طاهر شمسان

طاهر شمسان

 

         يوم 11 مارس الجاري نشرت مقالا بعنوان "ألفت الدبعي: الرمزية والقضية والموقف" أكدت فيه أن مجتمع "الميم" هو قصة مختلقة من وحي خيال عادل الشجاع الذي لم يعجبه نجاح حملة "جوازي بلا وصاية" فذهب يخرجها-كلاميا-من مسارها القانوني إلى مسار آخر مصادم لقيم المجتمع اليمني بغرض الإساءة إلى رئيس الوزراء معين عبد الملك في إطار الصراع بين هوامير الفساد. أما إقحام ألفت الدبعي فهو اجتهاد غير موفق من عادل اعتقادا منه أن ذلك سيضفي على القصة المختلقة نوعا من المقبولية المنطقية لدى الرأي العام. والحقيقة أن عادل باختلاق هذه القصة قد أساء لنفسه أكثر مما أساء لمعين وألفت.

         وردا على مقالي المذكور كتب عبد الفتاح الحكيمي مقالا بعنوان: "منطق التهافت.. طاهر شمسان وحكاية سبع نسوان". والحقيقة أن ما كتبه هذا الرجل دال على وعيه ومستواه إن كان فعلا قد كتبه بنفسه. أما إن كان قد كُتِبَ له ووُضِعَ اسمُه عليه فهو أدرى كيف يعيد الاعتبار لنفسه إن كان كاتبا حقا ويعرف أن الكتابة لا تكون إلا لرفع الوعي وليس للتقول والتجني والشتيمة والتدليس والافتراء.

         واحتراما لعقل القارئ الكريم أكتب هذا المقال في صلب الموضوع نائيا بنفسي وبوقت القارئ عن أن أنتصر لشخصي مكتفيا بالرد في الموضوع وفي الموضوع فحسب. ذلك أن القضية قضية حقوق وحريات وليست قضية هزيمة وانتصار، وهي ليست قضية عادل الشجاع وألفت الدبعي، إنها قضية الوعي والمسئولية في مواجهة التعدي على الحقوق والحريات والخروج على الدستور والقانون.

          وفي هذا المقال سأهتم ببيان البعد القانوني والأخلاقي لحملة "جوازي بلا وصاية"، وكيف ذهب عادل الشجاع عن قصد وسابق إصرار وترصد يخرجها-كلاميا-من سياقها القانوني والأخلاقي ويضعها في سياق غير أخلاقي. وهدفي من هذا أولا: المزيد من تنوير القارئ، وثانيا: أن أبعث بأصدق التحايا-إلى السبع الماجدات اللائي وقفن مع المحامي ياسر المليكي أمام مصلحة الأحوال المدنية في مدينة تعز رافعات شعار "جوازي بلا وصاية"-وأقول لهن: أنتن رائدات، ومطالبتكن بحق قانوني سُلبَ منكن لا يكون عملا منحلا وغير أخلاقي إلا عند من هو منحل وبلا أخلاق.

 البعد القانوني لحملة " جوازي بلا وصاية".

         تنص المادة (31) من دستور الجمهورية اليمنية لعام 2011 على أن "النساء شقائق الرجال، ولهن من الحقوق وعليهن من الواجبات ما تكفله وتوجبه الشريعة وينص عليه القانون"، وتنص المادة (41) من هذا الدستور على أن "المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات"، وتنص المادة (57) من الدستور نفسه على أن "حرية التنقل من مكان إلى آخر في الأراضي اليمنية مكفولة لكل مواطن، ولا يجوز تقييدها إلا في الحالات التي يبينها القانون لمقتضيات أمن وسلامة المواطنين، وحرية الدخول إلى الجمهورية والخروج منها ينظمها القانون، ولا يجوز إبعاد أي مواطن عن الأراضي اليمنية أو منعه من العودة إليها".

         واضح إذَنْ أن دستور الجمهورية اليمنية يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وبما أن المرأة اليمنية مواطن فلها حق دستوري في الحصول على جواز سفر دون وصاية أو قيود من أي نوع كانت. وبقي الآن أن ننظر كيف فصَّلَ القانون اليمني هذا الحق الدستوري وكيف نظَّمه. 

         تقول المادة (6) من القانون رقم (7) لسنة (1990) بشأن الجوازات: "تصرف جوازات السفر العادية ووثائق السفر المنصوص عليها في الفقرات من (1-4) من المادة (3) لكل من بلغ سن السادسة عشر من العمر ممن يتمتعون بجنسية الجمهورية اليمنية، أما القصر فيضافون في جواز سفر أحد الأبوين إن كانوا مسافرين بصحبته، ويجوز صرف جواز سفر للقاصر عند الضرورة وبعد موافقة ولي أمره"، وتقول المادة (11) من هذا القانون: "يحق لمن يتمتعون بجنسية الجمهورية اليمنية مغادرة الأراضي اليمنية والعودة إليها من الأماكن المخصصة لذلك وبإذن من الموظف المختص، ويكون ذلك بالتأشير على جواز سفره أو الوثيقة التي تقوم مقامه"، وتقول المادة (17) من القانون نفسه: "يلغى أي نص يخالف هذا القانون أو يتعارض مع أحكامه"، وأخيرا تقول المادة (18) من القانون المذكور: "على وزير الداخلية إصدار اللائحة التنفيذية لهذا القانون وبما لا يتعارض مع أحكامه".

         واضح إذن أن القانون رقم (7) لسنة (1990) بشأن الجوازات لم يخرج عن نص وروح الدستور قيد أنملة وإنما ساوى بين الرجال والنساء في حق الحصول على جواز سفر دون تمييز ودون وصاية أو قيود من أي نوع كانت. وواضح أيضا أن حملة "جوازي بلا وصاية" كانت متسقة تماما مع نص وروح الدستور، وكانت حملة قانونية 100%، وكل من يشكك في أخلاقية هذه الحملة فإنه ضمنيا يشكك في أخلاقية الدستور والقانون اللذين يؤيدانها.

ألفت الدبعي وحملة "جوازي بلا وصاية":

         لا علاقة لألفت الدبعي بحملة "جوازي بلا وصاية"، لا من حيث التخطيط ولا من حيث التنفيذ وتنظيم التظاهر الاحتجاجي المدني أمام مصلحة الأحوال المدنية في مدينة تعز، وكل ما فعلته أنها استحسنت هذه الحملة وأيدتها واقترحت على منظميها الذهاب إلى رئاسة الوزراء ومقابلة رئيس الحكومة وساعدتهم على لك.

          استمع رئيس الحكومة إلى منظمي حملة "جوازي بلا وصاية" وبناء على ذلك وجَّهَ بطلب الفتوى من وزارة الشئون القانونية وتلقى منها رداً يؤيد ضمنا مصداقية حملة "جوازي بلا وصاية" ويؤكد أن مصلحة الأحوال المدنية فيما يتعلق بحق المرأة في الحصول على جواز سفر تمارس تمييزا تعسفيا ضد النساء في مخالفة صريحة للدستور والقانون. وفي ضوء هذه الفتوى صدر التوجيه من رئيس الحكومة إلى وزير الداخلية بسرعة وضع حد نهائي للتمييز التعسفي الذي يمارس ضد النساء في مصلحة الأحوال المدنية وإلغاء كل الاشتراطات الغير قانونية التي تحول دون حقهن في الحصول على جواز سفر. وبالفعل جاء توجيه وزير الداخلية لينهي معاناة آلاف اليمنيات من ظاهرة التمييز في مصلحة الأحوال المدنية وفي سفارات الجمهورية اليمنية حول العالم.

عادل الشجاع وتشويه حملة "جوازي بلا وصاية": 

         عوضا عن توجيه الشكر لرئيس الحكومة على تفاعله الإيجابي مع حملة "جوازي بلا وصاية" ذهب عادل الشجاع وعن قصد وسابق إصرار وترصد يخرج هذه الحملة كلاميا من سياقها القانوني والأخلاقي ويضعها في سياق غير قانوني وغير أخلاقي بكتابته مقالا بعنوان "جوازي بلا وصاية مقدمة للمطالبة بالحرية المثلية في اليمن". المقال المذكور طافح بالسب والقذف والتشهير ضد ألفت الدبعي التي لم تجد بداً من التوجه إلى القضاء المختص. وما يهمني في هذه الجزئية أن أبين للقارئ كيف لوى عادل الشجاع عنق الحقيقة وبذهنية عدوانية ليخرج حملة "جوازي بلا وصاية" عن مسارها الأخلاقي ويضعها كلاميا في مسار غير أخلاقي.

         يقول عادل الشجاع:".... وبسرعة البرق وعلى الطرف الآخر أصدر رئيس الوزراء معين عبد الملك توجيهاته بمنح النساء جوازات بدون العودة إلى آبائهن أو أزواجهن". هكذا حرفيا "بدون العودة إلى آبائهن أو أزواجهن" وكأنَّ الهدف من حملة "جوازي بلا وصاية" هو تحريض النساء للتمرد على الآباء والأزواج وليس رفع الوصاية التي تمارسها عليهن مصلحة الأحوال المدنية ضدا على الدستور والقانون مسببة الكثير من المعاناة لآلاف اليمنيات.

         إن عبارة "بدون العودة إلى آبائهن وأزواجهن" في السياق الذي جاءت فيه تنطوي على قدر كبير من الخداع وسوء النية بغرض التشويش على القارئ من خلال الخلط بين أمرين اثنين لا يجوز الخلط بينهما من المنظورين القانوني والأخلاقي. الأمر الأول هو حق المرأة في الحصول على جواز سفر، وهذا حق دستوري وقانوني من حقوق المواطنة يناله أي يمني باعتباره مواطنا بصرف النظر عن جنسه. والأمر الثاني هو موافقة ولي الأمر على السفر. وهذا الأمر الثاني خصوصية عائلية تنظمه التفاهمات المتبادلة بين أفراد الأسرة وإدراكهم لمصلحتهم ككل ومصلحة كل فرد فيهم على حدا، وفي هذه التفاهمات يتساوى الرجال مع النساء تحت سقف بيت الأسرة الواحدة بعيدا عن منطق الوصاية، وليس بمقدور جواز سفر حصل عليه أحد أفراد الأسرة-ذكرا كان أو أنثى-أن يعكر صفو هذه التفاهمات بالنظر إلى أن الأسرة مؤتمنة على أفرادها أخلاقيا وليس حقوقيا.

         وفي المجمل الآباء والأزواج لا يمارسون الوصاية على البنات والزوجات بمعنى "الحرمان والتمييز التعسفي" الظالم الذي تمارسه مصلحة الأحوال المدنية ضد النساء وإنما بمعنى "الرعاية" القائمة على الحب والرحمة والمودة. ولهذا كانت حملة "جوازي بلا وصاية" موجهة ضد "وصاية" مصلحة الأحوال المدنية المخالفة للدستور والقانون على النساء، ولم تكن أبدا ضد "رعاية" الآباء والأزواج للبنات والزوجات. وإذا كانت "الوصاية" تمارس أحاديا من طرف قوي على طرف ضعيف فإن الرعاية علاقة إنسانية تكاملية بين طرفيها حيث تأتي من الآباء والأزواج تجاه البنات والزوجات مثلما تأتي من البنات والزوجات تجاه الآباء والأزواج. 

         وعادل الشجاع في موقفه من حملة "جوازي بلا وصاية" أمام احتمالين اثنين لا ثالث لهما: إما أنه لم يفهم شعار الحملة ومقاصدها وأبعادها القانونية والأخلاقية وذهب يكتب مقاله ذاك عن جهل، وإما أنه فهم شعار الحملة جيدا وذهب يحرفه ويشوهه عن قصد. وأنا أستبعد تماما الاحتمال الأول لأن الشجاع أستاذ جامعي وليس من عامة الناس حتى يتعذر عليه فهم الأبعاد القانونية والأخلاقية لحملة "جوازي بلا وصاية). وقد سبق لي أن قلت في مقالي السابق على هذا أن الشجاع كتب مقاله المسيء لتلك الحملة بناء على طلب الغير وليس بدافع النخوة والشرف والغيرة كما حاول أن يقنعنا بذلك عبد الفتاح الحكيمي.

الدولة القانونية والدولة غير القانونية:

         الدولة القانونية هي تلك التي تكون فيها السيادة للقانون ولا سيادة لأحد عليه. والدولة القانونية لا تطبق القانون بصرامة وشمول على مواطنيها فقط وإنما على نفسها أيضا، وفيها يستطيع أي مواطن أن يقاضي أي مؤسسة من مؤسسات الدولة ويحصل على الإنصاف أمام قضاء مستقل ونزيه حتى وإن كانت هذه المؤسسة هي مؤسسة الرئاسة أو مؤسسة الجيش أو مؤسسة الأمن والاستخبارات. أما الدولة غير القانونية فالسيادة فيها ليست للقانون وإنما لمراكز القوى وأهل النفوذ ولكل من له سلطة من أي نوع كانت، بما في ذلك سلطة التراث والثقافة التقليدية السائدة التي تتسم بقدر كبير من الهيمنة في ظل شيوع الجهل والأمية والتعليم المؤدلج والإعلام المسيَّس وضعف الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وانعدام التحديث. 

         ولأن الدولة في اليمن غير قانونية فإنها لا تطبق القانون على مؤسساتها، والقانون فيها لا يعرف الشمول والصرامة وإنما يطبق بطريقة انتقائية بحسب ثقافة ومزاج القائمين على تطبيقه. ومصلحة الأحوال المدنية هي المؤسسة المعنية بتطبيق قانون الجوازات، وهي، مثلها مثل غيرها من مؤسسات الدولة، لا تتعرض للمساءلة القانونية إذا أساءت استخدام سلطتها في تطبيق أي قانون من القوانين التي هي معنية بتطبيقها ومن بينها قانون الجوازات الذي يهمنا في هذا المقال.

         والحقيقة أن إساءة استخدام السلطة في تطبيق قانون الجوازات-بالنسبة للنساء-هو العام والشائع في مصلحة الأحوال المدنية وفروعها بينما التطبيق الجيد لهذا القانون هو الاستثناء والنادر. فالرجل إذا قرر أن يسافر خارج البلاد للنزهة والترفيه على النفس فإنه يحصل على الجواز دون وصاية خلال يوم أو يومين بالكثير حتى وإن كان حظه من التعليم متواضعا جدا، أما المرأة فإنها لا تحصل على الجواز للسفر بغرض العلاج أو الدراسة-مثلا-ما لم يكن برفقتها "مَحْرَمْ" يوافق على حقها في الحصول على الجواز حتى وإن كانت قاضيا لها ولاية الفصل في المنازعات بين الرجال في المحاكم، أو كانت محاميا يركن عليها الرجال في الحصول على الإنصاف أمام العدالة، أو كانت أستاذا جامعيا يقدم المعارف للأجيال التي ستصبح مؤتمنة على مستقبل الوطن ....الخ

         إن الموظف المختص في مصلحة الأحوال المدنية حين يشترط على المرأة أن تكون برفقة "محرم" يزكي حصولها على جواز السفر فإن المرجعية التي يصدر عنها في هذا التصرف ليست الدستور ولا قانون الجوازات وإنما الثقافة السائدة التي تمارس سلطتها عليه من حيث لا يدري، وهي بطبيعة الحال ثقافة ذكورية المركزية فيها للرجل "الكامل" وما المرأة إلا تابع "ناقص" حتى في العقل والدين.

         وإذا كان قانون الجوازات ينظر إلى المرأة على أنها "مواطن" كامل الأهلية مثلها مثل الرجل فإنه في هذه النظرة إلى المرأة يصدر عن مفهوم "الوطن" ومفهوم "المواطنة" وهما مفهومان محوريان في الدستور. أما الثقافة التقليدية السائدة-وهي كما أسلفنا ثقافة ذكورية-فإنها لا تنظر إلى المرأة على أنها "مواطن" وإنما على أنها "أنثى" خلقت لإمتاع الرجل وإنجاب من يحملون اسمه ويحمونه ويكررون دوره في الحياة. والثقافة الذكورية في نظرتها إلى المرأة لا تصدر عن مفهومي "الوطن، والمواطنة" وإنما عن مفهومي "القبيلة" و"العصبية" وما يتوالد عنهما من مفاهيم كالنخوة والشرف والغيرة والعيب والعار والثأر. وإذا كانت الدولة هي التي تنتج القوانين الوطنية المنظمة لحقوق وواجبات المواطنين فإن القبيلة لا تنتج القانون وإنما تنتج الأعراف التي تنظم العلاقة بين أفرادها وعلاقتها مع القبائل الأخرى. وإذا كانت قوانين الدولة مكتوبة في مدونات وتخضع للمراجعة والتعديل والتطوير فإن أعراف القبيلة لا تكتب وإنما تستوعب منذ الطفولة في إطار التنشئة وتصبح ثقافة متأصلة عند أفرادها، وهي لذلك تتمتع بقدر كبير من الثبات بالنظر إلى الركود الطويل في حياة القبيلة حيث كل جيل يكرر حياة الجيل السابق عليه كما هي تقريبا ولقرون. وأخيراً مقابل "المواطن" في الوعاء الوطني يأتي "الغرَّام" في الوعاء القبلي.

         بسبب هيمنة الثقافة التقليدية-وهي بطبيعتها ثقافة ذكورية متعالية على المرأة-فإن الموظف في مصلحة الأحوال المدنية-ومن حيث لا يعي-لا يحمل ثقافة وروح الدولة وإنما ثقافة وروح القبيلة، وهو تبعا لذلك لا يتصرف في حدود صلاحياته واختصاصه كممثل للدولة وإنما كممثل للقبيلة، وهو بالتالي لا يطبق قانون الدولة وإنما يطبق أعراف القبيلة التي هي متأصلة في ثقافته التقليدية وتأثيرها عليه أكبر بما لا يقاس من تأثير القانون الذي يفترض أنه يعمل على تطبيقه كواجب عليه يرتب له حق الحصول على راتب. وفي هذا السياق أتذكر أني قرأت في محرك البحث "جوجل" تحقيقا صحفيا استقصائيا أعده أنور دهاق بعنوان: "اليمنيات وجواز السفر: الحق الممنوع" وفيه أورد نماذج لمعاناة اليمنيات في مصلحة الأحوال المدنية وفي سفارات الجمهورية اليمنية في الخارج. وكانت قصة شذى أحد هذه النماذج.

         يقول دهاق ما معناه: بعد كفاح طويل تمكنت شذى من الحصول على منحة كاملة لدراسة الدكتوراه في هولندا، وعندما ذهبت إلى مصلحة الأحوال المدنية في ديسمبر 2019 لاستخراج جواز سفر طلب منها الموظف المختص موافقة ولي أمرها وحضوره معها. وأمام هذا الطلب وقفت شذى حائرة لأن والدها طريح الفراش منذ ثلاث سنوات بسبب إصابة بليغة تعرض لها في حادث قصف الصالة الكبرى بصنعاء في أكتوبر 2016، أما اخوتها الذكور فجميعهم يقيم خارج البلاد. حاولت شذى أن تقنع الموظف المختص بأنها ستفقد المنحة المتاحة لها ما لم تسافر في الوقت المحدد، لكن الجواب كان جاهزا: كيف أعرف أنك لن تهربي؟ وأصر على حضور والدها. 

         فكرت شذى بالذهاب إلى مصلحة الأحوال المدنية بعدن غير أن صديقة لها أقنعتها أنها ستواجه المشكلة نفسها. وبعد خمسة أشهر من المعاناة اضطرت شذى أن تنقل والدها المقعد إلى مصلحة الأحوال المدنية بصنعاء لتتمكن من الحصول على وثيقة جواز سفر.

         نموذج آخر مثلته سارة العريقي (أم تقيم في تركيا) حيث طلبت منها القنصلية اليمنية هناك موافقة ولي الأمر لتجديد جواز سفرها. الجدير بالذكر أن عدم وجود جواز سفر ساري المفعول يمثل معضلة كبيرة أمام اليمنيات في الخارج، بما في ذلك الطالبات، حيث لا يكون بمقدورهن لا السفر ولا استلام حوالات مالية.

         زينب أرادت السفر للدراسة العليا في الخارج واتخذت من أخيها ولياً لأمرها، لكن طلبها قوبل بالرفض لأن أخاها بحسب موظف الجوازات أصغر منها وقد يعينها على الهرب. وقصة زينب واحدة من قصص كثيرة مؤلمة روتها النساء عن أثر الإجراءات التمييزية في حرمانهن من حق السفر للعلاج ولم الشمل وإثبات الهوية وكثير من الفرص الخاصة بالتعليم في بلدان العالم.

         إن اشتراط موافقة ولي الأمر لحصول المرأة على جواز سفر ليس فقط وصاية غير دستورية وغير قانونية ولكنها أيضا لا أخلاقية، ذلك أنها متكئة على عرف تستند حيثياته إلى اتهام النساء ضمنيا في أخلاقهن وشرفهن وكرامتهن. فالمرأة عندما تذهب إلى مصلحة الأحوال المدنية للحصول على جواز سفر أو إلى سفارة الجمهورية اليمنية لتجديد جواز سفرها فإنها في تلك اللحظة لا تكون محترمة ولا "بنت ناس" إلا إذا جاء رجل-وليس امرأة حتى وإن كانت الأم- يقول غير ذلك ويضمن أنها لن تهرب ويثبت أقواله في استمارة خاصة، وهذا الرجل إما أن يكون الأب أو الزوج أو الأخ الأكبر أو العم أو الخال أو الجد.

دلالات استجابة معين عبد الملك لحملة "جوازي بلا وصاية":

         مشكلتنا في اليمن أننا نلهث وراء الجملة السياسية المعارضة أو الموالية ولا نهتم بقضايا الحقوق والحريات ولا ندرك أهميتها بما فيه الكفاية. ونحن إما أن نعارض بالمطلق أو نوالي بالمطلق على طريقة "بين أخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب". وليس بمقدورنا تقدير استجابة معين عبد الملك لحملة "جوازي بلا وصاية" حق قدرها وانتصاره للقانون إلا إذا علمنا أن غياب سيادة القانون هو سبب وصولنا إلى ما نحن فيه اليوم. لكن انتصار معين عبد الملك لقانون الجوازات لن يدوم ما لم يكن في إطار نهج شامل ينتصر لمبدأ سيادة القانون في كل أجهزة الدولة.

         إن انتصار حملة "جوازي بلا وصاية" بادرة رائعة ونموذج لما يمكن أن يفعله الوعي المدني، وهذا الانتصار إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن لدينا إمكانيات حقيقة للانتصار للقانون إذا تسلحنا بالوعي القانوني وأحسنا تنظيم أنفسنا لانتزاع الحقوق والحريات. 

         إن انتصار حملة "جوازي بلا وصاية" لم يتمظهر فقط في استجابة رئيس الوزراء لمطالبها وإنما أيضا في قدرتها على فضح كثيرين ممن تعرفنا على مستوى وعيهم بعد أن كنا مخدوعين بهم لسنوات.

         وأخيرا ليسمح لي القارئ الكريم أن أتوجه بعظيم الشكر ووافر التقدير لياسر المليكي المحامي المدرك لأهمية القانون والمستوعب لحقيقة أن تغيير الواقع يبدأ من خلال رفع الوعي بحقوق المواطنة. والشكر موصول للدكتورة ألفت الدبعي التي بادرت وناصرت وماتزال تقدم المثال في الوعي والثبات

                                                                                               طاهر شمسان

                                                                                      صنعاء 19 مارس 2013

 

 

         من الناحية النظرية معروف لكل مختص ولكل مطلع ولكل مهتم أن قانون الجوازات اليمني رقم (7) لسنة (1990) يساوي بين الرجال والنساء في حق الحصول على جواز سفر دونما أي تمييز، ووفقا لهذا القانون بمقدور أي امرأة بلغت سنَّ الرشد وترغب في السفر إلى خارج البلاد أن تتقدم إلى مصلحة الجوازات أو إلى أيٍ من فروعها للحصول على جواز باعتبارها مواطنا كامل الأهلية مثلها مثل الرجل.

         أما على صعيد الممارسة فالأمر مختلف جدا وفيه قدر كبير من التمييز بين الرجال والنساء بسبب الثقافة الذكورية السائدة وركام التخلف الذي يغشى تفاصيل حياتنا كأفراد وجماعات وكمجتمع. وقد سمعنا وقرأنا عن أستاذة جامعية مُنِعتْ من دخول ورشة لإصلاح عطل في سيارتها وسط العاصمة صنعاء بحجة أنها بلا محرم. ومظاهر التمييز-التي من هذا القبيل-ضد المرأة كثيرة، ولا توجد فوارق جوهرية من هذه الناحية بين المناطق التي تدار من صنعاء وتلك التي تدار من عدن. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لدخول ورشة إصلاح سيارات أو مطعم أو كافيه أو فندق للمبيت أو مستشفى للعلاج أو السفر من محافظة إلى أخرى في الوطن أو من مديرية إلى أخرى داخل المحافظة الواحدة ....الخ فما بالكم عندما يتعلق الأمر بجواز للسفر خارج البلاد؟ بغير شك التمييز في هذه الحالة كبير والتخلف المساند له أكبر. فالرجل يحصل على الجواز بسهولة حتى وإن كان أمياً لا يعرف كيف يكتب اسمه، بينما على المرأة أن تأتي بمحرم حتى وإن كانت قاضياً يفصل في المنازعات بين الرجال في المحاكم أو محامياً يترافع عنهم في ساحة القضاء، أو أستاذا جامعياً يقدم المعارف لمن سيحملون رايات مستقبل الوطن، أو طبيبا يداوي الباحثين عن الشفاء من الأمراض، ولا مانع بعد ذلك أن يكون هذا المحرم هو ابنها الذي تنفق عليه وتكدح من أجل تنشئته وتعليمه أو أخاها الأصغر الذي يعتمد عليها في حاضره كي يتمكن من العبور إلى المستقبل!!!

         إن الثقافة الذكورية والتخلف عموما-وليس الدستور ولا القانون-هو الذي يميز بين الرجال والنساء في حق الحصول على جواز سفر. وجزء كبير من معركتنا في مناطق سيطرة الحوثي ومناطق سيطرة الشرعية هو أساسا مع التخلف. والثقافة الذكورية التي تحرِّض عبد الله العديني ضد المرأة في تعز هي نفسها الثقافة التي تسببت في مأساة انتصار الحمادي في صنعاء. ولمواجهة التخلف نحن بحاجة إلى نضال مدني واعٍ يتبنى قضايا الحقوق والحريات وينتصر لها في إطار الدستور والقانون ومن خلال الاحتجاجات الجماعية السلمية التي من شأنها الضغط على أصحاب القرار. وهذا النوع من الاحتجاجات بحاجة إلى طليعة مسلحة بالوعي القانوني وممتلئة بروح المواطنة وبثقافة الدولة، وهذا بالتحديد ما فعلته ألفت الدبعي.

         وبعجالة شديدة: ألفت الدبعي هي أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، وهي عضو مؤتمر الحوار الوطني، وعضو لجنة صياغة الدستور، وعضو هيئة التشاور والمصالحة، وقد نشأت وتربت في أسرة جمعت بين الثراء المادي وروح المحافظة المتوازنة برعاية أب عصامي حاضر بمهابة في تفاصيل حياة ابنته دون أن يصادر شخصيتها وفرادتها، فهو صديقها الصدوق ولكن دون أن ينسى للحظة واحدة أنه أبوها. وألفت كانت لسنوات عضوا قياديا في حزب التجمع اليمني للإصلاح ثم اختارت بوعي أن تستقيل من هذا الحزب لتصبح شخصية عامة تقف على مسافة واحدة من كل الأحزاب وتحتفظ بعلاقات طيبة مع كل المكونات السياسية في اليمن.

         وفيما يتعلق بحق النساء اليمنيات في الحصول على جواز سفر تصرفت ألفت الدبعي في إطار الدستور والقانون حيث ناصرت بقوة حملة "جوازي بلا وصاية" التي أسسها المحامي ياسر المليكي الذي استشعر معاناة المرأة اليمنية من خلال خبرته المهنية كمحامٍ، وشارك معه في التأسيس مجموعة من الناشطات اللواتي وقفن معه أمام مصلحة الجوازات في مدينة تعز ورفعن لافتة مكتوباً عليها "جوازي بلا وصاية". وعلى إثر ذلك سارع رئيس الحكومة معين عبد الملك إلى طلب الفتوى القانونية من الوزارة المختصة، وبالفعل جاءت الفتوى تؤيد حملة "جوازي بلا وصاية" وتؤكد صراحة على أن هناك تمييزا تعسفيا ضد النساء في مصلحة الجوازات وفروعها مخالفا للدستور وللقانون. وبناء على ذلك صدر توجيه رئيس الحكومة إلى وزير الداخلية بالعمل وفقا للقانون، ومن جانبه وجه وزير الداخلية مصلحة الجوازات وجميع فروعها أن تلتزم بالقانون وأن تلغي كل الاشتراطات التي ليس لها وجود في قانون الجوازات وتمكين المرأة من حقها القانوني في الحصول على جواز السفر دون وصاية من أحد.

         لقد ناصرت ألفت الدبعي ودعمت حق المرأة اليمنية في الحصول على جواز سفر دون وصاية من أحد، وهذا أمر طبيعي لا يجب أن يكون محل استغراب من أحد في هذا العصر. والمستغرب أن تكون المرأة حتى الآن منتقصة الحقوق إلى درجة لا تستطيع معها الحصول بحرية على جواز سفر. لكن الأكثر غرابة أن يأتي الاعتراض -وبطريقة سوقية-على حملة "جوازي بلا وصاية" من شخص يحمل لقبا أكاديميا عاليا ويقدم نفسه منذ سنوات على أنه إنسان مستنير ومشبع بالثقافة المدنية وبثقافة الدولة وأنه عضو أعلى هيئة قيادية في المؤتمر الشعبي العام، وبدلا من أن يتوجه بالشكر لرئيس الحكومة لسرعة تجاوبه مع حملة "جوازي بلا وصاية" ذهب يمارس السَّب والقذف والتشهير ضد ألفت الدبعي، وإلى حد ما ضد رئيس الحكومة. 

         الكلام-للأسف الشديد-يدور حول الدكتور عادل عبده قاسم الشجاع على خلفية مقال كتبه ونشره في صفحته على فيسبوك بعنوان "جوازي بلا وصاية مقدمة للمطالبة بالحرية المثلية في اليمن" قال في مطلعه: (قبل ثلاثة أشهر وبدون مقدمات استأجرت امرأة متقلبة الأطوار سبع نساء وذهبت بهن إلى أمام جوازات تعز ورفعن لافتات كتب عليها "جوازي بلا وصاية". وبسرعة البرق وعلى الطرف الآخر أصدر رئيس الوزراء معين عبد الملك توجيهاته بمنح النساء جوازات بدون العودة إلى آبائهن أو أزواجهن، وصورت المسألة وكأن المرأة اليمنية ممنوعة من الحصول على جواز سفر، مع العلم أن ملايين النساء اليمنيات لديهن جوازات سفر ويسافرن مع أسرهن وبدون أسرهن وألفت الدبعي واحدة من اللاتي تسافر خارج اليمن وتحضر مؤتمرات واجتماعات مشبوهة بدون مرافق)، ثم ذهب أخونا هذا يكرس بقية مقاله الطافح بالشتائم لإضفاء المصداقية على كلامه المجانب تماما للحقيقة، وفيما يلي نقتبس القليل القليل مما قاله في هذا السياق:

(لا أظن أن أحدا يجهل الحملة العالمية الممنهجة والتي تتزعمها إسرائيل لدعم مجتمع "الميم" أي المثليين)+ (وكما قلت هناك ضغوط على الدول العربية للقبول بمجتمع "الميم" أي القبول باللواط والسحاقيات)+ (وألفت الدبعي واحدة من الناشطات اللاتي يتاجرن بقضية المرأة ويعبثن بالنساء وتحويلهن لأداة ابتزاز رخيصة. وقضية "جوازي بلا وصاية" ما هي إلا بمثابة جس نبض للرأي العام)+ (نأتي الآن إلى من يقف وراء مجتمع "الميم" الذي تخطط له ألفت الدبعي ومعين عبد الملك، وهي تستأجر من يرفع اللافتات وهو يصدر توجيهات).

         واضح أننا ليس أمام مقال من مقالات التعبير عن الرأي وإنما أمام محض سبٍ وقذفٍ وتشهير في حق شخصية عامة محترمة هي الدكتورة ألفت الدبعي دون أن نعثر على ما يبرر للأخ عادل الشجاع الإقدام على كل هذا القبح، وبخاصة أنه صادر عن أستاذ جامعي يسعى منذ سنوات طويلة لأن يكون صاحب حضور لافت في الشأن العام. ولكن لماذا ظهر معين عبد الملك إلى جانب ألفت الدبعي في المقال المذكور على أنه يخطط لمجتمع "الميم" ويصدر التوجيهات من موقعه كرئيس للحكومة؟ الحقيقة أنا لست معنيا بالرد على هذا السؤال دفاعا عن معين وإنما للدفاع عن حق القارئ اللبيب في معرفة الحقيقة الكامنة خلف مقال الأخ عادل الشجاع أصلحه الله وأخذ بيده إلى ما فيه صلاح محبيه والمعجبين به ممن يحرقون له البخور جهلا أو نفاقا أو من باب "طلبة الله". وردنا على السؤال المذكور سيأتي تباعا في السياق. 

          في مواجهة السَّب والقذف والتشهير لم تنجر ألفت الدبعي إلى ما يجعل الأمر مهاترة أو يجعلها في موقف الدفاع عن شخصها وإنما ذهبت تقدم المثال الحي بضرورة الدولة في مواجهة الخروج على قيم التعايش المجتمعي وعلى حق الأفراد في حماية أعراضهم من أي خدش أو تعدي، وعلى هذا الأساس لجأت إلى القضاء المختص بمكان وقوع الفعل الجنائي وإقامة الجاني، وهذا أمر يفهمه جيدا طلاب سنة أولى حقوق، لكنه لم يكن حاضراً في وعي وحسابات أخينا الدكتور عادل الشجاع الذي اعتقد أن مدينة القاهرة مكان آمن لممارسة السَّب والقذف والتشهير لمجرد أن الجاني والمجني عليه ليسا من مواطني الدولة المصرية.

         وفي أول رد فعل حسن النية على لجوء ألفت الدبعي إلى القضاء المصري تواصل معها بعض الأسماء المعروفة في مسعى حميد منها للتوسط بينها وبين الأخ عادل الشجاع، على أن يقدم هذا الأخير اعتذارا معلنا أمام الرأي العام مقابل أن تعفو هي عنه وتسحب ملف القضية من النيابة المختصة. وبينما أفلح الوسطاء مع ألفت فشلوا في إقناع الشجاع فاعتقدوا خطأً أنه رجل عنيد أخذته العزة بالإثم. وهنا لابد لي من إبداء ملاحظتين الأولى تخص الوسطاء والثانية تخص الأخ الشجاع:

(1) ملاحظتي على الوسطاء أنهم نظروا إلى القضية على أنها صراع بين شخصين وليس صراعا بين اتجاهين في التفكير ينتمي أحدهما إلى العصر ويدافع عن الحقوق والحريات ويحاول أن يرفع سقفها حتى ولو كان الثمن الكثير من الشائعات والكثير من الضوضاء في مجتمع ذكوري معاد لقضايا النساء، بينما الطرف الآخر-والحكم عليه هنا من ظاهر مقاله-يمثل اتجاها تقليديا ينتمي لثقافة التخلف وينصب نفسه صوتا لها بذرائع ودوافع رأينا كم هي متهافتة. 

2-وملاحظتي على الأخ عادل الشجاع أن علاقته بالمقال المذكور أعلاه-إذا جاز أن نسميه مقالا-هي علاقة أجير بعمل قام بإنجازه لصالح صاحب العمل-وليس بدافع الغيرة على قيم المجتمع كما قال هو وصدقه البعض-ولذلك ليس لعادل سوى الأجر مقابل العمل، أما العمل نفسه فقد أصبح ملكا للغير. وهذا يفسر لماذا رفض عادل مساعي الوساطة وهي لصالحه. باختصار شديد: إن مطالبة الأخ عادل الشجاع بالاعتذار معناه مطالبته بالتخلي عن مصدر دخل يبدو أنه أصبح المصدر الوحيد بعد أن دمَّرَ علاقاته مع كل الناس الذين بمقدورهم تقديم العون له. وإني حين أبدي ملاحظتي هذه لم أبدها من فراغ وإنما من التجوال في صفحته على فيسبوك.

         في الوقت الذي قدَّمت فيه ألفت الدبعي أنموذجاً متحضرا في سلوك الطريق القويم لأخذ الحقوق ورفع الوعي القانوني من خلال لجوئها إلى القضاء ذهب الأخ عادل الشجاع-ردا على ذلك-يكتب مقالا ثانيا زاد فيه الطين بلة. وفيما يلي تفنيدنا للمقال الثاني حتى يكون القارئ اللبيب على بينة من الأمر أكثر وأكثر:

1-عنوان المقال: (قضيتي مع رشاد العليمي وآل جابر ومعين وليست مع ألفت الدبعي).

         أولا: إذا كانت قضيتك مع هؤلاء يا أخ عادل فلماذا تركتهم وذهبتَ تتعرض لألفت الدبعي بالسَّب والقذف والتشهير؟ ولماذا لم تعتذر لها عندما طُلبَ منك ذلك؟ لماذا لم تعلن أنك فيما قلته عن ألفت الدبعي قد وقعتَ فيما لا يجب أن يقع فيه أي إنسان مستقيم لديه الحد الأدنى من السَّوية واحترام الذات؟

         ثانيا: إذا كانت لديك قضية موضوعية مع هؤلاء الثلاثة الذين ذكرتهم ولها وجاهة قانونية فما هي هذه القضية تحديدا؟ وأين هو دفاعك المدني المتسق مع موضوعيتها ووجاهتها القانونية؟ ألا ترى أنك أمام أسئلة من هذا القبيل إنسان بلا قضية، وأن القارئ اللبيب لا يحتاج إلى ذكاء استثنائي كي يدرك أنك فيما تقوله عن هؤلاء لا تمثل نفسك وإنما أنت مجرد "شاقي" عند شخص آخر يأكل الثوم بفمك، وأن هذا الشخص من هوامير الفساد الكبير جدا وله مع معين وآل جابر خلافات حول مصالح كبيرة غير مشروعة؟

2-جاء في المقال: (الموضوع ليس دعوى قضائية، بل هي حملة تشهير واغتيال معنوي ممنهج وتحريض على ملاحقتي ومحاكمتي).

         أولا: الاغتيال المعنوي يا أخ عادل لا يكون باللجوء إلى القضاء وإنما باللجوء إلى السَّب والقذف والتشهير والإساءة إلى أعراض الآخرين، وكل هذا صدر عنك لاعتقادك أن التشهير بامرأة محترمة في مجتمع ذكوري سوف يصيبها في مقتل، لكنك تفاجأتَ بامرأة قوية لديها وعي مدني عال وتعرف كيف تقتص ممن يسيء إليها.

         ثانيا: حين ذهبت ألفت الدبعي إلى القضاء فإنها بها تكون قد تصرفت كما يتصرف أي إنسان عصري يحمل قيماً مدنية ويؤمن بالقانون وينتمي إلى فكر الدولة، وإذا كان هذا التصرف يقلقك فلأنك تعلم حجم القبح في الفعل الجنائي الذي وقع منك، ومن غير المستبعد أنك قد ذهبت إلى محامٍ تسأل عن حجم العقاب الذي ينتظرك.

