ حركة الحوثي المسلحة وتحالفها مع المخلوع علي صالح وانقلاب الطرفين على التوافق الوطني وعلى التسوية السياسية ومخرجات الحوار الوطني الشامل.

          آخر تعبير سياسي استطاع أن يتمدد داخل كامل جغرافية اليمن هو الدولة الزيدية في عهد المتوكل على الله إسماعيل ولكن لمدة 42 عاما فقط (1644- 1686).وبعدها تفكك اليمن إلى مشيخات وإمارات وسلطنات في الجنوب وإمامات متصارعة في شمال الشمال بينما مالت مناطق الوسط إلى الاستقرار النسبي في ظل الأعراف التي مكنت الوجهاء المحليين من ممارسة السلطة الاجتماعية في مناطقهم ولم يشذ عن ذلك سوى البيضاء التي أسس فيها آل الرصاص إمارة لهم كان ظهورها أول خروج على دولة المتوكل في عهد خلفه قبل أن تخرج عليه أي من مشيخات وإمارات وسلطنات الجنوب.

         وقد استمر اليمن متشظيا على هذا النحو لأكثر من قرن ونصف قبل أن تحتل بريطانيا عدن عام 1839.وعلى إثرها عادت الخلافة العثمانية إلى اليمن في العام 1849 ولكن فقط إلى شمال البلاد هذه المرة إبتداء من المناطق الساحلية والسهلية. وهنا يجب أن نلاحظ أن العثمانيين استخدموا القوة لفرض حكم مركزي على كامل الشمال لم تخرج عليه إلا المناطق الزيدية بموجب صلح دعان الذي منح الإمام يحي سلطة دينية كانت نوعا من الحكم الذاتي لمناطق شمال الشمال. لكن قادة الجيش العثماني لم يتركوا الشمال بعد الحرب العالمية الأولى إلا وقد ساعدوه على البقاء موحدا تحت سلطة الإمام يحي.

          أبقى الإمام يحي على التقسيم الإداري الذي وضعه العثمانيون لكنه لم يمنح المناطق الشافعية ولو حدا أدنى من الإدارة الذاتية التي كان قد قاتل العثمانيين من أجلها. والأنكأ من كل ذلك أنه أذلها بحروب "الفتوحات" التي لم يكن لها ما يبررها سوى تحويل هذه المناطق إلى مناطق خراجية أسلمت بحد السيف بعد أن اصبح سكانها كفار تأويل حسب فتاوى تلك الحروب. وهي امتداد لفتاوى المتوكل على الله إسماعيل الذي قال إن الله لن يحاسبه على ما أخذه من أموال الشوافع وإنما على ما أبقى لهم.

         قسم الإمام يحي سكان مملكته إلى عدنانيين حاكمين وقحطانيين محكومين. وصنف العدنانيين إلى درجات حسب حظ أسرهم من السلطة والنفوذ في الماضي ومن الثروة والوجاهة في الحاضر. لذلك وجدت القاعدة الكبيرة من العدنانيين نفسها تقف ضد بيت حميد إلى جانب ثورة سبتمبر 1962. أما القحطانيون فقد جرى تصنيفهم إلى زيود محاربين وشوافع مزارعين. وللمحاربين تراتبية هرمية تبدأ بالشيخ ثم القاضي وبعده يأتي الفقيه وتنتهي بالقبيلي. وتحت هؤلاء فئة واسعة من المهمشين الذين يعيشون على خدمتهم. وقد مثلت ثورة سبتمبر 1962 انقلابا على هذا الركود القروسطي وأحدثت حراكا مجتمعيا كبيرا.غير أن عوامل داخلية وخارجية كثيرة تظافرت وكبحت المسار التصاعدي للثورة وحالت بينها وبين تحقيق كامل أهدافها وانتهى الأمر بنظام سياسي عصبوي دخل طرفا في معادلة الوحدة اليمنية سلميا عام 1990 وانقلب عليها عسكريا عام 1994 في حرب لا تختلف في أهدافها وشعاراتها وفتاواها عن "فتوحات" الإمام يحي في المناطق الشافعية لمملكته. والفارق الجوهري الوحيد أن هذه المناطق لم تكن مشروعا سياسيا له تاريخ وله دولة وتطلعات مستقبلية بحجم اليمن كما هو الحال بالنسبة للجنوب. لذلك استسلمت للواقع المفروض عليها كمناطق خراجية بينما تمخض الجنوب عن حراك اجتماعي سياسي واسع رافض لمبدأ الحرب وشعاراتها وفتاواها ونتائجها.

         خلافا للعثمانيين في الشمال فضلت بريطانيا في الجنوب أن تتجنب المزيد من أعمال المقاومة واكتفت بعدن وأقامت اتفاقيات حماية مع مشيخات وإمارات وسلطنات الجنوب الذي لم يصبح دولة واحدة إلا في 30 نوفمبر 1967 أي بعد نحو 286 عاما من تفكك دولة المتوكل على الله إسماعيل. وعلى هذا الأساس اصبحت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية هما آخر تعبيرين سياسيين يتزامنان داخل اليمن الحضاري الثقافي. مع ملاحظة أن الجغرافيا وليست القوة هي التي رسمت الحدود بينهما لأول مرة في تاريخ اليمن. وهذا فعل سياسي غير يمني وإنما عثماني بريطاني كرسه النظام الدولي المعاصر القائم على مبدأ سيادة الدول وأضفى عليه طابعا قانونيا أصبحت معه الوحدة اليمنية مستحيلة بواسطة القوة وإنما على أساس طوعي وبالإرادة الحرة لكل من الدولتين وعلى قاعدة الندية والشراكة بينهما. وإذا كانت دولة الشمال قد عاشت منذ ما بعد أغسطس 1968 على كبح قيام يمن سياسي واحد داخل اليمن الحضاري الثقافي الواحد – باستثناء فترة الرئيس الحمدي - فإن دولة الجنوب هي التي تحملت أعباء الإخلاص لوحدة هذا اليمن وهي التي أوصلت اليمنيين إلى 22 مايو 1990. والوصول إلى هذا اليوم سبقته انجازات ملحمية لا يعي معظم اليمنيين في الشمال حجمها ونوعها وأثرها الإيجابي الكبير على حاضر ومستقبل اليمن. ولو أن هذه الحقيقة كانت مستقرة ومستوعبة في عقولهم وضمائرهم لما كان بمقدور مراكز القوى العصبوية أن تزيف وعيهم بالشعارات الوطنية والدينية وأن تجر البلاد إلى حرب 1994 تحت شعار الدفاع عن الوحدة. وسيسجل التاريخ أن تلك الحرب كانت في مقاصدها وفي نتائجها خيانة عظمى لليمن الحضاري الثقافي وللانجازات الملحمية التي اجترحها شعب الجنوب والحركة الوطنية اليمنية عموما للوصول إلى 22 مايو 1990. وتتمثل هذه الملاحم فيما يلي:

1 – استدعاء الهوية اليمنية للجنوب من ارشيف التاريخ وتخليصها من غبار أزمنة التشظي.

2 - إسقاط مشروع إتحاد الجنوب العربي وتوحيد الجنوب وتثبيت هويته اليمنية.  

3 - بناء دولة الاستقلال على استراتيجية الوحدة اليمنية والنظرة الدونية للتشطير.

         وبسبب إخلاصه لليمن الحضاري الثقافي قوبل النظام السياسي في الجنوب بالكراهية والعداء المبكر حتى قبل أن يعلن عن توجهه الأيديوجي ذي البعد الاشتراكي. فعندما استقل الجنوب في 30 نوفمبر 1967 كان الشمال يعيش حربا أهلية بين الجمهوريين والملكيين وكانت صنعاء محاصرة من كل الجهات. ومع ذلك رفضت العصبيات القبلية الاعتراف بدولة الاستقلال بذريعة أنه ليس من حق الجبهة القومية أن تعلن دولة مستقلة في الجنوب وعلى قحطان الشعبي أن يأتي إلى تعز أو الحديدة ويسلم مفاتيح الجنوب لشيوخ القبائل. وهذا هو المنطق نفسه الذي واجه به الإمام يحي مساعي عبد العزيز الثعالبي حين حاول أن يقنعه بمقترحات سلطان لحج من أجل الوحدة. أما اعتراف دولة الشمال بدولة الاستقلال في الجنوب فقد حسمه رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني لاعتقاده حينها أن صنعاء مرشحة للسقوط في أيدي الملكيين وأن الجنوب سيكون قاعدة الانطلاق لمواصلة الحرب ضدهم ولا يجوز إستعداءه. وكان الإرياني يعلم علم اليقين أن اعتراض شيوخ القبائل على وجود دولة مستقلة في الجنوب ليس بسبب الفائض الوحدوي عندهم وإنما لأن حركة القوميين العرب المكروهة سعوديا هي التي أعلنت هذه الدولة وليس المستوزرون وسلاطين المحميات. ولو أن الاستقلال حصل تحت راية الجنوب العربي الذي تأسست فكرته على استبعاد الهوية اليمنية للجنوب لكان الاعتراف به جاهزا من غير قيد أو شرط. والسبب أن زعماء العصبيات القبلية يفضلون جنوبا متنصلا من يمنيته على جنوب يمني يتطلع إلى وحدة تليق به كمشروع سياسي وطني يهدد بالنتيجة ما يعتبرونه "حقهم التاريخي" في الحكم والهيمنة على كامل الشمال. فالوحدة ليست عملية جمع بسيطة وإنما حدث تاريخي إستثنائي له تفاعلاته التي ستعمل بالضرورة على إعادة توزيع القوة والنفوذ والثروة وستخلق توازنات جديدة بين مناطق البلاد ومكونات المجتمع. والنتيجة المنطقية والحتمية لهذه التفاعلات هي سقوط "الحق التاريخي" المزعوم في الحكم. وهذا أمر يدركه زعماء العصبيات القبلية تمام الإدراك ومنذ وقت مبكر. لذلك وجدوا أنفسهم إزاء الجنوب أمام ثلاثة خيارات نبسطها كما يلي:

1 - رفض مبدأ الوحدة اليمنية صراحة: واعتبارها اختراعا شيطانيا وعملا من أعمال العدوان ضد الجمهورية العربية اليمنية وأمنها واستقرارها. وهذا خيار خاسر لأن الحركة الوطنية اليمنية كانت قد أفلحت منذ وقت مبكر في استدعاء الوحدة من ارشيف التاريخ وأيقظتها في نفوس الجماهير وحولتها إلى حالة عاطفية شعبوية جارفة في الشمال والجنوب. وأي سياسة تصادم هذه الحالة العاطفية محكوم عليها بالسقوط سلفا. لذلك لم يكن أمام زعماء العصبيات سوى تملق هذه العاطفة والمزايدة على الجنوب بشعار الوحدة.