3-جاء في المقال: (المسألة تتعلق بترهيبي وإسكات صوتي المطالب بالتعاقد مع شركة تدقيق عالمية للتدقيق في الأموال التي يدعي محمد آل جابر أنه أنفقها في إعمار اليمن، وكذلك التدقيق في الفساد الذي تمارسه حكومة معين عبد الملك).

         أولا: واضح من هذا الكلام أنك يا أخ عادل تدعي البطولة وتخلط الأوراق وتستجدي التضامن، وكل هذا من أجل إخفاء هامور الفساد الذي يأكل الثوم بفمك. 

         ثانيا: الذي نعلمه أن الترهيب وإسكات الأصوات القوية والمؤثرة لا يكون باللجوء إلى القضاء وإنما باللجوء إلى العنف والتهديد بالقتل في أحسن الأحوال. أما اللجوء إلى القضاء فلا يكون إلا لإسكات الأصوات الضعيفة التي تنتهك أعراض الناس وتخدش الذوق العام.

         ثالثا: سبق وأن سألنا: لماذا ظهر معين عبد الملك في مقال الأخ عادل على أنه يخطط لمجتمع "الميم" ويصدر التوجيهات من موقعه كرئيس للحكومة. وقلنا إن الجواب سيأتي تباعا في السياق. وها نحن الآن بصدد إعطاء الجواب:

         يقول الأخ عادل-مُهَدِداً ومتوعداً-إنه "يطالب بالتعاقد مع شركة تدقيق عالمية للتدقيق في الأموال التي يدعي محمد آل جابر أنه أنفقها في إعمار اليمن، وكذلك التدقيق في الفساد الذي تمارسه حكومة معين عبد الملك". وهنا نطرح على الأخ عادل الشجاع ثلاثة أسئلة مفتاحية:

(1) من هي الجهة التي تطالبها بالتعاقد مع شركة تدقيق عالمية للتدقيق في الأموال التي يدعي محمد آل جابر أنه أنفقها في إعمار اليمن؟ (2) ما هي الصفة التي تخولك القيام بهذه المطالبة التي من الواضح أنها تنطوي على تهديد ووعيد (3) هل فكرت بملايين الدولارات التي يجب دفعها مقابل أتعاب للشركة التي تطالب بالتعاقد معها؟

        بمقدور القارئ أن يلاحظ الآن أن صاحب التهديد والوعيد ليس الأخ عادل الشجاع وإنما شخص آخر يأكل الثوم بفم عادل بمقابل وليس بالمجان، وأن لهذا الشخص خلافات حول مصالح كبيرة غير مشروعة مع آل جابر ومعين عبد الملك، وبسبب هذه الخلافات جرى-من باب المناكفات والمكايدات وتشويه السمعة-اتهام معين عبد الملك أنه يخطط لمجتمع "الميم" ويصدر التوجيهات من موقعه كرئيس للحكومة. 

         إن مجتمع "الميم" هو قصة مختلقة من وحي الخيال المريض لعادل الشجاع الذي استثمر نجاح حملة "جوازي بلا وصاية" لإخراجها من مسارها القانوني إلى مسار آخر مصادم لقيم المجتمع اليمني بغرض تشويه سمعة رئيس الوزراء في إطار الصراع بين هوامير الفساد. أما اقحام الفت الدبعي فهو اجتهاد غير موفق من عادل اعتقادا منه أن ذلك سيضفي على القصة المختلقة نوعا من المقبولية المنطقية لدي الرأي العام. والحقيقة أن عادل باختلاق هذه القصة قد أساء لولي نعمته أكثر مما أساء لمعين وألفت، وهذا ما ستكشف عنه الأيام.

4-جاء في المقال: (السؤال موجه إلى رشاد العليمي: كيف تسمح لمن يدعي أنه مستشارك، وهو بنفس الوقت عضو في مجلس المصالحة يتقاضى أموالا من رصيد الفقراء والجرحى ومرتبات المدنيين والعسكريين لملاحقة مواطن ليس لديه مكان إقامة، مشرد ومحروم من وطنه وحقه في الحياة والأمن والاستقرار، وتريدون أيضا إعدامه سياسيا، إما أن يقبل بالكفيل أو يتم تدميره وتدمير أسرته).

         أولا: لم تقل ألفت الدفعي يوما ما أنها مستشار لرشاد العليمي، وعادل الشجاع هنا يقوِّلها كلاما لم تقله.

         ثانيا: يدعي عادل الشجاع أن ألفت الدبعي تتقاضى أموالا غير مشروعة لملاحقته. وهذه إساءة تستطيع ألفت أن توثقها وأن تضيفها إلى ملف القضية إلى جانب إساءات أخرى كثيرة تضمنها المقال الثاني لعادل الشجاع، وعلى هذا الأخير أن يثبت ما يدعيه أو يستعد لما ستقوله العدالة.

         ثالثا: معروف للقاصي والداني أن ألفت الدبعي من أسرة ثرية لا تحتاج إلى أموال من أحد كي تذهب إلى القاهرة لمقاضاة عادل الشجاع، وهي تنفق على هذه القضية من حر مال أَبٍ فذ ومستنير يدرك أهمية الدور الذي تقوم بها ابنته ويساندها بقوة، ولو أن معظم الآباء مثل هذا الدبعي لكان لدينا حراك نسوي قوي ومنظم يحسب له ألف حساب ولا يستطيع معه أي كان أن يستسهل الإساءة إلى أي امرأة.

         رابعا: لم تدخل ألفت الدبعي المعترك السياسي العام بدافع التكسب من بيع المواقف-فهي ليست بحاجة إلى أحد-وإنما دخلته كإنسان مدني ومثقف عضوي ينتمي إلى مجتمعه ويعرف دوره الاجتماعي ويشعر بالمسئولية وبواجب المشاركة. وألفت أستاذ علم اجتماع يعلم جيدا أن تغيير المجتمع وتحديثه لا يمكن أن يحدث بالتمنيات وإنما بالعمل أي كانت الكلفة.

         خامسا: عادل الشجاع ليس مشردا من وطنه ومثله الألاف ممن تركوا اليمن للحوثي واختاروا حياة الدعة في القاهرة والرياض واستنبول. وإذا جاز أن نتحدث عن مشردين فهم يعدون بأصابع اليد وعلى رأسهم حميد الأحمر وعلي محسن الأحمر والزنداني وغيرهم من مراكز القوى التي ظلت لعقود تعيق بناء دولة يمنية لكل مواطنيها، وها هم الآن يدفعون ثمن ما اقترفت أيديهم.

6-جاء في المقال: (لا تهمني طريقة نهايتي، سواء كانت الفرم على طريقة خاشقجي أو السجن على طريقة يوسف عليه السلام. يكفي أني كنت أتعرض لذلك أمام صمت رئيس مجلس القيادة وتحريض من رئيس الحكومة وسفير قائدة التحالف). وسوف أترك التعليق على هذا الكلام للقارئ الذي لا شك أنه قد أصبح في الصورة ولم يعد بمقدور عادل الشجاع أن يمارس عليه الخداع.

         وقبل أن أذهب إلى ختام هذا المقال أود التأكيد أنني في مساندتي لألفت الدبعي لم أساندها لشخصها وإنما للوعي الذي تمثله وتريد لنا جميعاً أن نصدر عنه ونتمثله في خلافاتنا واختلافاتنا حتى لا تتحول مجتمعاتنا إلى بيئة حاضنة للسفهاء، وحتى لا يظل السفهاء بمنأى عن سلطة القانون يرهبون من يشاؤون بالافتراء والأكاذيب والشتائم والبذاءات وتشويه الحقائق.

         في مواجهة البذاءات تصرفت ألفت الدبعي كما هو متوقع من أي إنسان مدني في القرن الواحد والعشرين، وهي في هذا التصرف تدرك جيدا أنها تدفع كلفة تحول المثقف إلى رمز، وتدفع ثمن هذه الكلفة بشجاعة ووعي وتقدم أنموذجا راقيا في الترفع عن الصغائر والإصرار على احترام القانون ليكون وحده المعيار. ولا شك أن المعارف التي تتسلح بها ألفت والتنشئة الأسرية الواعية يحضران بقوة في تفسير الثبات الذي أبدته وهي تصر على تحكيم القانون وكسر حاجز الخوف من استغلال العادات والتقاليد ضد المرأة.

         من مناصرتها لحملة "جوازي بلا وصاية" بدا واضحا أن الفت الدبعي تقرن القول بالعمل وتصنع رمزيتها بحكمة وكبرياء وتدرك أن التضحية صارت ضرورية لتمكين المرأة اليمنية من أن تكون مواطنا كامل الحقوق. ومن غير شك أن ألفت الدبعي قد نجحت في فضح النفاق الذي ينخر مجتمعنا اليمني، كما فضحت هشاشة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها المنظمات التي تأسست للاشتغال على قضايا المرأة. 

         إن مناصرة ألفت الدبعي فيما تتعرض له من سبٍ وقذف وتشهير هي مناصرة للمرأة اليمنية عموما، شريطة أن تكون مناصرة قانونية وليس لمجرد أنها امرأة فقط وإنما لأنها مواطن له صوت يجب الدفاع عنه عملا بحقوق المواطنة والمساواة. ومن الجدير في هذا السياق التأكيد على أن المرأة المنتظمة في حركة نسوية فاعلة ومتعاونة ومتعاضدة تستطيع أن تحدث التغيير الذي لم يقدر عليه الرجال سواء كانوا من المثقفين أو كانوا من مراكز القوى الاجتماعية أو من أولئك المحسوبين على السياسة في الأحزاب وخارجها. فوحدها المرأة من يجب الرهان عليها في تغيير واقعها من بوابة الدفاع عن حقوقها وعن مواطنتها المسلوبة وإزالة الانتقاص الدائم لحقوقها. فأين هي المنظمات النسوية؟ وأين هي دوائر المرأة في الأحزاب السياسية؟

                                                                        صنعاء 11 مارس 2023

 

الإثنين, 16 كانون1/ديسمبر 2019 17:25

الممانعون للدولة الحديثة في اليمن

 

         تتلخص مشكلة اليمن في أن مسار تطوره التاريخي لم يفضِ إلى بناء دولة حديثة تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها وتمكنهم من الانخراط الجماعي في التنمية الشاملة وصناعة الرفاه العام. ويمكننا تصنيف اليمنيين في موقفهم من الدولة الحديثة إلى ثلاث مجموعات ممانعة ومجموعة واحدة فقط يمكنها القبول بهذه الدولة.

         المجموعة الممانعة الأولى هم أولئك الذين يرفضون الدولة الحديثة بحسابات الأيديولوجيا، وفي هذا يتساوى عبد المجيد الزنداني وأتباعه وكل من هم على شاكلته مع عبد الملك الحوثي وأشياعه على ما بين الإثنين من عداوة ناجمة عن تنوعات الأيديولوجيا وتقاطعاتها مع المصلحة. والقاسم المشترك بين كل الأيديولوجيين على ما بينهم من خلافات واختلافات أن كل جماعة منهم تريد دولة منضبطة لأيديولوجيتها هي وليس لمبدأ المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان.

         المجموعة الممانعة الثانية هم أولئك الذين يرفضون الدولة الحديثة بحسابات المصلحة. وللمصلحة تنوعات ومستويات تتدرج من الأدنى إلى الأعلى وجميعها تشترك في خط ناظم واحد هو خط الفساد على اختلاف مقاديره وأحجامه. وفي هذا يتساوى كل الذين مارسوا الفساد أو استفادوا من وجوده وفي مقدمة هؤلاء يأتي أولئك الذين راكموا ثروات مهولة بطرق غير مشروعة سواء كانوا عسكريين أو مدنيين أو رجال دين أو شيوخ قبائل أو كانوا من الشمال أو الجنوب.

         المجموعة الممانعة الثالثة هم أولئك الذين يدينون بالولاء لعصبيات ما قبل الدولة ويتراجع عندهم الشعور بالولاء للوطن لصالح الولاء للقبيلة أو المنطقة أو الفئة.

         أما المجموعة التي يمكنها القبول بالدولة الحديثة فهم أولئك الذين لا توجد لديهم لا موانع أيديولوجية ولا موانع المصلحة التي تتغذى على الفساد ولا موانع العصبيات القبلية. وإلى هذه المجموعة ينتمي معظم اليمنيين. والمانع الوحيد الذي يوجد عند هؤلاء هو مانع معرفي. ومعنى ذلك أن معظم اليمنيين هم مع الدولة الحديثة إذا تعرفوا عليها على مستوى الوعي المجرد وتعرفوا على الطريق الذي يفضي إليها على مستوى الممارسة الملموسة، أما إذا لم يتعرفوا عليها فسيكونون ضدها من حيث لا يعلمون ولا يقصدون، وهذا هو واقع الحال في المشهد اليمني الراهن الذي تتصدره قوى تراهن على نار السلاح لا على نور العقول، بينما لا نرى أثرا للقوى التي تدعي الحداثة والنضال من أجل الدولة الحديثة. ومن أجل الوصول إلى هذه المجموعة الرابعة ينبغي أن يتداعى كل اليمنيين الباحثين عن دولة حديثة إلى تنظيم أنفسهم مدنيا في كتلة تاريخية مؤهلة للنهوض بهذه المهمة.

الخميس, 28 تشرين2/نوفمبر 2019 22:15

في معنى العلمانية

 

         العلمانية ليست عقيدة ولا هي أيديولوجيا، وهي بهذا المعنى لا تفتش في ضمائر الناس لا عن إيمانهم ولا عن إلحادهم، وليس لها تحيزات مع الملحد ضد المؤمن ولا مع المؤمن ضد الملحد. وإذا جاز القول بأن فلاناً ملحد وعلاناً مؤمن فمن الخطأ الاستنتاج بأن الأول علماني والثاني غير علماني، ذلك أن الإيمان الديني عقيدة والإلحاد عقيدة مضادة له، بينما العلمانية ليست عقيدة، بل هي أعلى مستويات الحياد العقائدي والأيديولوجي.

         إن العلمانية ليست صفة لصيقة بالأفراد وإنما بالدولة الحديثة في أوروبا المعاصرة، فالدولة هناك علمانية. والدولة العلمانية هي بالضرورة دولة محايدة تجاه الأديان والمذاهب والأيديولوجيات. والمواطن الأوروبي متمسك بعلمانية الدولة التي يعيش في ظلها لا فرق في ذلك بين ملحد وراهب في كنيسة. والذي يجعل المواطن الأوروبي متمسكا بعلمانية دولته الوطنية هو الوعي بماهية الدولة الحديثة كمكسب حضاري ما كان بمقدور الحضارة الأوروبية المعاصرة أن توجد بدونه.

         إن المعجزة الكبرى التي ابتكرتها أوروبا المعاصرة هي الدولة الحديثة، أما الإنجازات التي نراها على صعيد العلم والتكنولوجيا وثورة الاتصال فلم تنشأ إلا على هامش هذه الدولة وبفضلها، ولولاها لكانت أوروبا –مثلنا-غارقة في الحروب، ولكان العالم في ظلام دامس يقتاته الفقر والجهل والأوبئة والأمراض الفتاكة.

         وبما أن العلمانية لصيقة بالدولة الحديثة فمن الصعب على أي منا أن يتصورها ما لم تكن لديه أولا فكرة عن الدولة الحديثة نفسها. وبما أن الأشياء تعرف بأضدادها فمن المتعذر علينا التعرف على الدولة الحديثة ما لم نتعرف أولا على الفروق الجوهرية بينها وبين الدولة القديمة.

          وقبل الذهاب إلى عقد المقارنات بمقدورنا أن نتخيل الدولة منذ أن انبثقت في التاريخ على أنها آلة (ماكينة) ظلت لمئات القرون تعمل بالطريقة نفسها في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة وفي كل الحضارات مع بعض الفروق الناجمة عن اختلاف الثقافات. وعندما بدأت أوروبا تغادر القرون الوسطى وتخطو خطواتها الأولى باتجاه النهضة والأنوار ومن ثم باتجاه العصر الحديث ألقت هذه المتغيرات بظلالها الكثيفة على ماكينة الدولة وأخذت التحسينات تدخل على هذه الماكينة بالتدريج ولكن ليس بغير صراع. وكان من نتائج التحسينات التي توالت على الماكينة-الدولة أن خرجت أوروبا الغربية من عصر الامبراطوريات الدينية إلى عصر الدول القومية. والتحول الجوهري في هذه العملية هو تحول الشعوب من الأخوة في الدين في ظل الدولة القديمة إلى الأخوة في الوطن في ظل الدولة الحديثة التي لم تعد تنظر إلى الشعب على أنه جماعة من المؤمنين وإنما باعتباره تنوعا هائلا لأفراد توحدهم في منظور الدولة الحديثة حقوق وواجبات المواطنة.

         بمقدورنا أن نسرد عشرات الفروق الجوهرية بين الدولة القديمة والدولة الحديثة لكنا هنا سنكتفي فقط ببعض الفروق التي تساعدنا على إدراك ماهية العلمانية. وعلى هذا الأساس فإن أول ما يستوجب لفت الانتباه إليه هو أن الدولة القديمة قامت في كل زمان ومكان على قاعدة الغلبة والاستقواء بينما الدولة الحديثة لا تقوم إلا على قاعدة التوافق الوطني بين كل أطياف المجتمع. ويترتب على ذلك أن معرفتنا بالدولة القديمة لم تنشأ إلا بعد أن رأيناها متجسدة ومتعالية علينا في الجغرافيا بينما يتعذر على الدولة الحديثة أن توجد في الجغرافيا قبل أن تتخلق وتتكون في الوعي أولا، وذلك لأنها نتاج إبداع حضاري وليست نتاج غلبة واستقواء. ومن حيث التسيير تدار الدولة القديمة على قاعدة الاقصاء والاستبعاد والتقريب الانتقائي بينما تدار الدولة الحديثة على قاعدة التنافس الديمقراطي بين مواطنين أحرار. وإذا كانت الدولة القديمة تطبق قانونها انتقائيا على رعاياها وتقاوم تطبيقه على نفسها فإن الدولة الحديثة تخضع هي نفسها للقانون مثلها مثل مواطنيها، ولذلك بمقدور أي مواطن في الدولة الحديثة أن يقاضي أي مؤسسة من مؤسسات الدولة حتى وإن كانت هي مؤسسة الرئاسة. وإلى ذلك يلاحظ على الدولة القديمة أنها دائما دولة متحيزة أيديولوجيا سواء كانت الأيديولوجيا دينية أو دنيوية. وأخيرا الدولة القديمة دولة محافظة تقاوم التغيير بينما الدولة الحديثة دولة مرنة تقبل التغيير، وقد ترتب على مقاومة التغيير أن الدولة القديمة لا تؤسس لاستقرار دائم وسلام مستدام وإنما تجتاحها الثورات والحروب الدورية الأمر الذي يجعل منها دولة غير تنموية، وعلى العكس من ذلك تتسم الدولة الحديثة بالاستقرار الدائم والسلام المستدام الذي يوفر ظروفا مثالية لانخراط المجتمع كله في التنمية الشاملة وصناعة الرفاه والحضارة.

         وبغير العلمانية ومعها الديمقراطية ما كان بمقدور الدولة الحديثة أن تكون على هذا النحو الذي بينًّاه. فكيف تم ذلك؟ بما أن الدولة الحديثة تتخلق أولاً في العقل كإبداع وفتح معرفي فإن الوعي بها قام على وضع حدود صارمة بين مجالين هما المجال العام والمجال الخاص. ويتألف المجال العام من: الجيش؛ الشرطة والأمن؛ القضاء؛ الجهاز البيروقراطي للدولة (الخدمة المدنية)؛ التعليم بكل مكوناته ومستوياته؛ العلاقات الخارجية والسلك الدبلوماسي. أما مكونات المجال الخاص فهي: المواطن الفرد؛ الأسرة؛ النقابة؛ الحزب السياسي؛ ثم الكنيسة، المعبد، الجامع.

         والملاحظ على مكونات المجال العام أنها مما يجب أن يكون مشتركا بين كل مواطني الدولة، ولهذا سمي بالمجال العام ليقف على مسافة واحدة من كل المواطنين دون أي تمييز بينهم على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو محل الميلاد أو الثقافة أو المعتقد أو الطبقة الاجتماعية...الخ. بينما الملاحظ على المجال الخاص أنه ميدان واسع للتنوع والخصوصيات التي لا حصر لها.

         أما الحدود الصارمة بين هذين المجالين فالمراد بها حماية المجال الخاص من تغوُّل المجال العام وحماية المجال العام من أي اختراق يمكن أن يأتي من داخل المجال الخاص. وبطبيعة الحال لم تتكون الحدود الصارمة بين المجالين من أسلاك شائكة وإنما من منظومة حمائية من القوانين والتدابير المؤسسية، فضلا عن الوعي الجمعي الذي يقاوم أي مساس بهذه الحدود. والعلمانية والديمقراطية هما عمادا المنظومة الحمائية التي تمنع المجال العام من التغول على المجال الخاص وتمنع المجال الخاص من اختراق المجال العام، مع ملاحظة أن العلمانية والديمقراطية لا تلتقيان داخل مجال واحد وإنما لكل منهما اختصاصه وحدوده التي لا يتعداها.

         إن العلمانية لا تمارس فاعليتها إلا داخل المجال العام حيث عيناها مفتوحتان على أي اختراق يمكن أن يأتي من داخل المجال الخاص للتأثير على حيادية المجال العام ومنعه من الوقوف على مسافة واحدة من كل المواطنين، وليس للعلمانية أي عمل غير هذا. بينما لا تمارس الديمقراطية فاعليتها إلا في المجال الخاص لحمايته من أي تغول يمكن أن يأتي من داخل المجال العام.

         وتأسيسا على ما سبق يستحيل على الدولة أن تكون حديثة إذا كانت علمانية فقط أو ديمقراطية فقط، وذلك لأن العلاقة بين العلمانية والديمقراطية في الدولة الحديثة علاقة ضرورية كالعلاقة بين أضلاع المثلث وزواياه. فمثلما لا نستطيع أن نتصور مثلثا بزوايا دون أضلاع أو بأضلاع دون زوايا فمن الصعب أيضا أن نتصور دولة حديثة بالعلمانية دون الديمقراطية أو بالديمقراطية دون العلمانية.

         إذا حضرت العلمانية وغابت الديمقراطية فإن العلمانية تتخلى عن طبيعتها كمنظومة تدابير وإجراءات محايدة وتتحول إلى عقيدة استبدادية متحيزة ومتغولة على المجال الخاص الذي يفتقر إلى الحماية، وقد رأينا كيف كانت العلمانية متغولة في تركيا الحديثة قبل أن تأتي إليها الديمقراطية.

         وإذا حضرت الديمقراطية وغابت العلمانية فإن المجال العام يبقى مكشوفا وعاريا من أي حماية، وبالتالي تكون الديمقراطية عبارة عن بقاء دائم في السلطة بالنسبة للحزب الحاكم الذي يستحوذ على المجال العام ويصادره، وتكون عبارة عن بقاء دائم في المعارضة بالنسبة للحزب الذي ليس له أي نصيب في المجال العام.

         الملاحظ أن الكنيسة والمعبد والمسجد جميعها في الدولة الحديثة تقع داخل المجال الخاص وليس مسموحا لأي منها أن تخترق المجال العام. وبالتالي ليس صحيحا القول بأن العلمانية تفصل بين الدين والدولة، والصحيح أنها تفصل بين بين المؤسسة الدينية ومؤسسات الدولة. والمؤسسة الدينية ليست مؤهلة للوقوف على مسافة واحدة من كل المواطنين لأنها إذا كانت مسيحية كاثوليكيه فسوف تتحيز مع الكاثوليك ضد البروتستانت وسوف تتحيز مع البروتستانت ضد الكاثوليك إذا كانت مسيحية بروتستانتية، وقل مثل ذلك عن المسجد الذي سيتحيز ضد أهل التشيع إذا كان سنيا وسيتحيز ضد أهل السنة إذا كان شيعيا. ولذلك ليس مسموحا للمؤسسة الدينية أن تخترق المجال العام.

         إن وقوع المؤسسة الدينية داخل المجال الخاص يعني أنها تتمتع بحماية الديمقراطية التي تضمن حرية المعتقد وحرية العبادة على أي دين مثلما تضمن حرية عدم التعبد بأي دين. لذلك نلاحظ أن المؤمنين في الدولة الحديثة يمارسون طقوسهم وشعائرهم الدينية بدافع القناعات الشخصية المتحررة من أي ضغط عليها، وهذا يجعل تلك الممارسات خالصة من أي شبهة نفاق.

         إن المجال العام المعلمن ينظر إلى كل فرد في المجتمع على أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات ولا يهتم بما هو غير ذلك، وهذا هو الأمر الذي يجعل الدولة الحديثة تقيم علاقة مباشرة مع كل فرد في المجتمع باعتباره مواطنا فحسب ولا تقبل بأي وساطة أو توسط بينها وبين المواطن. فالدولة الحديثة لا تنظر إلا إلى السيرة الذاتية للمواطن (CV) التي على أساسها تقاس معارفه وخبراته ومهاراته وبموجبها تكون المفاضلة بينه وبين غيره من المواطنين، وهي بهذا المعنى لا تهتم أبدا بالمعتقد الديني للمواطن. وعليه ليست العلمانية إذاً موقفا من الدين وإنما هي موقف من الدولة، وهي لا تحمي المجال العام من الأيديولوجية الدينية فقط وإنما من كل الأيديولوجيات التي تسعى لاختراقه تمهيدا لاختطاف الدولة.

         إن القول بأن العلمانية عقيدة هدفها إقصاء الدين من داخل الدولة ومن الحياة عموما هو قول فاسد لا يصمد أمام أي حجاج متسق يقوم على ضبط المفاهيم التي تتعرض لسوء الاستخدام، وفي حدود معارفنا لا يوجد مفهوم تعرض لسوء الاستخدام مثل مفهوم "الدين" الذي يجري الخلط بينه وبين مفهوم "التدين". إن الدين هو الموجود بين دفتي الكتاب (القرآن)، بينما التدين هو الممارسة البشرية للدين. فالدين عندما يغادر حالته المثالية بين دفتي الكتاب إلى مسرح التاريخ فإنه يتأثر بظروف الزمان والمكان ويصبح تدينا مفتقدا لمثالية الدين. وإذا كان الدين ثابتا فإن التدين متغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وهذا يفسر التعدد في المذاهب مثلما يفسر التنوع في التعاطي مع الدين بتنوع الثقافات ولهذا رأينا كيف أن البيئة البدوية القاسية في نجد جاءت بالتدين الوهابي بينما نشأ التدين الصوفي على ضفاف النيل. وإذا كنا نرى جماعات الإسلام السياسي على اختلاف مشاربها تنادي بهيمنة الدين على الدولة فإن هذه المناداة ليست من الدين وإنما من التدين أو قل من الأيديولوجية الدينة التي تبرر لاختطاف الدولة من قبل الإسلام السياسي.

         إن الإسلام السياسي لا يرى الله إلا كائنا سياسيا له أجندة لا يريد أن يحققها إلا عبر الدولة. وبما أن الله لن ينزل من عليائه للهيمنة على الدولة فإن الإسلام السياسي هو الذي يتعالى كي يختطف الدولة نيابة عن الله وباسمه. وأمام ذهنية تفكر بهذه الطريقة تغيب السياسة لتحضر الشعوذة. إن السياسة تدافعٌ سلمي بين أحزاب ديمقراطية جميعها يقف على أرضية بشرية، بينما شعوذة الإسلام السياسي لا تنظر إلى السياسة إلا على أنها منازلة بين ملائكة وشياطين، وبهذا المعنى يؤسس الإسلام السياسي لحروب أهلية يستدعيها من ظلمات القرون الوسطى حين كانت الدولة دينية والشعب هو الجماعة المؤمنة التي توحدها الأخوة في الله. ومعروف أن القضية المركزية لدولة القرون الوسطى هي إعداد الناس من أجل الآخرة وقيادتهم إلى الجنة، بينما الدولة الحديثة لا تهتم إلا بتنظيم شئون الحياة تاركة الآخرة للمواطن الفرد كشأن شخصي يقيم علاقته مع الله مباشرة دون وسطاء.

         في بلد مثل اليمن يصرخ الإسلام السياسي بأعلى صوته: "لماذا نختلف حول تحكيم الشريعة الإسلامية ونحن جميعا مسلمون". وحجاج كهذا ينطلي كثيرا على الأميين وأشباه المتعلمين الذين شكلت عقولهم مناهج مؤدلجة صاغها الإسلام السياسي. صحيح نحن جميعا مسلمون، ولكن من حيث موقعنا في الخريطة الدينية للعالم، نحن مسلمون بالنسبة لأتباع الديانات الأخرى الذين يقاسموننا العيش على كوكب الأرض، أما بالنسبة للدولة التي نريدها فنحن جميعا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات لا فرق في ذلك بين رئيس جامعة الإيمان وعامل النظافة. والدولة التي نريدها لا تفاضل بين الناس بتقسيمهم إلى أصحاب فضيلة متعالين على المجتمع وآخرين بلا فضيلة لا يستقيم إيمانهم إلا إذا باركه "العلماء".

         وفي بلد مثل مصر يصرخ الإسلام السياسي مطالبا بتحكيم شريعة الأغلبية السكانية زاعما أن دين الأغلبية شديد التسامح مع الأقليات. وهذه مغالطة منطقية تكذبها الممارسة البشرية التاريخية للدين حيث يتحول إلى تدين متوحش يقترف جرائمه باسم الدين، والماضي والحاضر طافحان بهذه الجرائم، ويمكننا سرد مئات الوقائع من التاريخ بما في ذلك تاريخ فتوحات المسلمين التي تسمى خطأ ب “فتوحات الإسلام".

          إن جماعات الإسلام السياسي تؤمن فقط بالأخوة في الدين وتكفر بالأخوة في الوطن. ولهذا التفكير مخاطر كبيرة على الوحدة الوطنية وعلى استقرار البلاد. ومن تجليات الكفر بالأخوة في الوطن القول بأن الوحدة اليمنية "فريضة إسلامية" وهو شعار رفع في سياق التحريض على الحرب. والحقيقة أننا لم نتوحد في 22 مايو 1990 لأننا جماعة دينية وإنما لأننا جماعة وطنية، لم نتوحد لأننا مسلمون وإنما لأننا يمنيون بصرف النظر عن معتقدنا الديني. والإسلام ليس قيمة منتجة لليمن الحضاري الثقافي وإنما قيمة مضافة إليه.

         إن الإسلام السياسي الذي يزعم أن الوحدة فريضة إسلامية هو نفسه من كفَّر أولئك كانوا يتعبدون بالوحدة منذ ما قبل ظهور الإسلام السياسي، وهو نفسه  من قال " إن الوحدة لا تجوز بين من كان مؤمنا ومن كان كافرا" وهو نفسه من ظل يقرع طبول حرب 1994 ويحرض "المؤمنين" على القتال الذي يدفع اليمنيون ثمنه إلى الى اليوم. والإسلام السياسي بشقيه الوهابي والزيدوي هو المسئول عن الحرب التي تطحن اليمن واليمنيين منذ خمس سنوات.

الخميس, 14 تشرين2/نوفمبر 2019 19:54

حول اتفاق الرياض

 

         أول سؤال يأتي على البال فيما يتعلق باتفاق الرياض هو سؤال الجدوى. فإلى أي مدى تحققت في هذا الاتفاق مصلحة وطنية؟ هل جاء متسقا مع روح الدولة؟ هل جاء محملا بروح السياسة أم بإملاءات القوة؟ هل جاءت تعبيراته دستورية وقانونية؟

         الملاحظ على هذا الاتفاق ابتداء أن الشرعية ليست هي من بادر إليه ولا هي من صاغ مضامينه، وأنه لم يتخلق على أرض يمنية، وأن الرعاية الإقليمية تؤكد ظل الرعاة عليه وإملاءاتهم وتدخلهم في الشأن اليمني على النحو الذي يخدم مصالحهم في المقام الأول.

         لا أثر في مضامين الاتفاق على أصل الخلاف بين الحكومة الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي" رغم أن هذا الأصل مبيَّنٌ دون أدنى مواربة في شعارات وخطابات المجلس الانتقالي الذي ما برح يقدم نفسه كممثل لجغرافيا الجنوب وسكانها من أجل "الاستقلال واستعادة الدولة" كما يقول.

         إن المجلس الانتقالي لم يخرج إلى الشارع بمطالب حقوقية –كما يوحي بذلك اتفاق الرياض-وإنما خرج بأعلام انفصالية لفرض إرادته على إرادة الدولة بقوة السلاح الذي لولاه لما كان هذا المجلس شيئا مذكورا. لم يخرج المجلس الانتقالي إلى الشارع مناديا بتغيير الحكومة وإنهاء الفساد ودفع الرواتب، ولا خرج مطالبا بحق الناس في الأمن والخدمات، كما لم يخرج مطالبا بالرقابة على موارد الدولة وتوزيعها بما يحقق العدالة للجميع. أما الجانب الحقوقي للقضية الجنوبية الذي أقره اليمنيون واعترفوا به في مؤتمر الحوار الوطني فليس هو ما يشغل المجلس الانتقالي لأن هذا الأمر ابتداء لا يهم لا دولة الإمارات ولا مملكة آل سعود.

         ولو أن المجلس الانتقالي خرج إلى الشارع من أجل المطالب الحقوقية المبينة أعلاه لكان قد قدم نفسه كحراك اجتماعي-سياسي مدني. لكن الذي سمعناه ورأيناه ولمسناه أن هذا المجلس نشأ منذ البداية كحركة تمرد مسلح ومَوْضَعَ نفسه في مواجهة الشرعية على أنه دولة وله رئيس يتصرف وكأنه هو صاحب الفخامة في الجنوب. والأنكأ من كل ذلك أن المجلس الانتقالي ذهب يقيم علاقات عسكرية وأمنية مع جهات خارجية بالمكشوف معلنا ولاءه الكامل لتلك الجهات. بينما ذهب اتفاق الرياض يقدم المجلس الانتقالي وكأنه حراك مطلبي مستاء من طريقة إدارة الدولة وفساد أجهزتها ومسؤوليها على اختلاف مستوياتهم متجاهلا أن هذا المجلس تلقى الأموال والسلاح من الخارج وشكل مليشيات غير قانونية واستخدم منابر إعلامية من خارج الوطن تحرض على الدولة وعلى الشرعية.

         إذا أردنا الحديث عن انتصارات حققها اتفاق الرياض فعلينا أن نقر بانتصارين اثنين: الأول للمجلس الانتقالي الذي حوله اتفاق الرياض من متمرد على الدولة إلى طرف تعترف به الشرعية المغلوبة على أمرها. وهذا يذكرنا بما فعله اتفاق السلم والشراكة مع تمرد مليشيا الحوثي وانقلابها على الدولة. والثاني للسعودية والإمارات اللتين تمكنتا من القيام بنقلات نوعية على رقعة الشرعية باتجاه مشروعهما الخاص في المنطقة، كما تمكنتا من دعم وتثبيت الأيادي الموكل إليها المساعدة في تحقيق هذا المشروع الرامي –في أحسن الأحوال-إلى إعادة بناء دولة يمنية محملة بأمراض هيكلية وضعف مستدام يفضي في الأخير إلى تشظي اليمن تلقائيا بأياد يمنية دون أن تتحمل السعودية والإمارات وزر هذه النتيجة التي سيبدو مسارها واضحا في ترتيبات ما يسمى بالحل النهائي حيث سيغدو الحوثي والانتقالي المكوِّنين الأقوى والأهم في هذا الحل.

         إن المشروع السعودي الإماراتي في اليمن ليس مشروعا طارئا وإنما هو مشروع إقليمي قديم وطويل المدى يهدف إلى تحقيق مصالح هاتين الدولتين على حساب اليمن واليمنيين، ومن وراء هاتين الدولتين تقف دول عظمى راعية وآذنة وحامية ترى في جمهورية ملالي إيران مصدر تهديد وقلق دائم. أما المصالح الماثلة في هذا المشروع فهي إحداث نقلات نوعية على اليابسة وعلى الماء تضمن دوام تدفق النفط كسلعة عالمية ذات طابع استراتيجي تحسبا لأي شر يحيط بالمنطقة بالإضافة إلى التحكم بالممرات المائية والسيطرة على الموانئ والجزر المهيأة لأن تكون قواعد عسكرية معلنة وغير معلنة.

         وعلى المدى العاجل جدا سيصبح المجلس الانتقالي غطاء سياسيا يعمل من داخل الحكومة وتحت مظلة الشرعية على تمرير كل ما تريده السعودية والإمارات ولكن عبر اتفاقيات رسمية هذه المرة تجنب هاتين الدولتين حرج الممانعة الشعبية التي رأينا غيرتها على الوطن في سقطرى والمهرة الأمر الذي جعل الرياض وأبو ظبي تعملان على تغطية قبح وجهيهما بعد أن كان هذا القبح مكشوفا ومستفزا للوجدان الشعبي الجمعي في كل اليمن. لقد عمدت السعودية والإمارات إذا –من خلال اتفاق الرياض-على تغيير قواعد اللعبة بأن جعلتا الصراع يبدو يمنيا-يمنيا خالصا لتكتفيا بتغذيته من وراء الستار.

         وتأسيسا على ما سبق علينا أن نسأل: ماذا بقي للشرعية من شرعيتها؟ وماذا بقي لها من عوامل القوة إن هي أرادت تعديل شروط اتفاق الرياض على مستوى التطبيق والممارسة من الداخل اليمني وبقوة الواقع؟ وهنا لا يكون الرهان إلا على الوعي الشعبي في كل اليمن شمالا وجنوبا، وعلى شحذ هذا الوعي وتنميته يجب الاشتغال.

         يعتقد بعض المتفائلين باتفاق الرياض أن الشرعية –بالتوقيع على هذا الاتفاق -أجبرت المجلس الانتقالي على الاعتراف بها والعمل تحت مظلتها. وعلى هؤلاء أن يدركوا أن المجلس الانتقالي ولد ملقحا بجينات العقوق والتمرد منذ لحظة التكوين عندما كان نطفة إماراتية وقبل أن يكون مضغة فعلقة، وبالتالي لا يهتم هذا المجلس برضا الشرعية عنه أو عدم رضاها، ولطالما جمع بين الأختين من خلال التمرد على الشرعية عسكريا حتى محاصرة قصر معاشيق وفي الوقت نفسه يعلن اعترافه وتمسكه بشرعية الرئيس هادي، وهذا من تجليات مفاعيل النطفة الإماراتية حيث الإمارات هي الأخرى تتمسك بشرعية هادي لتفعل ما تريد هي لا ما يريده هادي. فالتمسك بشرعية هادي هو ما يبرر الوصاية السعودية والإماراتية على اليمن، وليس بمقدور المجلس الانتقالي –كمخلب سعودي إماراتي-أن يخرج عن هذا السيناريو.

         صحيح أن المجلس الانتقالي كان ومازال يصرح أنه ليس ضد الشرعية وإنما ضد قوى اخترقت الشرعية (يقصد حزب الإصلاح والإخوان المسلمين)، وهذا كلام سبق وأن سمعناه من الحوثي حين قال إن اجتياحه لصنعاء ليس موجها ضد الشرعية وضد هادي وإنما ضد الدواعش الذين أصبحوا في القصر الجمهوري وداخل حكومة الوفاق (يقصد حزب الإصلاح والاخوان المسلمين). وكلاهما (الحوثي والانتقالي) تجاهلا تماما أن الشرعية وحدها هي من تقرر أنها مخترقة أو غير مخترقة، ولا يجوز لأي كان أن يتعامل معها كقاصر وإعلان نفسه وصيا عليها.

         لقد اتخذ (الحوثي والانتقالي) من الحرب ضد مخترقي الشرعية ذريعة كلٌّ لفرض إرادته والتأسيس لشرعيته التي لا وجود لها، وكلاهما يدرك تمام الإدراك أنه جاء من خارج الدستور والقانون، وكلاهما يستغل ضعف الدولة ويعمل على المزيد من الإضعاف والتمزيق والتشظي ليقدم نفسه بديلا يضع الناس في مقارنة قسرية بين سيء وأسوأ. وهذه عقلية انتهازية من خارج السياسة لأن الاشتغال من داخل السياسة لا يتم إلا عبر الأطر القانونية (البرلمان والجماهير ومنظمات المجتمع المدني) ليجبر الطرف الآخر على الذهاب إلى انتخابات مبكرة يظهر هو من خلالها جدارته واستحقاقه. أما الاستقواء بالسلاح فلا علاقة له بالسياسة وهو محض همجية.

         وهناك فرق سياسي هائل بين أن تستغل نقاط ضعف خصمك وبين أن تتعمد إضعاف الدولة، لأنك في الحالة الثانية تؤسس للفوضى وتدفع الكل دفعا إلى اللعب خارج السياسة. أما إضعاف الخصم فلا يكون إلا من خلال استغلال نقاط ضعفه في الواقع جماهيريا وشعبيا وبالتالي إجباره مدنيا على قبول التحدي الانتخابي. والحقيقة أن كل الأطراف في اليمن ضعيفة أمام الشعب إذا منحت الجماهير فرصة الاختيار والمفاضلة، ولذلك نرى الكل يستسهل استخدام السلاح لفرض إرادته بالقوة.

         إن ما يريده المجلس الانتقالي هو أن يضع الجنوب كله تحت البندقية التي جاءته من الخارج وأن يختزل الجنوب كله في شخصه، وهذا ما يفعله الحوثي في الشمال بعد أن فشل في قهر كل اليمن واختزاله في ميلشياته. وليس في وعي الانتقالي ولا في وعي الحوثي ما يدل على إنهما يدركان أن البندقة لا تكون شرعية إلا في مواجهة الغزاة).

         في سنوات الحرب الباردة كانت السعودية وصية على الشمال، ومن خلال هذه الوصاية كانت تغذي صراع الشمال والجنوب. وعندما انتهت الحرب الباردة وتم إعلان الوحدة بين شطري اليمن امتد نفوذها إلى الجنوب أيضا من خلال صنائعها (صالح والشيخين الأحمر والزنداني) ومن خلف هؤلاء الثلاثة وقف ما كان يسمى بالتحالف الاستراتيجي بين المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح، وهو التحالف الذي دفع اليمن دفعا وبسرعة قياسية إلى حرب 1994 التي أغرقت اليمن في مآسيها والتي لولاها لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.

         وفي لحظة من اللحظات اعتقد النظام في الشمال أنه بالوحدة قد كبر وتضخم فذهب يؤيد عراق صدام حسين في غزو الكويت. ومن أجل تأديب علي صالح دخلت السعودية والإمارات على الخط في أزمة دولة الوحدة لدعم الطرف الذي فيه علي سالم البيض ليس حبا في هذا الطرف وإنما نكاية بالطرف الآخر. وعندما لم تسر الأمور على هوى السعودية والإمارات ظلتا في حالة كمون وتربص، بينما أدرك علي صالح أن رهاناته على العراق كانت فاشلة وأن اللحظات القومجية التي انتابته كانت مجرد لحظات صرع. ولكي يعيد ترميم عرشه ذهب صالح يقدم تنازلات كبيرة –لا من أجل مداواة جروح الوحدة الوطنية الناجمة عن حرب 1994 – وإنما من أجل استرضاء أسياده في الرياض. وقد تجلت تلك الاتفاقيات أكثر ما تجلت في اتفاقيات الحدود اليمنية السعودية التي شملت كل حدود اليمن مع السعودية، بما في ذلك تلك التي كانت محسوبة على جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. ولو أن المجلس الانتقالي -الذي يريد استعادة دولة الجنوب-تَخَلَّقَ من نطفة جنوبية لكان أعلن عدم اعترافه بكل نتائج حرب 1994 بما في ذلك اتفاقية الحدود مع السعودية، أما أن ينكر شرعية الوحدة ويقبل بشرعية بيع الأرض والموانئ فذلك مما لا يستقيم له عقل ولا منطق.

         من بديهيات الأشياء أن القوي يكون دائما في حالة جاهزية لالتقاط نقاط ضعف الضعيف حتى وإن لم يخطط لذلك. والسعودية والإمارات هما حاليا القوي في معادلة العلاقة بينهما وبين اليمن. ونحن اليمنيين موزعين بين من يخطب ود هاتين الدولتين وبين من يناصبهما العداء (الفعلي أو الظاهري). وليس بيننا حتى الآن من يدرك أن قوة اليمن يجب أن تأتي من داخل اليمن كي نجبر -نحن اليمنيين-الخارج على أن يعيد لنا الاعتبار شاء أم أبى. ومن أجل ذلك ليس مطلوبا منا أن نهاجم السعودية والإمارات أو أن نخطب ودهما، وإنما مطلوب منا أن نعترف ببعضنا البعض وأن نقدم التنازلات لبعضنا البعض، وأن ندرك أن أيادي الخارج لا تمتد إلا بسبب ضعف الداخل، ولو قدر للصومال أو إريتريا أو حتى جيبوتي أن تصبح قوة إقليمية معتبرة فسوف تعمل على مد نفوذها إلى جوارها الضعيف وأوله اليمن، وهذا ما تؤكده خبرة العلاقات بين الدول عبر التاريخ.

         والآن، لمن يعتقد أن المجلس الانتقالي قد انتصر في اتفاق الرياض نقول: نعم لقد انتصر باعتباره أداة من أدوات الخارج وليس في ذلك أي شك. ومعنى ذلك أنه انتصر لغيره وليس لنفسه. أما أنه انتصر للجنوب فهذا لم يحدث ولن يحدث أبدا لأن هذا المجلس ليس أكثر من حالة جهوية في إطار الجنوب وليس حالة جنوبية في إطار اليمن، وهو بهذا المعنى غير مؤهل لا معرفيا ولا سياسيا ولا أخلاقيا لتمثيل الجنوب.

         ثم أن المجلس الانتقالي يدرك تمام الإدراك أن قوته لم تأت من ذاته ولا من جماهير الجنوب ولا يمكن أن تأتي من هذين المصدرين لأنه من خلال كل الشعارات التي رفعها منذ ظهوره إلى الآن لم يستطع أن يحظى بثقة الشارع الجنوبي، ولولا السلاح الإماراتي لما استطاع هذ المجلس أن يكون شيئا مذكورا. يضاف إلى ذلك أن المجلس الانتقالي يدرك أكثر من غيره أن سلاحه غير شرعي وأن فعله خارج القانون وأن انتصاره المزعوم مجرد فقاعة، ولولا الطيران الإماراتي لكان في خبر كان.

         أما بالنسبة للطرف الآخر في التوقيع وهو الشرعية فلم تحقق أي انتصار فعلي غير أن اتفاق الرياض مدَّ في عمرها، والدليل أنها لم تستطع أن تفرض شروطها للحوار مع الانتقالي حين أعلنت أنها لن تجلس على الطاولة ما لم يتراجع الانتقالي عن انقلابه ويسلم السلاح والمعسكرات التي بيده، وهو ما لم يحدث حيث اضطرت الشرعية مرغمة أن تجلس مع الانتقالي إرضاء لخاطر السعودية.

 

         لقد تخلت الشرعية عن فكرة إدانة انقلاب المجلس الانتقالي، وما قاله الميسري بأن التوقيع كان مكافأة للانقلاب حقيقة لا تقبل التشكيك بدليل أن الحكومة المزمع تشكيلها بموجب اتفاق الرياض ستخلو من كل الشخصيات التي رفضت انقلاب الانتقالي وناوأته.

         وأخيرا بقي أن نأتي على السعودية والإمارات في اتفاق الرياض لنؤكد أن جزءا كبيرا من تحسين شروط معركتهما مع الحوثي هو البقاء في الجنوب باعتباره عمقا للمناطق المتاخمة للحوثي في الشمال (مأرب والجوف والبيضاء وتعز والشريط الساحلي الممتد من المخاء إلى الحديدة)، فالبقاء هو جزء من المعركة المعلنة إضافة إلى الأهداف والمصالح الغير معلنة. وتمسك السعودية والإمارات بأهداب الشرعية ليس حبا فيها وإنما تشبثا بورقة التوت التي تغطي عورتيهما.

         ومن داخل الحكومة المزمع تشكيلها علينا أن نتوقع إعادة إنتاج الشرعية بولاء كامل وإذعان تام للسعودية والإمارات على مستوى الحكومة والرئاسة والمحافظين ومدراء الأمن في المحافظات، وقد يموت هادي أو يُماتُ ليأتي نائبه المصنوع خارج البلاد.

         إن جوهر اتفاق الرياض هو تصفية كل من بقي لديه أدنى اهتمام بسيادة اليمن. أما الإمارات فلم تخرج من اليمن كليا بعد ولكنها في طريقها إلى الخروج لتبقى حاضرة بأياد يمنية. أما حلول السعودية الشكلي محل الإمارات في بعض المربعات العسكرية والأمنية فلكي تكسب قلوب بسطاء الناس بأنها حافظت على الشرعية اليمنية، وسوف تضخ –بالتفاهم مع الإمارات-بعض المال، وهذا ما بدأ فعلا وظهرت نتائجه من خلال تراجع قيمة الدولار. وسوف تتخذ السعودية من هذه الشكليات ستارا ناعما لوجودها وإعادة انتشارها وتمددها في المناطق التي تريد أن تقتحمها ولكن بأقل قدر من الكلفة والحساسية هذه المرة. ولعل تعقيدات الوضع في اليمن هي التي فرضت على السعودية والإمارات إعادة منهجة سياساتهما وموضعة قواتهما.

         وخلاصة القول إن اتفاق الرياض هو اتفاق سعودي إماراتي، وهو بهذا المعنى اتفاق وصاية، والشرعية سلمت بذلك عن ضعف وليس لديها خيارات أخرى خصوصا أنها قد أضعفت نفسها من قبل ولم تعد قادرة على المناورة، ولم يعد بيد هادي حتى قرار موته انتحارا.

 

         في إطار ردود الأفعال المتباينة التي أثارها فيلم "الغداء الأخير" الذي بثته قناة الجزيرة عن واقعة قتل الرئيس إبراهيم الحمدي وقع بين يدي مؤخرا مقال لسمير رشاد اليوسفي منشور في موقع "نيوز يمن" بتاريخ 30 أبريل 2019 تصدره عنوان لافت: "قطر تأكل لحم الحمدي في الغداء الأخير". وعندما انتهيت من قراءته تبين لي أن سمير، وليس قطر، هو من أكل لحم الحمدي ومعه لحم شهداء ثورة فبراير 2011 التي وصفها ب "الهوجاء". والحقيقة أنني لم أكن أتوقع هذا من سمير الذي وإن كنت لا أعرفه شخصيا فإنني أحتفظ له بصورة ذهنية إيجابية إلى حد ما أيام كان رئيس تحرير صحيفة الجمهورية في عهد علي صالح، بينما هو الآن يهدر موهبته التي افترضتها ويبيع قلمه وكأن أوجاع الحاجة قد بلغت المعدة. وأنا هنا لا أقرأ في النوايا وإنما أستدل على ما أقول من السطور التي كتبها سمير نفسه ووضع اسمه عليها.

         الفيلم أعده وأخرجه الصحفي والباحث المجتهد والمدرب المقتدر جمال المليكي، وهو جهد يشكر عليه، ولا يجوز تبخيسه لمجرد أنه لم يأتِ على هوى زيدٍ أو عمرو. وإذا وجد من لديه تصويب موضوعي لجزئية أو معلومة أو ملاحظة فنية فلا عيب في إظهارها ما دامت الغاية أن يستفيد المتلقي. والحقيقة أننا نحتاج لمئات وربما آلاف الأفلام الوثائقية ونشد سلفا على يد كل من يبذل جهدا في سبيل ذلك. وفي هذا السياق نريد أن نقول كلمة إنصاف ضد كل كتابة تهدف إلى التعمية على فيلم "الغداء الأخير" والتقليل من أهمية القضية التي أثارها. ونحن عندما نفعل ذلك لا نتوخى إظهار الحقائق المغيبة فحسب وإنما من قبيل احترام عقل القارئ حتى لا يظل مفتونا بأسماء كان لها رواج أيام الهالك –ولا أقول المرحوم خشية أن أجرح مشاعر معظم اليمنيين-علي صالح وتريد الآن أن تستأنف دورها في تزيين سوءات الطغاة والقتلة واللصوص وتملق أصحاب الأعطيات حتى وإن كان هؤلاء من خارج الحدود الجغرافية والوطنية والإنسانية.

         بدا "الغداء الأخير" لسمير عملا مكرورا لم يأتِ بجديد مع أنه بني على شهادات ووثائق، بينما خلا مقاله من أي ملاحظة موضوعية أو إضافة جوهرية. وعندما أراد أن يبرئ المملكة تذكر أيام ولايته على صحيفة الجمهورية وقال حرفيا: "نشرت صحيفة الجمهورية حوارا مع شقيق الحمدي كان لافتا فيه تأكيده لمعلومة مهمة مفادها أن الملك الراحل خالد بن عبد العزيز انزعج من تدبير عملية القتل وأظهر سخطه علنا في اجتماع لمجلس الوزراء السعودي، وهو ما تجاهله سبع الجزيرة المدهش". وهنا نسأل سمير: ما قيمة استشهادك هذا أمام ما فعله "سبع الجزيرة" عندما نقل إلينا شهادة زعيمك صوتا وصورة وهو يقول للناس كافة إن المملكة هي من قتل الحمدي؟ لماذا تجاهلتَ هذه الجزئية الخطيرة جدا؟ الجواب واضح: لأن ما يعنيك ليس النقد الموضوعي للفيلم وإظهار الحقيقة للمتلقي وإنما التزلف والملق للسعودية، وما الفيلم إلا مناسبة للتعمية على وضاعة النية ورخص المقصد.

         ومن باب الإنصاف: لستَ وحدك في هذه المهانة فالرياض اليوم تكتظ بالطبقة السياسية التي أنتجها زعيمك على شاكلته وطبعها بطابعه. والآن قل لنا يا سمير: لماذا لزمتْ المملكة الصمت ولم تهتم بالرد على شهادة الزعيم؟ ولماذا كتم زعيمك هذه الشهادة لأكثر من ثلاثة عقود ظلت السعودية خلالها تتعامل معه كما لو كان ملحقها العسكري في اليمن.

         يعتقد سمير أنه نجح في تقديم نفسه مدافعا جيدا عن السعودية ولم يخطر في باله أن المتزلف –حتى عندما يكون ذكيا-لا يمكن أن يكون صاحب أفكار متسقة ولا بد أن يقع في تناقضات تفضحه من حيث لا يتوقع. لقد قال حرفيا: "ولعلَّ تعامل الملك سلمان وولي عهده مع مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وإحالة المتورطين فيها للقضاء يكشف لنا أن سعودية اليوم تختلف عن الأمس"!!! ومع ما ينطوي عليه هذا الكلام من سذاجة واستخفاف بعقل المتلقي الحصيف فإن سمير يقر –من حيث لم يكن يريد-بأن سعودية الأمس كانت سيئة، وهذا تناقض فاضح مع محاولته البائسة غسل يدها الملطخة بدم الحمدي.

         يقول سمير إن علي صالح لم يكن موجودا في صنعاء يوم "الغداء الأخير" وإنه وصلها من تعز على متن مروحية بعد أن وقعت الواقعة. أما المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة فهو علي حسن الشاطر. والسؤال: من هو هذا الشاطر وما هي حجيته في أمر كهذا؟ لقد وقع سمير في الخلط بين مكان علي صالح يوم مقتل الحمدي ومكانه يوم مقتل الغشمي، والمسرحية اقتضت ألاَّ يغادر تعز زمن الغشمي، وأن يتوجه منها إلى صنعاء يوم الذبح ليكون رئيسا للجمهورية العربية اليمنية، والبعد الإقليمي للمسرحية واضح في مذكرات الشيخ عبدا لله بن حسين الأحمر أما بعدها الأمريكي فيمكن تلمسه في كتاب بول فندلي "من يجرؤ على الكلام".

         ولعلَّ محمد خميس ذهب ضحية دوره في هذه المسرحية وما رتبه ذلك الدور من معلومات ضاعفت من خطورته في عيون الرئيس القادم من الأقبية القذرة والدهاليز المظلمة ومغارات تهريب الممنوعات. وعلى اليمنيين اليوم أن يعيدوا النظر في حكاية الحقيبة الدبلوماسية الملغومة التي قيل إن المبعوث الرئاسي القادم من عدن هو من حملها لتقتله والغشمي فقط لا غير، خاصة وأن الأقوال التي تسربت من المستشفى العسكري وقتها أكدت أن الانفجار الضخم أتى على النصف الأسفل للرئيس أكثر مما أتى على نصفه الأعلى.

         يقول سمير: إن فيلم "الغداء الأخير" "لم ينشر صور رمي الغشمي بالأحذية أثناء حمل جنازة الحمدي". والسؤال: ما جوهرية هذه الجزئية؟ إن موضوع الفيلم هو "الغداء الأخير" ترتيبا وتنفيذا وليس ما بعده. ولأن سمير منشغل جدا بتبرئة زعيمه وإلقاء كل شيء على الغشمي وحده وقع ذهنه في الشتات وعدم القدرة على التركيز، ومن مظاهر شتاته قوله "تجاهل الفيلم ذكر دور الشيخ الأحمر (الراعي السابق للإخوان المسلمين) لكونه مع المتنفذين الذين جمعهم عام 1975 حلف خمر كانوا المتضررين فعليا من بقاء الحمدي رئيسا بعد أن منعه من البقاء في العاصمة". واضح أن سمير أراد بهذا الكلام الفج أن يصيب عصفورين بحجر، فهو من ناحية يرضي السعودية بإظهار كراهيته للإخوان المسلمين، وهو من ناحية أخرى يبرئ زعيمه من جريمة القتل. والحقيقة المعروفة للقاصي والداني لها وجهان: الوجه الأول أن الشيخ عبد الله كان يعارض الحمدي من خمر ولم يكن موجودا في صنعاء منذ فترة طويلة نسبيا، وموضوع الفيلم هو عن قتلة الحمدي وليس عن معارضيه وكارهيه. والوجه الثاني أن الحمدي لم يقتل على يد أي من خصومه الذين ناصبوه العداء علنا وإنما قتل مغدورا على يد بعض من قربهم إليه ومنحهم كل ثقته وعلى رأس هؤلاء الغشمي و"تيس الضباط" وهنا تكمن فضائحية وتراجيدية عملية القتل التي تمثل لبَّ فيلم "الغداء الأخير"، لكن سمير المهموم بتبرئة زعيمه ذهب يخلط بين قتلة الحمدي وبين المستفيدين من قتله. فالشيخ عبد الله كان مستفيدا دون شك، لكن لا يوجد حتى الآن ما يستدل به على شراكته، أما سكوته عن الجريمة وعدم إثارتها بشكل أو بآخر فهذا من مقتضيات التحالف الوثيق بين "شيخ الرئيس ورئيس الشيخ" برعاية محكمة من قبل "الشقيقة الكبرى". ومن ذا الذي لا يعلم أن تحالف الشيخ والرئيس كان برعاية سعودية سخية وكان من الناحية العملية تحالفا ثلاثي الأضلاع، شمل القبيلة وجيشها وإخوان اليمن، الذين طالما تغنوا بتحالفهم الاستراتيجي مع علي صالح!!! كيف لا وقد مكنهم من اقتطاع الجبهة الأيديولوجية للنظام وتدمير منظومة التعليم وإهدار الثقافة الوطنية لصالح مذهبية وهابية وافدة مشبعة بقيم التطرف والإرهاب، وقد سار هذا التحالف بدالة متصاعدة لم يبدأ عدها التنازلي إلا بعد نهب الجنوب وتدمير الوحدة اليمنية ماديا ومعنويا، حينها خرج علي صالح على الناس ليقول لهم "إن حزب الإصلاح لم يكن خلال عقدين ونيِّف إلا مجرد كرت في يده" وعليه الآن أن يقبل بمشروع التوريث أو ينتظر مصير الناصري والاشتراكي!! وعلى سمير أن يجيبنا: هل هذا منطق رئيس دولة لديه قليل من الإحساس بالمسئولية الوطنية أم هو منطق قاطع طريق؟

         يقول سمير إنه أثناء الاحتفاء بالعيد التاسع عشر للوحدة كان في بيت علي صالح بتعز وهناك سمعه يشيد بالحمدي قائلا: "الحمدي كان قائدا فريدا من نوعه، وذكيا وخطيبا مفوها ومتواضعا لولا ثقته المفرطة بمن حوله وعدم اهتمامه بحماية نفسه خاصة بعد إقصائه للمشايخ والقوى المتنفذة". وعلى افتراض أن علي صالح قال هذا الكلام فعلا فسمير لم ينتبه لمقام القول زمانا ومكانا. فلو لم يكن الزمان هو العام 2009 – وما أدراك ما العام 2009 -والمكان هو بيت الرئيس لكنت سارعت إلى اتهام سمير بتقويل زعيمه ما لم يقله. ومع ذلك أقول: لو أن علي صالح كان رجل دولة يتمتع بالحد الأدنى من الثقافة السياسية الوطنية والحد الأدنى من الوعي القانوني لكانت أول مهمة له كرئيس للبلاد هي التحقيق في ملابسات مقتل الحمدي والغشمي وكشف الحقيقة للشعب، خاصة وهو يعلم علم اليقين أن معظم اليمنيين يعتقدون أنه إن لم يكن هو المتهم الأول في قتل الحمدي فإنه المتهم الثاني بعد الغشمي، وهناك من يعتقد أن الغشمي أكل الطعم وذهب ضحية مخطط أكبر منه. والخلاصة أن صالح لم يهتم لا بملف الحمدي ولا بملف الغشمي وإنما جاء من اليوم الأول (يوم 17 يوليو 1978) يقرع طبول الحرب نحو الجنوب للتغطية على الجريمتين أولاً، وثانياً ليثبت لأسياده في الرياض أنه لا يمكن أن يكون إبراهيم حمدي آخر. ورجل على هذه الشاكلة الشوهاء من الطبيعي جدا أن ينتهي على النحو الذي عرفناه. ونحن لا نقول هذا لمجرد الرغبة في القول وإنما ردا على سمير الذي لم يناقش فيلم "الغداء الأخير" نقاشا موضوعيا وإنما أقحم نفسه في الدفاع عن علي صالح بطريقة فجة ومستفزة لمشاعر اليمنيين الذين يعلمون علم اليقين أن علي صالح ظللأكثر من ثلاثة عقود يدمر تاريخ الحمدي ويعتم عليه وينهج نهجا معاديا للنهج الوطني الذي سار عليه. وعلى افتراض أن صالح لم يشارك في ذبح الحمدي ماديا على ذلك النحو المشين فالثابت عليه أنه ذبح مشروعه الوطني من الوريد إلى الوريد حتى أوصلنا إلى حيث نحن اليوم.

         يقول سمير إنه أثار مع علي صالح موضوع اتهام الناصريين له بقتل الحمدي وأن صالح ردّ عليه قائلا: "من الطبيعي أن يقول الناصريون هذا بسبب فشل محاولتهم في الانقلاب علي ومحاكمة وإعدام بعض المتورطين فيه". والملاحظ هنا أن سمير خلط بين السبب والنتيجة. إن حركة 11 أكتوبر 1978 الناصرية كانت نتيجة للانقلاب الدموي على المشروع الوطني للحمدي، وإعدام قياداتهم جاء في إطار التصفية الممنهجة والعنيفة لذلك المشروع إرضاء للسعودية. ومعروف للقاصي والداني أن حركة الناصريين لم تتسبب في نزيف قطرة دم واحدة. ولو لم يكن علي صالح متعطشا للدم كقاتل محترف لما أعدم واحدا وعشرين من خيرة رجال اليمن. وللعلم ظل صالح طوال فترة حكمه مذعورا من استحقاقات ذلك الدم الذي سفك خارج القانون.

         وفي سياق الرغبة في الإساءة المجانية للناصريين ذهب سمير يستنتج أن عبد الله سلام الحكيمي كان مشاركا في التغطية على جريمة مقتل الحمدي وتناسى أن الرجل كان هو المكلف بقراءة بيان حركة اكتوبر 1978 ثأرا للحمدي واستعادة مشروعه الوطني كما قال للمليكي. وإمعانا في الإساءة لشخص الحكيمي قال سمير إنه "كان أحد الوشاة على الناصريين بعد فشل انقلابهم"، وكل من له علاقة من قريب أو بعيد بالناصريين يعلم أنهم لم يقولوا هذا الكلام عن عبد الله سلام الحكيمي وإنما عن عبده الجندي. وأخيرا وصل الخيال المريض بسمير ليقول عن الحكيمي إنه حاليا "مسئول ارتباط بين الحوثيين والمخابرات البريطانية" وللحكيمي أن يعلن الاحتفاظ بحقه في مقاضاة هذا الفهلوي المحسوب على مهنة الصحافة. ولست أرى سببا واحدا يستدعي الإساءة للحكيمي بهذه الطريقة سوى تملق السعودية بالنظر إلى أن الحكيمي يراها دولة معتدية على اليمن، ويعلن ذلك جهاراً نهاراً. والحقيقة أن خمس سنوات من الحرب كشفت لنا أن دعم الشرعية ليس هو ما تفكر به السعودية والإمارات العربية المتحدة في اليمن، فللدولتين أهداف عدوانية واضحة ضد اليمن أرضا وإنسانا.

         وصف سمير ثورة فبراير 2011 بأنها "هوجاء". وهذا كلام لا يدل على الغباء وإنما على الانتهازية في ظل مؤشرات الدعم الكبير "للعفافيش" سعوديا وإماراتيا. والدعم هنا لا يتوقف عند أحمد وطارق وإنما يمتد إلى طابور كبير يتصدره مع آخرين "قالع العداد" الذي أصبح رئيسا لبرمان "الشرعية" ومن غير المستبعد أن يصبح صاحب حظوة كبيرة في اللجنة الخاصة تضاهي الحظوة التي كانت للشيخ عبد الله الأحمر.

          ومهما يكن من أمر فإن وصف ثورة فبراير بأنها "هوجاء" ينطوي على الاستهانة بتضحيات آلاف اليمنيين الذين خرجوا للتظاهر السلمي في شوارع مدن اليمن وساحاتها العامة ورابطوا فيها لأكثر من عام رغم الدماء الغزيرة التي سفكتها أجهزة عفاش. ولأن الثوار نجحوا في خلع عفاش أصبحت الثورة "هوجاء"!!!. ولنا أن نسأل سمير: كيف تنظر إلى ما فعله عفاش المخلوع الذي تسميه شهيداً وزعيماً وقائد انتفاضة؟ لقد أراد أن يعلم خصومه السياسة – كما قال هو بغطرسته المعهودة – وذهب من أجل ذلك يسلم مقدرات البلاد العسكرية والمدنية للحوثي. وبغير دعم وتحالف علي صالح ما كان بمقدور هذا الأخير أن يتجاوز حرف سفيان. لكن الحوثي كان الأكثر ذكاء في فهمه لطبيعة علي صالح كشخصية مجبولة على الغدر بحلفائه ولهذا لم يهدأ له بال حتى أجهز عليه وأمن شرَّه. وقديما قال المتنبي: "ومَنْ يجعلِ الضرغامَ بازاً لصيدِهِ تصيدَهُ الضرغامُ فيما تصيدَ"

          ولو أن علي صالح خرج منتصراً من شارع صخر لكانت مأساة اليمن أكبر بما لا يقاس مما هي عليه اليوم والذين يعتقدون عكس ذلك لا يفكرون بعقولهم وإنما بالمكبوتات المتراكمة عبر القرون من أيام الهادي إلى أيام أحمد يا جنَّاه. ومن باب الإنصاف علينا أن نعترف للحوثي بحسنة الإجهاز على علي صالح بالنظر إلى القبح الكبير والممتد الذي مثله عهد هذا الرجل.

         لم أكن أبدا متجنيا على سمير عندما قلت إن مقاله عن "الغداء الأخير" ليس إلا مناسبة للتعمية على وضاعة النية ورخص المقصد. وهذا واضح جدا من خلال ما قاله عن قطر وكأنه صحفي سعودي متعصب جدا لمليكه. يقول سمير: "لو لم تكن قطر متورطة بقتل الزعيم صالح من خلال توفير الدعم اللوجستي لعملت عنه فيلما استقصائيا، فدمه لم يجف بعد ومرتبط بالحرب الدائرة منذ أكثر من أربع سنوات، ولا تزال ملابسات انتفاضته وقتله أكثر غموضا من اغتيال الحمدي، وكشفها أهم لحاضر ومستقبل اليمن"!! والحقيقة أن هذا ليس بحجاج وإنما هو إلى السخف أقرب إن لم يكن هو السخف نفسه.

         أولاً: لم يكن الحوثي بحاجة إلى دعم لوجستي من قطر للإجهاز على علي صالح لأن مقدرات الدولة أصبحت كلها في يده، وقد أجهز على "الزعيم" برجال كانوا قبل

سبتمبر 2014 حول "الزعيم" وبسلاح كان يوما ما سلاح "الزعيم". والشيء الوحيد الذي كان يحتاج إليه الحوثي هو ذريعة الإجهاز ليس إلا. وقد قدم صالح هذه الذريعة على طبق من ذهب من خلال خطاباته التحريضية الطافحة بأوهام الزعامة معتقدا أن الجماهير ستهب بالملايين لنجدته في شارع صخر وسط العاصمة صنعاء.

         ثانياً: بمنطق "من المستفيد من قتل علي صالح قطر أم السعودية؟" فالقراءة السياسية الحصيفة تقول إن السعودية هي المستفيد لأنها بقتله ستكون قد أخفت ملفا كبيرا من القذارة المشتركة، وهذا يتسق تماما مع طبعها في التعامل مع كل عملائها وحتى مع مواطنيها حين يتمردون عليها أو يظنون أن لديهم القدرة على مساومتها وخاشقجي واحد من هؤلاء.

         وحتى في المبادرة الخليجية يوجد ما يدل على أن السعودية بقيت متمسكة بعلي صالح وظلت توعده بدور آخر غير الدور الذي لعبه خلال ثلاثة وثلاثين عاما، وهو نفسه قبل بهذا الدور الجديد –مكرها لا بطل-تحت ضغط ثورة الشباب وثقة منه بأن السعودية لن تتخلى عن خادمها الأكبر في اليمن بالنظر إلى ما قدمه من خدمات "جليلة" قبل وأثناء رئاسته. وليس في المبادرة الخليجية ما يدل على أن السعودية أرادت لدور علي صالح أن ينتهي، وهي ربما لم تستقر على بديل بعينه بعد ولم تختبر أي بديل وليس لديها معرفة بالخدمات التي سيقدمها البديل أو سيكون قادرا على تقديمها.

         ولو شئنا أن نبسط القول في علاقة صالح بالسعودية فلن ننسى أن هذا الرجل هو من باع الأراضي اليمنية في خيانة عظمى أطلق عليها مسمى "ترسيم الحدود" في يوليو من العام 2000. كما لن ننسى أنه كان الأكثر حظوة في كشف اللجنة الخاصة بمبلغ أربعين مليون ريال سعودي شهرياً، وأن المملكة هي من ساعده في البقاء على قيد الحياة بعد مذبحة جامع النهدين. وأكثر ما أزعج السعودية هو أن علي صالح حاول في لحظة من اللحظات أن يتنكر لأولياء نعمته. صحيح أنه أدرك لاحقا حجم خطأ حساباته وأرسل ابنه أحمد إلى محمد بن سلمان لتلطيف الأجواء. لكن ما لم يكن يعلمه صالح أن محمد بن سلمان يمثل جيلا جديدا في العائلة المالكة، ومن سمات هذا الجيل أنه عاري الوجه لا يقبل المساومة من أي خادم وإنما يملي وعلى الخادم أن ينفذ، ولهذا أخفق أحمد.

         ثالثا: ليس من حق سمير ولا غيره أن يملي على قطر ما ذا تفعل وماذا لا تفعل، وإذا كان بحاجة إلى فيلم استقصائي عن زعيمه فهذا اهتمام عاطفي خاص به وبمقدوره أن يطلب ذلك من الشقيقة الكبرى وستكون مناسبة لفضح قطر وبيان شراكتها في قتل الزعيم، ونتمنى على كل من تدعمه السعودية أن يظهر ما لديه من وثائق تدل على علاقتها المضيئة باليمن وعلاقة قطر المظلمة.

           أما أن الكشف عن ملابسات مقتل علي صالح أهم لحاضر ومستقبل اليمن من الكشف عن ملابسات مقتل الحمدي فهذا كلام يحتاج إلى تصحيح وأقترح من أجل ذلك الصيغة التالية: "ما لم ينبرِ أصحاب العقول النيرة لدراسة ظاهرة علي صالح دراسة موضوعية فإن هذا الظاهرة الكارثية ستظل مرشحة للتكرار"

         يقول سمير في مقاله: "إن جريمة قتل الحمدي معروفة بتفاصيلها حتى للبهائم، وأن توقيت فيلم الغداء الأخير جاء لمناغشة السعودية ونكش أوجاع اليمنيين، وأن حقد إمارة قطر على المملكة انتقل من الطفح المصحوب بالحكاك إلى السعار الذي لا برء منه" ثم يضيف قائلا: "من الغباء توظيف أسباب ودوافع قتل الحمدي للإساءة لمن يحكم المملكة حاليا". وللقارئ اللبيب أن يلاحظ أن سمير أرهق ذهنه كثيراً لتجميل وجه السعودية وتقبيح وجه قطر ومع ذلك لم يوفق.

         أولاً: إذا كانت جريمة قتل الحمدي معروفة بتفاصيلها حتى للبهائم فنحمد الله أننا لم نكن على بينة من الأمر لأننا لسنا بهائم. ثانياً: التقليل من قيمة الفيلم لم يأتِ من باب النقد الموضوعي وإنما من باب الحسد للنجاح الذي حققه جمال المليكي، وهنا أرفع قبعتي وانحني احتراما لهذا الشاب العصامي الذي يكافح بشرف ويصنع نجاحاته بشرف، وليس صحيحا أن كل من يعمل في قناة الجزيرة هو بالضرورة من الإخوان المسلمين. ولكن على افتراض أن جمال المليكي من الإخوان المسلمين فمن العيب كل العيب أن يسقط سمير موقفه من الإخوان على جمال المليكي. ذلك أن مثل هذا الاسقاط ينم عن غياب الثقافة المدنية واستحكام النزعات العصبوية المتخلفة.

          إنني شخصيا ضد الإخوان كبنية أيديولوجية قائمة على تسييس الدين وتديين السياسة لكني لست ضد الإخوان كأفراد بينهم الكثير الكثير ممن يجبرون المرء على حبهم واحترامهم. ومشكلة سمير مع المليكي أن هذا الأخير أوجع السعودية كثيرا بفيلم "الغداء الأخير" فأسرع الأول إلى تسويق نفسه كمسكِّن ضد هذا النوع من الوجع. وهنا يلزم أن نعترف لسمير بالقدرة على انتهاز الفرص وعليه فقط أن يطور مهاراته في الكتابة حتى لا يظهر متهافتا جدا في عيون القراء.

          ثالثاً: لماذا كل هذا الانزعاج من قطر؟ وكأنك يا سمير لا تعلم أن السعودية كيان قذر في تعامله مع كل جيرانه وهي أكثر قذارة في تعاملها مع اليمن واليمنيين. دع قطر تفضح السعودية كما تشاء. وأنت وأمثالك دافعوا عن السعودية واظهروا لنا ولو قبسا من نورها الذي تعتقدون أنه يبدد ولو بعض الظلام في اليمن.

         أخيرا يقول سمير: " حتى لا تظل قطر تصطاد في الماء العكر داخل اليمن للإساءة لجيرانها ينبغي على السعودية المسارعة لإزالة كل ما يعكر صفو علاقتها مع الداخل اليمني، ولن يتأتى ذلك بغير توحيد صف اليمنيين على قيادة تضع نصب عينها مصلحة اليمن وتحريرها من الحوثة المتمردين لأن التشتت الحالي ستحصد ثماره الدول المعادية".

         شخصيا شعرت بالغثيان وأنا أقرأ هذا الكلام الأخير لشخص يعتقد أن الصحافة الحكومية في اليمن أصبحت مختطفة فقط عندما سيطر عليها الحوثي، أما أيام الزعيم فلم تكن كذلك بدليل أن سمير كان رئيسا لتحرير صحيفة الجمهورية. يا سمير: لو لم تكن البلد كلها مختطفة لما كان بمقدور زعيمك أن يسلمها للحوثي هكذا بكل بساطة. وبقي فقط أن ألفت انتباهك إلى أنك أنت أيضا مختطف

ومقالك طافح بهذا المعنى.

السبت, 07 تشرين1/أكتوير 2017 18:37

ياسين نعمان ليس فوق النقد، ولكن....

 

يتعرض الدكتور ياسين نعمان – بين فترة وأخرى - لحملة تشويه ممنهجة وصبيانية في الوقت ذاته.أما أنها "ممنهجة" فمن حيث التوقيت والأغراض ومن حيث اختلاق القضايا المراد إثارتها .وأما أنها صبيانية فمن حيث النبرة العدوانية لخطاب التشويه وصيغه الإنشائية وضحالة أفكاره ومن حيث أنه موجه إلى شخص الرجل لا إلى ما يقول وما يفعل.ولست أخفي على القارئ اللبيب أني وأنا ألاحظ حجم الكراهية في هذه الحملة تذكرت على الفور قاتل جار الله عمر، والفارق أن صحيفة ادِّعاء علي جار الله كانت واضحة ولم تعمد إلى الرطانة لإخفاء الزنداني وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري خلف عناوين وأسماء مستعارة من الروايات، وهذا فارق في الدرجة وليس في النوع لأن ما استقر في اللاوعي وصاغ الطبعَ أقوى بكثير مما علق في السطح ولم ينفذ إلى الجوهر لتشذيبه وتهذيبه، ولعلَّ الله كان يشير إلى هذه الحقيقة وهو يستنكر غرور بعض مخلوقاته قائلا:" مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا" . 