2 - التخلي عن "الحق التاريخي" المزعوم في الحكم لصالح اليمن ووحدته وأمنه واستقراره: وهذا ما لم يتم، ولن يتم طواعية، بدليل انقلاب 21 سبتمبر 2014.

 3 - القضاء على الجنوب كمشروع سياسي وطني يهدد "حقها التاريخي" المزعوم في الحكم: وذلك من خلال تمزيقه لصالح الماضي السلاطيني أو احتلاله بالقوة العسكرية وضمه إلى نظام الشمال. وهذا هو الخيار الذي استقرت عليه وحكم كل تفاصيل علاقاتها بالجنوب.وهذا ما سنبينه من خلال العرض التالي لتاريخ الثورة في الشمال:          

       فرضت ثورة 26 سبتمبر 1962م على اليمن الشمالي حاضرا جمهوريا غير مستقر بسبب الانقسام المجتمعي الكبير حول مشروعية الثورة ضد نظام الإمامة. وقد كان هذا الانقسام في أساس الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين. وفي تلك الظروف كانت تلك الحرب في بعض جوانبها حربا اقليمية بالوكالة بسبب الفرز الحاصل داخل مكونات النظام الإقليمي العربي إلى أنظمة قومية راديكالية مناهضة للاستعمار وأخرى قطرية محافظة تدين في نشأتها وبقائها لهذا الاستعمار.

         وبينما كان الملكيون يشكلون كتلة يمينية واحدة كان الجمهوريون منقسمين إلى يسار ويمين. وكانت القواسم المشتركة بين الملكيين واليمين الجمهوري أكثر من تلك التي بين هذا الأخير واليسار الجمهوري. لذلك كانت هناك معركة مؤجلة بين اليمين واليسار في المعسكر الجمهوري. والذي أجلها هو الوجود المصري في اليمن من ناحية والدعم المالي والعسكري السعودي للملكيين من ناحية أخرى. ومن أجل التسريع بهذه المعركة وضع اليمين الجمهوري خطة مبكرة جعل مفاتيح نجاحها بيد مملكة آل سعود وفتح معها قنوات اتصال مباشرة خارج الأقنية الرسمية وبنى منطقه الاقناعي على النحو التالي:

1 – الوجود المصري في اليمن يهدد أمن المملكة وهو أيضا يهدد مستقبلنا السياسي في وراثة بيت حميد الدين. إذن لنا مصلحة مشتركة مع المملكة في خروج القوات المصرية من اليمن.

2 – كلما طال أمد الوجود المصري في اليمن كلما تضاعفت قوة اليسار الجمهوري وفي صدارته حركة القوميين العرب ذات الروابط الفكرية والسياسية والتنظيمية مع الجبهة القومية في الجنوب. ومن شأن هذا أن يرجح ميزان القوى في صنعاء لصالح اليسار ويمكنه من الاستحواذ على السلطة بشكل نهائي بعد رحيل المصريين. وهذا ليس في صالح المملكة التي ستجد نفسها مهددة بيمن موحد يحكمه القوميون ومحالف لمصر عبد الناصر. إذن لنا مصلحة مشتركة مع المملكة في التخلص من القوميين وحسم مسألة السلطة في صنعاء لصالحنا.

3 – الجيش المصري لن يغادر اليمن إلا إذا انتهت الحرب الأهلية التي تهدد النظام الجمهوري. والحرب لن تنتهي إلا إذا أوقفت المملكة الدعم المالي والعسكري للملكيين وسعت إلى مصالحة وطنية بيننا وبينهم. والمصالحة إذا تمت سترجح ميزان القوى لصالحنا في حسم معركة الاستحواذ على السلطة.

4 – اليسار يرفض فكرة المصالحة مع الملكيين بحجة الخوف على النظام الجمهوري. ونحن نسقط هذه الحجة عندما نشترط أن تكون المصالحة مع الملكيين تحت مظلة الجمهورية والتخلي عن بيت حميد الدين.

5 – رهان المملكة على عودة بيت حميد الدين والإمامة إلى اليمن هو رهان على جواد خاسر. ومن مصلحة المملكة أن تشيد جسور التعاون معنا لتضمن جارا جنوبيا محالفا لها حريصا على أمنها واستقرارها. ثم أنه لن يكون بمقدورنا أن نسير دفة الأمور في البلاد بدون عون المملكة الذي يجب أن يغنينا عن الحاجة إلى غيرها من الأنظمة غير مأمونة الجانب.  

         بهذه الطريقة بدت مملكة آل سعود كمن كان يبحث عن سمكة صغيره فساق الله إليه حوتا كبيرا من حيث لا يحتسب. وبالمقابل اصبح لليمين الجمهوري حليفا اقليميا يعتمد عليه. ثم جاءت هزيمة العرب أمام إسرائيل في يونيو حزيران 1967 لصالح هذا التحالف حيث شرع الجيش المصري في الإنسحاب من اليمن. وفي 5 نوفمبر 1967 نفذ اليمين الجمهوري انقلابا ضد الرئيس عبدالله السلال وشكل مجلسا جمهوريا برئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني. لكن رغم هذا الانقلاب ظل اليسار الجمهوري صاحب الحضور الأقوى في وحدات الجيش والمقاومة الشعبية. لذلك كان لابد من حصار صنعاء.

         حاصر الملكيون صنعاء من كل الجهات. وخلال سبعين يوما من الصمود والمقاومة سقط الحصار. لكن هل كان هدف الحصار أن تعود بيت حميد الدين لحكم اليمن؟ هذا هو الاعتقاد السائد إلى اليوم في كل ما كتب وما يكتب عن ملحمة السبعين يوما. أما نحن فلنا رأي مغاير. في اعتقادنا أن حصار صنعاء كان من أجل استنزاف وإنهاك صاعقة عبد الرقيب عبد الوهاب ومظلات حمود ناجي سعيد ومدفعية علي مثنى جبران ومشاة محمد صالح فرحان، واليسار الجمهوري عموما الذي تحمل العبء الأكبر في الدفاع عن العاصمة وفك حصارها. وكان أيضا من أجل اختبار أهلية اليمين الجمهوري وجاهزيته لمنازلة اليسار. وليس من قبيل المصادفة حصول بعض المواجهات المسلحة بينهما أثناء الحصار، وهي مواجهات غير مبررة بين طرفين يفترض أنهما يخوضان معركة واحدة ضد عدو مشترك مدعوم إقليميا.

         انتهى حصار صنعاء في فبراير 1968. وفي أغسطس من العام نفسه شهدت صنعاء أحداثا دامية إنتهت بهزيمة اليسار وتسريحه من الجيش وتشريده. وجراء هذه الأحداث أصبح الجنوب الرسمي من غير شريك وحدوي في صنعاء. وأصبح التعلق بالوحدة في صنعاء قرينة على شبهة الانتماء إلى اليسار الذي أعاد تنظيم نفسه فيما بعد في إطار الجبهة الوطنية الديمقراطية المدعومة من عدن. ومقابل هزيمة اليسار في أغسطس 1968 حصل اليمين الجمهوري على جائزة المصالحة التدريجية مع الملكيين الذين أصبحوا منذ العام 1970 حاضرين في المجلس الجمهوري ومجلس الشورى والحكومة والسلطة المحلية والقضاء والسلك الدبلوماسي.

         معروف أنه عندما حصل الجنوب على الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 كان الشمال يعيش حربا أهلية حقيقية بين الجمهوريين والملكيين وكانت صنعاء محاصرة من كل الجهات. ومع ذلك كان الاعتراف بدولة مستقلة في الجنوب محل معارضة شديدة من قبل بعض رموز اليمين الجمهوري الذي أنكر على الجبهة القومية هذا الحق. غير أن القاضي الإرياني كان صاحب رأي مغاير رجح أفضلية الاعتراف. وما هو جدير بالإشارة هنا أن اعتراض رموز اليمين الجمهوري على الاعتراف بدولة مستقلة في الجنوب لم يكن بسبب الفائض الوحدوي عندهم وإنما لأن سلطة الدولة المستقلة آلت إلى الجبهة القومية غير المرغوبة سعوديا لا إلى السلاطين والمستوزرين أصحاب اتحاد الجنوب العربي. وموقف اليمين الجمهوري المناوئ للجبهة القومية يعود إلى فترة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني. فاليمين كان يعارض دعمها بالسلاح الأمر الذي جعل هذا الدعم يأخذ طابعا سريا وتحديدا بعد اختلاف الجبهة القومية مع قيادة الجيش المصري في اليمن. والحديث بإطلاق عن الدعم الذي قدمته ثورة 26 سبتمبر لثورة 14 أكتوبر يتستر على هذه الحقيقة. والرموز التي وقفت ضد الدعم بالسلاح واعترضت على الاعتراف هي نفسها التي أشعلت حرب سبتمبر 1972 بين شطري البلاد رغم معارضة القاضي الإرياني للحرب. وإذا كانت تلك الحرب قد آلت إلى توقيع اتفاقية الوحدة بالقاهرة في أكتوبر 1972 فإن محسن العيني دفع بسرعة ثمن التوقيع على تلك الاتفاقية مع علي ناصر محمد، وفيما بعد دفع القاضي الإرياني ثمن الدفاع عنها.

         لقد فقد النظام السياسي في الشمال أهليته الكاملة للوحدة مع الجنوب منذ أحداث أغسطس 1968. فعقب تلك الأحداث أصبحت النخبة السياسية الحاكمة في الجنوب بدون شركاء وحدويين في الشمال الرسمي. ومع إبراهيم الحمدي بدأ الشمال الرسمي يعيد تأهيل نفسه وحدويا على كل المستويات، وفي عهده تلقى تلاميذ المدارس في الشمال والجنوب دروسا موحدة في التاريخ والتربية الوطنية. لكن الحمدي دفع ثمن هذا التوجه وذبح بطريقة باتت معروفة لمعظم اليمنيين. أما أحمد حسين الغشمي فقد كان رئيسا عابرا ريثما يعاد ترتيب أوراق النظام على النحو الذي لا يسمح بتكرار ظاهرة الحمدي. وعندما جاء علي عبد الله صالح إلى السلطة في يوليو 1978 حرص منذ أيامه الأولى في الحكم أن يثبت لمن جاء به أنه لم ولن يكون ابراهيم حمدي آخر. وبما أن الوحدة تحققت في عهد الرئيس صالح فسوف نتناول هذا العهد بقدر أكبر من التفصيل.