إن كل ما صدر عن ياسين نعمان، كتابة أو شفاهة، معروف لكل متابع، ويمكن أن يكون موضوع نقاش قبولا ورفضا، فحق الاختلاف مكفول، وعلى قاعدة المساواة لا نرى في الدكتور ياسين شخصا فوق النقد، ولا هو يرى نفسه كذلك.وكلما كان المنقود فاعلا ومؤثرا في محيطه كلما كان النقاش الذي تثيره أفكاره وطروحاته أقدر على تعميق الوعي وترسيخ قيم المدنية وتقديم نموذج يحتذى لما يجب أن تكون عليه الثقافة السياسية. أما الثرثرات والتقولات فلا تسيئ إلا لأصحابها وليس لمن أرادت الإساءة له، خصوصا عندما تأتي خالية من أي سند وعارية من كل قرينة وتكون مجرد هذيانات وانثيالات نرجسية لا همَّ لها سوى الإساءة لمجرد الإساءة وإهدار كرامة الكلمة والاستخفاف بعقل المتلقي وبلبلة وعيه.وعندما تنحط الثرثرة إلى هذا المستوى من الوضاعة فلا فرق حينئذ بين المثرثرين وأولئك الذين يعتدون على المجتمع بزعم الدفاع عنه على نحو ما يفعل الانقلابيون الذين يدَّعون الدفاع عن الوطن وهم يقتلون المواطن، وعلى نحو ما يفعل علي صالح حين يدعي أنه بطل قومي في مواجهة العدوان ويتناسى أن عهده متحالفا مع الإسلاميين هو الحلقة الأطول والأخطر والأكثر تدميرا في مسلسل العدوان السعودي الطويل على اليمن. وما المشهد المأساوي الراهن سوى نتيجة حتمية لذلك التحالف الذي قام على إهدار قيمة الوطن ومعنى الدولة وعلى تدمير منظومة قيم التضامن المجتمعي وعلى رأسها قيمة التعاون والتعاونيات التي أراد الشهيد ابراهيم الحمدي أن يذهب اليمن من بوابتها إلى التنمية وإلى القضاء على الكهوف التي فرَّخت عبد الملك الحوثي ومليشياته القروسطية في ظل سلفية وهابية كانت هي الأخرى كهوفا محفزة لهذا التفريخ، ومن يعتقد أن معهد دماج كان فرعا من "السوربون" وليس كهفا فعليه أن يراجع ضميره وأن لا يدع المذهبية تعمي بصره وبصيرته، وقل مثل ذلك عن كل المعاهد الوهابية المسماة "سلفية" وعن أم الكهوف المسماة جامعة "الإيمان".

إنه لمن غير الممكن أن نتحدث عن قيم مدنية تؤمن بحق الاختلاف وفي الوقت نفسه نمارس التهجم والتقول والتشهير بسمعة من يغايرنا ونأتي كل هذه الموبقات بزعم حرية التعبير كاشفين بذلك عن شوزفرينيا تصبح معها الممارسة عكس القول فنبيح لأنفسنا ما نحرمه على غيرنا وننصب في أعماقنا حُكَّاما يحكمون غيابيا بغير دليل لنتحول بعد ذلك إلى مجتمع من المحتسبين والمخبرين نفتش في ضمائر الناس عما يمكننا من شيطنتهم فإن لم نجد نعمد إلى الدس والتدليس من قبيل "العيار الذي لا يصيب يدوش"، وقديما قال الشعر عن هؤلاء:" إن يعلموا الخير أخفوه وإن علموا شرا إذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا".

إننا نعيش في مجتمع مغلوب على أمره لا يعرف التنشئة النقدية وتتفشى فيه الأمية الأبجدية والثقافية والسياسية، ومن الظلم كل الظلم أن نستغل ظروفه الصعبة للتدليس عليه وتدمير ما بقي عنده من قيم الإنصاف لنكون بذلك امتدادا قبيحا لفعل الطغاة والمتسلطين الذين تغولوا على الدولة والمجتمع ومارسوا القهر والتدجين وتجريف العقول والقيم ثم بعد ذلك ندعي أننا نخبة ومثقفون بينما نحن سفهاء من حيث ندري ولا ندري.

إن ياسين نعمان – أي كان تقديرنا له – يظل فردا ومن حق أي شخص أن ينتقده متى ما رأى موجبا وجيها لذلك، أما أن يقوم بالتضليل والتأويل لأمر في نفس يعقوب فهذا مما لا يمكن السكوت عليه سواء تعلق الأمر بياسين أو بغير ياسين.وفي السياق أشير إلى عبد الباري طاهر الأهدل وإلى وجدي الأهدل اللذين يحاكمان على أهدليتهما التي لم يخترها أي منهما ولا هي محل فخر واعتزاز عندهما، فالأول باحث وكاتب وناقد وسياسي ومناضل وناشط وقد دفع ثمن كل هذا فقرا وسجنا وخوفا ورعبا واختفاء وسفرا اضطراريا خارج البلاد، لكن كل هذا العذاب ليس شيئا يذكر أمام جريمة محاسبته على أهدليته، والكلام موجه لزعيم حزب الإصلاح الأستاذ محمد اليدومي باعتباره الأقدر على إيقاف الفلتان المذهبي داخل حزبه، وهو فوق ذلك خير من يعلم أن عبد الباري طاهر هو النقيض الفكري والثقافي والمدني والإنساني للعملة الحوثية بينما الذين يختزلونه في لقبه هم وجهها المرعب الآخر. أما وجدي الأهدل فروائي مبدع أخرجه التكفيريون ذات يوم من الدين كله لاستباحة دمه وتجويز قتله، وهاهم اليوم يعيدونه إلى بعض الدين لتحقيق الغاية نفسها.

بقي أن أوجه بعض الكلام حصرا إلى الأستاذ اليدومي - وهو شخص أحترمه وأخجل من أدنى إساءة إليه :

أولا: هل فعلا اعترضتَ لدى الرئيس هادي على تعيين الدكتور ياسين نعمان سفيرا في لندن؟ وهل أسَّستَ اعتراضك على ما نُسبَ إليك من كلام مؤدَّاه "أن الرجل انفصالي وأن لبريطانيا مطامع في الجنوب"؟. هذا كلام لم نسمع به من قبلُ، ولأنه صادم للدكتور ياسين شخصيا ولأهله ولحزبه ولملايين اليمنيين الذين يحترمونه ويحبونه فعليك أن تنفي ما نسب إليك أو أن تعتذر إن كنت قد قلته فعلا في لحظة ما من لحظات الضعف الإنساني التي لا تعتري كبار السياسيين فحسب وإنما القديسين والأنبياء أيضا.

ثانيا: هل الدكتور ياسين نعمان هو من أنهى تحالف اللقاء المشترك في خطابه أمام الكونفرنس الحزبي، أم أنه لم يفعل أكثر من تسريب واقعة القتل والدفن؟ إسمح لي أن أكتب مقالا في هذا وأن أهديه لشخصك القدير مع الوعد بالحرص على الموضوعية والابتعاد عن أي إساءة.

رابعا: تعلم أن الأستاذ القدير سعيد شمسان كان أحد كبار الخطباء في الجلسة الافتتاحية لكونفرنس الحزب الاشتراكي. هل تقبل أن يأتي من يقفز على هذه الحقيقة ويتحدث عن تلك الجلسة كما لو كانت محفلا حوثيا ويفعل كل ذلك في معرض الدفاع عنك؟

خامسا: معظم قواعد حزبك في مواقع التواصل الاجتماعي لا يذكرون الدكتور ياسين نعمان بالإسم وإنما يقولون تهكما : " صاحب عبور المضيق"!!! لماذا كل هذه الحساسية من هذا الكتيب؟ علما بأن 99.9% من المتحسسين لم يلمسوه ولم يروه. 

سادسا: علي عبد الله صالح وعلي محسن الأحمر والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وعبد ربه منصور هادي وعبد المجيد الزنداني وعبد الوهاب الآنسي ومحمد اليدومي وآخرون، هؤلاء جميعا كانوا حاضرين كحلفاء في حرب 1994 وهم اليوم أبرز وأهم الحاضرين في الحرب الراهنة كأعداء.. هذه واحدة من أبرز حقائق الراهن اليمني، فلماذا تتحسسون عندما ترد في كتاباتنا وأقوالنا؟ شخصيا لا أرى في ذكرها استجرارا للماضي لأنها حاضر نعيشه بشخوصه وتفاصيله، ثم لماذا تستكثرون علينا الحديث عن هذا الحاضر الذي نقف على جمره ونكتوي بناره بينما أنتم تعيدون إنتاج حروب علي ومعاوية؟

سابعا: الحزب الاشتراكي ليس دكانا لبيع العسل والحبة السوداء حتى يأتي شخص يحسب نفسه عليك ليقول : " إن الدكتور ياسين نعمان سلَّمه لشخص آخر".لا أعتقد أنك تقبل أن يشار إلى الحزب الاشتراكي وإلى أمينه العام الحالي بهذه اللغة المتعالية هبوطا لمجرد أن لقب الأمين العام هو "السقاف"، كما لا أعتقد أن التجمع اليمني للإصلاح قد بيَّت النية لإفراغ صفوفه من أصحاب هذه الألقاب. 

ثامنا: ما هي مصلحتكم في شيطنة الحزب الاشتراكي؟ لماذا أنتم مصرون على ملاحقتنا بتهم الحوثية ؟ في الماضي القريب كنتم تلاحقوننا بتهمة الإلحاد وعندما نزاحمكم في الجوامع تقولون عنا منافقين، واليوم تلاحقوننا بتهمة الحوثية وعندما نقول عنها ما تعجزون أنتم عن قوله تتهموننا بالرياء السياسي، وتفسير ذلك أن بنية وعيكم لم تتغير بعد.ومثلما كنتم تتطيرون من صلواتنا وتتمنون أن نخرج على الناس شاهرين رايات الإلحاد فإنكم اليوم تتطيرون من قراءتنا للظاهرة الحوثية وتتمنون أن نخرج على الناس بالزوامل والبيارق الخضراء. ولاختزال المسافة بينكم وبين ما تريدون قولوا لنا ما هي مصلحتكم من تحويثنا فلربما استطعنا أن نحققها لكم من موقعنا كعلمانيين غير متحزبين لا لعلي ولا لمعاوية وغير مشايعين لا لإيران ولا للسعودية.

         إن حصار السبعين يوما كان من المنظور الجغرافي حصارا لصنعاء، أما من المنظور السياسي والاجتماعي والثقافي فقد كان حصارا لكل اليمن، ولتعز على وجه الخصوص.وسنحاول في هذه الورقة أن نبين أن تعز التي تحاصر اليوم في تعز هي نفسها تعز التي حوصرت بالأمس في صنعاء.وليس في هذا الحكم أي تحيز مناطقي وإنما هي إرادة المكان الذي جعل من هذه المحافظة وسطا جامعا وهيأها لأدوار وطنية تتجاوز حدودها الإدارية إلى كل اليمن، ونقصد بذلك:

1 – دورها في الصراع بين الجمهوريين والملكيين والانتصار للجمهورية.

2 – دورها في العلاقة بين الشمال والجنوب والإبقاء على وحدة اليمن.

3 – دورها في التنمية وتحديث اقتصاد البلاد وترسيخ ثقافة العمل وضخ الكوادر وأهل المهن والحرف إلى كل اليمن.

4 – دورها الثقافي والتمديني.

5 – دورها في ترسيخ ثقافة الولاء للدولة.

6 – دورها في العمل التعاوني وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات.

         والأهم من هذا كله أن تعز التي يستميت الانقلابيون من أجل جرجرتها إلى صراعهم المناطقي والمذهبي هي التي تكسر هذا البعد المتخلف للصراع رغم ما أصابها من موت ودمار وجروح، ورغم بقع الدم والقيح والصديد التي تملأ أحياءها وقراها. وهي بهذا السلوك مثل الفارس الذي يغشى الوغى ويعفُّ عند المغنم، ويسري على أهلها قول النبي (ص) للأنصار: " تكثرون عند الفزع وتقلِّون عند الطمع".  

          وللكشف عن الجذور التاريخية للهيمنة المركزية – حصار اليوم والأمس - يلزم التمييز تحت مسمى اليمن بين اليمن الحضاري الثقافي، واليمن السياسي.

اليمن الحضاري الثقافي:

         اليمن الحضاري الثقافي هو نتاج تفاعل الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة من العالم المعروفة باليمن.وقد بدأ هذا التفاعل في لحظة ما من التاريخ واستمر حقبا زمنية طويلة ونتج عنه بروز جماعة بشرية اسمها الشعب اليمني.ولهذا الشعب هوية جامعة متعددة الأبعاد برموزها المستقرة في الذاكرة الجمعية لليمنيين.ومن غير الجائز اختزال هذه الهوية في بعد واحد ديني أو مذهبي أو جهوي.واليمن الحضاري الثقافي يندرج في إطار اللامختار لأن اليمنيين ليسوا أحرارا في قبوله أو عدم قبوله.إنه قدرهم الذي لا فكاك منه.وبهذا المعنى يكون اليمن الحضاري الثقافي واحدا غير قابل للتجزئة ولا يعترف بأي حدود سياسية داخل الجغرافيا اليمنية وليس بمقدور الأفراد ولا الجماعات ولا حتى الدول أن ترسم له حدودا نهائية من هذا القبيل.وإذا وجدت مثل هذه الحدود سيقاومها من كل الجهات عاجلا أم آجلا .

اليمن السياسي:

         اليمن السياسي هو التعبير السياسي المجسد في دولة.وعلى هذا الأساس يكون اليمن الحضاري الثقافي هو الأصل وتعبيراته السياسية هي الفرع .والأصل كان واحدا دائما بينما تراوحت تعبيراته السياسية بين الوحدة والتجزئة في كل مراحل التاريخ القديم والوسيط والحديث.

         إن مراوحة اليمن السياسي بين الوحدة والتجزئة كانت دائما نتاجا لصراع العصبيات على السلطة والثروة والنفوذ في بلد ذي جغرافية صعبة لم تكن حينها قادرة على إسناد التاريخ بقدر كاف من الفاعلية التي تحول دون تعدد التعبيرات السياسية.فعندما يكون مستوى التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا يكون هناك في الغالب الأعم تعبير سياسي واحد عن الكيان الحضاري الثقافي الواحد.وأقرب مثال على ذلك مصر التي حُكمتْ دائما بدولة مركزية واحدة وأدى التساند القوي بين تاريخها وجغرافيتها إلى نشوء شعب متجانس نسبيا يعيش في منطقة مستوية على امتداد النيل.وبسبب هذا التجانس غدا من الصعب الحديث في مصر المعاصرة عن هيمنة ذات طابع عصبوي.

         أما في اليمن لم يكن التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا على النحو الذي كانته مصر.ولهذا تعددت في كثير من الأحيان التعبيرات السياسية داخل الكيان الحضاري الثقافي الواحد.ففي الأزمنة القديمة نشأت الدولة اليمنية عن اتحاد تجمعات قبلية عصبوية.وعندما اختلف أصحاب النفوذ فيها تفككت الدولة وتعددت التعبيرات السياسية المتصارعة داخل اليمن الحضاري الثقافي الواحد.وبسبب هذا الصراع غاب الأمن والاستقرار وتراجع الاقتصاد واضمحلت الحضارة.

         وعندما انتصر الإسلام في جزيرة العرب لم يكن اليمنيون مستقرين في ظل تعبير سياسي واحد مجسد في دولة واحدة.وعندما أسلموا كان قاسمهم المشترك الأعظم هو اليمن الحضاري الثقافي الواحد وليس اليمن السياسي المتشظي.فهم أهل اليمن رغم تعدد مسمياتهم وعصبياتهم القبلية من كندة إلى مذحج  إلى همدان وغيرها. 

         وفي زمن الخلافة الراشدة كان اليمن عبارة عن مخاليف على رأس كل منها "عامل" معين من قبل أمير المؤمنين في المدينة المنورة.وقد استمر الحال على ما هو عليه تقريبا زمن الأمويين.وفي زمن العباسيين شكلت جغرافية اليمن الصعبة عامل إغراء للطامحين في الخروج على مركز الخلافة في بغداد.وحينها عاش اليمن عصره الوسيط المعروف بعصر الدويلات التي حكمت متعاقبة أحيانا ومتزامنة متصارعة أحيانا أخرى.وفي هذا العصر ظهرت تعبيرات سياسية جديرة بمسمى الدولة سواء من حيث الامتداد الجغرافي والزمني أو من حيث الانجازات المتحققة على الأرض.وإلى هذه التعبيرات تنتمي دولة الرسوليين ودولة الصليحيين والدولة الزيدية في بعض فتراتها والدولة الطاهرية، مع بعض التفاوت في مساحة النفوذ والسيطرة والامتداد الزمني.

         غير أن أهم ملمح ميز العصر الوسيط هو الصراع بين الدويلات.وهنا يجب أن نلاحظ أن القوة وليست الجغرافيا هي التي كانت ترسم حدود هذه الدويلات وأن الوحدة والانفصال لم تكن من بين الشعارات التي حركت صراعاتها وحروبها.لهذا السبب كانت حدود اليمن السياسي المتعدد متغيرة ومتنقلة داخل فضاء اليمن الحضاري الثقافي الواحد.وكان الشعب اليمني الواحد موزعا كسكان- وليس كشعوب - على الدويلات التي رسمت القوة حدودها.لكن هذه الحدود لم تكن صارمة أو مغلقة أمام حركة السكان وهجراتهم الداخلية وتعايشاتهم المشتركة ولم تكن تهدد انتماءهم العفوي إلى اليمن الحضاري الثقافي.وكان السكان في ظل كل دويلة ينظرون إليها بعيون اليمن السياسي المنقسم وليس بعيون اليمن الحضاري الثقافي الواحد ويحاكمونها من خلال مقولتي العدل والظلم وليس من خلال مقولتي الوحدة والإنفصال. بينما نتعامل نحن اليمنيين المعاصرين مع دول تاريخنا القديم والوسيط كماض لا علاقة له بالصراع على السلطة والثروة في حاضرنا.وهذا يجعلنا- من حيث ندري أو لا ندري- نقف على مسافة واحدة منها ناظرين إليها بعيون اليمن الحضاري الثقافي الواحد وحاكمين عليها من خلال مقولتي الوحدة والتجزئة.فهي دول عظيمة تستحق أن نفرد لها مساحات كبيرة في كتب المطالعة المدرسية إذا قدر لها أن تتمدد داخل كامل فضائنا الحضاري الثقافي بما هو تفاعل كامل الجغرافيا مع كامل التاريخ. وهي مجرد دويلات إذا لم تسعفها قوتها على التمدد.أما إذا ذهبنا نفاضل بين دول ماضينا الوسيط التي قدر لها أن تتمدد داخل كامل فضائنا الحضاري الثقافي منطلقين من مقولات العدل والظلم والانجاز فسوف يكون من الصعب علينا أن نتفق على رأي واحد خاصة إذا كان لتحيزاتها المذهبية حضور في حياتنا الراهنة. وهذا يعني أن اليمن السياسي هو قطب التعدد الذي قد يؤدي إلى الفرقة بينما اليمن الحضاري الثقافي هو قطب الواحدية الذي لا ينفي التعدد.

         واليمن السياسي لا يؤدي إلى الفرقة والتفكك إلا عندما يتمدد داخل الفضاء الحضاري الثقافي الواحد بالقوة الغاشمة ويفرض نفسه ككيان عصبوي متغلب ومهيمن على ما في هذا الفضاء من تعدد.وهذا ما يفسر تفكك وتشرذم الدول اليمنية في التاريخ القديم والوسيط حيث كان التعدد المهمش يتكئ على ضعف التساند بين الجغرافيا والتاريخ ويعمل على تفكيك واحدية الدولة أو تلاشيها لتأتي على أنقاضها دويلات أو دولة أخرى قوية كانت هي أحد عوامل ضعف واضمحلال الأولى.

         وهذه قاعدة شذت عنها الدولة الزيدية التي كانت تتوسع على حساب غيرها وعندما يظهر منافس قوي تنكمش ويتراجع حاملها الاجتماعي السياسي إلى جبال شمال الشمال حيث يجد موطئ قدم دائم يتربص داخله وعندما تأتي فرصة مواتية ينقض ويتمدد.لهذا تعددت نسخ الدولة الزيدية بتعدد الأسر الهاشمية التي حكمت اليمن. وقد تراوحت بين الضمور والظهور حتى 1962. ومن هذه الزاوية نستطيع أن نقرأ حركة الحوثي المسلحة وتحالفها مع المخلوع علي صالح وانقلاب الطرفين على التوافق الوطني وعلى التسوية السياسية ومخرجات الحوار الوطني الشامل.

          آخر تعبير سياسي استطاع أن يتمدد داخل كامل جغرافية اليمن هو الدولة الزيدية في عهد المتوكل على الله إسماعيل ولكن لمدة 42 عاما فقط (1644- 1686).وبعدها تفكك اليمن إلى مشيخات وإمارات وسلطنات في الجنوب وإمامات متصارعة في شمال الشمال بينما مالت مناطق الوسط إلى الاستقرار النسبي في ظل الأعراف التي مكنت الوجهاء المحليين من ممارسة السلطة الاجتماعية في مناطقهم ولم يشذ عن ذلك سوى البيضاء التي أسس فيها آل الرصاص إمارة لهم كان ظهورها أول خروج على دولة المتوكل في عهد خلفه قبل أن تخرج عليه أي من مشيخات وإمارات وسلطنات الجنوب.

         وقد استمر اليمن متشظيا على هذا النحو لأكثر من قرن ونصف قبل أن تحتل بريطانيا عدن عام 1839.وعلى إثرها عادت الخلافة العثمانية إلى اليمن في العام 1849 ولكن فقط إلى شمال البلاد هذه المرة إبتداء من المناطق الساحلية والسهلية. وهنا يجب أن نلاحظ أن العثمانيين استخدموا القوة لفرض حكم مركزي على كامل الشمال لم تخرج عليه إلا المناطق الزيدية بموجب صلح دعان الذي منح الإمام يحي سلطة دينية كانت نوعا من الحكم الذاتي لمناطق شمال الشمال. لكن قادة الجيش العثماني لم يتركوا الشمال بعد الحرب العالمية الأولى إلا وقد ساعدوه على البقاء موحدا تحت سلطة الإمام يحي.

          أبقى الإمام يحي على التقسيم الإداري الذي وضعه العثمانيون لكنه لم يمنح المناطق الشافعية ولو حدا أدنى من الإدارة الذاتية التي كان قد قاتل العثمانيين من أجلها. والأنكأ من كل ذلك أنه أذلها بحروب "الفتوحات" التي لم يكن لها ما يبررها سوى تحويل هذه المناطق إلى مناطق خراجية أسلمت بحد السيف بعد أن اصبح سكانها كفار تأويل حسب فتاوى تلك الحروب. وهي امتداد لفتاوى المتوكل على الله إسماعيل الذي قال إن الله لن يحاسبه على ما أخذه من أموال الشوافع وإنما على ما أبقى لهم.

         قسم الإمام يحي سكان مملكته إلى عدنانيين حاكمين وقحطانيين محكومين. وصنف العدنانيين إلى درجات حسب حظ أسرهم من السلطة والنفوذ في الماضي ومن الثروة والوجاهة في الحاضر. لذلك وجدت القاعدة الكبيرة من العدنانيين نفسها تقف ضد بيت حميد إلى جانب ثورة سبتمبر 1962. أما القحطانيون فقد جرى تصنيفهم إلى زيود محاربين وشوافع مزارعين. وللمحاربين تراتبية هرمية تبدأ بالشيخ ثم القاضي وبعده يأتي الفقيه وتنتهي بالقبيلي. وتحت هؤلاء فئة واسعة من المهمشين الذين يعيشون على خدمتهم. وقد مثلت ثورة سبتمبر 1962 انقلابا على هذا الركود القروسطي وأحدثت حراكا مجتمعيا كبيرا.غير أن عوامل داخلية وخارجية كثيرة تظافرت وكبحت المسار التصاعدي للثورة وحالت بينها وبين تحقيق كامل أهدافها وانتهى الأمر بنظام سياسي عصبوي دخل طرفا في معادلة الوحدة اليمنية سلميا عام 1990 وانقلب عليها عسكريا عام 1994 في حرب لا تختلف في أهدافها وشعاراتها وفتاواها عن "فتوحات" الإمام يحي في المناطق الشافعية لمملكته. والفارق الجوهري الوحيد أن هذه المناطق لم تكن مشروعا سياسيا له تاريخ وله دولة وتطلعات مستقبلية بحجم اليمن كما هو الحال بالنسبة للجنوب. لذلك استسلمت للواقع المفروض عليها كمناطق خراجية بينما تمخض الجنوب عن حراك اجتماعي سياسي واسع رافض لمبدأ الحرب وشعاراتها وفتاواها ونتائجها.

         خلافا للعثمانيين في الشمال فضلت بريطانيا في الجنوب أن تتجنب المزيد من أعمال المقاومة واكتفت بعدن وأقامت اتفاقيات حماية مع مشيخات وإمارات وسلطنات الجنوب الذي لم يصبح دولة واحدة إلا في 30 نوفمبر 1967 أي بعد نحو 286 عاما من تفكك دولة المتوكل على الله إسماعيل. وعلى هذا الأساس اصبحت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية هما آخر تعبيرين سياسيين يتزامنان داخل اليمن الحضاري الثقافي. مع ملاحظة أن الجغرافيا وليست القوة هي التي رسمت الحدود بينهما لأول مرة في تاريخ اليمن. وهذا فعل سياسي غير يمني وإنما عثماني بريطاني كرسه النظام الدولي المعاصر القائم على مبدأ سيادة الدول وأضفى عليه طابعا قانونيا أصبحت معه الوحدة اليمنية مستحيلة بواسطة القوة وإنما على أساس طوعي وبالإرادة الحرة لكل من الدولتين وعلى قاعدة الندية والشراكة بينهما. وإذا كانت دولة الشمال قد عاشت منذ ما بعد أغسطس 1968 على كبح قيام يمن سياسي واحد داخل اليمن الحضاري الثقافي الواحد – باستثناء فترة الرئيس الحمدي - فإن دولة الجنوب هي التي تحملت أعباء الإخلاص لوحدة هذا اليمن وهي التي أوصلت اليمنيين إلى 22 مايو 1990. والوصول إلى هذا اليوم سبقته انجازات ملحمية لا يعي معظم اليمنيين في الشمال حجمها ونوعها وأثرها الإيجابي الكبير على حاضر ومستقبل اليمن. ولو أن هذه الحقيقة كانت مستقرة ومستوعبة في عقولهم وضمائرهم لما كان بمقدور مراكز القوى العصبوية أن تزيف وعيهم بالشعارات الوطنية والدينية وأن تجر البلاد إلى حرب 1994 تحت شعار الدفاع عن الوحدة. وسيسجل التاريخ أن تلك الحرب كانت في مقاصدها وفي نتائجها خيانة عظمى لليمن الحضاري الثقافي وللانجازات الملحمية التي اجترحها شعب الجنوب والحركة الوطنية اليمنية عموما للوصول إلى 22 مايو 1990. وتتمثل هذه الملاحم فيما يلي:

1 – استدعاء الهوية اليمنية للجنوب من ارشيف التاريخ وتخليصها من غبار أزمنة التشظي.

2 - إسقاط مشروع إتحاد الجنوب العربي وتوحيد الجنوب وتثبيت هويته اليمنية.  

3 - بناء دولة الاستقلال على استراتيجية الوحدة اليمنية والنظرة الدونية للتشطير.

         وبسبب إخلاصه لليمن الحضاري الثقافي قوبل النظام السياسي في الجنوب بالكراهية والعداء المبكر حتى قبل أن يعلن عن توجهه الأيديوجي ذي البعد الاشتراكي. فعندما استقل الجنوب في 30 نوفمبر 1967 كان الشمال يعيش حربا أهلية بين الجمهوريين والملكيين وكانت صنعاء محاصرة من كل الجهات. ومع ذلك رفضت العصبيات القبلية الاعتراف بدولة الاستقلال بذريعة أنه ليس من حق الجبهة القومية أن تعلن دولة مستقلة في الجنوب وعلى قحطان الشعبي أن يأتي إلى تعز أو الحديدة ويسلم مفاتيح الجنوب لشيوخ القبائل. وهذا هو المنطق نفسه الذي واجه به الإمام يحي مساعي عبد العزيز الثعالبي حين حاول أن يقنعه بمقترحات سلطان لحج من أجل الوحدة. أما اعتراف دولة الشمال بدولة الاستقلال في الجنوب فقد حسمه رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني لاعتقاده حينها أن صنعاء مرشحة للسقوط في أيدي الملكيين وأن الجنوب سيكون قاعدة الانطلاق لمواصلة الحرب ضدهم ولا يجوز إستعداءه. وكان الإرياني يعلم علم اليقين أن اعتراض شيوخ القبائل على وجود دولة مستقلة في الجنوب ليس بسبب الفائض الوحدوي عندهم وإنما لأن حركة القوميين العرب المكروهة سعوديا هي التي أعلنت هذه الدولة وليس المستوزرون وسلاطين المحميات. ولو أن الاستقلال حصل تحت راية الجنوب العربي الذي تأسست فكرته على استبعاد الهوية اليمنية للجنوب لكان الاعتراف به جاهزا من غير قيد أو شرط. والسبب أن زعماء العصبيات القبلية يفضلون جنوبا متنصلا من يمنيته على جنوب يمني يتطلع إلى وحدة تليق به كمشروع سياسي وطني يهدد بالنتيجة ما يعتبرونه "حقهم التاريخي" في الحكم والهيمنة على كامل الشمال. فالوحدة ليست عملية جمع بسيطة وإنما حدث تاريخي إستثنائي له تفاعلاته التي ستعمل بالضرورة على إعادة توزيع القوة والنفوذ والثروة وستخلق توازنات جديدة بين مناطق البلاد ومكونات المجتمع. والنتيجة المنطقية والحتمية لهذه التفاعلات هي سقوط "الحق التاريخي" المزعوم في الحكم. وهذا أمر يدركه زعماء العصبيات القبلية تمام الإدراك ومنذ وقت مبكر. لذلك وجدوا أنفسهم إزاء الجنوب أمام ثلاثة خيارات نبسطها كما يلي:

1 - رفض مبدأ الوحدة اليمنية صراحة: واعتبارها اختراعا شيطانيا وعملا من أعمال العدوان ضد الجمهورية العربية اليمنية وأمنها واستقرارها. وهذا خيار خاسر لأن الحركة الوطنية اليمنية كانت قد أفلحت منذ وقت مبكر في استدعاء الوحدة من ارشيف التاريخ وأيقظتها في نفوس الجماهير وحولتها إلى حالة عاطفية شعبوية جارفة في الشمال والجنوب. وأي سياسة تصادم هذه الحالة العاطفية محكوم عليها بالسقوط سلفا. لذلك لم يكن أمام زعماء العصبيات سوى تملق هذه العاطفة والمزايدة على الجنوب بشعار الوحدة.

2 - التخلي عن "الحق التاريخي" المزعوم في الحكم لصالح اليمن ووحدته وأمنه واستقراره: وهذا ما لم يتم، ولن يتم طواعية، بدليل انقلاب 21 سبتمبر 2014.

 3 - القضاء على الجنوب كمشروع سياسي وطني يهدد "حقها التاريخي" المزعوم في الحكم: وذلك من خلال تمزيقه لصالح الماضي السلاطيني أو احتلاله بالقوة العسكرية وضمه إلى نظام الشمال. وهذا هو الخيار الذي استقرت عليه وحكم كل تفاصيل علاقاتها بالجنوب.وهذا ما سنبينه من خلال العرض التالي لتاريخ الثورة في الشمال:          

       فرضت ثورة 26 سبتمبر 1962م على اليمن الشمالي حاضرا جمهوريا غير مستقر بسبب الانقسام المجتمعي الكبير حول مشروعية الثورة ضد نظام الإمامة. وقد كان هذا الانقسام في أساس الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين. وفي تلك الظروف كانت تلك الحرب في بعض جوانبها حربا اقليمية بالوكالة بسبب الفرز الحاصل داخل مكونات النظام الإقليمي العربي إلى أنظمة قومية راديكالية مناهضة للاستعمار وأخرى قطرية محافظة تدين في نشأتها وبقائها لهذا الاستعمار.

         وبينما كان الملكيون يشكلون كتلة يمينية واحدة كان الجمهوريون منقسمين إلى يسار ويمين. وكانت القواسم المشتركة بين الملكيين واليمين الجمهوري أكثر من تلك التي بين هذا الأخير واليسار الجمهوري. لذلك كانت هناك معركة مؤجلة بين اليمين واليسار في المعسكر الجمهوري. والذي أجلها هو الوجود المصري في اليمن من ناحية والدعم المالي والعسكري السعودي للملكيين من ناحية أخرى. ومن أجل التسريع بهذه المعركة وضع اليمين الجمهوري خطة مبكرة جعل مفاتيح نجاحها بيد مملكة آل سعود وفتح معها قنوات اتصال مباشرة خارج الأقنية الرسمية وبنى منطقه الاقناعي على النحو التالي:

1 – الوجود المصري في اليمن يهدد أمن المملكة وهو أيضا يهدد مستقبلنا السياسي في وراثة بيت حميد الدين. إذن لنا مصلحة مشتركة مع المملكة في خروج القوات المصرية من اليمن.

2 – كلما طال أمد الوجود المصري في اليمن كلما تضاعفت قوة اليسار الجمهوري وفي صدارته حركة القوميين العرب ذات الروابط الفكرية والسياسية والتنظيمية مع الجبهة القومية في الجنوب. ومن شأن هذا أن يرجح ميزان القوى في صنعاء لصالح اليسار ويمكنه من الاستحواذ على السلطة بشكل نهائي بعد رحيل المصريين. وهذا ليس في صالح المملكة التي ستجد نفسها مهددة بيمن موحد يحكمه القوميون ومحالف لمصر عبد الناصر. إذن لنا مصلحة مشتركة مع المملكة في التخلص من القوميين وحسم مسألة السلطة في صنعاء لصالحنا.

3 – الجيش المصري لن يغادر اليمن إلا إذا انتهت الحرب الأهلية التي تهدد النظام الجمهوري. والحرب لن تنتهي إلا إذا أوقفت المملكة الدعم المالي والعسكري للملكيين وسعت إلى مصالحة وطنية بيننا وبينهم. والمصالحة إذا تمت سترجح ميزان القوى لصالحنا في حسم معركة الاستحواذ على السلطة.

4 – اليسار يرفض فكرة المصالحة مع الملكيين بحجة الخوف على النظام الجمهوري. ونحن نسقط هذه الحجة عندما نشترط أن تكون المصالحة مع الملكيين تحت مظلة الجمهورية والتخلي عن بيت حميد الدين.

5 – رهان المملكة على عودة بيت حميد الدين والإمامة إلى اليمن هو رهان على جواد خاسر. ومن مصلحة المملكة أن تشيد جسور التعاون معنا لتضمن جارا جنوبيا محالفا لها حريصا على أمنها واستقرارها. ثم أنه لن يكون بمقدورنا أن نسير دفة الأمور في البلاد بدون عون المملكة الذي يجب أن يغنينا عن الحاجة إلى غيرها من الأنظمة غير مأمونة الجانب.  

         بهذه الطريقة بدت مملكة آل سعود كمن كان يبحث عن سمكة صغيره فساق الله إليه حوتا كبيرا من حيث لا يحتسب. وبالمقابل اصبح لليمين الجمهوري حليفا اقليميا يعتمد عليه. ثم جاءت هزيمة العرب أمام إسرائيل في يونيو حزيران 1967 لصالح هذا التحالف حيث شرع الجيش المصري في الإنسحاب من اليمن. وفي 5 نوفمبر 1967 نفذ اليمين الجمهوري انقلابا ضد الرئيس عبدالله السلال وشكل مجلسا جمهوريا برئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني. لكن رغم هذا الانقلاب ظل اليسار الجمهوري صاحب الحضور الأقوى في وحدات الجيش والمقاومة الشعبية. لذلك كان لابد من حصار صنعاء.

         حاصر الملكيون صنعاء من كل الجهات. وخلال سبعين يوما من الصمود والمقاومة سقط الحصار. لكن هل كان هدف الحصار أن تعود بيت حميد الدين لحكم اليمن؟ هذا هو الاعتقاد السائد إلى اليوم في كل ما كتب وما يكتب عن ملحمة السبعين يوما. أما نحن فلنا رأي مغاير. في اعتقادنا أن حصار صنعاء كان من أجل استنزاف وإنهاك صاعقة عبد الرقيب عبد الوهاب ومظلات حمود ناجي سعيد ومدفعية علي مثنى جبران ومشاة محمد صالح فرحان، واليسار الجمهوري عموما الذي تحمل العبء الأكبر في الدفاع عن العاصمة وفك حصارها. وكان أيضا من أجل اختبار أهلية اليمين الجمهوري وجاهزيته لمنازلة اليسار. وليس من قبيل المصادفة حصول بعض المواجهات المسلحة بينهما أثناء الحصار، وهي مواجهات غير مبررة بين طرفين يفترض أنهما يخوضان معركة واحدة ضد عدو مشترك مدعوم إقليميا.

         انتهى حصار صنعاء في فبراير 1968. وفي أغسطس من العام نفسه شهدت صنعاء أحداثا دامية إنتهت بهزيمة اليسار وتسريحه من الجيش وتشريده. وجراء هذه الأحداث أصبح الجنوب الرسمي من غير شريك وحدوي في صنعاء. وأصبح التعلق بالوحدة في صنعاء قرينة على شبهة الانتماء إلى اليسار الذي أعاد تنظيم نفسه فيما بعد في إطار الجبهة الوطنية الديمقراطية المدعومة من عدن. ومقابل هزيمة اليسار في أغسطس 1968 حصل اليمين الجمهوري على جائزة المصالحة التدريجية مع الملكيين الذين أصبحوا منذ العام 1970 حاضرين في المجلس الجمهوري ومجلس الشورى والحكومة والسلطة المحلية والقضاء والسلك الدبلوماسي.

         معروف أنه عندما حصل الجنوب على الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 كان الشمال يعيش حربا أهلية حقيقية بين الجمهوريين والملكيين وكانت صنعاء محاصرة من كل الجهات. ومع ذلك كان الاعتراف بدولة مستقلة في الجنوب محل معارضة شديدة من قبل بعض رموز اليمين الجمهوري الذي أنكر على الجبهة القومية هذا الحق. غير أن القاضي الإرياني كان صاحب رأي مغاير رجح أفضلية الاعتراف. وما هو جدير بالإشارة هنا أن اعتراض رموز اليمين الجمهوري على الاعتراف بدولة مستقلة في الجنوب لم يكن بسبب الفائض الوحدوي عندهم وإنما لأن سلطة الدولة المستقلة آلت إلى الجبهة القومية غير المرغوبة سعوديا لا إلى السلاطين والمستوزرين أصحاب اتحاد الجنوب العربي. وموقف اليمين الجمهوري المناوئ للجبهة القومية يعود إلى فترة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني. فاليمين كان يعارض دعمها بالسلاح الأمر الذي جعل هذا الدعم يأخذ طابعا سريا وتحديدا بعد اختلاف الجبهة القومية مع قيادة الجيش المصري في اليمن. والحديث بإطلاق عن الدعم الذي قدمته ثورة 26 سبتمبر لثورة 14 أكتوبر يتستر على هذه الحقيقة. والرموز التي وقفت ضد الدعم بالسلاح واعترضت على الاعتراف هي نفسها التي أشعلت حرب سبتمبر 1972 بين شطري البلاد رغم معارضة القاضي الإرياني للحرب. وإذا كانت تلك الحرب قد آلت إلى توقيع اتفاقية الوحدة بالقاهرة في أكتوبر 1972 فإن محسن العيني دفع بسرعة ثمن التوقيع على تلك الاتفاقية مع علي ناصر محمد، وفيما بعد دفع القاضي الإرياني ثمن الدفاع عنها.

         لقد فقد النظام السياسي في الشمال أهليته الكاملة للوحدة مع الجنوب منذ أحداث أغسطس 1968. فعقب تلك الأحداث أصبحت النخبة السياسية الحاكمة في الجنوب بدون شركاء وحدويين في الشمال الرسمي. ومع إبراهيم الحمدي بدأ الشمال الرسمي يعيد تأهيل نفسه وحدويا على كل المستويات، وفي عهده تلقى تلاميذ المدارس في الشمال والجنوب دروسا موحدة في التاريخ والتربية الوطنية. لكن الحمدي دفع ثمن هذا التوجه وذبح بطريقة باتت معروفة لمعظم اليمنيين. أما أحمد حسين الغشمي فقد كان رئيسا عابرا ريثما يعاد ترتيب أوراق النظام على النحو الذي لا يسمح بتكرار ظاهرة الحمدي. وعندما جاء علي عبد الله صالح إلى السلطة في يوليو 1978 حرص منذ أيامه الأولى في الحكم أن يثبت لمن جاء به أنه لم ولن يكون ابراهيم حمدي آخر. وبما أن الوحدة تحققت في عهد الرئيس صالح فسوف نتناول هذا العهد بقدر أكبر من التفصيل.

         جاء علي صالح إلى السلطة من فراغ سياسي شبه مطلق. فقبل 17 يوليو 1978 لم يكن هذا الرجل يتمتع بأية شعبية- لا داخل النظام ولا خارجه- تجعل منه صاحب حضور حتى من الدرجة العاشرة. وعلى مدى ثلاثة وثلاثين عاما مضت لم يستطع الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي أن يقدم تفسيرا مقنعا للطريق الذي سلكه هذ الرجل من أجل الوصول إلى السلطة. غير أن ملابسات هذا الحدث خرجت بالتدريج إلى دائرة الضوء وتبين أنه وصل إلى رئاسة البلاد بإرادة سعودية قوية لها نفوذ كبير في اليمن الشمالي الذي كان حينها يعيش حالة انكشاف أمني وعسكري وسياسي تام على الرياض (مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر). وقد اتكأ علي صالح على هذه الإرادة في فرض نفسه على مراكز القوى والتأثير، التي لم تكن هي الأخرى متحررة من النفوذ السعودي، أو على الأقل يستحيل عليها أن تضمن استقرار النظام وربما بقاءه، من غير دعم الرياض. ولهذا تعاملت مع رئاسة علي عبد الله صالح كأمر واقع وتركت للزمن أن يحدد نوع علاقاتها المستقبلية معه.

        ومن جانبه لم يكن علي صالح حينها يحوز على الخبرة والمعرفة التي تؤهله لإدارة شئون الدولة. كما لم يكن صاحب مشروع يبرر وصوله إلى السلطة ويؤسس عليه شرعية انجاز تضفي المقبولية الشعبية على نظامه. فالسلطة بالنسبة له كانت طموحا شخصيا، وغاية مطلوبة لذلتها. وكان تفكيره منذ البداية منصبا على تأمين بقائه من غير تهديد. وهاتان نقطتا ضعف مفصليتان حتمتا عليه منذ بداية عهده بالحكم أن يسترضي مراكز القوى وأهل النفوذ والتأثير ومجموعات الحكم عموما، فأرسى العلاقة بينه وبين هؤلاء على مبدأ توافقي مضمر قائم على اعتبار الدولة "غنيمة مشتركة لمراكز القوى في النظام".

        والجدير بالملاحظة هنا أن مجيئ علي صالح المفاجئ إلى السلطة لم يكن انقلابا على النظام السياسي وإنما كان للمحافظة عليه بأركانه وشخوصه وتوجهاته السياسية والأيديولوجية وتحالفاته الإقليمية والدولية. فهو جاء ليكون شريكا لآخرين مؤتمنا من الدولة الراعية لا كبديل لغيره. ولهذا لم يأت بطاقم خاص به وإنما اعتمد في إدارة البلاد على الطبقة السياسية نفسها التي سبقته في الحضور السياسي والجماهيري وتحقيق المكانة. فهو طارئ عليها وبحاجة إلى خبراتها وإلى شعبيتها، ولم يكن واردا من الناحية الموضوعية حينها أن يدخل مع أي من مراكز القوى في خلافات لا يستطيع أن يبررها في ضوء توجهات النظام وثوابته. ومن بديهيات الأشياء أن يقدم نفسه لها كشريك حقيقي. وقد عبر عن شراكته مع الجميع من خلال القبول بما يريدون- في إطار التوجه العام للنظام داخليا وخارجيا- ليقبل الجميع ايضا بما يريد الرئيس في إطار التوجه نفسه. وعلى قاعدة هذا التفاهم اصبحت الدولة غنيمة لأطراف وشركاء النظام السياسي، وجميعهم معني بدوامها والحفاظ عليها كمصلحة مشتركة أسست لتحالف وثيق فيما بينهم. وأصبح علي صالح قطب الرحى في هذا التحالف وقاسمه المشترك. فهو يقبل القسمة على الجميع والجميع لا يقبل القسمة إلا عليه. وقد تشكل هذا التحالف من خمس دوائر هي: دائرة كبار قادة الجيش، ودائرة كبار شيوخ القبائل، ودائرة كبار رجال الدين، ودائرة كبار السياسيين وممثلي البيروقراطية في الجهاز المدني للدولة، ثم دائرة بعض كبار رجال المال والأعمال، وبخاصة أولئك الذين راكموا ثروات بطرق غير مشروعة.

         وبينما كان الكل داخل النظام يفعل ما يريد في حدود الدور الموكل إليه إنصرف علي صالح لبناء المتاريس الاستخباراتية والأمنية والعسكرية، لتحصين مؤسسة الرئاسة وتعزيز دورها في إطار النظام السياسي. وقد بنى تلك المتاريس ابتداء على قاعدة الشراكة بين نخب النظام العسكرية والقبلية. ولم يكن الرئيس حينها سوى رمز هذه الشراكة وراعيها المؤتمن المقبول من أركان النظام في الداخل ومن الدولة الراعية في الإقليم.

        وقد ترتب على هذا النوع من الشراكة المغلقة على أطراف النظام، ولأول مرة، أن أصبح للفساد دولة في اليمن، وتحول نافذوها إلى فاسدين يتمتعون بسلطات مادية ومعنوية واسعة لا رقيب عليها، تهمش، وتقصي، وتقمع، كل من لا يرضى عنها، أو يعارضها بأي شكل من الأشكال. وكانت المزاوجة والخلط بين السلطة والثروة من أبرز مظاهر دولة الفساد حيث ميزت طبقات الحكم نفسها بنمط حياة إستهلاكي ترفي يفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية. وفي سياق المواجهة الأيديولوجية بين صنعاء وعدن جرى تسويق هذا النمط وتبريره على أنه من سمات وأفضليات النظام الرأسمالي في مواجهة النظام الإشتراكي. وبذلك تم تحصين الفساد، أيديولوجيا وسياسيا، ضد أي نقد، من داخل أو من خارج النظام، فتحول إلى ثقافة جرى تعميمها على مختلف مستويات الجهاز الإداري للدولة، فشاعت فيه ظاهرة المحسوبية والرشوة والمداخيل غير المشروعة التي دمرت منظومة قيم المجتمع. وأصبح المحذور الوحيد الذي يخشاه الموظف الرسمي ويرتعد منه هو الافصاح عن أي رأي سياسي مغاير قد يضعه تحت مجهر شبكة الأجهزة الأمنية التي أحكمت قبضتها على الخدمة المدنية والقضاء والسلك الدبلوماسي، وتحكمت بمصائر الناس، وأشاعت ثقافة الخوف والرعب داخل أجهزة الدولة العسكرية والمدنية وفي المجتمع.

        وبسبب ثقافة الخوف هذه تأسست شروط موضوعية للنفاق السياسي، فتكاثر المنافقون الذين وجدوا في تملق رئيس الدولة والتغني ب"مواهبه" و"مناقبه" أقصر الطرق وأسهلها للاندماج في النظام وتحقيق مكاسب مادية ومعنوية كل حسب حجم ونوع الخدمة التي يقدمها للرئيس ونظامه. وكانت التنمية هي الخاسر الأكبر جراء النهج الذي سار عليه علي صالح في إدارة البلاد. فمعظم الموارد ذهبت لصالح تحصين النظام ورفاه نخبه وإثرائها على حساب التوسع الكمي والنوعي في البنى التحتية اللازمة لإحداث تنمية حقيقية وشاملة.

        وعندما أطل عام 1990 كان نظام علي صالح قد انتج شبكة مصالح واسعة وتحالفات متداخلة جعلت النظام السياسي في الشمال غير مؤهل، لا لوحدة إندماجية، ولا لوحدة فيدرالية، ولا لأي مستوى من مستويات الديمقراطية. وقد شكلت تلك المصالح والتحالفات بسياجاتها الأمنية والعسكرية والسياسية والأيديولوجية والإدارية والقبلية حقل ألغام حقيقي تفجر بسرعة في طريق وحدة 22 مايو 1990 السلمية وديمقراطيتها وقاد البلاد إلى حرب صيف 1994. وبسبب تلك الحرب ونتائجها نشأت القضية الجنوبية كأحد مكونات المشهد السياسي المعقد في اليمن اليوم.

        هذه إذن فترة حكم علي صالح زمن الجمهورية العربية اليمنية. الزمن الذي تأسس على تحالف خمس دوائر كل منها كان  جزءا من بنية النظام السياسي لدولة الشمال. وكانت سلطة هذا التحالف مستحوذة على كل هياكل وفضاءات الدولة ابتداء من الجيش والأمن والقضاء والسلك الدبلوماسي، مرورا بالخدمة المدنية والجهاز الإداري، وانتهاء بالإعلام والتعليم المدرسي والجامعي وحتى دور العبادة. مايعني أن الدولة الوطنية المفترضة ممثلة بالجمهورية العربية اليمنية كانت نظاما سياسيا لأطراف هذا التحالف، ولم تكن دولة لكل أبناء الشمال. ولأن علي صالح كان شديد الاخلاص لنظام الجمهورية العربية اليمنية بتحالفاته المذكورة فقد اعتبرنا الفترة الممتدة من يوليو 1978 وحتى مايو 1990 فترة شهر العسل بالنسبة لأطراف هذا التحالف وأطلقنا عليها إسم "الصيغة الأفقية" لنظام علي صالح في مقابل "الصيغة العمودية" التي بدأت بعد حرب 1994. ومن أجل اكتمال صورة هذا النظام سنتحدث أيضا عن صيغته الثانية التي بدونها لا نستطيع أن نفسر أسباب تصدعه أثناء ثورة فبراير 2011.

        في 22 مايو 1990 توحدت دولة الشمال (الجمهورية العربية اليمنية) ودولة الجنوب (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) سلميا في إطار الجمهورية اليمنية. وكانت الديمقراطية لصيقة بالوحدة ومرادفة لها. فالديمقراطية لم تكن ممكنة بدون الوحدة. والوحدة لا تستطيع أن تصمد في حال التخلي عن الديمقراطية. وأية تشوهات تصيب الديمقراطية، تلقي بظلالها الكثيفة على الوحدة. ومع الوحدة اصبح علي صالح رئيسا لمجلس رئاسة الدولة الجديدة. وكشريك في توحيد شطري اليمن إكتسب علي صالح شعبية كبيرة في أوساط الجماهير. وعلى المستوى الرسمي لم يكن هناك ما يهدد بقاءه في السلطة، فقد كان مقبولا من قبل شركائه القدامى في دولة الشمال، ومن الشريك الجديد القادم من عدن، وكان هذا يؤهله لأن يكون شخصية جامعة توفق بين كل الأطراف وتعزز عوامل الثقة فيما بينها لصالح الوحدة والديمقراطية. لكن الرجل لم يقرأ اللحظة التاريخية التي شكلتها الوحدة على هذا النحو. فقد رأى في الديمقراطية خطرا عليه وتعامل معها تعاملا تكتيكيا، وأخذ منها فقط ما يعزز مركزه ويقوي تحالفاته القديمة في إطار الصيغة الأفقية، للاجهاز على شريك الوحدة القادم من عدن. ولم يكن في هذه اللحظة قد ادرك أن الديمقراطية ستحرره من الحاجة إلى التحالفات القديمة وستعفيه من منة أطرافها عليه.

        وبعد انتخابات أبريل النيابية عام 1993 بدا له أن الديمقراطية كانت عليه أكثر مما كانت له. فالحزب الإشتراكي الذي قاسمه مجد الوحدة اصبح يقاسمه مجد الديمقراطية وسيقاسمه مجد التنمية والنهوض باليمن في ظل استقرار مفترض بفضل الوحدة والديمقراطية. وهذا يعني أن هذا الحزب سيتمكن من تصحيح الصورة الذهنية التي ألصقها خصومه به في سنوات الصراع بين شطري البلاد وسيستأنف حياة جديدة في ظل الوحدة والديمقراطية (مذكرات الشيخ عبد الله). وبدا لعلي صالح أن كل ذلك سيكون على حسابه وخصما من رصيده الشخصي. لذلك بنى سياسته تجاه الحزب الإشتراكي منذ الأيام الأولى للوحدة على استدعاء الموروث التاريخي للصراع بين الشطرين، وذهب يغذي الحساسيات الأيديولوجية القديمة ويخلط الأوراق، ويحدث الوقيعة بين كل الأطراف. وترتب على كل ذلك أزمة سياسية لم تخل من أعمال عنف طالت العشرات من كوادر الحزب الإشتراكي.وبعد انتخابات أبريل 1993 النيابية دفع علي صالح البلاد بسرعة قياسية نحو حرب صيف 1994 التي خاضها تحت شعار الدفاع عن الوحدة.

        ولأن العبرة في السياسة هي في النتائج وليس في المقدمات، فقد تبين فيما بعد أن اهداف علي صالح من وراء حرب 1994 كانت شخصية، وأن الانتصار العسكري الذي تحقق تحول إلى هزيمة سياسية لكل اليمنيين في الشمال وفي الجنوب. فالتشطير انتقل من الجغرافيا إلى النفوس.بينما أصيبت الديمقراطية الجنينية بالشلل التام، واصبح التداول السلمي للسلطة مجرد شعار لا أساس له في الواقع.

        بعد حرب 1994 انفتح أمام علي صالح فضاء ديمغرافي جديد في الجنوب أكسبه مصادر قوة جديدة أتاحت له الاستقلالية عن حلفائه التقليديين في إطار الصيغة الأفقية للزمن الأول والتحول إلى صيغة عمودية خالصة له ولعائلته ومسنودة بتحالفات بديلة من ابتكاره تدين له بالولاء مقابل ادماجها في النظام وما يحققه لها ذلك من امتيازات مادية ومعنوية. وشيئا فشيئا بدأ يحس أنه بتحالفاته الجديدة يستطيع أن يضعف أو يهمش أو يقصي أو يتخلص من شركاء الأمس الذين ناصروه منذ بداية عهده. وبالتوازي مع هذا النهج الجديد تجاه شركاء الأمس بدأ يكشف عن تطلعاته الشخصية لتوريث الحكم عبر الديمقراطية التي اختزلها في صندوق الاقتراع بعد أن إعتقله ووضعه تحت الإقامة الجبرية.

        وبواسطة صندوق الاقتراع المعتقل حقق علي صالح أغلبية برلمانية مريحة عام 1997، وأعاد انتاجها عام 2003. وأصبح الصندوق شعارا يحاكي شعار "الوحدة أو الموت". وبواسطة هذين الشعارين قدم علي صالح نفسه على أنه صاحب الريادة في الوحدة والديمقراطية، وكأنهما منة منه على الشعب اليمني. وبعد أن نجح في اختزال الديمقراطية في الصندوق، ذهب يرسخ قناعة لدى الرأي العام بأن هذا الصندوق هو الحكم في تقرير من يحكم اليمن، وأن نجله أحمد مواطن يمني ومن حقه أن يصبح رئيسا لليمن إذا اختاره الشعب عبر الصندوق. مع أن علي صالح يدرك أكثر من غيره أن صندوق الإقتراع ليس إلا قميص عثمان الذي من خلاله يكتسب الشرعية الشكلية ثم يكسبها لمن يشاء من الأقارب والأعوان والأزلام الذين يحققون له مشروعه الشخصي.

        لقد انقلب علي صالح أولا على الحزب الإشتراكي وأخرجه بواسطة الحرب من الشراكة في دولة الوحدة وحوله إلى حزب محظور من الناحية العملية. ثم استثمر نتائج الحرب للانقلاب على شركاء الصيغة الأفقية لصالح صيغة عمودية معدلة، ومارس انقلابه هذا بشكل تدريجي كعملية قامت على التصفية الجسدية لبعض رموز التحالف القديم على ذمة حوادث مؤسفة، وعلى تشويه صورة البعض الآخر داخليا وخارجيا وتحميله وحده كل أوزار نظامه السياسي ليتقمص هو دور الحاكم الذي كان فيما مضى مغلوبا على أمره. وقد أدرك حزب التجمع اليمني للإصلاح أبعاد هذا الإنقلاب مبكرا وانسحب من الشراكة في السلطة على نحو هادئ وعقلاني وأصبح أكبر حزب معارض في إطار تحالف اللقاء المشترك. ومن باب الإنصاف كان انسحاب هذا الحزب من السلطة مساحة ضوء في ليل حالك الظلام.

         لقد انقلب علي صالح إذن على أطراف التحالف القديم – أي على شركائه في الجمهورية العربية اليمنية- لا من أجل مشروع وطني كبير، وإنما من أجل مشروع عائلي صغير.إنقلب على الصيغة الأفقية، لا لصالح صيغة أفقية أوسع، وإنما لصالح صيغة عمودية لا تتسع إلا له ولعائلته.

         وعندما شرع علي صالح في إقامة هياكل دولته العائلية كان من الناحية العملية يؤسس- ويعلم أنه يؤسس- لشروط أزمة عميقة في البلاد. فأطراف التحالف القديم لن تقبل أبدا بدولة عائلية وستقاوم هذا المشروع. وتحسبا لأي مقاومة أو ممانعة أخذ صالح ينفق موارد البلاد لرفع جاهزيته السياسية والعسكرية. وشيئا فشيئا تضاعفت ثقته بالقدرة على هزيمة خصوم دولة العائلة في مربع السياسة أو في مربعات الحرب إذا احتاجت السياسة إلى مساندة البنادق والمدافع. وكان بحاجة فقط إلى انتخابات برلمانية يجريها بشروطه لتجديد شرعية أغلبيته المريحة التي ستقلع عداد الرئاسة ليفعل هو بعد ذلك ما يريد.

        كانت احزاب المعارضة في إطار اللقاء المشترك مدركة لمضامين هذا المخطط. ومن أجل المشاركة في الإنتخابات اشترطت أولا إصلاح النظام السياسي وإصلاح المنظومة الانتخابية عبر حوار وطني يشمل كل الأطراف الفاعلة- بما في ذلك الحراك الجنوبي ومعارضة الخارج والحوثيين- ويناقش كل القضايا وعلى رأسها القضية الجنوبية وقضية صعدة. وبعد أن فشل صالح في اختزال أطراف الحوار بالأحزاب الممثلة في مجلس النواب وقع مع احزاب المشترك على اتفاق فبراير 2009 الذي مدد للبرلمان سنتين اضافيتين تتاح خلالهما الفرصة لإجراء الحوار الوطني الشامل والتوافق على الإصلاحات المطلوبة.

        أمضى علي صالح هاتين السنتين في المناورات القاتلة للوقت. وفي النهاية رمى باتفاق فبراير عرض الحائط وذهب يحضر للانتخابات البرلمانية بشروطه ليفرض على أحزاب المشترك سياسة الأمر الواقع بحجة أن الانتخابات استحقاق دستوري للشعب اليمني ويجب أن تجري في موعدها وأنه لن يضيع الوقت في حوار الطرشان كما قال، وأشاع في كل مكان أن أحزاب المشترك ضعيفة وتخشى الاحتكام إلى الشعب أمام صناديق الإقترع.

        قررت أحزاب المشترك أن تقاطع الانتخابات وذهبت إلى جماهيرها في كل مكان تشرح الأسباب وتكشف عن مخطط التمديد والتأبيد والتوريث الذي يريد علي صالح أن يمرره على الشعب اليمني بواسطة إنتخابات انفرادية ينافس فيها حزبه حزبه. وأوضحت أن علي صالح لا يريد إنتخابات نزيهة وشفافة ومتكافئة تحل مشاكل البلاد، وكل ما يريده هو إنتخابات تمنحه شرعية شكلية لتمرير مشروع التوريث.

        أعلن علي صالح أن مقاطعة الانتخابات انتحار سياسي محتوم لأحزاب المشترك وتحديدا للتجمع اليمني للإصلاح باعتباره الحزب الأقوى في الائتلاف المعارض. وكان هذا تهديدا مبطنا بأن الإخوان المسلمين سيلقون المصير نفسه الذي لقيه الإشتراكيون والناصريون من قبل. وفي هذا التهديد كان علي صالح يعول على المسافة الطويلة التي قطعها قطار دولته العائلية عسكريا وأمنيا معتقدا أن الإخوان المسلمين هم العقبة الأخيرة التي يجب الاجهاز عليها كي يتمكن القطار من مواصلة السير فوق قضبان آمنة. أما ما تبقى من الهياكل العسكرية للصيغة الأفقية فليس أمامها إلا أن ترفع الراية البيضاء أو أن تسحق تحت طائلة الانشقاق والتمرد على الشرعية.

        هكذا خطط علي صالح. غير أن متغير ثورة فبراير فاجأه من حيث لا يحتسب وأربك كل حساباته الأمنية والعسكرية فألفى نفسه أمام شعب أعزل قرر أن يطرد صانع الأزمات سلميا وأن يسقط نظامه من غير عنف. وهذه لعبة جديدة لم يتوقعها، وبقواعد جديدة لم تكن واردة في حساباته المتكيفة على اللعب في مربعات الحرب.وخلال أشهر الثورة استخدم علي صالح كل ما تبقى لديه من أوراق وأولها ورقة العنف، وورقة العقاب الجماعي للشعب اليمني من خلال افتعال أزمة الوقود والكهرباء، لكنه لم يستطع أن يتجنب السقوط السياسي الذي بدأ بتجريده من كل صلاحياته ونقلها إلى نائبه وفقا للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.

        والنجاح الذي استطاع علي صالح أن يحققه تمثل في اختزال ثورة فبراير إلى أزمة سياسية بين الصيغتين الأفقية والعمودية، وهذا واضح من خلال التسوية التي اقترحتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي وقع عليها بعد أن الفى نفسه محاصرا بإرادة اقليمية ودولية تلح على توقيعه ومغادرته للحياة السياسية باعتباره أصل المشكلة وسبب رئيس في عدم الإستقرار.

         اعتقد علي صالح أن توقيعه على المبادرة الخليجية خطوة إلى الخلف مقابل خطوات إلى الأمام تعيده إلى السلطة، ومن أجل ذلك ذهب يستدعي أحلام وحروب الدولة الزيدية منذ حروب الإمام الهادي لقبائل يام وإحراق نخيلها وردم آبارها، وحتى حرب بيت حميد الدين ضد ثورة سبتمبر والنظام الجمهوري وحصارها لصنعاء، دون أن يدرك أنه يلعب في زمن متغير وأن عبد الرقيب عبد الوهاب أصبح ظاهرة جماعية في كل اليمن، وأن صاعقته غدت ظاهرة شعبية في كل البلاد.ومما يؤسف له أن المركزية التي أسستها حروب الهيمنة والإخضاع على مدى قرون رفضت أن تغادر حياتنا السياسية على قاعدة الحوار السياسي والتوافق الوطني وأبت إلا أن تغرق البلاد بالدم.

قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة

@aleshterakiNet

 

         من بين أبرز سمات السياسة أنها ذات طبيعة متحركة ومتنقلة ومتغيرة، وهذا عائد إلى انبثاقها عن المجتمع وليس عن الدولة.فالمجتمع هو الذي يطرح الاحتياجات والمطالب المتعلقة بكافة مناحي حياته، ونخبه تنصت إلى نبضه وتتلقف احتياجاته وتحولها إلى برامج سياسية مطلبية على الدولة أن تضمنها وأن تجعلها متاحة للأفراد والجماعات.ولأن احتياجات المجتمع متجددة لا تتوقف عند مستوى معين فإن السياسة تبعا لذلك لا تعرف الثبات وإنما هي في حالة حركة دائمة.

         وعلى عكس السياسة اتسمت الدولة منذ انبثاقها في التاريخ بنزعة محافظة تتشبث بالثبات وتقاوم التغيير، وهذا بسبب طبيعتها كبنيان يسعى إلى القوة والوحدة، ويشكل القانون والنظام والسلطة خصائصه المميزة، فضلا عن الامتيازات المادية والمعنوية التي يتيحها الاستحواذ على سلطة الدولة في مستوياتها المختلفة.

         والنزعة المحافظة صفة ملازمة أيضا لكل دولة معاصرة لا تعرف الديمقراطية، أو أنها تدعيها ادعاء دون أي تحول حقيقي يدل على مصداقيتها. والملاحظ على هذه الدول أنها ورثت النزعة المحافظة عن الدولة القديمة وتقاليدها، بينما الهياكل التي ترتديها،  كالدستور والبرلمان والأحزاب والانتخابات، منقولة عن الدولة الحديثة في الغرب المعاصر.والموروث في هذا النوع من الدول هو الذي يمثل جوهرها، بينما يمثل المنقول مظهرها الخارجي.ولأن الجوهر والمظهر ليسا من جنس واحد فإن التوتر بين الدولة والسياسة يأخذ شكل التوتر بين الجوهر القديم والمظهر الحديث، حيث ينزع كل منهما إلى شد الآخر إليه وتكييفه لصالحه في عملية صراعية تنتهي بتحديث الجوهر وانتصار الديمقراطية أو بمزيد من القيود على الديمقراطية الشكلية، وربما الإطاحة بها وبهياكلها المنقولة، وهذا يتوقف على عوامل كثيرة أحدها ميزان القوى على المستوى الاجتماعي العام.

         وتاريخ العلاقة بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة كان دائما تاريخا صراعيا يبدأ مستتراً لينتهي ظاهراً، وما الثورات العنيفة إلا من أبرز نتائج هذا الصراع.والثورة إما أن تفشل في الإطاحة بالطبقة الحاكمة وإما أن يحالفها النجاح.في الحالة الأولى يُلاحق الثوار كمجرمين خرجوا على النظام العام وأقلقوا سكينة المجتمع ويُعلق قادتهم على أعواد المشانق. وفي الحالة الثانية تُعلق أقواس النصر احتفاء بالثورة ويعامل الثوار كأبطال وأصحاب شرعية ثورية تمنح قادتهم حق الجلوس على سدة الحكم بسلام آمنين لفترة من الزمن تقصر أو تطول.

         ولأن السياسة ذات طبيعة متغيرة ومتحركة فإن نجاح الثورة في تحقيق بعض المنجزات ليس نهاية التاريخ. فمع الوقت تتجدد حاجات المجتمع وتزداد مطالبه وتظهر نخب جديدة تتبنى هذه المطالب وتصوغها في برامج تقابلها نخبة الحكم بالرفض، الأمر الذي ينتج احتقانات تتراكم تدريجيا لتفضي في نهاية المطاف إلى نشوء مناخ ثوري وقيام ثورة جديدة.

         وهكذا يصبح تاريخ التوتر بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة تاريخا للدوران العنيف داخل عجلة مفرغة.والسبب أن الثورة في كل مرة لم تفعل شيئا أكثر من الإطاحة بنخبة الحكم القديمة والإتيان بنخبة جديدة تحل محلها.ودولة هذا هو حالها هي بالضرورة دولة غير تنموية لأن النخب التي تحكم تكرس كل الإمكانيات المتاحة في البلاد للبقاء في الحكم، وتلك التي تعارض تهدر وقتها وجهدها ومالها في التآمر على التي تحكم، وقد تأتي لحظة الصدام العنيف على تدمير ما قد تحقق من منجزات.والحداثة السياسية هي التي عالجت هذه الإشكالية بنجاح وأنهت التوتر القائم بين الدولة والسياسة بإنتاج الدولة الحديثة التي نراها اليوم في الغرب المعاصر واليابان وكثير من البلدان التي طالت الحداثة السياسية دولها.فكيف تم ذلك؟

 أولا: أعادت الحداثة بناء وعي الإنسان بالدولة وقررت بشأنها ما يلي:

1 -  الدولة جهاز لا يعمل بذاته، شأنها شأن أي آلة لا تعمل من تلقاء نفسها وتحتاج إلى من يقوم بتشغيلها، كالسيارة مثلا.

2 – بما أن الدولة لا تعمل بذاتها فهي بالضرورة  محايدة ومستقلة في ذاتها، مثلها مثل أي آلة.

3 - حياد الدولة واستقلالها لا يكون لذاتها وإنما للمجتمع ومن أجله.

4 - مدى تأثير المجتمع على الدولة هو الذي يسلبها حيادها واستقلالها أو يبقي عليهما.

5 – تأثير المجتمع على الدولة يتم من خلال النظام السياسي الذي أنتجه لتشغيلها.

6 – النظام السياسي عندما يقوم بتشغيل الدولة يصبح جزءا منها، تماما مثل السائق عندما يصبح جزءا من السيارة أثناء سياقته لها.

7 – النظام السياسي غير محايد، فهو قد يبقي على حياد الدولة واستقلالها، وقد يصادرها ويصادر معها المجتمع.

ثانيا: اتجهت الحداثة السياسية إلى إنهاء التوتر القائم بين الدولة والسياسة بأن أدخلت تعديلات جوهرية على بنيان الدولة مسَّت على وجه التحديد النظام السياسي الذي خضع لإصلاحات جعلته متسقا مع حياد الدولة واستقلالها، وعندما حدث هذا  أصبحت الدولة مرنة ومنفتحة ومستجيبة دائما لحاجات المجتمع المتجددة.

ثالثا: ذهبت الحداثة السياسية في إصلاح النظام السياسي إلى عقلنة السياسة من خلال المزاوجة التي لا تنفصم بين العلمانية والديمقراطية، إذ لا ديمقراطية بلا علمانية، ولا علمانية بغير ديمقراطية.فبالعلمنة الملتحمة بالديمقراطية أمكن تحويل الدولة من مجال خاص بنخب الحكم والسيطرة إلى مجال عام لكل مواطنيها.وحيث لا تكون الدولة مجالا عاما تكون السياسة غير عقلانية، بينما تتعذر الممارسة الديمقراطية الحقيقية حين تتلاشى الحدود بين المجال العام والمجالات الخاصة وتستحوذ السلطة على الدولة.

         والمجال العام للدولة يمتد في مساحة واسعة تشمل منظومات الجيش والأمن والقضاء والجهاز البيروقراطي للدولة والتعليم المدرسي والجامعي وكل ما يصنف على أنه من أجهزة الدولة ومؤسساتها.وفي مقابل المجال العام هناك مجالات تصنف بالنسبة له كمجالات خاصة تشمل المواطن الفرد والأسرة والعشيرة والقبيلة والأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات المهنية ومنظمات المجتمع المدني وكذلك المؤسسة الدينية ودور العبادة.ومثلما يجب أن يتمتع المجال العام بمنظومة حمائية قوية ضد أي محاولة لاختراقه من قبل هذا المجال الخاص أو ذاك، فإن المجالات الخاصة يجب أن تكون هي الأخرى محمية من تغول الدولة عليها، ومن تدخل بعضها في شئون البعض الآخر.والفصل الدستوري والقانوني بين المجال العام والمجالات الخاصة هو الأساس المادي الذي بدونه يستحيل تشييد بنيان الديمقراطية. ولكن من يدير المجال العام؟ وكيف يدار؟

          سياسيا يدار المجال العام بآليات الديمقراطية التي تؤمِّن التداول السلمي للسلطة، وإداريا يدار بواسطة جهاز بيروقراطي محترف ومحايد سياسيا.وحياد الجهاز البيروقراطي للدولة لا يعني حياد الموظفين العموميين وإنما حياد الوظيفة العامة وضمان عدم تأثرها بتحيزات الموظفين العموميين.وهناك منظومة قضائية نزيهة وفعالة لحماية المجال العام والمجالات الخاصة وتشمل كل أنواع القضاء العادي، والإداري، والدستوري.

         وللديمقراطية أبعاد معرفية تفسر وتبرر آلياتها وهياكلها، وبغير التعرف عليها واستيعابها في الثقافة السياسية لأفراد المجتمع وأحزابه وتنظيماته المختلفة يتعذر انتصار الديمقراطية، وإذا انتصرت تكون هشة وعرضة للنكوص عنها.وفيما يلي عرضا مؤجزا لهذه الأبعاد:

1 -  الإجماع السياسي أمر مستحيل حتى في أكثر المجتمعات تجانسا من النواحي الثقافية والدينية والعرقية والإثنية.وحتى لا يتسبب غياب هذا الإجماع في حدوث العنف يجب التوافق على آلية عادلة وناجعة لإدارة الاختلافات بين مختلف الاتجاهات السياسية في المجتمع الواحد وتحويل أصحابها من فرقاء إلى شركاء.وهذه الآلية هي الديمقراطية التي لا ترى المشكلة في التعدد والتنوع وإنما في إنكار وجوده وعدم الاعتراف به.فالديمقراطية إذن ليست عقيدة وإنما منظومة من الإجراءات الضرورية لإدارة التنوع والتعدد الذي لا يخلو منه أي مجتمع.

2 - حاضر أي مجتمع هو دائما امتداد لماضٍ مضى وبداية لمستقبل آتٍ، وهو لهذا السبب ساحة تماس بين معسكرين كبيرين هما معسكر قوى المحافظة المشدود إلى الماضي، ومعسكر قوى التقدم المشدود إلى المستقبل.ولأن هذين المعسكرين ينتميان إلى شعب واحد في بلد واحد فمن غير الجائز أبدا الفصل بينهما بحدود صارمة وكأنهما أُمَّتان متباينتان يحكمهما قانون التنازع والاستبعاد.والحقيقة أنهما معسكران لأمة واحدة يجب أن يحتكما إلى قانون التعايش والقبول المتبادل القائم على الاعتراف بالمشتركات وتغليبها على التباينات، وذلك لأن معسكر المحافظة المشدود إلى الماضي لا يخلو من تطلعات مستقبلية، ومعسكر قوى التقدم المشدود إلى المستقبل ليس متحررا تماما من تأثيرات الماضي عليه.فالإنشداد في الحالتين هو انشداد نسبي وليس مطلقا، فضلا عن أنه انشداد متفاوت في مستوياته ودرجاته حتى داخل المعسكر الواحد.وبسبب هذا التفاوت جاء فرز قوى المحافظة إلى (يمين، ويمين اليمين، ووسط اليمين، ويسار اليمين)، مثلما تم فرز قوى التقدم إلى (يسار، ويسار اليسار، ووسط اليسار، ويمين اليسار).وعندما تكون الدولة مجالا عاما لكل مواطنيها وغير متغولة على المجالات الخاصة فإن هذا الفرز يعبر عن نفسه تلقائيا متحررا من أي خوف أو نفاق سياسي أو اجتماعي ويمكن التعرف عليه وقياسه بواسطة الاستبيانات واستطلاعات الرأي حول أي قضية خلافية ذات بعد ثقافي واجتماعي.وفي هذه الحالة يمكن ليسار اليمين أن يتقاطع ويتحالف مع يمين اليسار في قضايا معينة ويفترق معه في قضايا أخرى رغم انتماء الأول إلى معسكر المحافظة والثاني إلى معسكر التقدم.

3 - يستحيل على أي مجتمع أن يقلع بجناح واحد، وإنما بجناحين هما جناح المحافظة وجناح التقدم.وتفسير ذلك أنه في حال استبعاد وإقصاء جناح التقدم فإن عجلة التطور ستسير بسرعة بطيئة يصاب معها المجتمع بالجمود. وفي حال استبعاد وإقصاء جناح المحافظة فإن عجلة التطور ستسير بسرعة عالية لا تحتملها طاقة المجتمع الثقافية والاجتماعية والمعرفية.وفي الحالتين ستلجأ السلطات إلى القسر والعنف، ضد من يعارض الجمود في الحالة الأولى، وضد من يحتج على حرق المراحل في الحالة الثانية.والحل من وجهة نظر فلسفة الديمقراطية أن يقلع المجتمع بالجناحين معا بحيث إذا حاول جناح التقدم أن يسير بسرعة فوق طاقة المجتمع فإن جناح المحافظة يقلِّل من هذه السرعة ويضبطها عند المستوى الذي يتقبله المجتمع ويحتمله. وفي الوقت نفسه إذا حاول جناح المحافظة أن يقلع بسرعة بطيئة فإن جناح التقدم يدفعه إلى زيادة سرعته.ومن هنا جاءت فكرة التعايش والقبول بالآخر المختلف كضرورة يحتِّمها ميكانيزم تطور المجتمع وليس مجرد موقف أخلاقي، وآليات الديمقراطية هي التي تضبط هذه العملية.فما هي شروط هذا الضبط؟ وما هي آلياته؟

         تكمن شروط هذا الضبط في المزاوجة بين علمانية الدولة وديمقراطية نظامها السياسي.فبغير العلمانية يستحيل أن تكون الدولة مجالا عاما تقف على مسافة واحدة من معسكر المحافظة ومعسكر التقدم، بل ستقع حتما في محذور المفاضلة بينهما وستتحيز بالضرورة للمعسكر الذي يملك مساحة اختراق أكبر وأخطر داخل المجال العام.وعندما يقع مثل هذا فإن الدولة تكف عن أن تكون دولة مواطنة وتصبح عرضة لعدم الاستقرار.أما بالنسبة للضبط بواسطة الديمقراطية فهناك قائمة بالحد الأدنى من المقاييس التي بدونها، مجتمعة، لا يكون النظام السياسي نظاما ديمقراطيا، وهي كما يلي:

1 – أن يتمتع الشعب بالسلطة المطلقة بواسطة حقوق الإنتخاب للراشدين،على أن يكون لكل مواطن صوت واحد، أي أن يكون الاقتراع اختيارا عقلانيا للمواطن الفرد بعيدا عن أي ضغوط – بما في ذلك الضغوط التي لا يعيها – كأن تؤثر المحمولات الجهوية أو الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية على اختيارات الناخبين وتلغي تمايزاتهم الفردية.

2 – أن يكون هناك حزبان سياسيان كبيران، على أقل تقدير، لإعطاء فرصة لاختيار المرشحين في إنتخابات نزيهة تجري في مواعيد تفصل بينها مدة معقولة لضمان المحافظة على الموافقة الشعبية من خلال السيطرة الدورية للناخبين على من يحكمونهم.

3 - أن يضمن المجتمع الحريات المدنية لكل عضو فيه، وتشمل حرية القول والنشر ومصادقة الآخرين، بالإضافة إلى الحماية ضد الاعتقال والسجن دون محاكمة عادلة.

4 - أن توجه السياسة العامة نحو المصلحة العامة، وأن تسعى إلى خير الجميع إجتماعيا واقتصاديا.

5 - أن ينفذ الحزب أو الائتلاف الحائز على الأغلبية برنامجه الإنتخابي بواسطة جهاز إداري كفؤ ومحايد سياسيا.

6 – أن تقيم الدولة توازنا فعليا بين القيادة الفعلية (الحكم) والانتقاد المسئول (المعارضة).ولهذا يتحتم على الحكام أن يواجهوا دائما معارضيهم في الهيئة التشريعية، كما يجب أن يتمكن جميع المواطنين من اللجوء إلى قضاء مستقل.

7 - أن يكون ممكنا تغيير أي جزء من نظام الحكم بالأساليب السلمية، وبواسطة إجراءات متفق عليها.وهذا يقتضي أن تكون الدولة مجالا عاما حاضنا للسلطة، لا أن تكون السلطة مستحوذة على الدولة ولاغية للمجال العام.

         في ضوء ما سبق نلاحظ أن المجال العام هو الأساس المادي لأي نظام سياسي يعيد للدولة حيادها واستقلالها ويحقق التوازن بين القبول بالتغيير السلمي على مستوى نخب الحكم وتحقيق التحسينات على مستوى المجتمع. وحيث لا يتحقق هذا التوازن يتضارب الجهاز الحكومي مع القوى المولدة في العملية السياسية وينشأ التوتر بين السياسة والدولة، الأمر الذي يفضي إلى قيام ثورة عنيفة.ومن هنا نشأت الحاجة إلى نظام سياسي يزيل هذا التوتر.وهذا النظام هو الديمقراطية.