         جاء علي صالح إلى السلطة من فراغ سياسي شبه مطلق. فقبل 17 يوليو 1978 لم يكن هذا الرجل يتمتع بأية شعبية- لا داخل النظام ولا خارجه- تجعل منه صاحب حضور حتى من الدرجة العاشرة. وعلى مدى ثلاثة وثلاثين عاما مضت لم يستطع الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي أن يقدم تفسيرا مقنعا للطريق الذي سلكه هذ الرجل من أجل الوصول إلى السلطة. غير أن ملابسات هذا الحدث خرجت بالتدريج إلى دائرة الضوء وتبين أنه وصل إلى رئاسة البلاد بإرادة سعودية قوية لها نفوذ كبير في اليمن الشمالي الذي كان حينها يعيش حالة انكشاف أمني وعسكري وسياسي تام على الرياض (مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر). وقد اتكأ علي صالح على هذه الإرادة في فرض نفسه على مراكز القوى والتأثير، التي لم تكن هي الأخرى متحررة من النفوذ السعودي، أو على الأقل يستحيل عليها أن تضمن استقرار النظام وربما بقاءه، من غير دعم الرياض. ولهذا تعاملت مع رئاسة علي عبد الله صالح كأمر واقع وتركت للزمن أن يحدد نوع علاقاتها المستقبلية معه.

        ومن جانبه لم يكن علي صالح حينها يحوز على الخبرة والمعرفة التي تؤهله لإدارة شئون الدولة. كما لم يكن صاحب مشروع يبرر وصوله إلى السلطة ويؤسس عليه شرعية انجاز تضفي المقبولية الشعبية على نظامه. فالسلطة بالنسبة له كانت طموحا شخصيا، وغاية مطلوبة لذلتها. وكان تفكيره منذ البداية منصبا على تأمين بقائه من غير تهديد. وهاتان نقطتا ضعف مفصليتان حتمتا عليه منذ بداية عهده بالحكم أن يسترضي مراكز القوى وأهل النفوذ والتأثير ومجموعات الحكم عموما، فأرسى العلاقة بينه وبين هؤلاء على مبدأ توافقي مضمر قائم على اعتبار الدولة "غنيمة مشتركة لمراكز القوى في النظام".

        والجدير بالملاحظة هنا أن مجيئ علي صالح المفاجئ إلى السلطة لم يكن انقلابا على النظام السياسي وإنما كان للمحافظة عليه بأركانه وشخوصه وتوجهاته السياسية والأيديولوجية وتحالفاته الإقليمية والدولية. فهو جاء ليكون شريكا لآخرين مؤتمنا من الدولة الراعية لا كبديل لغيره. ولهذا لم يأت بطاقم خاص به وإنما اعتمد في إدارة البلاد على الطبقة السياسية نفسها التي سبقته في الحضور السياسي والجماهيري وتحقيق المكانة. فهو طارئ عليها وبحاجة إلى خبراتها وإلى شعبيتها، ولم يكن واردا من الناحية الموضوعية حينها أن يدخل مع أي من مراكز القوى في خلافات لا يستطيع أن يبررها في ضوء توجهات النظام وثوابته. ومن بديهيات الأشياء أن يقدم نفسه لها كشريك حقيقي. وقد عبر عن شراكته مع الجميع من خلال القبول بما يريدون- في إطار التوجه العام للنظام داخليا وخارجيا- ليقبل الجميع ايضا بما يريد الرئيس في إطار التوجه نفسه. وعلى قاعدة هذا التفاهم اصبحت الدولة غنيمة لأطراف وشركاء النظام السياسي، وجميعهم معني بدوامها والحفاظ عليها كمصلحة مشتركة أسست لتحالف وثيق فيما بينهم. وأصبح علي صالح قطب الرحى في هذا التحالف وقاسمه المشترك. فهو يقبل القسمة على الجميع والجميع لا يقبل القسمة إلا عليه. وقد تشكل هذا التحالف من خمس دوائر هي: دائرة كبار قادة الجيش، ودائرة كبار شيوخ القبائل، ودائرة كبار رجال الدين، ودائرة كبار السياسيين وممثلي البيروقراطية في الجهاز المدني للدولة، ثم دائرة بعض كبار رجال المال والأعمال، وبخاصة أولئك الذين راكموا ثروات بطرق غير مشروعة.

         وبينما كان الكل داخل النظام يفعل ما يريد في حدود الدور الموكل إليه إنصرف علي صالح لبناء المتاريس الاستخباراتية والأمنية والعسكرية، لتحصين مؤسسة الرئاسة وتعزيز دورها في إطار النظام السياسي. وقد بنى تلك المتاريس ابتداء على قاعدة الشراكة بين نخب النظام العسكرية والقبلية. ولم يكن الرئيس حينها سوى رمز هذه الشراكة وراعيها المؤتمن المقبول من أركان النظام في الداخل ومن الدولة الراعية في الإقليم.

        وقد ترتب على هذا النوع من الشراكة المغلقة على أطراف النظام، ولأول مرة، أن أصبح للفساد دولة في اليمن، وتحول نافذوها إلى فاسدين يتمتعون بسلطات مادية ومعنوية واسعة لا رقيب عليها، تهمش، وتقصي، وتقمع، كل من لا يرضى عنها، أو يعارضها بأي شكل من الأشكال. وكانت المزاوجة والخلط بين السلطة والثروة من أبرز مظاهر دولة الفساد حيث ميزت طبقات الحكم نفسها بنمط حياة إستهلاكي ترفي يفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية. وفي سياق المواجهة الأيديولوجية بين صنعاء وعدن جرى تسويق هذا النمط وتبريره على أنه من سمات وأفضليات النظام الرأسمالي في مواجهة النظام الإشتراكي. وبذلك تم تحصين الفساد، أيديولوجيا وسياسيا، ضد أي نقد، من داخل أو من خارج النظام، فتحول إلى ثقافة جرى تعميمها على مختلف مستويات الجهاز الإداري للدولة، فشاعت فيه ظاهرة المحسوبية والرشوة والمداخيل غير المشروعة التي دمرت منظومة قيم المجتمع. وأصبح المحذور الوحيد الذي يخشاه الموظف الرسمي ويرتعد منه هو الافصاح عن أي رأي سياسي مغاير قد يضعه تحت مجهر شبكة الأجهزة الأمنية التي أحكمت قبضتها على الخدمة المدنية والقضاء والسلك الدبلوماسي، وتحكمت بمصائر الناس، وأشاعت ثقافة الخوف والرعب داخل أجهزة الدولة العسكرية والمدنية وفي المجتمع.

        وبسبب ثقافة الخوف هذه تأسست شروط موضوعية للنفاق السياسي، فتكاثر المنافقون الذين وجدوا في تملق رئيس الدولة والتغني ب"مواهبه" و"مناقبه" أقصر الطرق وأسهلها للاندماج في النظام وتحقيق مكاسب مادية ومعنوية كل حسب حجم ونوع الخدمة التي يقدمها للرئيس ونظامه. وكانت التنمية هي الخاسر الأكبر جراء النهج الذي سار عليه علي صالح في إدارة البلاد. فمعظم الموارد ذهبت لصالح تحصين النظام ورفاه نخبه وإثرائها على حساب التوسع الكمي والنوعي في البنى التحتية اللازمة لإحداث تنمية حقيقية وشاملة.

        وعندما أطل عام 1990 كان نظام علي صالح قد انتج شبكة مصالح واسعة وتحالفات متداخلة جعلت النظام السياسي في الشمال غير مؤهل، لا لوحدة إندماجية، ولا لوحدة فيدرالية، ولا لأي مستوى من مستويات الديمقراطية. وقد شكلت تلك المصالح والتحالفات بسياجاتها الأمنية والعسكرية والسياسية والأيديولوجية والإدارية والقبلية حقل ألغام حقيقي تفجر بسرعة في طريق وحدة 22 مايو 1990 السلمية وديمقراطيتها وقاد البلاد إلى حرب صيف 1994. وبسبب تلك الحرب ونتائجها نشأت القضية الجنوبية كأحد مكونات المشهد السياسي المعقد في اليمن اليوم.

        هذه إذن فترة حكم علي صالح زمن الجمهورية العربية اليمنية. الزمن الذي تأسس على تحالف خمس دوائر كل منها كان  جزءا من بنية النظام السياسي لدولة الشمال. وكانت سلطة هذا التحالف مستحوذة على كل هياكل وفضاءات الدولة ابتداء من الجيش والأمن والقضاء والسلك الدبلوماسي، مرورا بالخدمة المدنية والجهاز الإداري، وانتهاء بالإعلام والتعليم المدرسي والجامعي وحتى دور العبادة. مايعني أن الدولة الوطنية المفترضة ممثلة بالجمهورية العربية اليمنية كانت نظاما سياسيا لأطراف هذا التحالف، ولم تكن دولة لكل أبناء الشمال. ولأن علي صالح كان شديد الاخلاص لنظام الجمهورية العربية اليمنية بتحالفاته المذكورة فقد اعتبرنا الفترة الممتدة من يوليو 1978 وحتى مايو 1990 فترة شهر العسل بالنسبة لأطراف هذا التحالف وأطلقنا عليها إسم "الصيغة الأفقية" لنظام علي صالح في مقابل "الصيغة العمودية" التي بدأت بعد حرب 1994. ومن أجل اكتمال صورة هذا النظام سنتحدث أيضا عن صيغته الثانية التي بدونها لا نستطيع أن نفسر أسباب تصدعه أثناء ثورة فبراير 2011.

        في 22 مايو 1990 توحدت دولة الشمال (الجمهورية العربية اليمنية) ودولة الجنوب (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) سلميا في إطار الجمهورية اليمنية. وكانت الديمقراطية لصيقة بالوحدة ومرادفة لها. فالديمقراطية لم تكن ممكنة بدون الوحدة. والوحدة لا تستطيع أن تصمد في حال التخلي عن الديمقراطية. وأية تشوهات تصيب الديمقراطية، تلقي بظلالها الكثيفة على الوحدة. ومع الوحدة اصبح علي صالح رئيسا لمجلس رئاسة الدولة الجديدة. وكشريك في توحيد شطري اليمن إكتسب علي صالح شعبية كبيرة في أوساط الجماهير. وعلى المستوى الرسمي لم يكن هناك ما يهدد بقاءه في السلطة، فقد كان مقبولا من قبل شركائه القدامى في دولة الشمال، ومن الشريك الجديد القادم من عدن، وكان هذا يؤهله لأن يكون شخصية جامعة توفق بين كل الأطراف وتعزز عوامل الثقة فيما بينها لصالح الوحدة والديمقراطية. لكن الرجل لم يقرأ اللحظة التاريخية التي شكلتها الوحدة على هذا النحو. فقد رأى في الديمقراطية خطرا عليه وتعامل معها تعاملا تكتيكيا، وأخذ منها فقط ما يعزز مركزه ويقوي تحالفاته القديمة في إطار الصيغة الأفقية، للاجهاز على شريك الوحدة القادم من عدن. ولم يكن في هذه اللحظة قد ادرك أن الديمقراطية ستحرره من الحاجة إلى التحالفات القديمة وستعفيه من منة أطرافها عليه.