            والحقيقة البارزة التي تشكل جوهر الديمقراطية يمكن ملاحظتها بسهولة في تاريخ الديمقراطيات الحديثة، حيث انتفت الحاجة إلى الثورات العنيفة في هذه الدول، لأن النظام الدستوري يسمح بتغيير منظم على مستوى النخب وعلى مستوى النظام.وما لم يتسم النظام السياسي بالقابلية للتغيير السلمي المنظم فإنه يكف عن أن يكون ديمقراطيا. وتعود مقدرة الديمقراطية على تأمين التغيير السلمي إلى جذورها الثورية، الأمر الذي وفر دفعا فكريا مستمرا لصالح التغيير والتوفيق.فما هي هذه الجذور؟ وكيف نشأت؟

           تعود الجذور الثورية للديمقراطية إلى متغيرين كبيرين أحدهما إجتماعي والآخر سياسي.وقد تمثل المتغير الاجتماعي في الإطاحة بتقاليد القرون الوسطى الإقطاعية التي كانت تمنح الجماعة وزنا أكبر من الفرد.وبفضل هذا المتغير أصبحت العلاقة بين الدولة والمواطن الفرد علاقة مباشرة لا تحتاج إلى أي شكل من أشكال الوساطة.فقيمة المواطن تكمن في ذاته وفيما يحسنه ويجيده، وليس في الأسرة أو الجماعة التي ينتمي إليها.وهذه القيمة قابلة للقياس الموضوعي الذي يحدد أهميتها للدولة وللمجتمع وللتنمية الشاملة والمستدامة. أما المتغير السياسي فقد تمثل ببروز مبدأ " التمثيل " الذي نقل الفكر الديمقراطي من مفهوم الدولة المدينية عند قدماء الإغريق إلى مفهوم الأمة الحديثة في الغرب المعاصر.وخلف هذين المتغيرين وقفت قيم ومثل فلسفية كبرى داعمة لهما كالحرية والمساوة.وقد تفاعلت كل هذه المعطيات في عملية سياسية أسفرت عن تحول نوعي في تاريخ البشرية إنتقل بها من أزمنة العصور الوسطى إلى العصر الحديث.ومن بين المبادئ الداعمة للديمقراطية نشير إلى ما يلي:

1 – مفهوم مساواة جميع البشر في الكرامة، بصرف النظر عن الجماعة التي ينتمي إليها الفرد.

2 – الإيمان بقيمة النقاش للوصول إلى إتفاق. فالحقيقة نسبية لا يمكن لأي طرف أن يدعي احتكارها وامتلاكها كلها دون غيره.

3 – الإصرار على أن للأفراد حقوقا لا يمكن للحكومة أن تحرمهم منها.

4 – الحكومة تستمد سلطاتها الشرعية من موافقة المواطنين الأحرار.

5 - المصلحة العامة هي التي تحددها الإرادة الشعبية.

         وقد أدى ذلك إلى انبعاث ديمقراطي اتسع معه مفهوم الحرية ورتب للأفراد منظومة متكاملة من الحقوق نذكر منها:

1 -  حق التصويت وحق السعي إلى المناصب الرسمية وحق الحصول على تعويض قانوني عن الأضرار.

2 -  حرية القول والنشر دون رقابة أو قمع حكومي.

3 - حق العبادة على أي مذهب ديني أو عدم العبادة إطلاقا.

4 -  حق التعليم بواسطة الأموال الحكومية.

5 – حق الضمان ضد المرض أو البطالة أو الترمل.

6 – حق الضمان ضد الأمور المحتَّمة كالشيخوخة والموت.

         ومن السهل جدا ملاحظة الصلة القائمة بين هذه الحقوق وبين الحرية السياسية.فهذه الحرية تتضاءل في المجتمع الذي يطلب من جميع الأشخاص العبادة بنفس الطريقة كشرط للمواطنة، كما تتضاءل في المجتمع الذي يحرم بعض المواطنين من التعليم الذي يتيح لهم فهم القضايا المطروحة للنقاش وممارسة حرية إختيار واعية، أو الذي يحد من فرص المشاركة السياسية بإشاعة الفقر والخوف والتمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللغة أو المعتقد.ومعنى هذا أنه لا يمكن إقامة الديمقراطية في النطاق السياسي ما لم تكن متوازية مع المجتمع.

         أخيرا : في سياق عرضنا للتوتر بين السياسة والدولة لاحظنا كيف استطاعت الديمقراطية، من خلال المزاوجة بينها وبين العلمانية، أن تشكل نظاما سياسيا يعيد للدولة حيادها واستقلالها وأن يجعل منها دولة مرنة تستجيب لقانون التطور دون إبداء أي مقاومة.كما لاحظنا أن الديمقراطية تكون هشة ومشوهة ما لم تتجاوز النطاق السياسي إلى النطاق المجتعي.ولمزيد من التعرف على الطبيعة الثورية للديمقراطية سنفترض شعبا ما يعيش في جزيرة ما حيث  60 % من السكان أميون، وأن الشعب كله متجانس عرقيا وثقافيا وعلى دين واحد ومذهب واحد، وأن النخب في هذه الجزيرة توافقت على دولة ذات نظام سياسي ديمقراطي قائم على الفصل بين المجال العام والمجالات الخاصة، وأن النخب السياسية اصطفت في حزبين كبيرين للتنافس على تداول السلطة سلميا هما حزب المحافظين وحزب التقدم، وأن حزب التقدم يسعى إلى المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات وتطبيق نظام التعليم المختلط واعتماد قانون للأسرة يحدد سن الزواج ب 18 عاما ويمنح الزوجة حقوقا مادية ومعنوية تحفظ لها كرامتها الإنسانية كمواطن يعيش في القرن الواحد والعشرين، وأن الحزب المحافظ يعارض كل ذلك مراهنا على ارتفاع منسوب الأمية وعلى الثقافة الذكورية السائدة والنظرة الدونية للمرأة.والسؤال: هل يستطيع حزب التقدم أن ينتصر لبرنامجه ويحققه سلميا؟والجواب: نعم، ولكن بالشروط التالية:

1 – أن يكون الشعب، فعلا وليس قولا، صاحب السلطة ومصدرها.ومعنى ذلك أن الشعب هو القاضي المخوَّل بإصدار الحكم، بينما الحزبان المتنافسان هما الخصمان اللذان سيترافعان أمام القاضي وسيقبلان بحكمه دون قيد أو شرط.وفي هذه الحالة يجب أن يكون القاضي مؤهلا لفهم مرافعات الحزبين ومحمياً من كل الضغوط المادية والمعنوية التي يمكن أن تؤثر على سير العدالة.وهذا يقتضي من حزب التقدم أن ينخرط بقوة وبغير كلل أو ملل في المجهود الوطني الطوعي لمحو الأمية وتعليم الكبار وفقا لبرنامج حكومي ينتمي إلى المجال العام.وبهذه الطريقة سيجد حزب المحافظين نفسه مضطرا للمشاركة في هذا المجهود والتخلي التدريجي عن المراهنة على أمية الناخبين. 

2 – أن تقف الدولة على مسافة واحدة من الحزبين المتنافسين وأن تؤمن لهما فرصا متساوية للوصول إلى القاضي (الهيئة الناخبة) والتخاطب معه وإقناعه.وهذا يقتضي أن تكون الدولة مجالا عاما مؤهلا لإنتاج بيئة انتخابية مُسيَّجة بالعدالة والشفافية والنزاهة.

3 – أن ينظر الحزبان المتنافسان إلى بعضهما البعض على أنهما جناحان لطائر واحد، وأن كل منهما مؤسسة وطنية لا غنى للمجتمع عنها، وأن العلاقة بينهما يجب أن تكون تنافسية تكاملية لا عدائية تناحرية، وأن في قوتهما معا قوة للمجتمع وفي ضعف أحدهما إضعاف له.

4 – أن تكون غاية حزب التقدم من وراء برنامجه هو إصلاح منظومة المجتمع وليس الوصول إلى السلطة. أي أن ينظر هذا الحزب إلى السلطة على أنها أفضل وسيلة لتنفيذ برنامجه، وليست غاية في حد ذاتها.وما لم يفكر حزب التقدم بهذه الطريقة فسوف يقع، بعد أول جولة انتخابية يفشل فيها، في محذور الانتهازية السياسية والتراجع عن برنامجه الذي لم يحظَ بالقبول الشعبي بعد.

5 – أن يكون خطاب الترافع أمام القاضي (الهيئة الناخبة) خطابا عقلانيا خاليا من التسفيه والتحقير والتشهير والتكفير والتخوين.وأن يكون الحزب الذي لا يلتزم بآداب الترافع عرضة للعقاب من القاضي (الهيئة الناخبة) بواسطة التصويت، ومن الدولة بواسطة القضاء.

         وعلى افتراض أن العملية الانتخابية الأولى جرت في ظل هذه الشروط، وأن حزب التقدم حصل على 30 % من أصوات الناخبين، بينما ذهب 70 % من الأصوات لصالح حزب المحافظة.فمعنى ذلك أن حزب التقدم أراد أن يقلع بسرعة لا تتحملها طاقة المجتمع المعرفية والثقافية والاجتماعية، وأن حزب المحافظة أعاق هذه السرعة وحمى المجتمع من التوتر والاستياء الذي كان يمكن أن تحدثه.وفي هذه الحالة على حزب التقدم أن يحترم إرادة الهيئة الناخبة (حكم القاضي)، وأن يستأنف نشاطه لترقية المجتمع ورفع طاقته المعرفية والثقافية والاجتماعية ابتداء من اليوم التالي على ظهور نتائج الاقتراع.وعلى افتراض أنه فعل هذا وحصل في الموسم الانتخابي التالي على 25 % من الأصوات فعليه أن يراجع طرائق اشتغاله مع المجتمع وأن يفتش عن نقاط الضعف في خطابه الإقناعي، دون أن يلقي باللائمة على المجتمع أو على منافسه الحزب المحافظ.وعلى افتراض أنه سار على هذا النحو وحصل في الموسم الانتخابي السادس على 60 % من الأصوات فمعنى ذلك أنه حسَّن طرائق اشتغاله مع المجتمع وطور خطابه الإقناعي واستطاع أن يرفع طاقة المجتمع المعرفية والثقافية والاجتماعية إلى مستوى برنامجه.وفي هذه الحالة على الحزب المحافظ أن يحترم إرادة الهيئة الناخبة (حكم القاضي) وأن يراجع طرائق اشتغاله وخطابه الإقناعي لمضاعفة سرعته.وهكذا يكون ميكانيزم التطور الطبيعي والسلمي في ظل الديمقراطية.

         أما إذا سلك حزب التقدم مسلكا مغايرا عند حصوله على 25 % من الأصوات وقرر أن ينافق المجتمع بالتخلي عن برنامجه الذي بدا حينها أكبر من طاقة المجتمع فإنه في هذه الحالة لن يكون " حزب التقدم" وسيُنظر إليه على أنه حزب انتهازي يتملق المجتمع للوصول إلى السلطة.والتملق هو من سمات أحزاب المحافظة التي تساير تقاليد الماضي وتختار أسهل الطرق للوصول إلى السلطة وتهتم بما يريده المجتمع في لحظة ما وليس بما يحتاجه في تلك اللحظة، والفرق كبير بين هذه وتلك..وخلاصة الخلاصة: الشعب المستنير المدرك لمعنى الديمقراطية وأهميتها هو أول وأهم شروط انتصارها.والنضال الحقيقي من أجل الديمقراطية يبدأ من الاشتغال مع المجتمع.

قناة الاشتراكي نت تليجرام _ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة

https://web.telegram.org/#/im?p=@aleshterakiNet

أثار "إعلان" التحالف الانقلابي عن تشكيل مجلس سياسي أعلى ردود أفعال داخلية وإقليمية ودولية مُستنكِرة ومنددة، على نحو بدا معه هذا "الإعلان" كما لو كان حدثا ذا قيمة ومن شأنه تغيير قواعد الصراع بشقيه السياسي والعسكري، ومن ثم التأثير على نتائجه.ومن وجهة نظرنا أن ردود الأفعال هذه – بما في ذلك بيان ولد الشيخ – لم تقدم ولم تؤخر شيئا بقدر ما أضفتْ نوعا من البريق على صورة الانقلابيين أمام أنصارهم الذين يصدِّقون حكاية "الخيارات الاستراتيجية" التي يرددها قادة الانقلاب لتضليل جماهيرهم المخدوعة بأوهام "السيد" ونزعة الانتقام المتمكنة من ذهنية "القبيلي".

إن "الإعلان" في حد ذاته لا يشكل أي قيمة قانونية أو سياسية في مجرى الصراع، وكثير عليه هذه التسمية.فهو صادر عن سلطة أمر واقع مهيمنة على جزء من جغرافية البلاد اغتصبتها من الدولة بقوة السلاح في عملية إنقلابية مُستَقْبَحَة ضد السلطة الشرعية وضد التوافق الوطني، ولأهداف سلالية وفئوية وشخصية إنتقامية واضحة لمعظم اليمنيين وضوح الشمس في قارعة السماء.ثم أن"الإعلان" جاء من فراغ، وأُعلن عنه في الفراغ، ولا يوجد أي جديد يبرره حتى في حدود ما يسعى الانقلابيون لترسيخه من ممارسات وإجراءات.وهو إن كشف عن شيء فإنما يكشف عن عقلية إنقلابية كلما أفلست في تحقيق أي مكسب على أرض الواقع أعلنت أنها تحتفظ ب"خيارات استراتيجية".وفي أحسن الأحوال جاء "الإعلان" من قبيل إثبات أن الإنقلابيين مازالوا موجودين، ولإيهام الناس بأن شيئا ما ذا أهمية قد حدث.

إن توقيت "الإعلان" يكشف عن انعدام الرؤية وعن عقلية إرتجالية عشوائية، بدليل أنه لم يوضح حيثيات التشكيل ودوافعه، ولم يقل ما هي المستجدات التي تبرره.أما الاختصاصات فقد سلقت سلقا وخرجت بصيغة عمومية.وعلى افتراض أن "الإعلان" يمثل خطوة استباقية للفشل المتوقع الذي ينتظر مشاورات الكويت، فلمنْ هو موجهٌ إذن في هذا التوقيت؟

إن كان "الإعلان" موجها للخارج الدولي فهذا الخارج يعرف أنه صادر عن انقلابيين ليس لهم أي صفة شرعية مهما خلعوا على أنفسهم من أسماء وألقاب، وقد سبق وأن أصدر عدة قرارات تدينهم وتحدد وضعهم القانوني وتطالبهم بالانسحاب وتسليم السلاح. وإن كان "الإعلان" موجها للداخل، فلأيِّ داخل؟ إن كان موجها لجمهورهم فهذا تحصيل حاصل ودليل على مبالغتهم في الاستهتار بهذا الجمهور المضلَّل الذي يُصدِّق أن الحاج علي ليس هو علي الحاج، وأن "الديمة"ليست هي "الديمة" إذا تغير بابها.أما إذا كان "الإعلان" موجها للجمهور المفارق الرافض للإنقلاب – وهو الأغلبية الشعبية الكبيرة – فهو لا يقدم لهذا الجمهور أيَّ حلول، ولا حتى فرصةً للتعاطف مع الإنقلابيين في لحظة هم فيها أحوج ما يكونون إلى تعاطف ولو شكلي.ولو لم يكن الانقلابيون على هذا القدر من الإفلاس السياسي لكانوا أعلنوا عن رغبتهم في تشكيل مجلس وطني لإدارة الأزمة وتهيئة مناخ سياسي يستوعب جميع الأطراف.ولو أنهم فعلوا ذلك – ولو من قبيل المناورة وإحراج الغير – لكانوا أوهموا المجتمع الدولي،أو جزءا منه على الأقل، بأنهم يمتلكون رؤية ولديهم بعض الشعور بالمسئولية يمكن البناء عليه.أما الداخل المفارق والرافض فلم يعد يثق بهم بعد ما أحدثوه من دمار وخراب وموت ونزيف للدم من أجل أهداف سلالية وفئوية وشخصية ظاهرة ومكشوفة لمعظم اليمنيين.وإلا فمن أجل ماذا يقاتل الحوثي منذ العام 2004؟ ومن أجل ماذا يقاتل علي صالح وهو يعلم أن الأغلبية الساحقة من اليمنيين لم تعد تطيق رؤيته على قيد الحياة.

ومن مهازل "الإعلان" إشارته إلى أن الانقلابيين سيديرون البلاد بدستور الجمهورية اليمنية.فعن أي بلاد يتحدثون؟ أليس هذا إقرار بأنهم يديرون المناطق التي يسيطرون عليها بالزوامل والخطب العصماء وملازم "سيدي حسين" وفتاوى المتوكل على الله إسماعيل؟ هل بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد من الاستهتار بعقول أنصارهم؟ أم هو اتكاء على انشغال الناس بجراحهم؟ أما إذا كانوا يقصدون أنهم سيكفون عن الإدارة بطريقة السوق السوداء فهذا إنجاز كبير إذا تحقق سيحسب لهم.

واضح أننا أمام عقلية مستلبة ومأزومة.والمحزن أن هذه العقلية ليست قاصرة على هؤلاء ومن معهم، وإنما تكاد أن تكون ظاهرة متجذرة في مساحة كبيرة من الوعي الجمعي.ومن تجليات هذه العقلية أنها مرتهنة بالطارئ والرد على الطارئ دون خطة استراتيجية،فهي لا تخطط للمستقبل بأي حال كان، وليس لها بدائل أو خيارات.إنها عقلية واقعة بين شقي رحى الأنا والآخر،أو تكاد تشبه ما يحدث في الزوامل الشعبية من "رد وجواب".ولذلك نحن غالبا لا نصنع مستقبلا ونعجز عن تخطى الماضي.أو قل نحن كالبدو الرحل مرهونون بأقدار خارج إرادتنا، وكل يوم عندنا له شمس وريح.والأعجب من ذلك أن بعض الفرقاء رأوا في "إعلان" الانقلابيين المنعدم إنقلابا ثانيا، وكأن مجموعة داخلهم انقلبت عليهم وغيرت المسار، أو جاء طرف لم يكن في الحسبان فانقلب على الجميع.وهذا تفكير لا يصدر إلا عن عقلية مشغوفة بالإدانة، كحالة مرضية، تنتظر أي شيء لتدينه.

أما تأويل "الإعلان" على أنه مؤشر على تقارب أصحابه وتجاوز خلافاتهم فهذا مجرد لغو لا ينفع المواطن في شيء، ولا ينفع حتى اللاعبين السياسيين، فنحن ضحية صالح والحوثي اجتمعا أو افترقا،إتفقا أو اختلفا،والأجدر بنا تنبيه الناس إلى انعدام هذا "الإعلان" قانونيا وإفلاسه سياسيا، بدلا من التأويلات المبلبلة.وقل مثل هذا عن التأويل القائل بأن "الإعلان" إجراء أحادي الجانب. والصحيح أنه إجراء باطل، ليس لأنه أحادي الجانب، وإنما لأنه بني على باطل.فالانقلاب كان إجراء أحادي الجانب بخروجه على "اتفاق السلم والشراكة"،وهو بهذا المعنى باطل، وكل ما بني وما سيبنى عليه باطل، ومن قبيل ترقيع المرقع،بما في ذلك "الإعلان" عن تشكيل ما سمي بمكتب سياسي أعلى. والقول بخلاف ذلك يوهم الناس بأن شيئا ما ذا أهمية قد حدث، بينما ما حدث ليس أكثر من بيع الوهم لجماهير الانقلاب المضلَّلة والمخدوعة.وقس على ذلك خروج الانقلابيين عن مرجعيات مشاورات الكويت.فهذا الخروج ليس إبن اللحظة وإنما نهج سابق على "الإعلان" وممارسة يومية يدفع الشعب اليمني ثمنها موتا ودما وخوفا وتشردا وجوعا ونزوحا.والحديث عن عدم احترام الانقلابيين لهذه المرجعيات هو من قبيل تصنيف المصنَّف حسب تعبير الأستاذ الأكبر عبد الله البردوني.والغريب الذي يحتاج إلى تفسير هو برود المجتمع الدولي وعدم فاعليته قياسا إلى حجم المأساة التي يحدثها الانقلابيون ويضاعفونها يوما بعد يوم.

والأغرب من الغريب أن يفجر انتحاري نفسه في قبة عبد الهادي السودي، وهي أحد المعالم التاريخية لمدينة تعز المحاصرة، ومع أن هذه الجريمة ليست الأولى من نوعها إلا أننا لم نسمع أدنى إدانة أو استنكار من اتحاد الرشاد السلفي الذي أعلن نفسه حزبا سياسيا عن قناعة بالديمقراطية وبالعمل السياسي السلمي حسبما قالت وثائقه التأسيسية،وأخشى ما يخشاه المرء أن يكون هذا الحزب غطاء سياسيا لهذه الأعمال وإخراجا يمنيا لصيغة آل الشيخ.وإذا صح هذا فسنكون أمام حقل ألغام داخل الشرعية التي لم تعد شرعية إلا بالمعنى الإجرائي، أما من حيث الأداء والفاعلية والإنجاز فرصيدها الشعبي يتآكل يوما بعد يوم .وعلى هذا التآكل يتكئ الانقلابيون ويطالبون بإبعاد الرئيس هادي.هكذا بكل بساطة دون أن يقولوا لنا لماذا يجب أن يُبعدَ وما هو الثمن الذي يجب أن يدفعوه مقابل هذا الإبعاد.فإذا كانت العمالة للسعودية هي السبب، كما يقولون، فمن هو علي صالح إذن؟ ألم يأتِ إلى الحكم من أقبية مظلمة ودهاليز مشبوهة؟ ألم يقضِ ثلاثة وثلاثين عاما غاصبا مستبدا في صنعاء وخداما ذليلا على عتبة قصر الملك؟ ألم يشهد عليه شاهد من أهله هو الشيخ عبد الله الأحمر شريكه في بيع الأرض ودمار البلاد وخراب العباد مقابل البترو دولار؟ صحيح أن هادي أصبح مثل أيقونة، لكنه أشرف – بما لا يقاس – من وطنيي اللحظة الأخيرة.

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

 

الثلاثاء, 26 تموز/يوليو 2016 17:55

رسالة مفتوحة إلى عبد الله علي العديني

نصوص الإسلام ليست مسئولة عن إرهاب داعش والقاعدة وفلسفة ماركس ليست مسئولة عن مجازر ستالين وأقوال السيد المسيح ليست مسئولة عن فظائع كنيسة العصور الوسطى وكتب ابن تيمية والمودودي وسيد قطب ليست مسئولة عن تطرف عبد الله العديني ذلك لأن القراءة الموضوعية للظواهر لا تقبل التعميمات، ولا تقوم على اليقين والوثوقية، وإنما على فحص العيِّنات فليس كل من قرأ ماركس يترحَّم على ستالين، وليس كل من قرأ ابن تيمية يتعدى على حدود الله كما يفعل عبد الله العديني.

والمشكلة من وجهة نظرنا تكمن في منظومة الوعي التي تقرأ النصوص وتعيد إنتاجها، وهي وحدها المسئولة عن الظاهرة التكفيرية الموجودة في كل الأحزاب اليمنية على ما بينها من خلافات واختلافات، فالذهنية التي تمارس التكفير داخل أحزاب اليمين هي نفسها الذهنية التي تمارس التخوين داخل أحزاب اليسار.والتمايز الأيديولوجي هو الذي جعل هذه الممارسة تأخذ شكل التكفير في الحالة الأولى وشكل التخوين في الحالة الثانية.أما منظومة الوعي فهي واحدة في الحالتين.والتراث هو الذي صاغ هذه المنظومة على مدى قرون.

والملاحظ أن التكفير في أحزاب اليمين يصدر عن رجال في الصف الأول ممن يُسمَّون "علماء" ويحظون بتقبيل الرؤوس، وبعضهم يصل إلى البرلمان. بينما يصدر التخوين – إذا صدر – في أحزاب اليسار عن أفراد مفلسين لا يمثلون لأحزابهم أي قيمة معرفية أو ثقافية أو سياسية يعتد بها،بل هم عالة على أحزابهم وعدمهم أفضل من وجودهم .وإذا كان التكفيري في حزب اليمين يلبس عباءة الدين لتصدير أمراضه وأمراض حزبه فإن التخويني في حزب اليسار يلبس عباءة الحزب لتصدير أمراضه الخاصة المستنكرة داخل حزبه قبل خارجه. والخلاصة أن التكفير في أحزاب اليمين هو الأصل الضار بالمجتمع ويستوجب، لهذا السبب، النقد والتفنيد. بينما التخوين في أحزاب اليسار هو الاستثناء النادر الذي لا يضر، في الغالب، إلا صاحبه، ولا يستحق حتى مجرد الالتفات إليه.

والأمم التي تخلصت من ظاهرتي التكفير والتخوين هي تلك التي أعادت قراءة تراثها على النحو الذي مكنها من إعادة بناء منظومة وعيها، ومراكمة معارف علمية ساعدتها على صناعة بيئة مجتمعية ملائمة لإنتاج الإنسان السوي والمواطن الإيجابي، الذي أصبح الركيزة الأساسية لحالتي السلام الدائم والتنمية المستدامة اللتين تفسران رخاء الأمم المستقرة ورفاهيتها.والتحول الذي طرأ على منظومة الوعي عند تلك الأمم هو الذي أدى إلى تجاوز التحديات المزمنة وعلى رأسها تحدي الدولة التي تحولت، بفعل منظومة الوعي الجديد، من دولة ضد الأمة إلى دولة لكل مواطني الأمة، بصرف النظر عن اختلافهم في المعتقد والعرق والجنس واللون، فالدولة هناك تجرِّم محاسبة الإنسان على أشياء لم يخترْها.

وبسبب منظومة الوعي التقليدية التي تتحكم بطرائق تفكيرنا لا تزال إشكالية الدولة عندنا إشكالية معرفية.وليس مستغربا أن يصرخ عبد الله العديني، وكل من هم على شاكلته،قائلين:"مادمنا جميعنا مسلمين، فلماذا نختلف على المرجعية الدينية للدولة؟".وعندما يعجز المغايرون لهم عن رد هذه الحجة على أعقابها فهذا لأن منظومة الوعي عند هؤلاء وأولئك واحدة.

صحيح أننا جميعا مسلمون، ولكن من حيث موقعنا في الخريطة الدينية للعالم.فنحن مسلمون بالنسبة للأمم التي تدين بغير الإسلام. أما من حيث علاقتنا بالدولة التي نريدها فنحن مواطنون بصرف النظر عن ديننا ومذاهبنا.وليس هناك برلمان، في الدنيا كلها، يستطيع أن يصدر تشريعات مصادمة لثقافة الأمة التي يشرع لها.وخوف العديني وأمثاله ليس على الشريعة، وإنما على علاقة المؤسسة الدينية بالدولة وعلى علاقة رجال الدين بالسياسة، فهم يستميتون من أجل دستور يتيح لهم التدخل في الشأن العام باعتبارهم رجال دين يتحدثون باسم الله، وليس باعتبارهم مواطنين متساوين مع غيرهم من المواطنين في الحقوق والواجبات.فعبد الله العديني – على سبيل المثال – يعتقد أنه في نظر الله أفضل من أمل كعدل التي تطربنا عندما يصيبنا هو بالغثيان،ويريد أن يكون أفضل منها في نظر الدولة رفضا لمبدأ المواطنة.

وهناك صراخ آخر طالما سمعناه من عبد الله العديني ومن على شاكلته، وهو قولهم:"الوحدة فريضة إسلامية".وإذا سألتَهم : لماذا كفَّرتم وحاربتم وشردتم – وما زلتم – أولئك الذين ظلوا لعقود يتعبدون بهذه الفريضة؟ لن تجدَ جوابا محترما.والسبب لأن الوحدة ليست أبدا فريضة إسلامية.فنحن لم نتوحد لأننا مسلمون، وإنما لأننا يمنيون، بصرف النظر عن ديننا.والإسلام ليس قيمة منتجة لليمن الحضاري الثقافي الواحد، وإنما قيمة مضافة إليه.وشعار "الوحدة فريضة إسلامية" ليس من الدين الخالص في شيء، وإنما من التدين السياسي المعوج الذي ينطوي على خداع لأغراض السرقة.فالعديني، ومن على شاكلته، بلا مجد وطني ويريدون السطو على أمجاد الغير، وكأنهم هم من صنع الوحدة وليس من دمرها إيمانا بعلي صالح وكفرا بالشعب والوطن.

ثم أن الخلط بين الدين والدولة وبين الدين والوحدة هو خلط بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية.والتفكير العلمي يقوم على التجريد، لا على الخلط.فعلى أي أساس نجاري هؤلاء الناس عندما يسمون أنفسهم علماء وهم يخلطون بين مفهوم المواطن ومفهوم المؤمن،ويعملون على اختزال الأول في الثاني.أليس هذا هو أحد جذور التكفير والتطرف؟.ولمن لا يرى ذلك سنعمد إلى مزيد من الإيضاح.

الأصل في الرابطة الوطنية هو تعدد المصالح واختلافها بين المواطنين، وفي الرابطة الدينية الأصل هو واحدية المعتقد بين المؤمنين.في الحالة الأولى الديمقراطية هي آلية تنظيم التعدد والاختلاف في المجال العام السياسي.وفي الحالة الثانية الوعظ والإرشاد – بالتي هي أحسن – هو وسيلة تحقيق الواحدية في المجال الخاص الديني.في الحالة الأولى التنظيم إجباري.وفي الحالة الثانية قُبُول الوعظ طوعي.ولأن عبد الله العديني ومن على شاكلته يخلطون بين الحالتين فإنهم تلقائيا يكفرون كل من لا يطاوعهم ولا يسير خلفهم كالقطيع.وفي أحسن الأحوال يقولون : بدأ الإسلام غريبا وسينتهي غريبا، وكأنهم هم الإسلام،وكأن غربتهم هي غربة الإسلام المتجذر في اليمن قرونا قبل مجيئهم.

يقول عبد الله العديني إن الحزب الاشتراكي سحل العلماء.وهذا القول صياغة بيانية تعبوية تحريضية تنم عن منظومة وعي تقليدي ينتمي إلى ما قبل الدولة،وهو لا يصدر إلا عن رجل يجهل ألف باء القانون وألف باء شرع الله القائل "لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت".وإلا ما هو الحزب الاشتراكي؟ أليس هو مثل حزب الإصلاح؟ هل يجوز توجيه اتهام كهذا إلى عشرات الآلاف من المواطنين بسبب انتمائهم السياسي؟ هل يجوز أن نتهم حزب الإصلاح بأنه عذَّب حتى الموت الاشتراكي الدكتور محمد عبد القاهر؟ الاتهام موجه إلى شخص واحد في حزب الإصلاح، وبصفته الرسمية وليس الحزبية.ومع ذلك فهذا المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

إن القتل عمل مُجرَّم أي كان القاتل والمقتول.لكن عندما يستسهل عبد الله العديني اتهام حزب بأكمله فهدفه هو تكفير الحزب، وليس الدفاع عن الضحايا.إنه هنا يتصرف مثل أي دجال احترف الخداع والتدليس وتزييف الحقائق، وليس كناشط حقوقي محترم تحركه قيم إنسانية نبيلة.فهو عندما يصف الضحايا – إذا صح أن هناك ضحايا – بأنهم "علماء" فلأنه يريد أن يقول إنهم مؤمنون قُتلوا بسبب ضلوعهم في علوم الدين في ظل حكم حزب كافر،وليس لأنهم مواطنون تورطوا في نشاط معاد لأمن الدولة في ظل نظام حكم غير ديمقراطي.

ولعبد الله العديني نقول:الأخلاق لا تتجزأ، والشرف لا يتجزأ،والأمانة لا تتجزأ،والوطنية لا تتجزأ. وإذا أردت أن تدافع بأخلاق وبشرف وبأمانة ووطنية فدافع عن كل ضحايا الماضي الشمولي في الجنوب وفي الشمال باعتبارهم مواطنين، وكف عن حكاية "سحل العلماء" هذه التي طالما تقيأ بها الجهاز الإعلامي لنظام علي صالح أيام كان شيخكم الزنداني يشبِّهُه بعمر ابن الخطاب.

كن مفتاحا للخير ومغلاقا للشر، ولا تكن العكس.وأول خطوة على هذا الطريق أن تكف عن تسويق نفسك كعالم حتى وإن قُدِّرَ لك أن تحفظ كل مسروقات السيوطي.فأنت، في أحسن تقدير، صاحب معرفة دينية لا علاقة لها بالعلم ولا بالتفكير العلمي.صحيح أن العلم معرفة، ولكن ليس كل معرفة علماً.والمعرفة العلمية وحدها هي التي تغير وعي صاحبها بالحياة وبالنسبي والمطلق،وتمنحه المتعة، وتخلق عنده سلاما مع النفس ينعكس إيجابا على علاقته مع الآخرين حتى وإن كانوا خصوما.وأنت لا تعيش في سلام، لا مع نفسك ولا مع الآخرين.وإلا كيف نفسر أهواءك التكفيرية وأحقادك وأضغانك وعقدك؟.هل رأيت إنسانا مهذبا يعرف حدود ما له وما عليه يتدخل في شئون الناس الخاصة وينصب نفسه وصيا على سلوكهم.إذا وجدت في سلوك أحد من الناس – رجلا أو امرأة – ما يلحق الضرر بك شخصيا فبقدورك أن تجرجره إلى القضاء العرفي أو الرسمي.أما أن تنصب نفسك آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر في قضايا لا يراها غيرك منكرا فهذا تنطُّع ومزايدة رخيصة باسم الدين في زمن لم يعد هو زمن احمد ابن حنبل، وفي بلد لا يحكمه طالبان ولا بوكو حرام ولا أبو بكر البغدادي.وليس من حقك – أنت ومن على شاكلتك – أن تملي على الناس نمط الحياة الذي يوافق هواك.لا تخلط بين سئوال التطور ،الذي يتطلع إليه الناس، وبين سئوال الإيمان المتجذر في أعماق اليمنيين من قبل أن تخرج أنت من رحم الوهابية.واعلم أن الدين ليس لعبة في سوق السياسة، وتعلَّم كيف تدفع بالتي هي أحسن حتى يحترمك الناس ويودوك.

وأخيرا : من حقك أن تخاصم الحزب الاشتراكي، ولكن بشرف.ما لم فالزمن قد تغير، والخوف من الإرهاب والترهيب انتهى إلى غير رجعة، والبادئ أظلم.والشعب الذي يتصدى لإرهاب الحوثي وعفاش قادر على التصدي لإرهاب من يقف خلفك.فأنتم مثلث التخلف،حين تتفقون وحين تختلفون.فلا تضاعف أوجاع المدينة التي أنت فيها بإضافة التوتر إلى ما فيها من دم ودمار..ورحمة الله تغشى عبد السلام خالد كرمان فقيد اليمن والحركة الإسلامية الذي عاش نظيف اليد واللسان، وخاصم بشرف، ومات شريفا.

صنعاء 25 /7 / 2016

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

 

الجمعة, 01 تموز/يوليو 2016 22:29

رسالة مفتوحة إلى علي نعمان المقطري:

         لا أستسهل الإساءة لماضيك.وقد كتبت في هذا مقالا بعنوان " ضد الفحش والفجور في الكراهية " أردت به أن أوقظ فيك روح الفارس الذي عرفته يوما ما صلبا عنيدا.واليوم كم هو حزني كبير وقد أيقنت أن تلك الروح ماتت،وأن الفارس سقط من عُلُوٍ ووقع على رأسه.وعزائي الوحيد أنك لست أول من يقع، لكنك أفقرهم حيلة وأدقعهم دهاء.كيف لا وقدأسأت اختيار لحظة الارتداد وساحته وتماهيت مع سجانيك وجلاَّديك وذهبت ترفع شعار"إشتراكيون ضد العدوان " تتملق به وطنيِّي اللحظة الأخيرة وتستعديهم ضد حزبك ورفاقك وأصدقائك وماضيك.فهل هناك في الدنيا كلها إنتهازية تضاهي الذهاب إلى تسوُّل كراهية الانقلابيين والاستقواء بهم لإرضاء أهواء الذات الأمارة بالسُّوء.والأنكأ من كل ذلك أنك بالغت وتطرفت في التسوُّل عندما سميت هؤلاء "سلطة وطنية" وأنت تعلم أن أحداً لا يعترف لهم بهذه الصفة، لا في الداخل ولا في الخارج، بما في ذلك إيران، وتعلم أن الوطن هو آخر ما يمكن أن يفكروا به.الله المستعان على ما تصف.

         لا تقل إن فائض وطنيتك هو الذي دفعك لرفع شعار " إشتراكيون ضد العدوان " ، بل قل إن فائض أهوائك وأوهامك انقلب إلى كراهية عمياء للحزب الاشتراكي فذهبت تتسوَّل كراهية كارهيه لتستقوي بها عليه.وبيانك الأخير – مثل سابقه - يفضحك ويكشف دخائل نفسك وضحالة وعيك القانوني وتدني ثقافتك السياسية والمدنية،وبمقدورك أن تعرضه على محام مبتدئ لتكتشف كم هو حجم البؤس الذي آل إليه مصيرك.ولست أعتقد أن سلطة الانقلاب، التي تفاوض الشرعية في الكويت وتستميتُ أنتَ في تحريضها على الحزب الاشتراكي في صنعاء، ستجاريك وهي تعلم أنك لست أهلاً لإقناع إشتراكي واحد بالسير وراءك.والخمسة الذين هم معك الآن لم تقنعهم أنت بضلالك، وإنما كانوا قبلك ضالِّين يعرضون بضاعتهم البائرة على عتبات أبواب الانقلابيين. وقديما قيل: الطيور على أشكالها تقع.

         لستُ أدري أيَّ رأيٍ أرجحُ وأنا أقرأ بيانك الأخير. هل وصل بك سوء الحال إلى حيث تتعذر عليك العودة؟ أم أن عمى البصيرة هو الذي أملى عليك كتابته؟.ولكن من ذا الذي يستطيع أن يلتمس لك الأعذار في حال تم ترجيح الرأي الثاني.ولعلك قرأت بيانات الاستنكار التي تتالت من منظمات الحزب في المحافظات منددة بأقوالك وأفعالك.ثم جاء قرار منظمة تعز بفصلك من الحزب ليقابل بارتياح واسع النطاق داخل الحزب وخارجه.ألا ترى إذنْ أنك فتحت على نفسك أبواب الطرد من الحزب بغير رحمة أو شفقة؟ وأي قيمة سياسية بمقدورك أن تمثلها خارج صفوفه ؟

         الحزب - أي حزب –  يا عزيزي مجال عام إختياري وطوعي، وأي عضو فيه هو مجال خاص. والخلطُ بين المجالين خلطٌ بين الذات والموضوع تتضخم فيه الأنا الفردية على حساب الحزب كظاهرة جمعية.وهذا تشخيصي لمشكلتك.فلأنك لا تستطيع أن تجد نفسك كذات فاعلة خارج الحزب تعذَّر عليك خيار الاستقالة المكفول لك في النظام الداخلي.ولأنك لم تستطيع أن تكون فاعلا إيجابيا يشار إليه بالبنان داخل الحزب تعذر عليك البقاء فيه كذات متضخمة.وعدم الاستطاعة في الحالتين هو جوهر عقدتك المرضية التي تعذبك أيما عذاب. وعوضا عن الذهاب إلى طبيب نفساني ذهبتَ تتقمصُ دور المصلح الذي يريد أن "يستعيد الحزب" حسب تعبيرك، بينما أنت عمليا تبحث عن ذاتك الضائعة وليس عن الحزب الحاضر.وأنا هنا لا أقرأك، رجما بالغيب، وإنما من خلال بيانك.