        وبعد انتخابات أبريل النيابية عام 1993 بدا له أن الديمقراطية كانت عليه أكثر مما كانت له. فالحزب الإشتراكي الذي قاسمه مجد الوحدة اصبح يقاسمه مجد الديمقراطية وسيقاسمه مجد التنمية والنهوض باليمن في ظل استقرار مفترض بفضل الوحدة والديمقراطية. وهذا يعني أن هذا الحزب سيتمكن من تصحيح الصورة الذهنية التي ألصقها خصومه به في سنوات الصراع بين شطري البلاد وسيستأنف حياة جديدة في ظل الوحدة والديمقراطية (مذكرات الشيخ عبد الله). وبدا لعلي صالح أن كل ذلك سيكون على حسابه وخصما من رصيده الشخصي. لذلك بنى سياسته تجاه الحزب الإشتراكي منذ الأيام الأولى للوحدة على استدعاء الموروث التاريخي للصراع بين الشطرين، وذهب يغذي الحساسيات الأيديولوجية القديمة ويخلط الأوراق، ويحدث الوقيعة بين كل الأطراف. وترتب على كل ذلك أزمة سياسية لم تخل من أعمال عنف طالت العشرات من كوادر الحزب الإشتراكي.وبعد انتخابات أبريل 1993 النيابية دفع علي صالح البلاد بسرعة قياسية نحو حرب صيف 1994 التي خاضها تحت شعار الدفاع عن الوحدة.

        ولأن العبرة في السياسة هي في النتائج وليس في المقدمات، فقد تبين فيما بعد أن اهداف علي صالح من وراء حرب 1994 كانت شخصية، وأن الانتصار العسكري الذي تحقق تحول إلى هزيمة سياسية لكل اليمنيين في الشمال وفي الجنوب. فالتشطير انتقل من الجغرافيا إلى النفوس.بينما أصيبت الديمقراطية الجنينية بالشلل التام، واصبح التداول السلمي للسلطة مجرد شعار لا أساس له في الواقع.

        بعد حرب 1994 انفتح أمام علي صالح فضاء ديمغرافي جديد في الجنوب أكسبه مصادر قوة جديدة أتاحت له الاستقلالية عن حلفائه التقليديين في إطار الصيغة الأفقية للزمن الأول والتحول إلى صيغة عمودية خالصة له ولعائلته ومسنودة بتحالفات بديلة من ابتكاره تدين له بالولاء مقابل ادماجها في النظام وما يحققه لها ذلك من امتيازات مادية ومعنوية. وشيئا فشيئا بدأ يحس أنه بتحالفاته الجديدة يستطيع أن يضعف أو يهمش أو يقصي أو يتخلص من شركاء الأمس الذين ناصروه منذ بداية عهده. وبالتوازي مع هذا النهج الجديد تجاه شركاء الأمس بدأ يكشف عن تطلعاته الشخصية لتوريث الحكم عبر الديمقراطية التي اختزلها في صندوق الاقتراع بعد أن إعتقله ووضعه تحت الإقامة الجبرية.

        وبواسطة صندوق الاقتراع المعتقل حقق علي صالح أغلبية برلمانية مريحة عام 1997، وأعاد انتاجها عام 2003. وأصبح الصندوق شعارا يحاكي شعار "الوحدة أو الموت". وبواسطة هذين الشعارين قدم علي صالح نفسه على أنه صاحب الريادة في الوحدة والديمقراطية، وكأنهما منة منه على الشعب اليمني. وبعد أن نجح في اختزال الديمقراطية في الصندوق، ذهب يرسخ قناعة لدى الرأي العام بأن هذا الصندوق هو الحكم في تقرير من يحكم اليمن، وأن نجله أحمد مواطن يمني ومن حقه أن يصبح رئيسا لليمن إذا اختاره الشعب عبر الصندوق. مع أن علي صالح يدرك أكثر من غيره أن صندوق الإقتراع ليس إلا قميص عثمان الذي من خلاله يكتسب الشرعية الشكلية ثم يكسبها لمن يشاء من الأقارب والأعوان والأزلام الذين يحققون له مشروعه الشخصي.

        لقد انقلب علي صالح أولا على الحزب الإشتراكي وأخرجه بواسطة الحرب من الشراكة في دولة الوحدة وحوله إلى حزب محظور من الناحية العملية. ثم استثمر نتائج الحرب للانقلاب على شركاء الصيغة الأفقية لصالح صيغة عمودية معدلة، ومارس انقلابه هذا بشكل تدريجي كعملية قامت على التصفية الجسدية لبعض رموز التحالف القديم على ذمة حوادث مؤسفة، وعلى تشويه صورة البعض الآخر داخليا وخارجيا وتحميله وحده كل أوزار نظامه السياسي ليتقمص هو دور الحاكم الذي كان فيما مضى مغلوبا على أمره. وقد أدرك حزب التجمع اليمني للإصلاح أبعاد هذا الإنقلاب مبكرا وانسحب من الشراكة في السلطة على نحو هادئ وعقلاني وأصبح أكبر حزب معارض في إطار تحالف اللقاء المشترك. ومن باب الإنصاف كان انسحاب هذا الحزب من السلطة مساحة ضوء في ليل حالك الظلام.

         لقد انقلب علي صالح إذن على أطراف التحالف القديم – أي على شركائه في الجمهورية العربية اليمنية- لا من أجل مشروع وطني كبير، وإنما من أجل مشروع عائلي صغير.إنقلب على الصيغة الأفقية، لا لصالح صيغة أفقية أوسع، وإنما لصالح صيغة عمودية لا تتسع إلا له ولعائلته.

         وعندما شرع علي صالح في إقامة هياكل دولته العائلية كان من الناحية العملية يؤسس- ويعلم أنه يؤسس- لشروط أزمة عميقة في البلاد. فأطراف التحالف القديم لن تقبل أبدا بدولة عائلية وستقاوم هذا المشروع. وتحسبا لأي مقاومة أو ممانعة أخذ صالح ينفق موارد البلاد لرفع جاهزيته السياسية والعسكرية. وشيئا فشيئا تضاعفت ثقته بالقدرة على هزيمة خصوم دولة العائلة في مربع السياسة أو في مربعات الحرب إذا احتاجت السياسة إلى مساندة البنادق والمدافع. وكان بحاجة فقط إلى انتخابات برلمانية يجريها بشروطه لتجديد شرعية أغلبيته المريحة التي ستقلع عداد الرئاسة ليفعل هو بعد ذلك ما يريد.

        كانت احزاب المعارضة في إطار اللقاء المشترك مدركة لمضامين هذا المخطط. ومن أجل المشاركة في الإنتخابات اشترطت أولا إصلاح النظام السياسي وإصلاح المنظومة الانتخابية عبر حوار وطني يشمل كل الأطراف الفاعلة- بما في ذلك الحراك الجنوبي ومعارضة الخارج والحوثيين- ويناقش كل القضايا وعلى رأسها القضية الجنوبية وقضية صعدة. وبعد أن فشل صالح في اختزال أطراف الحوار بالأحزاب الممثلة في مجلس النواب وقع مع احزاب المشترك على اتفاق فبراير 2009 الذي مدد للبرلمان سنتين اضافيتين تتاح خلالهما الفرصة لإجراء الحوار الوطني الشامل والتوافق على الإصلاحات المطلوبة.

        أمضى علي صالح هاتين السنتين في المناورات القاتلة للوقت. وفي النهاية رمى باتفاق فبراير عرض الحائط وذهب يحضر للانتخابات البرلمانية بشروطه ليفرض على أحزاب المشترك سياسة الأمر الواقع بحجة أن الانتخابات استحقاق دستوري للشعب اليمني ويجب أن تجري في موعدها وأنه لن يضيع الوقت في حوار الطرشان كما قال، وأشاع في كل مكان أن أحزاب المشترك ضعيفة وتخشى الاحتكام إلى الشعب أمام صناديق الإقترع.

        قررت أحزاب المشترك أن تقاطع الانتخابات وذهبت إلى جماهيرها في كل مكان تشرح الأسباب وتكشف عن مخطط التمديد والتأبيد والتوريث الذي يريد علي صالح أن يمرره على الشعب اليمني بواسطة إنتخابات انفرادية ينافس فيها حزبه حزبه. وأوضحت أن علي صالح لا يريد إنتخابات نزيهة وشفافة ومتكافئة تحل مشاكل البلاد، وكل ما يريده هو إنتخابات تمنحه شرعية شكلية لتمرير مشروع التوريث.

        أعلن علي صالح أن مقاطعة الانتخابات انتحار سياسي محتوم لأحزاب المشترك وتحديدا للتجمع اليمني للإصلاح باعتباره الحزب الأقوى في الائتلاف المعارض. وكان هذا تهديدا مبطنا بأن الإخوان المسلمين سيلقون المصير نفسه الذي لقيه الإشتراكيون والناصريون من قبل. وفي هذا التهديد كان علي صالح يعول على المسافة الطويلة التي قطعها قطار دولته العائلية عسكريا وأمنيا معتقدا أن الإخوان المسلمين هم العقبة الأخيرة التي يجب الاجهاز عليها كي يتمكن القطار من مواصلة السير فوق قضبان آمنة. أما ما تبقى من الهياكل العسكرية للصيغة الأفقية فليس أمامها إلا أن ترفع الراية البيضاء أو أن تسحق تحت طائلة الانشقاق والتمرد على الشرعية.

        هكذا خطط علي صالح. غير أن متغير ثورة فبراير فاجأه من حيث لا يحتسب وأربك كل حساباته الأمنية والعسكرية فألفى نفسه أمام شعب أعزل قرر أن يطرد صانع الأزمات سلميا وأن يسقط نظامه من غير عنف. وهذه لعبة جديدة لم يتوقعها، وبقواعد جديدة لم تكن واردة في حساباته المتكيفة على اللعب في مربعات الحرب.وخلال أشهر الثورة استخدم علي صالح كل ما تبقى لديه من أوراق وأولها ورقة العنف، وورقة العقاب الجماعي للشعب اليمني من خلال افتعال أزمة الوقود والكهرباء، لكنه لم يستطع أن يتجنب السقوط السياسي الذي بدأ بتجريده من كل صلاحياته ونقلها إلى نائبه وفقا للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.

        والنجاح الذي استطاع علي صالح أن يحققه تمثل في اختزال ثورة فبراير إلى أزمة سياسية بين الصيغتين الأفقية والعمودية، وهذا واضح من خلال التسوية التي اقترحتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي وقع عليها بعد أن الفى نفسه محاصرا بإرادة اقليمية ودولية تلح على توقيعه ومغادرته للحياة السياسية باعتباره أصل المشكلة وسبب رئيس في عدم الإستقرار.

         اعتقد علي صالح أن توقيعه على المبادرة الخليجية خطوة إلى الخلف مقابل خطوات إلى الأمام تعيده إلى السلطة، ومن أجل ذلك ذهب يستدعي أحلام وحروب الدولة الزيدية منذ حروب الإمام الهادي لقبائل يام وإحراق نخيلها وردم آبارها، وحتى حرب بيت حميد الدين ضد ثورة سبتمبر والنظام الجمهوري وحصارها لصنعاء، دون أن يدرك أنه يلعب في زمن متغير وأن عبد الرقيب عبد الوهاب أصبح ظاهرة جماعية في كل اليمن، وأن صاعقته غدت ظاهرة شعبية في كل البلاد.ومما يؤسف له أن المركزية التي أسستها حروب الهيمنة والإخضاع على مدى قرون رفضت أن تغادر حياتنا السياسية على قاعدة الحوار السياسي والتوافق الوطني وأبت إلا أن تغرق البلاد بالدم.

قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة

@aleshterakiNet

 

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Thu, 09 Feb 2017 17:24:44 +0300
الديمقراطية من مدخل العلاقة بين السياسة والدولة http://aleshteraky.com/views/item/12162-الديمقراطية-من-مدخل-العلاقة-بين-السياسة-والدولة http://aleshteraky.com/views/item/12162-الديمقراطية-من-مدخل-العلاقة-بين-السياسة-والدولة

         من بين أبرز سمات السياسة أنها ذات طبيعة متحركة ومتنقلة ومتغيرة، وهذا عائد إلى انبثاقها عن المجتمع وليس عن الدولة.فالمجتمع هو الذي يطرح الاحتياجات والمطالب المتعلقة بكافة مناحي حياته، ونخبه تنصت إلى نبضه وتتلقف احتياجاته وتحولها إلى برامج سياسية مطلبية على الدولة أن تضمنها وأن تجعلها متاحة للأفراد والجماعات.ولأن احتياجات المجتمع متجددة لا تتوقف عند مستوى معين فإن السياسة تبعا لذلك لا تعرف الثبات وإنما هي في حالة حركة دائمة.

         وعلى عكس السياسة اتسمت الدولة منذ انبثاقها في التاريخ بنزعة محافظة تتشبث بالثبات وتقاوم التغيير، وهذا بسبب طبيعتها كبنيان يسعى إلى القوة والوحدة، ويشكل القانون والنظام والسلطة خصائصه المميزة، فضلا عن الامتيازات المادية والمعنوية التي يتيحها الاستحواذ على سلطة الدولة في مستوياتها المختلفة.

         والنزعة المحافظة صفة ملازمة أيضا لكل دولة معاصرة لا تعرف الديمقراطية، أو أنها تدعيها ادعاء دون أي تحول حقيقي يدل على مصداقيتها. والملاحظ على هذه الدول أنها ورثت النزعة المحافظة عن الدولة القديمة وتقاليدها، بينما الهياكل التي ترتديها،  كالدستور والبرلمان والأحزاب والانتخابات، منقولة عن الدولة الحديثة في الغرب المعاصر.والموروث في هذا النوع من الدول هو الذي يمثل جوهرها، بينما يمثل المنقول مظهرها الخارجي.ولأن الجوهر والمظهر ليسا من جنس واحد فإن التوتر بين الدولة والسياسة يأخذ شكل التوتر بين الجوهر القديم والمظهر الحديث، حيث ينزع كل منهما إلى شد الآخر إليه وتكييفه لصالحه في عملية صراعية تنتهي بتحديث الجوهر وانتصار الديمقراطية أو بمزيد من القيود على الديمقراطية الشكلية، وربما الإطاحة بها وبهياكلها المنقولة، وهذا يتوقف على عوامل كثيرة أحدها ميزان القوى على المستوى الاجتماعي العام.

         وتاريخ العلاقة بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة كان دائما تاريخا صراعيا يبدأ مستتراً لينتهي ظاهراً، وما الثورات العنيفة إلا من أبرز نتائج هذا الصراع.والثورة إما أن تفشل في الإطاحة بالطبقة الحاكمة وإما أن يحالفها النجاح.في الحالة الأولى يُلاحق الثوار كمجرمين خرجوا على النظام العام وأقلقوا سكينة المجتمع ويُعلق قادتهم على أعواد المشانق. وفي الحالة الثانية تُعلق أقواس النصر احتفاء بالثورة ويعامل الثوار كأبطال وأصحاب شرعية ثورية تمنح قادتهم حق الجلوس على سدة الحكم بسلام آمنين لفترة من الزمن تقصر أو تطول.

         ولأن السياسة ذات طبيعة متغيرة ومتحركة فإن نجاح الثورة في تحقيق بعض المنجزات ليس نهاية التاريخ. فمع الوقت تتجدد حاجات المجتمع وتزداد مطالبه وتظهر نخب جديدة تتبنى هذه المطالب وتصوغها في برامج تقابلها نخبة الحكم بالرفض، الأمر الذي ينتج احتقانات تتراكم تدريجيا لتفضي في نهاية المطاف إلى نشوء مناخ ثوري وقيام ثورة جديدة.

         وهكذا يصبح تاريخ التوتر بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة تاريخا للدوران العنيف داخل عجلة مفرغة.والسبب أن الثورة في كل مرة لم تفعل شيئا أكثر من الإطاحة بنخبة الحكم القديمة والإتيان بنخبة جديدة تحل محلها.ودولة هذا هو حالها هي بالضرورة دولة غير تنموية لأن النخب التي تحكم تكرس كل الإمكانيات المتاحة في البلاد للبقاء في الحكم، وتلك التي تعارض تهدر وقتها وجهدها ومالها في التآمر على التي تحكم، وقد تأتي لحظة الصدام العنيف على تدمير ما قد تحقق من منجزات.والحداثة السياسية هي التي عالجت هذه الإشكالية بنجاح وأنهت التوتر القائم بين الدولة والسياسة بإنتاج الدولة الحديثة التي نراها اليوم في الغرب المعاصر واليابان وكثير من البلدان التي طالت الحداثة السياسية دولها.فكيف تم ذلك؟

 أولا: أعادت الحداثة بناء وعي الإنسان بالدولة وقررت بشأنها ما يلي:

1 -  الدولة جهاز لا يعمل بذاته، شأنها شأن أي آلة لا تعمل من تلقاء نفسها وتحتاج إلى من يقوم بتشغيلها، كالسيارة مثلا.

2 – بما أن الدولة لا تعمل بذاتها فهي بالضرورة  محايدة ومستقلة في ذاتها، مثلها مثل أي آلة.

3 - حياد الدولة واستقلالها لا يكون لذاتها وإنما للمجتمع ومن أجله.

4 - مدى تأثير المجتمع على الدولة هو الذي يسلبها حيادها واستقلالها أو يبقي عليهما.

5 – تأثير المجتمع على الدولة يتم من خلال النظام السياسي الذي أنتجه لتشغيلها.

6 – النظام السياسي عندما يقوم بتشغيل الدولة يصبح جزءا منها، تماما مثل السائق عندما يصبح جزءا من السيارة أثناء سياقته لها.

7 – النظام السياسي غير محايد، فهو قد يبقي على حياد الدولة واستقلالها، وقد يصادرها ويصادر معها المجتمع.

ثانيا: اتجهت الحداثة السياسية إلى إنهاء التوتر القائم بين الدولة والسياسة بأن أدخلت تعديلات جوهرية على بنيان الدولة مسَّت على وجه التحديد النظام السياسي الذي خضع لإصلاحات جعلته متسقا مع حياد الدولة واستقلالها، وعندما حدث هذا  أصبحت الدولة مرنة ومنفتحة ومستجيبة دائما لحاجات المجتمع المتجددة.

ثالثا: ذهبت الحداثة السياسية في إصلاح النظام السياسي إلى عقلنة السياسة من خلال المزاوجة التي لا تنفصم بين العلمانية والديمقراطية، إذ لا ديمقراطية بلا علمانية، ولا علمانية بغير ديمقراطية.فبالعلمنة الملتحمة بالديمقراطية أمكن تحويل الدولة من مجال خاص بنخب الحكم والسيطرة إلى مجال عام لكل مواطنيها.وحيث لا تكون الدولة مجالا عاما تكون السياسة غير عقلانية، بينما تتعذر الممارسة الديمقراطية الحقيقية حين تتلاشى الحدود بين المجال العام والمجالات الخاصة وتستحوذ السلطة على الدولة.

         والمجال العام للدولة يمتد في مساحة واسعة تشمل منظومات الجيش والأمن والقضاء والجهاز البيروقراطي للدولة والتعليم المدرسي والجامعي وكل ما يصنف على أنه من أجهزة الدولة ومؤسساتها.وفي مقابل المجال العام هناك مجالات تصنف بالنسبة له كمجالات خاصة تشمل المواطن الفرد والأسرة والعشيرة والقبيلة والأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات المهنية ومنظمات المجتمع المدني وكذلك المؤسسة الدينية ودور العبادة.ومثلما يجب أن يتمتع المجال العام بمنظومة حمائية قوية ضد أي محاولة لاختراقه من قبل هذا المجال الخاص أو ذاك، فإن المجالات الخاصة يجب أن تكون هي الأخرى محمية من تغول الدولة عليها، ومن تدخل بعضها في شئون البعض الآخر.والفصل الدستوري والقانوني بين المجال العام والمجالات الخاصة هو الأساس المادي الذي بدونه يستحيل تشييد بنيان الديمقراطية. ولكن من يدير المجال العام؟ وكيف يدار؟

          سياسيا يدار المجال العام بآليات الديمقراطية التي تؤمِّن التداول السلمي للسلطة، وإداريا يدار بواسطة جهاز بيروقراطي محترف ومحايد سياسيا.وحياد الجهاز البيروقراطي للدولة لا يعني حياد الموظفين العموميين وإنما حياد الوظيفة العامة وضمان عدم تأثرها بتحيزات الموظفين العموميين.وهناك منظومة قضائية نزيهة وفعالة لحماية المجال العام والمجالات الخاصة وتشمل كل أنواع القضاء العادي، والإداري، والدستوري.