         مفهوم البيان يا عزيزي من الإبانة والتبيين،وهو للتوضيح والإفهام،ولا علاقة له بتأليف الأقاويل التي أسميتها بيانا.لقد قلتَ حرفياً: " إن العصابة المنحلة الخائنة والعميلة للعدوان لم تكتفِ بالتآمر على الوطن والمشاركة الميدانية كمرتزقة،وتشكيل غرف عمليات مشتركة مع قيادات العدوان في الداخل والخارج، وإنما ذهبتْ تنقل أعمالها العدائية إلى قلب العاصمة صنعاء"!!!.هذا ليس ببيان يا علي نعمان وإنما تحريض تتسوَّلُ به دعم الانقلابيين لأهواءِ أَنَاتِكَ المريضة بأوهام الزعامة، ولو أنك على حظ بسيط من الوعي القانوني لأدركت أنك تهرف بكلام مرسل يجرِّمُه القانون.أما من الناحية الأخلاقية ففي حدود علمي أن عفاش – وهو أكبر مهرِّج حاقد على الحزب الاشتراكي - لم يسبق له أن تقيأ كلاما على هذا القدر من الوضاعة إلا لحظة إطلاقه مدافع حرب 1994 عندما زعم أن الحزب الاشتراكي أغرق محلات الكوافير في صنعاء بالأسلحة في إطار مخطط إجرامي لإغراق العاصمة في بحيرة دم...ألا ترى يا علي نعمان أن الحماقة أعيتك ولم تبقِ لأحد فسحة للتعاطف معك؟

         وجاء في بيانك أيضا: " ردا على تحرك القواعد الاشتراكية في استعادة حزبها ووقوفها ضد العدوان قام أوباش العصابة المنحلة والهاربة في الرياض بلقاء مشبوه أمس الأحد 26 يونيه في المقر المركزي المغتصب من قبلهم.وكان أحد مخرجات هذا الاجتماع إرسال المدعو العميسي بالتعدي على مقر الحزب الاشتراكي ضد العدوان بشارع الزراعة ظهر هذا اليوم"!!!.وهنا يحضرني تلقائيا قوله تعالى:"وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".وما دمت يا عزيزي تتهم من أسميته كراهة "المدعو العميسي" بالتعدي فلا بأس من رد كيدك إلى نحرك وإظهار الحقيقة للناس.

         هو يا عزيزي ليس المدعو العميسي، وإنما الدكتور ناجي العميسي رئيس الدائرة القانونية في الحزب الاشتراكي اليمني،وكل من يعرفه يعرف أنه رجل نظامي لا يتصرف خارج القانون وخارج الذوق السليم حتى في المسائل الصغيرة.وما تسميه أنت "مقر  الحزب الاشتراكي ضد العدوان بشارع الزراعة" هو مقر منظمة الحزب الاشتراكي اليمني في أمانة العاصمة بموجب عقد إيجار طرفه الأول صاحب العقار، وطرفه الثاني الحزب الاشتراكي اليمني ممثلا برئيس الدائرة القانونية.والذي حدث أنك تعدَّيت على هذا المقر واغتصبته بلا حياء وحولته إلى منامة لك وديوان مقيل للخمسة الذين هم على شاكلتك.ومن داخل هذا المقر أخذتَ تسوِّق نفسك بالتحريض اليومي ضد الحزب الاشتراكي تحت لافتة "إشتراكيون ضد العدوان".

         فما هو يا ترى التصرف الأمثل في ظل حالة اللادولة التي تعيشها البلاد؟ هل يستمر الحزب الاشتراكي في دفع إيجار المقر من أجل سواد عينيك ؟ هل يدخل أعضاء الحزب في عراك معك ليرموك إلى الشارع ؟.رئيس الدائرة القانونية لم يكن مع هذا التصرف أو ذاك وإنما قرر إنهاء عقد الإيجار ليعود العقار إلى مالكه.وهذا يفسر اشتغال خيالك العدواني الذي تمخض عن بيانك الثاني، إذا جاز أن نسميه بيانا.

         ولست أخفي عليك أنك بهذا البيان أثرت خوفي وفزعي، وبدا لي أننا في انتظار عدوان وشيك على المقر الرئيسي للحزب الاشتراكي اليمني.وهذا لأني ربطت بين بيانك وبين تصريح القيادي المؤتمري حسين حازب الذي أفتى لك، جهلا وحقدا على الحزب ااشتراكي، بأنك على جادة الصواب.لكن عقلا إشتراكيا حكيما رأى رأيا مختلفا.والأهم أن هذا الحكيم لم يبنِ رأيه على منطوق بيانك وإنما على معرفته بدخائل نفسك الأمارة بالسوء.فهل تعرف ماذا قال؟

         إستبعدَ تماما أن الانقلابيين قرروا استخدامك غطاءً لهجوم وشيك على المقر الرئيسي للحزب لعلمهم أنه ليس هناك ما يستوجب مثل هذا الفعل الذي لن ينفعهم في شيء بقدر ما سيضرهم.وأَجْزَمَ أنك أنت من يسعى إلى إقناعهم بارتكاب هذه الحماقة، وأنك في سبيل ذلك تجتهد في اختراع الذرائع لمن تتسوَّل دعمهم لأهوائك وغرورك.ولهذا ذهبتَ تقول:" نطالب بإخلاء مقر الأمانة العامة وتسليمه للقيادة الثورية ممثلة باللجنة التحضيرية العليا".ولأنك تعلم أن تلبية رغبتك هذه تحتاج إلى تبرير مقنع للداخل والخارج ذهب خيالك العدواني مذهبا شيطانيا متطرفا في اختراع المبرر  بقولك:"نرفض أن يستخدم المقر المركزي المغتصب كغرف عمليات لقوات العدوان"!!!

         .هل تعلم يا عزيزي ما معنى غرف عمليات، وكيف تكون، وأين تكون؟ ألم أقل لك إنك في أمس الحاجة إلى طبيب نفساني يداوي أمراضك ويخلصك من عقدك؟.هل أنت فعلا إشتراكي ضد العدوان - كما تزعم - أم أنك اشتراكي حسب الطلب في سوق النخاسة؟ أما اجتماعات الأمانة العامة التي تسميها، جهلا وحقدا، اجتماعات مشبوهة فهي اجتماعات شفافة تتسع للرأي الذي يتحدث عن "تدخل عسكري خارجي"، والرأي الآخر الذي يتحدث صراحة وبصوت عال عن "عدوان".لكن ليس بين أصحاب الرأي الآخر هذا من هو مستعد لمناهضة "العدوان" من خارج قنوات الحزب، وليس بينهم أيضا من ينظر إلى ما تقوله وما تفعله ولو بقليل من الاحترام.وهذا لأنهم على قناعة أنك لست ضد "العدوان"، كما تزعم، وإنما ضد الحزب الاشتراكي.

         أمام كل هذه المعطيات عليك يا عزيزي أن تتوارى عن الأنظار حتى ينساك الناس، ولا تعاود الظهور إلا إذا انتصرت فيك النفس اللَّوامة على النفس الأمَّارة.أما إذا استسلمت لأوهامك فسوف تخسر نفسك وتخسر الناس كذلك.وأخيرا،لك مني نصيحتان مجانيتان إِحفظْهما عن ظهر قلب:

الأولى: الحزب الاشتراكي قوي حتى عندما يكون في أسوأ لحظات ضعفه،والإمعان في معاداته سيجعل منك موضوعا للتفكه والتندر، وأنت رجل سِتِّينيٌّ في غنى عن هذا.فسارع إذنْ إلى توبة نصوحة تستبقي بها داخل الحزب الاشتراكي، وبين أنصاره ومحبيه، من يرد عليك السلام ويترحم عليك بعد موتك.

الثانية:الزعامة لا تأتي لمن يطلبها ويتطلع إليها حتى وإن امتد به العمر ألف عام،وإنما تأتي لمن يستحقها ويعترف له الناس باستحقاقها.والمرء،إذا توفر له الذكاء والدهاء، يستطيع أن يخدع الناس في أشياء لا تعد ولا تحصى إلا في استحقاقه للزعامة.تمنياتي لك بالهداية.

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

الجمعة, 24 حزيران/يونيو 2016 03:03

"إشتراكيون ضد أنفسهم"

ليس لمن يسمون أنفسهم " إشتراكيون ضد العدوان" أية صفة قيادية في الحزب الاشتراكي اليمني على أي مستوى من مستويات الهيكل التنظيمي للحزب.وهم على المستوى القاعدي بضعة أشخاص لا يمثلون قيمة نوعية يعتد بها.هذا على افتراض أنهم مازالوا داخل الحزب وليس خارجه وضدا عليه مع المتربصين به.ومع كل ذلك فإننا من قبيل التعاطي مع الآخر – مهما كان مختلفا أو مغايرا أو باغ أو متجانفا الإثم – سنحاول النظر في ادعاءات هؤلاء وافتآتاتهم مبتعدين كل البعد عن أسلوبهم المتشنج.وليكن في هذا النظر فرصة لمنتسبي الحزب وأنصاره ومحبيه والمتعاطفين معه كي يتنبهوا إلى مثل هذه الظواهر الطارئة على العمل المدني والحزبي التي لا تزال تمارس عصبوياتها ونزعاتها البدائية تحت لافتات مدنية.إنها إذنْ فرصة لمناقشة كيفية التعبير عن الرأي المخالف إيمانا منا بحق الآخر في التعبير عن نفسه، سواء أكان ذلك التعبير سويا ينشد الحق والعدل والإنصاف،أم كان صادرا عن لوثات ونوبات من الصرع والجنون.

وبما أن أبجديات العمل المدني تستوجب لغة غير إقصائية أو إلغائية أو غوغائية، وليس لها من غرض سوى الإفهام والإبلاغ، فإننا نعجب لتلك اللغة التي صيغ بها ما سمَّوه بيانا عن "إشتراكيين ضد العدوان".فاتهام قيادة الحزب الاشتراكي والحكم عليها بالخيانة والعمالة ووصفها بالجماعة الإجرامية دال على أن النية مبيتة، والتربص قائم،واستسهال إهدار حق الآخرين في الاختلاف ناجز وجاهز. ولكننا، رغم علو تلك النبرة الاستعدائية الاستعلائية، لن نرد عليها بمثلها، وهو أسهل ما يكون.وإنما سنعمد إلى قراءتها قراءة موضوعية مسنودة بالقرائن المنصوص عليها في تلك الوريقات المسماة بيانا.

ففضلا عن كون تلك الوريقات صادرة عن غير ذي صفة،وفضلا عن كون أصحابها لا يستندون إلى أي مادة في النظام الداخلي للحزب تدل على وعيهم وانضباطهم الحزبي فإنهم قد جازفوا أيما مجازفة حين أعطوا أنفسهم كامل الصفة والأهلية للتحدث باسم الحزب الاشتراكي "إشتراكيون ضد العدوان"، بل وأكثر من ذلك نبرة الوصاية على الحزب وعلى منتسبيه!!!.

إن الحزب – أي حزب – هو برنامج، وبشر قرأوا هذا البرنامج وفهموه واقتنعوا به، وقواعد نظامية تنظم عملهم الجمعي – إتفاقا واختلافا - من أجل تنفيذ هذا البرنامج.ومعنى هذا أن العمل الحزبي – لمن يعيه ويدرك مسئوليته ويتحلى بثقافته – لا يمكن أن يكون إلا وفق اللوائح الحزبية، سواء في الاختلاف أو في الاتفاق.ومن شاء أن يصحح اختلالا ما عليه أن يسلك من أجل ذلك مسلكا منضبطا منزها من أهواء النفس الأمارة بالسوء .ولوائح حزبنا تكفل الحق في المساءلة والنقد والاعتراض من المستويات القاعدية إلى أعلى مستوى قيادي في الهيكل التنظيمي للحزب.

وفي حال أراد نفر من أعضاء الحزب أن يصححوا حرصا على الحزب والتزاما بمبادئه ونظمه فليس لهم أن يتعمدوا تضليل الآخرين وإخضاع قيادة الحزب لأهوائهم وأمزجتهم،بل عليهم أن يمارسوا معارضتهم وفق ما تقتضيه المعارضة المنضبطة من حقوق وواجبات ومسئولية وأخلاقيات.وإذا ما بلغ بهم الحال أن لا يستجاب لهم فمن حقهم أن ينشقوا ويؤلفوا حزبا خاصا بهم ويتحدثوا باسم حزبهم.وهذا ما نعرفه ونعهده في العمل الحزبي والمدني في كل بلاد الدنيا المتمدِّنة.

أما أن تأتي جماعة صغيرة منشقة عمليا عن الحزب ومتمردة عليه ومصطَّفة علنا وبلا حياء مع خصومه، ثم تدَّعي أنها تمثله فذلك مما يدل دلالة واضحة على رغبة أخرى غير التصحيح وغير الغيرة على الحزب.وهذه الجماعة، الصغيرة في كمِّها ونوعها، تجعل نفسها – من حيث تدري أو لا تدري – في تماه واضح وكامل مع المنقلبين على الشرعية.والشيءُ بالشيءِ يذكر.

ولأن هذه الجماعة غير قادرة على الإنشقاق وتشكيل حزبها الخاص الذي يتفق مع أَنَوَاتِها ونرجسياتها،ولأنها تعرف حجمها الكمي والنوعي وتدرك أنها لا تشكل أي ثقل داخل الحزب، وليس هناك من يصغي إليها عمدت إلى ما يعمد إليه العاجزون دائما من البلبلة والتشويه والتقوُّل وإثارة الزوابع في الفناجين.ونسي هؤلاء أو تناسوا أن حزبا عريقا كالحزب الاشتراكي اليمني بتاريخه الوطني ووعي منتسبيه قد تمرَّس على الكثير من العواصف وخرج منها قويا ثابتا راسخا.

يمتلك الحزب الاشتراكي اليمني ترسانة من اللوائح التي تحمي حق الاختلاف وتكفله، وهناك قنوات نظامية المرور عبرها إلزامي لكل عضو منضبط يحترم انتسابه إلى الحزب ويدرك ما له وما عليه.أما أن يذهب خمسة مزاجيين، لأسباب معلومة أو غير معلومة، مدفوعة الأجر أو غير مدفوعة، لإعلان رأيهم وإصدار بيانات فإن أي شلة صغيرة منفلتة لها تكية وديوان مقيل تستطيع أن تفعل أكثر من هذا.وأنا هنا لا أرد على بيان هؤلاء، فالبيان ليس ببيان وليس فيه ما يستحق الرد.لكني أجدها فرصة للتنبيه أننا إزاء زوبعة تستهدف التبرير لأعمال معادية للحزب الاشتراكي.

أما ما جاء في الوريقات المسماة بيانا من اتهامات لقيادة الحزب الاشتراكي بالخيانة واعتبارها جماعة إجرامية تستحق العقاب فإننا هنا إزاء تحريض لا علاقة له بالعمل السياسي المدني ولا بالتنظيم الحزبي.والذين صدَّروا هذا الاتهام لا تربطهم بالحزب الاشتراكي اليمني أية علاقة تنظيمية، بل هم غرباء عن هذا الحزب وعن وثائقه وخطابه وثقافته السياسية وعن تاريخه الوطني.ولولا إيماني العميق أن محمد خميس لم ولن يخرج من مرقده الأبدي قبل يوم الحشر لأجزمت أنه – وليس غيره – من كتب هذا الإدعاء مطالبا بإنزال عقوبة الإعدام ضد قيادة الاشتراكي وضد الحزب برمته، كما فعل من قبل مع القائد الوطني عيسى محمد سيف ورفاقه على رأس الوحدوي الشعبي الناصري.أما علاقة علي نعمان الجُلَيْلِي بهذا الادعاء فليست أكثر من علاقة مذيع رديء مع سقط الكلام عبر المذياع يتسوَّله تسولاً. ومهما يكن من أمر فالرد على هذا الادعاء (الاتهام) يجب أن يأخذ مجراه عبر القنوات القانونية للحزب بصرف النظر عن الظروف غير الطبيعية التي تشهدها البلاد، فسلطة الأمر الواقع التي تصادر الدولة مسئولة مسئولية كبرى عن تجريم الناس واستباحة دمائهم من قبل كل زاعق وناعق.ومن حق كل قيادي في الحزب الاشتراكي اليمني أن يحتفظ بحقه في مقاضاة أصحاب الوريقات المسماة بيانا.

إن قيادة الحزب الاشتراكي اليمني كانت، ومازالت متمسكة بخيار "الدولة للجميع".وهذا خيار سلام وليس خيار حرب.وليس خافيا أن محاولات كثيرة بذلت لجر الحزب إلى التخندق والانخراط في العمل المسلح.لكن قيادة الحزب تمسكت بخيار السلام دون أن تقيم أي اعتبار لما سيقال لصالحها أو ضدها متبرِّئةً لضميرها الوطني من كل الحسابات الضيقة،ولم تفرض على أحد أن يتطابق معها أو يتنازل عن حقه في الاختلاف.فمن شاء أن يكون مع ما يسمى بالعدوان فليكن، ومن شاء أن يكون ضده فليكن، فليس هذا ما يشغل قيادة الحزب الاشتراكي بقدر انشغالها بخيار الدولة للجميع. وموقف الحزب من الحرب واضح ومعروف للداخل والخارج،وبياناته شاهدة عليه.ومن يعرف طبيعة العمل المدني وينصف يدرك أن هذا الموقف لا غبار عليه، فجميع من يتصارعون الآن شركاء في الوطن، ولا يجب تحويل الصراع إلى مع أو ضد، فالإدانة للحرب وللعنف من أي كان، ولا يمكن للحزب أن يمارس أي عمل مليشياوي أو أي تعبئة فئوية أو عصبوية مهما كانت المبررات، وليس فيه مراكز قوى لها مصلحة في ذلك.وأية ضغوط يتعرض لها الحزب من هنا أو هناك فهي شهادة له لا عليه، فالكل يريد أن يجره للإصطفاف معه، وهذا إعتراف عملي بالدور الوطني للحزب الاشتراكي وأهميته وعراقته.ولأن البعض عندنا يخلط بين السياسة والدناءة فإنه إذا ما فشلت ضغوطه تحولت إلى اتهامات بالخيانة والعمالة، ولن تعوزه القدرة في العثور على متطوعين يسهلون له مهمته.

ومن المضحكات المبكيات أن هؤلاء المتطوعين يزعمون في وريقاتهم المسماة بيانا أنهم يعملون على استعادة الحزب.وكأن الحزب ملكية خاصة سلبت منهم.ألا يدل هذا على ضحالة وعي هؤلاء، إن كانوا حزبيين حقا،ألا يدل هذا على أنهم لا يفقهون ما معنى حزب...إن قوة الحق يا هؤلاء تكمن في الحق نفسه وليس في الكراهية والزعيق والنعيق وعلو نبرة الصوت.

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

الخميس, 16 حزيران/يونيو 2016 23:26

افكار في القضية الجنوبية

إذا سألني شخص ما: ما هو المشروع الوطني لليمن في اللحظة الراهنة؟ سأشير إلى ثلاثة أشياء:

1 – إنهاء الحرب بشروط الانتصار للوطن، وليس بشروط أي من أطرافها.

2 – المحافظة على الوحدة اليمنية، من خلال الحل العادل للقضية الجنوبية.

3 – بناء دولة مدنية تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها.

ويفهم من هذا أن القضية الجنوبية قضية مفصلية في المشروع الوطني اليمني، ومن هنا يستمد الحديث عنها أهميته وحيويته الوطنية./ هذا أولا.

ثانيا / لا توجد قضية تعرضت لركام هائل من التزييف، المقصود وغير المقصود،في الشمال وفي الجنوب، مثل القضية الجنوبية.ففي الجنوب يتحدثون عن جنوب عربي واقع تحت الاحتلال اليمني.وفي الشمال يتحدثون عن الجنوب كما لو كان جزءا من الشمال،ولهذا يخلطون بين مفهوم "فك الارتباط" ومفهوم "الانفصال". ومن هنا يستمد الحديث عن القضية الجنوبية أهميته المعرفية.

وعلى هذا الأساس سأبدأ حديثي عن القضية الجنوبية من مراجعة وتصحيح بعض المفاهيم والصيغ التي استقرت في عقولنا لتقوم بدور الحاجب الذي يمنعنا من رؤية هذه القضية وفهمها كما هي.

1 - من أبرز هذه الصيغ القول بأن ما حدث يوم 22 مايو 1990 هو " إعادة تحقيق للوحدة اليمنية"..فما هي على وجه التحديد هذه الوحدة التي أعدنا تحقيقها؟..لا أحد يستطيع أن يقدم إجابة محددة ومقنعة..والصحيح أن ما حدث يوم 22 مايو 1990 هو " تأسيس جديد لوحدة بين شطرين تفصل بينهما قرون من التشظي".وهذا التأسيس لا يستقيم إلا إذا كان الشمال والجنوب متكافئين في بناء دولة الوحدة، بصرف النظر عن الفارق الكبير في عدد السكان.

2 - ومن الأخطاء الشائعة أن حديثنا عن الوحدة اليمنية هو حديث عموم، لا يفرق بين الوحدة اليمنية بصيغتها المعاصرة التي توافقنا عليها في 22 مايو 1990، والوحدة اليمنية كما تجلت في بعض فترات التاريخ القديم والوسيط..والتفريق هنا على قدر كبير من الأهمية لا يجوز معه محاججة دعاة "فك الارتباط" بأسانيد من التاريخ..لماذا؟

لأن اليمن تاريخيا أكبر من حاصل جمع الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية..والتحجج بالتاريخ يضعنا تلقائيا في مربع الإيمان ببعض اليمن والكفر ببعضه الآخر..ومعنى ذلك إن التحجج بالتاريخ ليس له أي مصداقية وطنية ما لم يتضمن المطالبة بمحاكمة من فرطوا بجيزان وعسير ونجران واعتبروها مجرد "حفنة تراب"..ونحن هنا لا نرفع راية استعادة هذه الأراضي وإنما نصحح خطأ شائعا..وخلاصة ما نريد أن نقوله: الوحدة اليمنية التي نتحدث عنها هي الوحدة اليمنية بصيغتها المعاصرة..ومن غير الجائز اعتبارها امتدادا طبيعيا لأي وحدة حصلت في التاريخ.

3 - من المهم جدا، ونحن نتحدث عن الوحدة اليمنية، أن نميز بين اليمن الحضاري الثقافي واليمن السياسي..فاليمن الحضاري الثقافي هو حاصل تفاعل الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة من العالم التي نسميها اليمن..وقد نتج عن هذا التفاعل قيام جماعة بشرية إسمها الشعب اليمني..ولمكونات هذا الشعب قواسم مشتركة كثيرة لا تنفي خصوصية كل مكوِّن..أما اليمن السياسي فهو الدول التي نشأت داخل الفضاء الجغرافي لليمن طوال مراحل التاريخ.

وإذا كان اليمن الحضاري الثقافي واحدا دائما فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لليمن السياسي الذي عرف الوحدة وعرف الإنقسام.. والمرجح أن أزمنة الانقسام أكثر من أزمنة الوحدة..والأمر الجوهري في اليمن السياسي المنقسم أن القوة، وليس الجغرافيا، هي التي كانت تعيِّن حدود الدول داخل الفضاء الجغرافي اليمني..فالدولة التي تمتلك القدرة على الحشد والتعبئة تستطيع أن توسع حدودها داخل هذه الجغرافيا على حساب غيرها، وتستطيع أيضا أن تشغل كل هذه الجغرافيا، وأحيانا تتجاوزها إلى ما ورائها.

يضاف إلى ذلك أن "الوحدة" و"الإنفصال" لم يكونا من بين الشعارات التي حركت حروب الدول التي تزامنت داخل جغرافيا اليمن..فتاريخ اليمن لم يعرف دولا وحدوية ودولا إنفصالية، وإنما عرف دولا قوية ودولا ضعيفة..واليمنيون الذين عاشوا في ظل الدول المتزامنة كانوا في ظلها رعايا وسكانا، وليس شعوبا..فبرغم الانقسام السياسي كان اليمن الحضاري الثقافي يمارس قدرا كبيرا من الفاعلية في الحفاظ على القواسم المشتركة وتكريسها وتعميمها.. وكان اليمنيون الذين عاشوا في ظل تلك الدول يحاكمونها من خلال مقولتي العدل والظلم، وليس من خلال مقولتي الوحدة والإنفصال اللتين لم يكن لهما وجود قبل نشوء الدولة الوطنية بالمفهوم المعاصر.

وآخر تجليات اليمن السياسي المنقسم هو الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية..ومن غير الدخول في التفاصيل قامت الثانية على أنقاض فسيفساء من السلطنات والمشيخات والإمارات السابقة على استعمار بريطانيا لعدن بزمن طويل، بالإضافة إلى مستعمرة عدن..والقول بأن بريطانيا فصلت الجنوب عن الشمال ليس له سند من التاريخ..ولتزامن الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية داخل جغرافيا اليمن خصوصية نوجزها في النقاط التالية:

1 – الجغرافيا، وليست القوة، هي التي عينت حدود هاتين الدولتين لأول مرة في التاريخ بفعل النظام الدولي المعاصر الذي أرسى مفهوم سيادة الدول على أراضيها داخل حدودها الوطنية.

2 – كل منهما عضو ذو سيادة في المجتمع الدولي.

3 – حدودهما محمية بقوة النظام الدولي، والمساس بها عدوان على هذا النظام.

4 – بينهما اعتراف متبادل كعضوين في المجتمع الدولي.

5 – الشعب مكوِّن جوهري في التعريف الأكاديمي للدولة..وإذا سلمنا بوجود دولتين فمعنى ذلك أننا سلمنا تلقائيا بوجود شعبين..وهما شعب واحد من منظور اليمن الحضاري الثقافي، غير أنهما شعبان من منظور اليمن السياسي.

6 – الوحدة بينهما لم تعد ممكنة بواسطة القوة، وإنما على أساس طوعي توافقي.

وتعبر هذه الخصوصية عن حقيقة جغرافية تاريخية مؤداها أن الجنوب جزء من اليمن الحضاري الثقافي وليس جزءا الشمال، وأنه جغرافيا سياسية لها تاريخها الخاص في إطار التاريخ اليمني العام..وهذه حقيقة منحت الجنوب كيانية خاصة به يستحيل تجريده منها..والشعور بهذه الكيانية هو الذي يحرك المقاومة التي أبداها ويبديها الجنوب في مواجهة نتائج حرب 1994 بعدما تبين له أن الهدف من تلك الحرب لم يكن الدفاع عن الوحدة اليمنية التي يتساوى أمامها الجنوب مع الشمال، وإنما تحويل الجنوب من شريك في الوحدة بإرادته إلى ملحق بدولة الشمال بغير إرادته..وعنوان هذه المقاومة الأكبر هو "القضية الجنوبية".

4 - إن شعار "فك الارتباط" لا يعبر عن رفض الوحدة، وإنما عن رفض الضم والإلحاق باسم الوحدة..وهو بهذا المعنى شعار سياسي لا يجوز اعتبار الظلم الواقع على المحافظات الشمالية أساسا صالحا لمحاكمتة..فأي من المحافظات الشمالية لم ولن ترفع هذا الشعار مهما وقع عليها من ظلم..وهذا ليس بسبب الفائض الوحدوي عندها، وإنما لأنها جغرافيا إدارية ضمن الجغرافيا السياسية للشمال، وليس الجنوب كذلك.

5 – القضية الجنوبية أساسها أزمة في دولة الوحدة، وليس أزمة في الوحدة..وأي دفاع عن الوحدة في مواجهة القضية الجنوبية هو عمليا دفاع عن نتائج حرب 1994 التي كرست أزمة الدولة..ثم أن أي حوار حول الوحدة لا يستقيم إلا إذا كان بين شمال وجنوب..أما الحوار حول الدولة فهو حوار بين اليمنيين مصنفين على أساس سياسي، وهذا ما تم فعلا في مؤتمر الحوار الوطني الذي أعطى الجنوب نصف قوام المؤتمر، ولكن على أساس سياسي وليس على أساس جهوي.

6 – لفهم القضية الجنوبية فهما جيدا يلزم التمييز بين الوحدة كحالة عاطفية مستقرة في الوجدان الشعبي، والوحدة كمشروع سياسي نخبوي توافقي يجب أن يتجسد في دولة واحدة موحدة..والوحدة بالمعنى الأول موجودة قبل 22 مايو 1990..أما الوحدة بالمعنى الثاني فهي تلك التي تم الإعلان عنها في 22 مايو 1990.

7 - في صيف 1994 استخدمت الوحدة كحالة عاطفية شعبوية للإنقلاب على الوحدة كمشروع سياسي نخبوي توافقي.وساعد على ذلك الفارق الكبير في عدد السكان..وقد أدى هذا الإنقلاب إلى تدمير الوحدة كحالة عاطفية في الجنوب على الأقل باعتباره الطرف الذي أخرجته حرب 1994 من الشراكة الوطنية في معادلة الوحدة..فالحرب كانت انقلابا على التوافق الوحدوي وليس دفاعا عن الوحدة..ومدافعها لم تطلق في 27 أبريل 1994 للقضاء على انفصال تم إعلانه، وإنما لفرض وحدة غير توافقية يستحيل على الجنوب أن يقبل بها.

8 – إن الذين وقفوا صراحة ضد دستور دولة الوحدة بعد الإعلان عنها عام 1990 لم يقفوا ضد الوحدة كحالة عاطفية شعبوية، وإنما وقفوا ضدها كمشروع سياسي توافقي عبر عن نفسه من خلال الدستور الذي أطاحت به حرب 1994 وجاءت بدستور آخر صاغه المنتصرون في الحرب.

9 - المنتصرون في حرب 1994 رفضوا وحدة 22 مايو 1990 كمشروع سياسي توافقي، وعبروا عن رفضهم عسكريا بواسطة الحرب..والحراك الجنوبي يرفض وحدة 7 يوليو 1994 القائمة على الضم والإلحاق ويعبر عن رفضه سلميا بواسطة النضال المدني.

10 – الذين يرفعون أعلام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية رفضا للضم والإلحاق هم من المنظور الأخلاقي أشرف بما لا يقاس من أولئك الذين اندفعوا من جبال الشمال إلى سهول الجنوب ليفرضوا عليه الضم والإلحاق بواسطة الدبابات وراجمات الصواريخ.

11 – منذ 22 مايو 1990 عرف اليمنيون أربع صيغ للوحدة اليمنية هي: صيغة 22 مايو 1990، وصيغة وثيقة العهد والاتفاق..وهاتان الصيغتان أطاحت بهما حرب 1994 لتفرض صيغة ثالثة هي صيغة الضم والإلحاق " المعمد بالدم"..وقد قيل عن الصيغة الثالثة إنها راسخة رسوخ الجبال..غير أن الحراك الجنوبي أثبت أنها أوهى من بيت العنكبوت..أما الصيغة الرابعة فهي تلك التي خرج بها مؤتمر الحوار الوطني..وهذه الصيغة الأخيرة قامت على شرعية التوافق الوطني..وشرعية التوافق الوطني قابلة للتحول إلى شرعية شعبية إذا أمكن نجاح الاستفتاء على الدستور الجديد في ظروف طبيعية.

12 - إذا لم تتجسد الصيغة الأخيرة للوحدة في دولة لكل اليمنيين في الجنوب وفي الشمال فلن يكون مقبولا أبدا إلقاء اللائمة على الحراك والقضية الجنوبية، وإنما على أولئك الذين يزرعون الألغام في الطريق إلى هذه الدولة ويعيقون تنفيذ مخرجات الحوار الوطني بوضع مشاريعهم الخاصة فوق المشروع الوطني العام وفي مواجهته..وهؤلاء على وجه التحديد هم الإنفصاليون الحقيقيون.

13 – إن حرب 1994 كانت بين اتجاهين في السياسة، وليس بين جهتين في الجغرافيا..والرئيس هادي كان وزير دفاع الاتجاه السياسي الذي انتصر في تلك الحرب..وعلى هذا الأساس من غير الجائز التحجج بجنوبيته وجنوبية معظم حكومته للهروب من استحققات الحل العادل للقضية الجنوبية.

14 – الوحدة مشترك إنساني يقوم على كثير من القواسم المشتركة التي تكونت من خلال التعايشات التلقائية بين أفراد وجماعات الشعب الواحد عبر تاريخه الطويل الموغل في القدم..إنها إذن ظاهرة وجدانية عاطفية تنشأ عفويا في تركيبة المجتمع في سياق تفاعل أفراده وجماعاته مع بعضهم البعض، وتفاعلهم مجتمعين مع بيئتهم ومع التحديات الحقيقية والمتوهمة التي تهدد وجودهم في هذه البيئة..وفي سياق هذا التفاعل تتولد المصالح المتبادلة ويستأنس الأفراد والجماعات بعضهم ببعض..ومع الزمن يفضي هذا الاستئناس إلى وجود قواسم مشتركة ثقافية ومعرفية وأيديولوجية ونفسية تمجد هذه التعايشات وترسخها وتعمل على استمرارها عبر الأجيال..وفي مرحلة متأخرة من هذه الصيرورة يأتي دور النخب التي تصوغ المفاهيم وتضع الاصطلاح الاجتماعي لكثير من التعايشات..وعن هذا العمل النخبوي ينتج الشعار الذي يحول الوحدة من حالة استئناس إلى راية سياسية..وفي مرحلة متأخرة يأتي المتغلب ويسرق الشعار والراية ويوظف نتائج هذه العملية التاريخية الطويلة والمعقدة لصالح مشروعه الخاص..وهذا ما فعله علي عبد الله صالح عندما خطف شعارات الوحدة من أصحابها ووجه عامة الناس ضد مصالحهم ولصالح مشروعه الخاص ملحقا أضرارا فادحة بقضية الوحدة كحالة عاطفية وكمشروع سياسي وطني.

15 - شعار " الوحدة فريضة إسلامية" هو الآخر من أعمال الاختطاف المقنع بالدين، لأن الإسلام ليس قيمة منتجة لليمن الحضاري الثقافي وإنما قيمة مضافة إليه..ونحن عندما توحدنا عام 1990 لم نتوحد لأننا مسلمون، وإنما لأننا يمنيون..لم نتوحد لأننا جماعة دينية وإنما لأننا جماعة وطنية بصرف النظر عن نوع معتقدنا الديني..ثم كيف يستقيم الأمر عندما نرفع شعار " الوحدة فريضة إسلامية" وفي الوقت نفسه نكفِّر ونقصي بواسطة الحرب أولئك الذين ظلوا لعقود يتعبدون بالوحدة حتى أوصلونا إلى 22 مايو 1990!!!........................

16 - إن شعار "الوحدة فريضة إسلامية" من أخطر الشعارات التي رفعت في مواجهة القضية الجنوبية كقضية "سياسية" لاختزالها في البعد الحقوقي كما يفهمه أصحاب هذا الشعار..وهو أيضا شعار إقصائي إستبعادي يقوم على إزاحة الحامل الاجتماعي السياسي لقضية الوحدة ليُحِلَ أصحاب الشعار محلَّه..والوحدة مطروحة على رأس جدول أعمال الحركة الوطنية اليمنية قبل ظهور أصحاب هذا الشعار بزمن طويل..والأخطر من ذلك أنه شعار تضليلي يختزل مفهوم المواطن في مفهوم المؤمن..وفي كل الأحوال يتستر هذا الشعار على أزمة دولة الوحدة من خلال تديين مفهوم الوحدة..وهو بهذا المعنى من شعارات الأزمة، لا من شعارات الحل.

17 – لم يصل اليمنيون إلى 22 مايو 1990 إلا عبر ثلاث ملاحم متلازمة جميعها دارت في الجنوب، وليس في الشمال..وهذا يعني أن الجنوب هو صانع الوحدة اليمنية بمفهومها المعاصر إنطلاقا من مدينة عدن التي لولاها لما توحد الجنوب عام 1967 ولما أعلنت وحدة 22 مايو 1990..فعدن هي حاضرة الوحدة اليمنية بدون منازع..فما هي هذه الثلاث الملاحم؟

الملحمة الأولى: إستدعاء الهوية اليمنية من إرشيف التاريخ:

فمع استطالة أزمنة التشظي دخل اليمن الحضاري الثقافي في سبات عميق وأصبح اليمنيون في الجنوب يعرِّفون أنفسهم من خلال إنتماءاتهم إلى فسيفساء الكيانات التي ملأت فضاءه الجغرافي..ولهذا لم يعد اليمني هناك يمنيا، وإنما فضلي أو عبدلي أو واحدي أو حوشبي أو قعيطي أو كثيري أو مهري...الخ..وحتى نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي كانت الصحافة العدنية تتحدث عن "شعوب الجنوب العربي " وليس عن شعب الجنوب العربي..وكلمة "اليمن" كانت في الاستخدام العام تشير إلى مملكة الشمال، وليس إلى الجنوب..وهذا ما نقصده بسبات اليمن الحضاري الثقافي..وفي مدينة عدن بدأت عملية إيقاظ اليمن الحضاري الثقافي من سباته باستدعاء الهوية اليمنية الجامعة من أرشيف التاريخ وتنظيفها من غبار أزمنة التشظي..وهذه عملية بدأت في وقت مبكر بالتزامن مع المد القومي العروبي بعد نكبة فلسطين..وبدون هذه الملحمة ما كان بالإمكان الانتقال إلى الملحمة الثانية.

والحركة الوطنية اليمنية هي التي أنجزت الملحمة الأولى في مناخ صراعي مع القوى التقليدية الممانعة ليمنية الجنوب..وكانت الحركة الوطنية اليمنية قد تشكلت من حركة القوميين العرب والبعث والماركسيين فضلا عن النقابات والاتحادات التي ازدهرت في مدينة عدن..والحزب الاشتراكي اليمني هو المصب الذي التقت داخله هذه الروافد بفروعها الجنوبية والشمالية..وهو بهذا المعنى حزب الوحدة اليمنية باعتبارها قضيته الوطنية الكبرى..ومنذ البداية تأسس هذا الحزب على شرعية وطنية، وليس على شرعية سياسية فقط..وليس مصادفة أن تأخذ حرب 1994 ضد الوحدة التوافقية شكل الحرب ضد الحزب الاشتراكي، حتى أن معظم اليمنيين صدَّق أن المستهدف هو الحزب دون الوحدة..وعلى هؤلاء أن يلاحظوا أن مدافع حرب 1994 لم تصب الحزب فقط وإنما أصابت قضيته، لتعذر الفصل بينه وبينها، من الناحية العملية على الأقل.

غير أن الحركة الوطنية اليمنية عندما استدعت الهوية اليمنية من أرشيف التاريخ استدعتها بطريقة مثالية حماسية قامت على تنقية التاريخ، ذهنيا، من حروبه وانقساماته وتغلباته لإسناد تعايشات اليمنيين الوئامية في مدينة عدن، وكأنها امتداد تصاعدي لتعايشات وئامية جرت في الماضي..وهنا تكمن جذور النزعة المثالية في التعامل مع الوحدة اليمنية كما لو كانت أيديولوجيا خلاصية جاءت إلينا جاهزة من الماضي السحيق..وعلينا اليوم أن نعترف أن هذه النزعة المثالية في التعامل مع قضية الوحدة هي التي جعلت الجنوب يذهب إلى الوحدة مع الشمال ذهابا حماسيا غير آمن وغير مدروس بدقة ليقع ضحية لحرب 1994..وبما أن الحزب الاشتراكي اليمني هو الذي هيأ الجنوب للوحدة وحببها إليه وقاده إليها فإن البعض في الحراك الجنوبي يتطرف في تحميله مسئولية ما حدث للجنوب متناسيا أن حرب 1994 كانت ضد الحزب وليس ضد الجنوب..فالجنوب لم يتعرض لما تعرض له لأنه الجنوب، وإنما لأن أمراء الحرب هم شياطين الشمال،ومن غير المعقول أن يتصرفوا كملائكة في الجنوب.