         وللديمقراطية أبعاد معرفية تفسر وتبرر آلياتها وهياكلها، وبغير التعرف عليها واستيعابها في الثقافة السياسية لأفراد المجتمع وأحزابه وتنظيماته المختلفة يتعذر انتصار الديمقراطية، وإذا انتصرت تكون هشة وعرضة للنكوص عنها.وفيما يلي عرضا مؤجزا لهذه الأبعاد:

1 -  الإجماع السياسي أمر مستحيل حتى في أكثر المجتمعات تجانسا من النواحي الثقافية والدينية والعرقية والإثنية.وحتى لا يتسبب غياب هذا الإجماع في حدوث العنف يجب التوافق على آلية عادلة وناجعة لإدارة الاختلافات بين مختلف الاتجاهات السياسية في المجتمع الواحد وتحويل أصحابها من فرقاء إلى شركاء.وهذه الآلية هي الديمقراطية التي لا ترى المشكلة في التعدد والتنوع وإنما في إنكار وجوده وعدم الاعتراف به.فالديمقراطية إذن ليست عقيدة وإنما منظومة من الإجراءات الضرورية لإدارة التنوع والتعدد الذي لا يخلو منه أي مجتمع.

2 - حاضر أي مجتمع هو دائما امتداد لماضٍ مضى وبداية لمستقبل آتٍ، وهو لهذا السبب ساحة تماس بين معسكرين كبيرين هما معسكر قوى المحافظة المشدود إلى الماضي، ومعسكر قوى التقدم المشدود إلى المستقبل.ولأن هذين المعسكرين ينتميان إلى شعب واحد في بلد واحد فمن غير الجائز أبدا الفصل بينهما بحدود صارمة وكأنهما أُمَّتان متباينتان يحكمهما قانون التنازع والاستبعاد.والحقيقة أنهما معسكران لأمة واحدة يجب أن يحتكما إلى قانون التعايش والقبول المتبادل القائم على الاعتراف بالمشتركات وتغليبها على التباينات، وذلك لأن معسكر المحافظة المشدود إلى الماضي لا يخلو من تطلعات مستقبلية، ومعسكر قوى التقدم المشدود إلى المستقبل ليس متحررا تماما من تأثيرات الماضي عليه.فالإنشداد في الحالتين هو انشداد نسبي وليس مطلقا، فضلا عن أنه انشداد متفاوت في مستوياته ودرجاته حتى داخل المعسكر الواحد.وبسبب هذا التفاوت جاء فرز قوى المحافظة إلى (يمين، ويمين اليمين، ووسط اليمين، ويسار اليمين)، مثلما تم فرز قوى التقدم إلى (يسار، ويسار اليسار، ووسط اليسار، ويمين اليسار).وعندما تكون الدولة مجالا عاما لكل مواطنيها وغير متغولة على المجالات الخاصة فإن هذا الفرز يعبر عن نفسه تلقائيا متحررا من أي خوف أو نفاق سياسي أو اجتماعي ويمكن التعرف عليه وقياسه بواسطة الاستبيانات واستطلاعات الرأي حول أي قضية خلافية ذات بعد ثقافي واجتماعي.وفي هذه الحالة يمكن ليسار اليمين أن يتقاطع ويتحالف مع يمين اليسار في قضايا معينة ويفترق معه في قضايا أخرى رغم انتماء الأول إلى معسكر المحافظة والثاني إلى معسكر التقدم.

3 - يستحيل على أي مجتمع أن يقلع بجناح واحد، وإنما بجناحين هما جناح المحافظة وجناح التقدم.وتفسير ذلك أنه في حال استبعاد وإقصاء جناح التقدم فإن عجلة التطور ستسير بسرعة بطيئة يصاب معها المجتمع بالجمود. وفي حال استبعاد وإقصاء جناح المحافظة فإن عجلة التطور ستسير بسرعة عالية لا تحتملها طاقة المجتمع الثقافية والاجتماعية والمعرفية.وفي الحالتين ستلجأ السلطات إلى القسر والعنف، ضد من يعارض الجمود في الحالة الأولى، وضد من يحتج على حرق المراحل في الحالة الثانية.والحل من وجهة نظر فلسفة الديمقراطية أن يقلع المجتمع بالجناحين معا بحيث إذا حاول جناح التقدم أن يسير بسرعة فوق طاقة المجتمع فإن جناح المحافظة يقلِّل من هذه السرعة ويضبطها عند المستوى الذي يتقبله المجتمع ويحتمله. وفي الوقت نفسه إذا حاول جناح المحافظة أن يقلع بسرعة بطيئة فإن جناح التقدم يدفعه إلى زيادة سرعته.ومن هنا جاءت فكرة التعايش والقبول بالآخر المختلف كضرورة يحتِّمها ميكانيزم تطور المجتمع وليس مجرد موقف أخلاقي، وآليات الديمقراطية هي التي تضبط هذه العملية.فما هي شروط هذا الضبط؟ وما هي آلياته؟

         تكمن شروط هذا الضبط في المزاوجة بين علمانية الدولة وديمقراطية نظامها السياسي.فبغير العلمانية يستحيل أن تكون الدولة مجالا عاما تقف على مسافة واحدة من معسكر المحافظة ومعسكر التقدم، بل ستقع حتما في محذور المفاضلة بينهما وستتحيز بالضرورة للمعسكر الذي يملك مساحة اختراق أكبر وأخطر داخل المجال العام.وعندما يقع مثل هذا فإن الدولة تكف عن أن تكون دولة مواطنة وتصبح عرضة لعدم الاستقرار.أما بالنسبة للضبط بواسطة الديمقراطية فهناك قائمة بالحد الأدنى من المقاييس التي بدونها، مجتمعة، لا يكون النظام السياسي نظاما ديمقراطيا، وهي كما يلي:

1 – أن يتمتع الشعب بالسلطة المطلقة بواسطة حقوق الإنتخاب للراشدين،على أن يكون لكل مواطن صوت واحد، أي أن يكون الاقتراع اختيارا عقلانيا للمواطن الفرد بعيدا عن أي ضغوط – بما في ذلك الضغوط التي لا يعيها – كأن تؤثر المحمولات الجهوية أو الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية على اختيارات الناخبين وتلغي تمايزاتهم الفردية.

2 – أن يكون هناك حزبان سياسيان كبيران، على أقل تقدير، لإعطاء فرصة لاختيار المرشحين في إنتخابات نزيهة تجري في مواعيد تفصل بينها مدة معقولة لضمان المحافظة على الموافقة الشعبية من خلال السيطرة الدورية للناخبين على من يحكمونهم.

3 - أن يضمن المجتمع الحريات المدنية لكل عضو فيه، وتشمل حرية القول والنشر ومصادقة الآخرين، بالإضافة إلى الحماية ضد الاعتقال والسجن دون محاكمة عادلة.

4 - أن توجه السياسة العامة نحو المصلحة العامة، وأن تسعى إلى خير الجميع إجتماعيا واقتصاديا.

5 - أن ينفذ الحزب أو الائتلاف الحائز على الأغلبية برنامجه الإنتخابي بواسطة جهاز إداري كفؤ ومحايد سياسيا.

6 – أن تقيم الدولة توازنا فعليا بين القيادة الفعلية (الحكم) والانتقاد المسئول (المعارضة).ولهذا يتحتم على الحكام أن يواجهوا دائما معارضيهم في الهيئة التشريعية، كما يجب أن يتمكن جميع المواطنين من اللجوء إلى قضاء مستقل.

7 - أن يكون ممكنا تغيير أي جزء من نظام الحكم بالأساليب السلمية، وبواسطة إجراءات متفق عليها.وهذا يقتضي أن تكون الدولة مجالا عاما حاضنا للسلطة، لا أن تكون السلطة مستحوذة على الدولة ولاغية للمجال العام.

         في ضوء ما سبق نلاحظ أن المجال العام هو الأساس المادي لأي نظام سياسي يعيد للدولة حيادها واستقلالها ويحقق التوازن بين القبول بالتغيير السلمي على مستوى نخب الحكم وتحقيق التحسينات على مستوى المجتمع. وحيث لا يتحقق هذا التوازن يتضارب الجهاز الحكومي مع القوى المولدة في العملية السياسية وينشأ التوتر بين السياسة والدولة، الأمر الذي يفضي إلى قيام ثورة عنيفة.ومن هنا نشأت الحاجة إلى نظام سياسي يزيل هذا التوتر.وهذا النظام هو الديمقراطية.

            والحقيقة البارزة التي تشكل جوهر الديمقراطية يمكن ملاحظتها بسهولة في تاريخ الديمقراطيات الحديثة، حيث انتفت الحاجة إلى الثورات العنيفة في هذه الدول، لأن النظام الدستوري يسمح بتغيير منظم على مستوى النخب وعلى مستوى النظام.وما لم يتسم النظام السياسي بالقابلية للتغيير السلمي المنظم فإنه يكف عن أن يكون ديمقراطيا. وتعود مقدرة الديمقراطية على تأمين التغيير السلمي إلى جذورها الثورية، الأمر الذي وفر دفعا فكريا مستمرا لصالح التغيير والتوفيق.فما هي هذه الجذور؟ وكيف نشأت؟

           تعود الجذور الثورية للديمقراطية إلى متغيرين كبيرين أحدهما إجتماعي والآخر سياسي.وقد تمثل المتغير الاجتماعي في الإطاحة بتقاليد القرون الوسطى الإقطاعية التي كانت تمنح الجماعة وزنا أكبر من الفرد.وبفضل هذا المتغير أصبحت العلاقة بين الدولة والمواطن الفرد علاقة مباشرة لا تحتاج إلى أي شكل من أشكال الوساطة.فقيمة المواطن تكمن في ذاته وفيما يحسنه ويجيده، وليس في الأسرة أو الجماعة التي ينتمي إليها.وهذه القيمة قابلة للقياس الموضوعي الذي يحدد أهميتها للدولة وللمجتمع وللتنمية الشاملة والمستدامة. أما المتغير السياسي فقد تمثل ببروز مبدأ " التمثيل " الذي نقل الفكر الديمقراطي من مفهوم الدولة المدينية عند قدماء الإغريق إلى مفهوم الأمة الحديثة في الغرب المعاصر.وخلف هذين المتغيرين وقفت قيم ومثل فلسفية كبرى داعمة لهما كالحرية والمساوة.وقد تفاعلت كل هذه المعطيات في عملية سياسية أسفرت عن تحول نوعي في تاريخ البشرية إنتقل بها من أزمنة العصور الوسطى إلى العصر الحديث.ومن بين المبادئ الداعمة للديمقراطية نشير إلى ما يلي:

1 – مفهوم مساواة جميع البشر في الكرامة، بصرف النظر عن الجماعة التي ينتمي إليها الفرد.

2 – الإيمان بقيمة النقاش للوصول إلى إتفاق. فالحقيقة نسبية لا يمكن لأي طرف أن يدعي احتكارها وامتلاكها كلها دون غيره.

3 – الإصرار على أن للأفراد حقوقا لا يمكن للحكومة أن تحرمهم منها.

4 – الحكومة تستمد سلطاتها الشرعية من موافقة المواطنين الأحرار.

5 - المصلحة العامة هي التي تحددها الإرادة الشعبية.

         وقد أدى ذلك إلى انبعاث ديمقراطي اتسع معه مفهوم الحرية ورتب للأفراد منظومة متكاملة من الحقوق نذكر منها:

1 -  حق التصويت وحق السعي إلى المناصب الرسمية وحق الحصول على تعويض قانوني عن الأضرار.

2 -  حرية القول والنشر دون رقابة أو قمع حكومي.

3 - حق العبادة على أي مذهب ديني أو عدم العبادة إطلاقا.

4 -  حق التعليم بواسطة الأموال الحكومية.

5 – حق الضمان ضد المرض أو البطالة أو الترمل.

6 – حق الضمان ضد الأمور المحتَّمة كالشيخوخة والموت.

         ومن السهل جدا ملاحظة الصلة القائمة بين هذه الحقوق وبين الحرية السياسية.فهذه الحرية تتضاءل في المجتمع الذي يطلب من جميع الأشخاص العبادة بنفس الطريقة كشرط للمواطنة، كما تتضاءل في المجتمع الذي يحرم بعض المواطنين من التعليم الذي يتيح لهم فهم القضايا المطروحة للنقاش وممارسة حرية إختيار واعية، أو الذي يحد من فرص المشاركة السياسية بإشاعة الفقر والخوف والتمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللغة أو المعتقد.ومعنى هذا أنه لا يمكن إقامة الديمقراطية في النطاق السياسي ما لم تكن متوازية مع المجتمع.

         أخيرا : في سياق عرضنا للتوتر بين السياسة والدولة لاحظنا كيف استطاعت الديمقراطية، من خلال المزاوجة بينها وبين العلمانية، أن تشكل نظاما سياسيا يعيد للدولة حيادها واستقلالها وأن يجعل منها دولة مرنة تستجيب لقانون التطور دون إبداء أي مقاومة.كما لاحظنا أن الديمقراطية تكون هشة ومشوهة ما لم تتجاوز النطاق السياسي إلى النطاق المجتعي.ولمزيد من التعرف على الطبيعة الثورية للديمقراطية سنفترض شعبا ما يعيش في جزيرة ما حيث  60 % من السكان أميون، وأن الشعب كله متجانس عرقيا وثقافيا وعلى دين واحد ومذهب واحد، وأن النخب في هذه الجزيرة توافقت على دولة ذات نظام سياسي ديمقراطي قائم على الفصل بين المجال العام والمجالات الخاصة، وأن النخب السياسية اصطفت في حزبين كبيرين للتنافس على تداول السلطة سلميا هما حزب المحافظين وحزب التقدم، وأن حزب التقدم يسعى إلى المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات وتطبيق نظام التعليم المختلط واعتماد قانون للأسرة يحدد سن الزواج ب 18 عاما ويمنح الزوجة حقوقا مادية ومعنوية تحفظ لها كرامتها الإنسانية كمواطن يعيش في القرن الواحد والعشرين، وأن الحزب المحافظ يعارض كل ذلك مراهنا على ارتفاع منسوب الأمية وعلى الثقافة الذكورية السائدة والنظرة الدونية للمرأة.والسؤال: هل يستطيع حزب التقدم أن ينتصر لبرنامجه ويحققه سلميا؟والجواب: نعم، ولكن بالشروط التالية:

1 – أن يكون الشعب، فعلا وليس قولا، صاحب السلطة ومصدرها.ومعنى ذلك أن الشعب هو القاضي المخوَّل بإصدار الحكم، بينما الحزبان المتنافسان هما الخصمان اللذان سيترافعان أمام القاضي وسيقبلان بحكمه دون قيد أو شرط.وفي هذه الحالة يجب أن يكون القاضي مؤهلا لفهم مرافعات الحزبين ومحمياً من كل الضغوط المادية والمعنوية التي يمكن أن تؤثر على سير العدالة.وهذا يقتضي من حزب التقدم أن ينخرط بقوة وبغير كلل أو ملل في المجهود الوطني الطوعي لمحو الأمية وتعليم الكبار وفقا لبرنامج حكومي ينتمي إلى المجال العام.وبهذه الطريقة سيجد حزب المحافظين نفسه مضطرا للمشاركة في هذا المجهود والتخلي التدريجي عن المراهنة على أمية الناخبين. 

2 – أن تقف الدولة على مسافة واحدة من الحزبين المتنافسين وأن تؤمن لهما فرصا متساوية للوصول إلى القاضي (الهيئة الناخبة) والتخاطب معه وإقناعه.وهذا يقتضي أن تكون الدولة مجالا عاما مؤهلا لإنتاج بيئة انتخابية مُسيَّجة بالعدالة والشفافية والنزاهة.

3 – أن ينظر الحزبان المتنافسان إلى بعضهما البعض على أنهما جناحان لطائر واحد، وأن كل منهما مؤسسة وطنية لا غنى للمجتمع عنها، وأن العلاقة بينهما يجب أن تكون تنافسية تكاملية لا عدائية تناحرية، وأن في قوتهما معا قوة للمجتمع وفي ضعف أحدهما إضعاف له.

4 – أن تكون غاية حزب التقدم من وراء برنامجه هو إصلاح منظومة المجتمع وليس الوصول إلى السلطة. أي أن ينظر هذا الحزب إلى السلطة على أنها أفضل وسيلة لتنفيذ برنامجه، وليست غاية في حد ذاتها.وما لم يفكر حزب التقدم بهذه الطريقة فسوف يقع، بعد أول جولة انتخابية يفشل فيها، في محذور الانتهازية السياسية والتراجع عن برنامجه الذي لم يحظَ بالقبول الشعبي بعد.

5 – أن يكون خطاب الترافع أمام القاضي (الهيئة الناخبة) خطابا عقلانيا خاليا من التسفيه والتحقير والتشهير والتكفير والتخوين.وأن يكون الحزب الذي لا يلتزم بآداب الترافع عرضة للعقاب من القاضي (الهيئة الناخبة) بواسطة التصويت، ومن الدولة بواسطة القضاء.

         وعلى افتراض أن العملية الانتخابية الأولى جرت في ظل هذه الشروط، وأن حزب التقدم حصل على 30 % من أصوات الناخبين، بينما ذهب 70 % من الأصوات لصالح حزب المحافظة.فمعنى ذلك أن حزب التقدم أراد أن يقلع بسرعة لا تتحملها طاقة المجتمع المعرفية والثقافية والاجتماعية، وأن حزب المحافظة أعاق هذه السرعة وحمى المجتمع من التوتر والاستياء الذي كان يمكن أن تحدثه.وفي هذه الحالة على حزب التقدم أن يحترم إرادة الهيئة الناخبة (حكم القاضي)، وأن يستأنف نشاطه لترقية المجتمع ورفع طاقته المعرفية والثقافية والاجتماعية ابتداء من اليوم التالي على ظهور نتائج الاقتراع.وعلى افتراض أنه فعل هذا وحصل في الموسم الانتخابي التالي على 25 % من الأصوات فعليه أن يراجع طرائق اشتغاله مع المجتمع وأن يفتش عن نقاط الضعف في خطابه الإقناعي، دون أن يلقي باللائمة على المجتمع أو على منافسه الحزب المحافظ.وعلى افتراض أنه سار على هذا النحو وحصل في الموسم الانتخابي السادس على 60 % من الأصوات فمعنى ذلك أنه حسَّن طرائق اشتغاله مع المجتمع وطور خطابه الإقناعي واستطاع أن يرفع طاقة المجتمع المعرفية والثقافية والاجتماعية إلى مستوى برنامجه.وفي هذه الحالة على الحزب المحافظ أن يحترم إرادة الهيئة الناخبة (حكم القاضي) وأن يراجع طرائق اشتغاله وخطابه الإقناعي لمضاعفة سرعته.وهكذا يكون ميكانيزم التطور الطبيعي والسلمي في ظل الديمقراطية.

         أما إذا سلك حزب التقدم مسلكا مغايرا عند حصوله على 25 % من الأصوات وقرر أن ينافق المجتمع بالتخلي عن برنامجه الذي بدا حينها أكبر من طاقة المجتمع فإنه في هذه الحالة لن يكون " حزب التقدم" وسيُنظر إليه على أنه حزب انتهازي يتملق المجتمع للوصول إلى السلطة.والتملق هو من سمات أحزاب المحافظة التي تساير تقاليد الماضي وتختار أسهل الطرق للوصول إلى السلطة وتهتم بما يريده المجتمع في لحظة ما وليس بما يحتاجه في تلك اللحظة، والفرق كبير بين هذه وتلك..وخلاصة الخلاصة: الشعب المستنير المدرك لمعنى الديمقراطية وأهميتها هو أول وأهم شروط انتصارها.والنضال الحقيقي من أجل الديمقراطية يبدأ من الاشتغال مع المجتمع.

قناة الاشتراكي نت تليجرام _ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة

https://web.telegram.org/#/im?p=@aleshterakiNet

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Wed, 30 Nov 2016 17:56:14 +0300
تصنيف المصنَّف عن "إعلان" صالح والحوثي تشكيل مجلس سياسي أعلى: http://aleshteraky.com/views/item/10447-تصنيف-المصنَّف http://aleshteraky.com/views/item/10447-تصنيف-المصنَّف تصنيف المصنَّف عن

أثار "إعلان" التحالف الانقلابي عن تشكيل مجلس سياسي أعلى ردود أفعال داخلية وإقليمية ودولية مُستنكِرة ومنددة، على نحو بدا معه هذا "الإعلان" كما لو كان حدثا ذا قيمة ومن شأنه تغيير قواعد الصراع بشقيه السياسي والعسكري، ومن ثم التأثير على نتائجه.ومن وجهة نظرنا أن ردود الأفعال هذه – بما في ذلك بيان ولد الشيخ – لم تقدم ولم تؤخر شيئا بقدر ما أضفتْ نوعا من البريق على صورة الانقلابيين أمام أنصارهم الذين يصدِّقون حكاية "الخيارات الاستراتيجية" التي يرددها قادة الانقلاب لتضليل جماهيرهم المخدوعة بأوهام "السيد" ونزعة الانتقام المتمكنة من ذهنية "القبيلي".

إن "الإعلان" في حد ذاته لا يشكل أي قيمة قانونية أو سياسية في مجرى الصراع، وكثير عليه هذه التسمية.فهو صادر عن سلطة أمر واقع مهيمنة على جزء من جغرافية البلاد اغتصبتها من الدولة بقوة السلاح في عملية إنقلابية مُستَقْبَحَة ضد السلطة الشرعية وضد التوافق الوطني، ولأهداف سلالية وفئوية وشخصية إنتقامية واضحة لمعظم اليمنيين وضوح الشمس في قارعة السماء.ثم أن"الإعلان" جاء من فراغ، وأُعلن عنه في الفراغ، ولا يوجد أي جديد يبرره حتى في حدود ما يسعى الانقلابيون لترسيخه من ممارسات وإجراءات.وهو إن كشف عن شيء فإنما يكشف عن عقلية إنقلابية كلما أفلست في تحقيق أي مكسب على أرض الواقع أعلنت أنها تحتفظ ب"خيارات استراتيجية".وفي أحسن الأحوال جاء "الإعلان" من قبيل إثبات أن الإنقلابيين مازالوا موجودين، ولإيهام الناس بأن شيئا ما ذا أهمية قد حدث.

إن توقيت "الإعلان" يكشف عن انعدام الرؤية وعن عقلية إرتجالية عشوائية، بدليل أنه لم يوضح حيثيات التشكيل ودوافعه، ولم يقل ما هي المستجدات التي تبرره.أما الاختصاصات فقد سلقت سلقا وخرجت بصيغة عمومية.وعلى افتراض أن "الإعلان" يمثل خطوة استباقية للفشل المتوقع الذي ينتظر مشاورات الكويت، فلمنْ هو موجهٌ إذن في هذا التوقيت؟

إن كان "الإعلان" موجها للخارج الدولي فهذا الخارج يعرف أنه صادر عن انقلابيين ليس لهم أي صفة شرعية مهما خلعوا على أنفسهم من أسماء وألقاب، وقد سبق وأن أصدر عدة قرارات تدينهم وتحدد وضعهم القانوني وتطالبهم بالانسحاب وتسليم السلاح. وإن كان "الإعلان" موجها للداخل، فلأيِّ داخل؟ إن كان موجها لجمهورهم فهذا تحصيل حاصل ودليل على مبالغتهم في الاستهتار بهذا الجمهور المضلَّل الذي يُصدِّق أن الحاج علي ليس هو علي الحاج، وأن "الديمة"ليست هي "الديمة" إذا تغير بابها.أما إذا كان "الإعلان" موجها للجمهور المفارق الرافض للإنقلاب – وهو الأغلبية الشعبية الكبيرة – فهو لا يقدم لهذا الجمهور أيَّ حلول، ولا حتى فرصةً للتعاطف مع الإنقلابيين في لحظة هم فيها أحوج ما يكونون إلى تعاطف ولو شكلي.ولو لم يكن الانقلابيون على هذا القدر من الإفلاس السياسي لكانوا أعلنوا عن رغبتهم في تشكيل مجلس وطني لإدارة الأزمة وتهيئة مناخ سياسي يستوعب جميع الأطراف.ولو أنهم فعلوا ذلك – ولو من قبيل المناورة وإحراج الغير – لكانوا أوهموا المجتمع الدولي،أو جزءا منه على الأقل، بأنهم يمتلكون رؤية ولديهم بعض الشعور بالمسئولية يمكن البناء عليه.أما الداخل المفارق والرافض فلم يعد يثق بهم بعد ما أحدثوه من دمار وخراب وموت ونزيف للدم من أجل أهداف سلالية وفئوية وشخصية ظاهرة ومكشوفة لمعظم اليمنيين.وإلا فمن أجل ماذا يقاتل الحوثي منذ العام 2004؟ ومن أجل ماذا يقاتل علي صالح وهو يعلم أن الأغلبية الساحقة من اليمنيين لم تعد تطيق رؤيته على قيد الحياة.

ومن مهازل "الإعلان" إشارته إلى أن الانقلابيين سيديرون البلاد بدستور الجمهورية اليمنية.فعن أي بلاد يتحدثون؟ أليس هذا إقرار بأنهم يديرون المناطق التي يسيطرون عليها بالزوامل والخطب العصماء وملازم "سيدي حسين" وفتاوى المتوكل على الله إسماعيل؟ هل بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد من الاستهتار بعقول أنصارهم؟ أم هو اتكاء على انشغال الناس بجراحهم؟ أما إذا كانوا يقصدون أنهم سيكفون عن الإدارة بطريقة السوق السوداء فهذا إنجاز كبير إذا تحقق سيحسب لهم.

واضح أننا أمام عقلية مستلبة ومأزومة.والمحزن أن هذه العقلية ليست قاصرة على هؤلاء ومن معهم، وإنما تكاد أن تكون ظاهرة متجذرة في مساحة كبيرة من الوعي الجمعي.ومن تجليات هذه العقلية أنها مرتهنة بالطارئ والرد على الطارئ دون خطة استراتيجية،فهي لا تخطط للمستقبل بأي حال كان، وليس لها بدائل أو خيارات.إنها عقلية واقعة بين شقي رحى الأنا والآخر،أو تكاد تشبه ما يحدث في الزوامل الشعبية من "رد وجواب".ولذلك نحن غالبا لا نصنع مستقبلا ونعجز عن تخطى الماضي.أو قل نحن كالبدو الرحل مرهونون بأقدار خارج إرادتنا، وكل يوم عندنا له شمس وريح.والأعجب من ذلك أن بعض الفرقاء رأوا في "إعلان" الانقلابيين المنعدم إنقلابا ثانيا، وكأن مجموعة داخلهم انقلبت عليهم وغيرت المسار، أو جاء طرف لم يكن في الحسبان فانقلب على الجميع.وهذا تفكير لا يصدر إلا عن عقلية مشغوفة بالإدانة، كحالة مرضية، تنتظر أي شيء لتدينه.

أما تأويل "الإعلان" على أنه مؤشر على تقارب أصحابه وتجاوز خلافاتهم فهذا مجرد لغو لا ينفع المواطن في شيء، ولا ينفع حتى اللاعبين السياسيين، فنحن ضحية صالح والحوثي اجتمعا أو افترقا،إتفقا أو اختلفا،والأجدر بنا تنبيه الناس إلى انعدام هذا "الإعلان" قانونيا وإفلاسه سياسيا، بدلا من التأويلات المبلبلة.وقل مثل هذا عن التأويل القائل بأن "الإعلان" إجراء أحادي الجانب. والصحيح أنه إجراء باطل، ليس لأنه أحادي الجانب، وإنما لأنه بني على باطل.فالانقلاب كان إجراء أحادي الجانب بخروجه على "اتفاق السلم والشراكة"،وهو بهذا المعنى باطل، وكل ما بني وما سيبنى عليه باطل، ومن قبيل ترقيع المرقع،بما في ذلك "الإعلان" عن تشكيل ما سمي بمكتب سياسي أعلى. والقول بخلاف ذلك يوهم الناس بأن شيئا ما ذا أهمية قد حدث، بينما ما حدث ليس أكثر من بيع الوهم لجماهير الانقلاب المضلَّلة والمخدوعة.وقس على ذلك خروج الانقلابيين عن مرجعيات مشاورات الكويت.فهذا الخروج ليس إبن اللحظة وإنما نهج سابق على "الإعلان" وممارسة يومية يدفع الشعب اليمني ثمنها موتا ودما وخوفا وتشردا وجوعا ونزوحا.والحديث عن عدم احترام الانقلابيين لهذه المرجعيات هو من قبيل تصنيف المصنَّف حسب تعبير الأستاذ الأكبر عبد الله البردوني.والغريب الذي يحتاج إلى تفسير هو برود المجتمع الدولي وعدم فاعليته قياسا إلى حجم المأساة التي يحدثها الانقلابيون ويضاعفونها يوما بعد يوم.

والأغرب من الغريب أن يفجر انتحاري نفسه في قبة عبد الهادي السودي، وهي أحد المعالم التاريخية لمدينة تعز المحاصرة، ومع أن هذه الجريمة ليست الأولى من نوعها إلا أننا لم نسمع أدنى إدانة أو استنكار من اتحاد الرشاد السلفي الذي أعلن نفسه حزبا سياسيا عن قناعة بالديمقراطية وبالعمل السياسي السلمي حسبما قالت وثائقه التأسيسية،وأخشى ما يخشاه المرء أن يكون هذا الحزب غطاء سياسيا لهذه الأعمال وإخراجا يمنيا لصيغة آل الشيخ.وإذا صح هذا فسنكون أمام حقل ألغام داخل الشرعية التي لم تعد شرعية إلا بالمعنى الإجرائي، أما من حيث الأداء والفاعلية والإنجاز فرصيدها الشعبي يتآكل يوما بعد يوم .وعلى هذا التآكل يتكئ الانقلابيون ويطالبون بإبعاد الرئيس هادي.هكذا بكل بساطة دون أن يقولوا لنا لماذا يجب أن يُبعدَ وما هو الثمن الذي يجب أن يدفعوه مقابل هذا الإبعاد.فإذا كانت العمالة للسعودية هي السبب، كما يقولون، فمن هو علي صالح إذن؟ ألم يأتِ إلى الحكم من أقبية مظلمة ودهاليز مشبوهة؟ ألم يقضِ ثلاثة وثلاثين عاما غاصبا مستبدا في صنعاء وخداما ذليلا على عتبة قصر الملك؟ ألم يشهد عليه شاهد من أهله هو الشيخ عبد الله الأحمر شريكه في بيع الأرض ودمار البلاد وخراب العباد مقابل البترو دولار؟ صحيح أن هادي أصبح مثل أيقونة، لكنه أشرف – بما لا يقاس – من وطنيي اللحظة الأخيرة.

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

 

]]>
taher@hotmail.com (طاهر شمسان ) وجهات Mon, 01 Aug 2016 17:14:43 +0300