الملحمة الثانية: إسقاط مشروع اتحاد الجنوب العربي بواسطة الكفاح المسلح.

عندما استيقظ اليمن الحضاري الثقافي الواحد مارس فاعليته في التصدي لليمن السياسي المتشظي ابتداء من الجنوب..فالمعروف أن بريطانيا كانت قد حددت موعدا لانسحابها من عدن، ولكن بعد أن أعادت صياغة الخارطة السياسية للجنوب على أساس أربع دول مستقلة هي: اتحاد الجنوب العربي الذي ضم المحميات الغربية ومستعمرة عدن؛ السلطنة القعيطية؛ السلطنة الكثيرية وسلطنة المهرة وسقطرى..ولو قدر لهذا المخطط أن يتحقق لكان في صنعاء اليوم أربع سفارات جنوبية لدول ذات سيادة محمية بقوة القانون الدولي ليس بينها من ينسب نفسه إلى اليمن.

ومن أجل إسقاط هذا المشروع اضطرت الجبهة القومية إلى نهج الكفاح المسلح..وهنا يلزم التأكيد – والكلام موجه لدعاة الجنوب العربي - أن قطاع الفدائيين في عدن هو الوحيد الذي ضم شماليين وجنوبيين، وما عدا ذلك تشكلت تنظيمات الجبهة القومية في كل سلطنة ومشيخة وإمارة من أبنائها، وسقطت بأيادي أبنائها..وكان هؤلاء الأبناء يعلمون علم اليقين أنهم أعضاء في تنظيم سياسي إسمه الجبهة "القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل" – وليس لتحرير الجنوب العربي المحتل -. وكانوا أيضا يعلمون أن الجبهة القومية تعمل من أجل تحرير الجنوب وتوحيده على طريق توحيد اليمن كله..وهذا ما تم فعلا من خلال الملحمة الثالثة.

الملحمة الثالثة: بناء دولة الاستقلال على استراتيجية الوحدة مع الشمال والنظرة الدونية للتشطير.

وجميعنا يعلم أن الجنوب كان طوال سنوات الاستقلال وحتى 22 مايو 1990 ورشة تشتغل بشكل يومي على قضية الوحدة في كل قطاعات الدولة والمجتمع..وهذا مما لا يستطيع أحد أن ينكره أو يزاود عليه.

هذه الملاحم الثلاث هي التي أوصلت اليمنيين إلى 22 مايو 1990..وهي التي صنعت الوحدة اليمنية بصيغتها المعاصرة التي لا يجوز اعتبارها امتدادا طبيعيا لأي وحدة حصلت في التاريخ القديم أو الوسيط..والآن تعالوا نتأمل الوحدة بصيغتها المعاصرة.

وحدة 22 مايو 1990:

نقلا عن الشهيد جار الله عمر إتفق البيض وصالح في 30 نوفمبر 1989 على ما يلي:

1 – أن دولة الوحدة ستكون مصحوبة بالديمقراطية والتعددية السياسية.

2 – ضمانات للطرفين.

3 – أن الدولة الجديدة لن تكون بصيغة دولة الشمال ولا بصيغة دولة الجنوب.

4 – الأخذ بإيجابيات النظامين.

وما قاله جار الله صحيح 100%، لكن ليس بين أيدينا وثيقة واحدة تقول لنا ما هي الإيجابيات التي أقر بها نظام الشمال لنظام الجنوب، وتلك التي أقر بها نظام الجنوب لنظام الشمال..كما لا توجد وثيقة مفصِّلة للضمانات التي تحول دون أي إلتفاف على اتفاق الوحدة..وهذا كله يعبر عن وجود ثغرات كبيرة في اتفاق الوحدة نفذ منها الطرف الشمالي إلى حرب 1994..والحقيقة، كل الحقيقة، أنه لولا هذه الثغرات ما كان هذا الطرف ليقبل بالذهاب إلى الوحدة من حيث المبدأ، وما كان له أن يقترح تقديم موعد إعلان الوحدة من 30 نوفمبر 1990 إلى 22 مايو 1990..فالتقديم بالنسبة لهذا الطرف كان يعني أشياء كثيرة أقلها خطرا ترحيل الاستفتاء على مشروع الدستور إلى ما بعد إعلان الوحدة..والحقيقة أن هذا الترحيل حوَّل الرفض الصريح للوحدة إلى رفض متستر برفض الدستور..ولو أن المسيرة المليونية المسلحة التي شهدتها صنعاء ضد الدستور تمت قبل إعلان الوحدة لكانت دليلا كافيا على عدم جاهزية نظام الشمال للوحدة..لكن هذا الدليل لم يكشف عن نفسه إلا بعد أن وقع الفأس في الرأس.

المرتكزات التي قامت عليها وحدة 22 مايو 1990:

قامت الوحدة على أربعة مرتكزات هي: الشراكة؛ الديمقراطية؛ الإصلاح؛ التحالف..ستقولون من أين جئت بهذا الكلام؟..والجواب: هذا الكلام تضمنته كل خطابات علي سالم البيض إبتداء من 30 نوفمبر 1989 وحتى 21 مايو 1994..فكل خطابات البيض بدون استثناء طافحة بهذه المفردات..وستلاحظون تباعا مدى الاتساق بين هذه المرتكزات وبين نقاط الاتفاق الأربع التي نقلناها عن جار الله عمر..ويمكنكم أيضا العودة إلى حديث مطوَّل أدلى به علي صالح لرياض نجيب الريس ونشره هذا الأخير في كتاب "رياح الجنوب" الصادر عام 1998 إذا لم تخني الذاكرة.

مرتكز الشراكة:

الأصل في وحدة 22 مايو 1990 هو الشراكة، وليس الديمقراطية..والشراكة نوعان: شراكة وطنية بين الشمال والجنوب، وشراكة سياسية بين اليمنيين من خلال أحزابهم وتنظيماتهم السياسية..الأولى شراكة توافقية، والثانية شراكة منضبطة لآليات الديمقراطية..الأولى موضوعها بناء الدولة، والثانية موضوعها التنافس على السلطة..وعلى هذا الأساس ذهب الجنوب إلى الوحدة كشريك وطني مع الشمال في بناء دولة الوحدة، بينما ذهب إليها الحزب الاشتراكي كشريك سياسي مع المؤتمر الشعبي العام وغيره من الأحزاب في إدارة دولة الوحدة.

وأساس الشراكة الوطنية حقيقة جغرافية تاريخية مؤداها أن الجنوب جزء من اليمن وليس جزءا من الشمال، والشمال جزء من اليمن وليس جزءا من الجنوب..وهما – الشمال والجنوب – ندان في صياغة عقد الوحدة والتوافق عليه وتطبيقه.

وبما أن الوحدة لم تقم على أساس فيدرالي مؤهل للتعبير عن الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب فقد جرى التعبير عنها من خلال التكافؤ بين الرئيس والنائب..وإذا عدتم إلى حديث صالح مع نجيب رياض الريس ستجدونه يتحدث عن أيْمان أبرمها الرجلان، وعن صلاحيات متساوية بينهما..إننا هنا إزاء نائب بصلاحيات رئيس..وعندما أراد صالح أن يتنصل من هذا التكافؤ قال: "لا يصلح أن يكون هناك سيفان في غمد واحد"..لكن في كل الأحوال كان القرار الرئاسي قرارا جماعيا يصدر عن مجلس الرئاسة، وليس عن الرئيس.

والتمييز بين الشراكة الوطنية والشراكة السياسية يقتضي تلقائيا التمييز بين فترتين إنتقاليتين:

1 – الفترة الانتقالية المحددة في اتفاق إعلان الوحدة بسنتين ونصف..وهذه لها بعد قانوني يغلِّب موادا في اتفاق إعلان الوحدة على مواد في الدستور، ومهمتها إنهاء مظاهر التشطير بدمج حقائق الدولتين، وتنتهي بإجراء إنتخابات نيابية تنتقل معها دولة الوحدة إلى الوضع الدستوري الكامل الذي يحرك الشراكة السياسية من الهامش إلى المتن.

2 - الفترة الانتقالية اللازمة للبناء الديمقراطي الكامل لدولة الوحدة وترسيخ نظامها السياسي..والغرض منها الانتقال بالشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب إلى شراكة سياسية كاملة بين اليمنيين..وهذه الفترة لا تقاس بالزمن وإنما بالإنجاز، ولا تنتهي إلا في ظروف اشتغال ديمقراطي طبيعي لكل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على النحو الذي يسمح لأي حزب إذا خرج من السلطة بآليات الديمقراطية أن يعود إليها بالآليات نفسها.

وبما أن الوحدة قامت بين دولتين وليس بين حزبين فإن دور كل من الرئيس ونائبه خلال هذه الفترة لا يتوقف على عدد مقاعد حزبه في البرلمان، وإنما على التكافؤ بين الشمال والجنوب في إعلان الوحدة وبناء دولتها..فالعلاقة بين الرئيس والنائب هي عمليا تجسيد للعلاقة المتكافئة بين الشمال والجنوب..وكأننا هنا إزاء فيدرالية ذاتية بين الرئيس والنائب حلت محل الفيدرالية الموضوعية بين الشمال والجنوب..والمبرر لهذا أن نموذج الدولة البسيطة المتوافق عليه لدولة الوحدة ما يزال في حالة جنينية ويحتاج إلى وقت وإلى ثقة متبادلة كي يشتد عوده وينضج.

لكن البيض اكتشف أن دولة الوحدة لا تسير وفق المسار المتفق عليه وأن الطرف الآخر ذهب إلى الوحدة بحسابات أخرى غير تلك التي أعلن عنها..واحتجاجا على ذلك مارس البيض اعتكافين صامتين في معاشيق..وأثناء الاعتكاف الثاني كان موعد الانتخابات النيابية يطرق الأبواب..وبالنظر إلى أن الشمال يحتوي على 80% من الدوائر الانتخابية كان الطرف الآخر يستعجل هذه الانتخابات لإنهاء الفترة الانتقالية التي كان حلفاؤه في حزب التجمع اليمني للإصلاح يسمونها فترة "إنتقامية"، لا بسبب الاغتيالات التي طالت كوادر الحزب الاشتراكي، وإنما بسبب المناصفة في السلطة بين الشمال والجنوب..ولهذا اضطر الرئيس أن يذهب شخصيا إلى معاشيق ليسترضي النائب.

وفي هذا اللقاء الاسترضائي تم توثيق الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب بأثر رجعي بصياغة وثيقة سميت "وثيقة التنسيق والتحالف على طريق التوحيد بين الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام" التي أنهت الاعتكاف الثاني وهيأت المناخ السياسي لإجراء إنتخابات أبريل 1993 النيابية..ولعلكم تذكرون أن قيادة المؤتمر الشعبي العام كانت قبل الاعتكاف الثاني للبيض قد رفعت شعار " لا شراكة إلا بالدمج "، أي دمج الاشتراكي والمؤتمر الشعبي في حزب واحد..وهذا ما رفضته اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني بالإجماع تقريبا، لأنه يتضمن انقلابا على التعددية السياسية في البلاد..فالدمج لن يؤدي في أحسن الأحوال إلا إلى هيمنة حزب واحد كبير وتهميش غيره..والآن لا حظوا كيف جرى توثيق الشراكة الوطنية في الوثيقة المذكورة من خلال أبرز بنودها التي نصت على إدخال تعديلات جوهرية على الدستور بعد الانتخابات تتضمن ما يلي:

1 – إلغاء مجلس الرئاسة واستبداله برئيس ونائب ينتخبان مباشرة من الشعب في قائمة واحدة.

2 – تشكيل مجلس شورى تمثل فيه المحافظات بالتساوي، ويشكل مع مجلس النواب جمعية وطنية يرأسها النائب.

3 – أن تتمتع المحافظات وما دونها بحكم محلي كامل الصلاحيات.

4 – إجراء تقسيم إداري جديد للبلاد يزيل مظاهر التشطير وتعقبه مباشرة انتخابات المجالس المحلية.

وهناك بنود أخرى تتصل بالعلاقة الثنائية بين الحزبين، وفيها تم الاتفاق على التنسيق في مختلف المستويات التنظيمية في العاصمة والمحافظات..كما أتفق أن يشكل الحزبان كتلة واحدة في البرلمان..أما توحيد الحزبين فقد ترك للمستقبل..والآن لاحظوا الشراكة الوطنية في بنود الوثيقة؟

1 – من الوهلة الأولى يبدوا أن انتخاب الرئيس والنائب من الشعب في قائمة واحدة مخالف لقواعد الديمقراطية والتنافس بين حزب الرئيس وحزب النائب..وهذا صحيح لو أن الحديث يدور حول الشراكة السياسية بين الأحزاب، لكنه يدور حول الشراكة الوطنية بين الجنوب والشمال..ثم أن الأمر هنا متعلق بتأسيس الدولة، وليس بالتنافس على السلطة..وفي عملية التأسيس الرئيس يمثل الشمال وليس المؤتمر الشعبي العام، والنائب يمثل الجنوب وليس الحزب الاشتراكي..فالوحدة تمت بين دولتين وليس بين حزبين.

2 – رئاسة الدولة للشمال، ونائب الرئيس والجمعية الوطنية للجنوب..وكان منتظرا من التعديلات الدستورية المتفق على إجرائها أن تحقق التوازن والتكامل بين الرئاسة والجمعية الوطنية..وهذا التوازن سيكون بين الشمال والجنوب، وليس بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني.

3 – أما ما يتعلق بالحكم المحلي كامل الصلاحيات فكان الغرض منه التخلص من مساوئ المركزية ونقل جزء كبير من سلطة المركز إلى المحليات على النحو الذي يحقق قدرا كبيرا من الشراكة بين اليمنيين في السلطة والتوزيع العادل للثروة ويخلق شروطا موضوعية لتسريع عجلة التنمية.

تأسيسا على بنود الوثيقة المذكورة كانت قيادة الاشتراكي تنظر إلى الوحدة كبذرة تحتاج إلى رعاية واهتمام وإلى تعاون وتساند..بينما نظرت إليها قيادة المؤتمر الشعبي كثمرة ناضجة قيد القطاف وأرادت أن تنفرد بقطفها وأكلها..وهذا واضح من طريقة التعامل معها..فبعد الانتخابات تشكلت حكومة ائتلافية من الأحزاب الثلاثة التي حازت على معظم مقاعد البرلمان..وقام البرلمان المنتخب بالتمديد لمجلس الرئاسة خمسة أشهر يتاح خلالها الوقت الكافي لإجراء التعديلات الدستورية المتفق عليها في وثيقة التنسيق والتحالف..وفي هذه الأثناء سافر البيض في رحلة علاجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية..وأثناء غيابه صوتت كتلتا المؤتمر الشعبي وتجمع الإصلاح (الأغلبية العددية) على مسوَّدة تعديلات دستورية تجاوزت كل ما نصت عليه "وثيقة التنسيق والتحالف...".. فلا صلاحيات دستورية للنائب، ولا إنتخاب شعبي للرئيس والنائب في قائمة واحدة، ولا جمعية وطنية يرأسها النائب، ولا حكم محلي واسع الصلاحيات.

ومن أمريكا نظر النائب إلى ما حدث على أنه انقلاب أبيض نفذته الأغلبية العددية الشمالية، وبدا له أنه لم يقد الجنوب إلى الوحدة وإنما إلى الضم والإلحاق..ولهذا قرر أن يفشل هذا الإنقلاب بإخراج الأزمة من أقبية الائتلاف الثلاثي إلى العلن فعاد من واشنطن إلى عدن..ومن هناك أعلن عن وجود أزمة داخل الائتلاف الحاكم أساسها عدم قدرة أطرافه على التوصل إلى تفاهم وتوافق حول بناء الدولة.

أنكر الطرف الذي فيه الرئيس الأزمة وقال إنه لا وجود لها إلا في رأس البيض، واتهم هذا الأخير بالتمرد على الشرعية الدستورية والمطالبة بنصيب في السلطة أكبر من نصيب حزبه في البرلمان، وكأن الطرف الآخر في الوحدة هو الحزب الاشتراكي وليس الجنوب.

ومن جانبه رفض البيض الاستقواء بالأغلبية العددية داخل برلمان يتلقى التعليمات من خارجه، وطلب من الطرف الآخر الاعتراف بالأساس الموضوعي للأزمة والإقبال على حلها بروح التفاهم والتوافق الوطني بعيدا عن مفهوم الأغلبية والأقلية وحسابات الربح والخسارة..فقضايا الخلاف كانت حول بناء الدولة (كدمج الجيش وتوحيده – مثلا)..وهذه لا تحل إلا على قاعدة التوافق، وليس برفع الأيدي في البرلمان..أما الشرعية الدستورية التي جاءت بها الانتخابات فهي ليست خالصة للشمال دون الجنوب، ولا لتحالف المؤتمر والإصلاح دون الاشتراكي، ومن غير الجائز أن يحتكرها طرف واحد لمجرد أنه أغلبية عددية أفرزتها إنتخابات في بلد يفتقر للإندماج الوطني الحقيقي.

لقد كان البرلمان المؤسسة الوحيدة المنتخبة التي يمكن أن يعول عليها في حل الأزمة بإرغام الرئيس ونائبه على الخضوع المتساوي للمصلحة الوطنية العليا، لكنه كان من الناحية العملية برلمانين الأغلبية فيه عددية نجمت عن التفاوت الكبير في عدد السكان وبواسطة إنتخابات جرت في بلد يعاني من آثار التشطير ويفتقر إلى الاندماج الوطني الحقيقي..ولذلك تحول هذا البرلمان إلى ساحة اقتتال وظهر كجزء من المشكلة وليس جزءا من الحل.

وفي هذه الأثناء أوشكت الخمسة الأشهر التي مددها البرلمان لمجلس الرئاسة على الانتهاء..وحتى لا تدخل البلاد في فراغ دستوري أعيد انتخاب مجلس رئاسة على أساس 2-2-1 وفقا لما جاء في مبادرة من 18 نقطة تقدم بها الاشتراكي لحل الأزمة..فخرج المؤتمري عبد الكريم العرشي من المجلس ليحل محله الإصلاحي عبد المجيد الزنداني..وبهذا ظل نصيب الشمال في مجلس الرئاسة 3 مقاعد مقابل مقعدين للجنوب..لكن وسائل الإعلام وزعت المقاعد بين الأحزاب الثلاثة وتحدثت عن نصيب للإشتراكي في مجلس الرئاسة أكبر من حجمه في البرلمان، وليس عن نصيب للجنوب أقل من حجمه ودوره في عملية توحيد البلاد..وبهذه الطريقة كانت تقدم الوحدة للرأي العام كما لو كانت بين حزبين وليس بين دولتين.

وبانتخاب مجلس الرئاسة لمعت في الأفق بارقة أمل سرعان ما تلاشت عندما أذاع الإعلام الرسمي في صنعاء أن مجلس الرئاسة انتخب علي صالح رئيسا وأن علي صالح عيَّن علي البيض نائبا له..وهذه صياغة خبرية مخالفة – عن عمد – لمحضر اتفاق قضى بإخراج متكافئ لموقعي الرئيس والنائب..وبسبب هذه المخالفة اعتذر النائب خطيا عن الحضور إلى صنعاء لأداء اليمين الدستورية أمام البرلمان يوم 16 أكتوبر 1993.

وبسبب عدم أهلية البرلمان للوقوف على مسافة واحدة من الرئيس والنائب خرجت الأزمة إلى فضاء الحوار الوطني الموسع حيث تشكلت لجنة حوار القوى السياسية التي شخصت الطابع الوطني العام للأزمة وصاغت الحل في وثيقة العهد والاتفاق..وكانت هذه الوثيقة بمثابة اتفاق جديد على الوحدة شاركت فيه كل الأطراف..لكن ميزان القوى في البلاد لم يكن لصالح تطبيق الوثيقة وبناء الدولة..وهذا يفسر الاندفاع السريع نحو الحرب التي قضت على الشراكة الوطنية بين الجنوب والشمال وأبقت على شراكة سياسية شكلية بين الأحزاب مع إقصاء الحزب الاشتراكي الذي أصبح حزبا محظورا من الناحية العملية صودرت كل مقاره وأمواله.

مرتكز الديمقراطية:

يشير مرتكز الديمقراطية في الوحدة إلى الشراكة السياسية بين الأحزاب والتنظيمات السياسية..ولأن الوحدة قامت بين دولتين كل منهما ذات نظام غير ديمقراطي فقد بدأت الشراكة السياسية بقسمة السلطة على (2) هما المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني..لكن الوحدة اقترنت بالديمقراطية كآلية للإنتقال التدريجي والمتواصل بالشراكة السياسية من مستوى القسمة على (2) إلى مستوى القسمة على الجميع بواسطة انتخابات دورية يفترض أن يؤدي تعاقبها المنتظم إلى إثبات وثبات نقاء مبادئ الدولة الجديدة ومصداقية الخيار الديمقراطي لنظامها السياسي.

وقد أثبت مرتكز الديمقراطية مصداقيته في أول انتخابات نيابية جرت بعد الوحدة عندما نقل الشراكة السياسية من مستوى القسمة على (2) إلى مستوى القسمة على (3) وجاء بحزب التجمع اليمني للإصلاح كشريك ثالث في البرلمان والحكومة ومجلس الرئاسة، فضلا عن شركاء آخرين في البرلمان كالبعث والأحزاب الناصرية وحزب الحق..لكن النية كانت معقودة على التخلص من الحزب الاشتراكي وإخراجه من الحياة السياسية بالقوة..ونتائج الانتخابات عززت هذه القناعة عند الطرف الآخر الذي كانت له قراءتان لنتائج إنتخابات أبريل النيابية: قراءة معلنة وأخرى غير معلنة.

وملخص القراء المعلنة أن الحزب الاشتراكي مني بهزيمة كبرى في الانتخابات نقلته من شريك بالمناصفة مع المؤتمر الشعبي العام إلى شريك ثالث بعد التجمع اليمني للإصلاح..أما القراءة غير المعلنة فهي قراءة قيادة المؤتمر الشعبي العام، وليس قراءة حزب الإصلاح الذي كان حينها واقعا تحت هيمنة الفقهاء..والفقهاء لا يقرأون، وإنما يحفظون فقط..وملخص هذه القراءة أن الديمقراطية إذا استمرت على هذا النحو فستكون لصالح الحزب الاشتراكي وتجمع الإصلاح والأحزاب الأخرى على حساب المؤتمر الشعبي العام تحديدا..والآن تعالوا نقرأ تلك الانتخابات من حيث النتائج ومن حيث البيئة والمناخ العام اللذين أحاطا بها.

أولا: من حيث النتائج.

لتقييم نتائج تلك الانتخابات تقييما موضوعيا علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الشمال هو المعقل التاريخي للمؤتمر الشعبي العام، وأنه يحتوي على 80% من الدوائر الانتخابية..والمتوقع أن يحصل المؤتمر الشعبي على أغلبية كاسحة في معقله..وهذا من الأمور التي كانت حاضرة في حسابات علي سالم البيض..ولهذا كانت الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب، وليس التنافس الديمقراطي بين الأحزاب، هي الأصل في اتفاق الوحدة..أما القول بأن قيادة الاشتراكي ذهبت إلى الوحدة وفي حسابها أنها ستكتسح معظم مقاعد الشمال أل(245) فليس له ما يفسره سوى أنه جاء في سياق التحضير المبكر وغير المعلن لحرب 1994 وتهيئة الرأي العام لقبولها.

لكن المؤتمر الشعبي العام لم يحصد سوى 121 مقعدا من مقاعد الشمال، أي أقل من النصف..وكانت هذه نتيجة صادمة لقيادة المؤتمر الشعبي العام التي دفعت بمرشحين كلهم تقريبا من مراكز القوى وأهل السلطة والنفوذ والمال، وخاضت الانتخابات من خلال التحالف والتنسيق المحكم مع التجمع اليمني للإصلاح ضد الحزب الاشتراكي والمستقلين المحسوبين عليه أو المدعومين منه..وكان التحالف والتنسيق بين هذين الحزبين على أشده في كل الدوائر التي كان فيها مرشحون للحزب الاشتراكي..وهذا يعني أن المؤتمر الشعبي العام مدين بالنتيجة التي حققها في تلك الانتخابات للتجمع اليمني للإصلاح.

أما بقية دوائر الشمال ال(124) فقد ذهبت على التوالي لصالح حزب الإصلاح والاشتراكي والبعث والأحزاب الناصرية وحزب الحق، وحوالي عشرين دائرة ذهبت لصالح مستقلين محسوبين على/ أو قريبين من/ المؤتمر والإصلاح والاشتراكي.

وقياسا على الشمال كان الجنوب (56 دائرة) المعقل التاريخي للحزب الاشتراكي..وباستثناء دائرة واحدة تركت للمؤتمر الشعبي العام لصالح أحد كبار مناضلي الجبهة القومية، ودائرة أخرى تركت لمرشح مستقل ذهبت بقية الدوائر لصالح مرشحي الحزب الاشتراكي (رسميين 36 + مستقلين 18)..وكان هذا النجاح مفزعا لقيادة المؤتمر الشعبي العام..لكن نجاح الاشتراكي في الشمال لم يكن أقل إفزاعا للاعتبارات التالية:

1 – خاض الاشتراكي الانتخابات أعزلا من أي تحالف أو تنسيق.

2 – مرشحوه كانوا جميعا من أبناء الطبقة الوسطى، ليس بينهم صاحب نفوذ أو سلطة أو مال..ولهذا كان تصويت الناخبين تصويتا للحزب وليس للمرشحين.

3 – حقق نجاحات انتخابية في محافظات تعز والبيضاء وإب والحديدة ومأرب وصنعاء (حرف سفيان)..وانتزع منه النجاح بالقوة في حاشد (الشهيد علي جميل).

4 – في الدوائر التي خسرها كان مرشحوه يأتون ثانيا بفارق بسيط في الأصوات.

5 – جاء ثانيا في إجمالي الأصوات على مستوى الجمهورية.

6 - 49% من إجمالي أصواته جاءت من محافظات الشمال مقابل 51% من محافظات الجنوب..وبهذا ظهر كحزب وطني لعموم اليمن، بينما ظهر المؤتمر والإصلاح كحزبين شماليين (11% فقط من إجمالي أصوات المؤتمر و 9% فقط من إجمالي أصوات الإصلاح جاءت من محافظات الجنوب).

2 – جاء ثالثا في عدد مقاعد البرلمان بحسب إعلان اللجنة العليا للإنتخابات التي احتسبت فقط مقاعده الرسمية (36 دائرة في الجنوب + 18 دائرة في الشمال = 56 دائرة)..وإذا أضفنا إلى هذا الرقم مقاعد أعضائه الذين دخلوا البرلمان كمستقلين فإن وزنه الفعلي في البرلمان أكبر بكثير من العدد المعلن..فضلا عن المستقلين القريبين منه.

هذه هي القراءة غير المعلنة لنتائج الانتخابات التي جرت شمالا في بيئة ومناخ عام لم يكن لصالح الاشتراكي..ومع ذلك بدت النتائج مخيفة للطرف الآخر فقرر أن يجعلها ديمقراطية لمرة واحدة فقط غير قابلة للتكرار إلا بشروطه ، ولا سبيل إلى ذلك سوى إخراج الحزب الاشتراكي من الحياة السياسية عسكريا.

ثانيا: من حيث البيئة والمناخ العام.

جرت الانتخابات في مناخ عام لم يكن متوافرا على شروط حقيقية للديمقراطية..وهذا حكم بنيناه على الحيثيات التالية:

1 – لم يكن اختيار الناخبين لمرشحيهم قائما على استقلالية الفرد وعدم تزوير إرادته.

2 – حرية الاختيار الفردي كانت مندغمة في المجموع العصبوي القبلي..ولهذا لم يكن لكل فرد صوت واحد في الانتخابات، وإنما كان لمئآت وآلاف الأفراد صوت عصبوي واحد هو صوت القبيلة.

3 – كانت حرية الاختيار الفردي متأثرة إلى حد كبير بالتحريض الأيديولوجي الديني ومحمولات الصراع التاريخي بين الشطرين..ولذلك راجت في دوائر الشمال شعارات من قبيل:" إنتخب من يخاف الله"؛ "صوتك أمانة في عنقك سيحاسبك عليه الله يوم القيامة"...الخ..ولهذه الشعارات تأثير كبير في بيئة تغلب عليها الأمية والتعليم المؤدلج ودور العبادة المسيَّسة.

لذلك غابت الأكثرية الانتخابية وحضرت الأغلبية العددية في نتائج الانتخابات..غير أن الأغلبية العددية تصرفت كما لو كانت أغلبية إنتخابية معبرة عن وجود اندماج وطني حقيقي في ظروف طبيعية زالت معها كل آثار التشطير..وقد انطوى هذا التصرف على خلط كبير بين الشراكة الوطنية المتعلقة ببناء الدولة على قاعدة التفاهم والتوافق، والشراكة السياسية المتعلقة بالقضايا التي يمكن حسمها بعد الأصوات في البرلمان..وكان المراد من هذا الخلط إجبار الحزب الاشتراكي على التخلي عن الشراكة الوطنية للجنوب في البناء الديمقراطي الناجز لدولة الوحدة بحجة أن الحزب لم يحافظ على نصيبه من السلطة الذي كان له خلال الفترة الانتقالية المحددة بسنتين ونصف..والملاحظ أن هذه الحجة تطابق بين الجنوب وبين الحزب الاشتراكي بطريقة تختزل الشراكة الوطنية للجنوب في الشراكة السياسية للحزب الاشتراكي، وتتجاهل الفارق المهول في عدد السكان..وبسبب هذا الفارق لم تكن الشراكة الوطنية ممكنة إلا على قاعدة التفاهم والتوافق، أو على قاعدة المناصفة بين الجنوب والشمال في مقاعد البرلمان..وليس من قبيل المصادفة أن هذه المناصفة هي التي اعتمدها مؤتمر الحوار الوطني في إطار الحل السياسي العادل للقضية الجنوبية، وبدونها يتعذر على الجنوب أن يستعيد مكانته كشريك أصيل في المعادلة الوطنية.

مرتكز الإصلاح:

ينصرف هذا المرتكز إلى أمرين اثنين أولهما إصلاح كل ما ورثته دولة الوحدة من سنوات التشطير، سواء كان هذا الإرث من صناعة نظام الشمال أو من صناعة نظام الجنوب، أو كان بسبب حروبهما البينية الباردة والساخنة..وتحت هذا المفهوم للإصلاح تندرج قضايا كثيرة في الشمال والجنوب لا يصح معها القول بأن وحدة 22 مايو 1990 قامت على القفز فوق مشاكل الماضي..والصحيح أن إصلاح مشاكل الماضي لم يكن من بين حسابات الطرف الشمالي في تعامله مع قضية الوحدة..ولمن يتهمنا بالتحامل عليه نقول: حاكموه من خلال النهج الذي سار عليه بعد حرب 1994 لتكتشفوا أننا لا نتحامل، وإنما نسمي الأشياء بأسمائها.

ولكن هذا لا يعفي قيادة الحزب الاشتراكي ممثلة بعلي سالم البيض من المسئولية..فالرجل لم يذهب إلى الوحدة ذهابا مدروسا وآمنا وموثَّقاً..وبسبب ذلك يتهمه البعض بالهرولة..ومن جانبنا نجزم باستحالة إعلان وحدة 22 مايو 1990 بغير هذه الهرولة، لأن الطرف الآخر لم ولن يقبل بوحدة مدروسة وآمنة وغير قابلة للإنقلاب عليها..ومن يريد أن يتأكد من ذلك يكفيه أن يقرأ مذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر..فالمشكلة ليس في هرولة البيض التي هي في أسوأ الأحوال مخاطرة شجاعة ونبيلة بالمقاييس الوطنية، وإنما في الطرف الآخر الذي غدر به ومارس معه "الخناق بالعناق"..ومع ذلك نكرر: كل هذا لا يعفي البيض من المسئولية، خاصة وأنه استقوى على رفاقه بقدسية الوحدة لينفرد بقرار تاريخي لا يحتمل الانفراد به.

الأمر الثاني الذي ينصرف إليه مرتكز الإصلاح هو دمج حقائق الدولتين وجميعها – باستثناء العلم والنشيد الوطني – لم تكن قد دمجت عند إعلان الوحدة..فالوحدة لم تقم منذ البداية على الدمج الفعلي لحقائق الدولتين، وإنما على الجمع الميكانيكي لبعض هذه الحقائق (الحكومة والبرلمان مثالا)، وعلى المجاورة بين بعضها الآخر (وحدات الجيش - مثالا)، على أن يتم دمجها خلال الفترة الانتقالية المقدرة في إعلان الوحدة بسنتين ونصف، بحيث تفضي عملية الدمج إلى حقائق جديدة نوعيا هي حقائق دولة الوحدة، لا حقائق دولة الشمال ولا حقائق دولة الجنوب.

 

وبسبب المجاورة والجمع الميكانيكي احتفظت حقائق كل دولة بتبعيتها البنيوية للنظام الذي أنتجها..وكان مجلس الرئاسة يدير حقائق دولتين تتوقف العلاقة بينها على نوع العلاقة بين الرئيس والنائب..لكن الخطورة الكبيرة في هذا الإجراء مثلتها وحدات الجيش التي تجاورت من غير دمج ثم انزلقت بسهولة نحو الحرب في مناخ الأزمة السياسية..وقد أسفرت الحرب عن تدمير حقائق دولة الجنوب وتعميم حقائق دولة الشمال على اليمن كله..وبهذا سقط اتفاق الوحدة التي تحولت إلى ضم وإلحاق..والحرب من وجهة نظر القانون الدولي كانت حربا داخلية، أما من الناحية الفعلية فقد كانت حربا بين دولتين تعذر دمج حقائقهما..والنظام الذي فرضته الحرب هو نظام الجمهورية العربية اليمنية الذي ترفضه قوى الحراك الجنوبي جملة وتفصيلا.

مرتكز التحالف:

بما أن الوحدة قامت على الدور المحوري للحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي فإن مستقبلها يتوقف على نوع العلاقة التي ستنشأ بينهما سلبا وإيجابا..ومن أجل أن تنعكس هذه العلاقة على الوحدة إيجابا أُتفق أن تكون العلاقة بين هذين الحزبين علاقة تحالفية..وبما أن المرحلة من الناحية الموضوعية هي مرحلة بناء الدولة، وليس مرحلة تنافس على السلطة فإن التحالف بين الحزبين ليس إلا نواة لتحالف وطني واسع يكون بمثابة الربان الذي يجب أن يقود سفينة الوحدة إلى بر الأمان بتمكين مرتكزات الشراكة والديمقراطية والإصلاح من التحقق الفعلي.

يضاف إلى ذلك أن التحالف سيؤدي إلى تراجع الحساسيات الأيديولوجية القديمة بين الأحزاب إلى حدودها الدنيا لصالح القضايا العملية في بناء الدولة، وسيعزز عوامل الثقة فيما بينها لصالح الديمقراطية..فالديمقراطية غير ممكنة، داخل وبين الأحزاب، ما لم تقم العلاقة بينها على قدر كبير من الثقة المتبادلة.

غير أن الطرف الآخر في اتفاق الوحدة سار على نهج مختلف قوامه استثمار الحساسيات الأيديولوجية القديمة والموروث التاريخي للصراع بين الشطرين من أجل تأزيم الحياة السياسية في البلاد على النحو الذي يحقق مصالحه الخاصة على حساب المصلحة الوطنية العليا..وبهذا النهج قاد البلاد إلى حرب 1994 المسئولة عن بروز القضية الجنوبية.

نشأة القضية الجنوبية:

إن دولة الوحدة، وليس الوحدة هي موضوع الخلاف الذي قاد إلى حرب 1994 وتسبب في نشوء القضية الجنوبية..وعلى من يعتقد أن المنتصر في الحرب كان هو صاحب الحق في ذلك الخلاف أن يسأل نفسه: لماذا لم يحقق لليمنيين حلمهم الوطني في بناء دولة المواطنة التي تطلعوا إليها؟ ما الذي منعه من ذلك وقد أصبح صاحب الصولة والجولة والفارس الوحيد في الميدان؟.

إذاً العبرة في نتائج الحرب وليس في مقدماتها الخطابية والشعاراتية..والواضح من النتائج أنها لم تكن حربا مبررة، لا وطنيا ولا سياسيا ولا أخلاقيا..إنها حرب مضمرة حركها تحالف كبار قادة الجيش وكبار شيوخ القبيلة وكبار شيوخ المؤسسة الدينية وكبار أصحاب المال والأعمال الذين راكموا ثروات هائلة بسرعة قياسية وبطرق غير مشروعة، وعلي صالح كان مايسترو هذا التحالف الذي عزف على شعارات وطنية ودينية لتمرير الحرب.

لقد ذهب المنتصر يمارس في الجنوب جرائم وانتهاكات منظمة وممنهجة لم تكن تخطر على بال أحد لا في الشمال ولا في الجنوب..وطالت هذه الجرائم الأرض وباطنها والبحر وأعماقه، واعتدت على الإنسان – العسكري والمدني - وثقافته وكرامته وتاريخه ورمزياته وأحلامه، فضلا عن مكتسباته التي كانت قد تحققت له على هيئة مؤسسات ومنشآت ومزارع دولة وتعاونيات..وتحتفظ قوى الحراك بمجلدات من البيانات الإحصائية التي تبين جرائم المنتصر في المحافظات الجنوبية.

وكرد فعل على هذه الجرائم نشأت في الجنوب حركة إحتجاجية ذات طابع مطلبي حقوقي تخاطب الضمير الوطني والإنساني للمنتصر..لكن المنتصر قابل ذلك الحراك بالقمع المادي بواسطة الجيش والأمن، وبالقمع المعنوي بواسطة آلة إعلامية ظلت لسنوات تضخ خطابا تخوينيا تكفيريا طافحا بمفردات التسفيه والتحقير والازدراء..وفي هذه الظروف الصعبة تشكلت في الجنوب قناعات من نوع مختلف لها ما يسندها على صعيد الواقع، وتتلخص فيما يلي:

1 – إن المنتصر يستخدم الوحدة وشعاراتها وقدسيتها لابتزاز الجنوب والسيطرة عليه وإخضاعه ونهب مقدراته وتحويل معظم سكانه إلى فقراء مهانين ومهمشين.

2 – إن الجنوبيين يدفعون ثمن حلمهم بالوحدة وتعلقهم بها ونضالهم من أجلها وذهابهم إليها.

3 – إن الجنوبيين كأقلية عددية لا يستطيعون تغيير المشهد السياسي الذي فرضته حرب 1994 بواسطة ديمقراطية مقيدة ومشوهة تحسم نتائجها أغلبية عددية مغيبة ومتأثرة بشعارات الحرب وتتنازعها أيديولوجيات ومراكز قوى ونزعات جهوية وقبلية.

4 – إن المعركة مع المنتصر هي معركة من أجل الوجود والكرامة، لا من أجل المكانة.

وعندما تأخذ المواجهة هذا البعد فإن الطرف المغلوب يفتش عن أقرب وأفتك سلاح للدفاع عن نفسه..وفي هذه الأثناء التفت الجنوبيون شمالا بحثا عن التضامن الوطني فوجدوا آراء واتجاهات تساير الجلاد ضد الضحية..وحتى لا نقع في التعميم نعترف بوجود اتجاهين شذَّا عن هذه المسايرة، ومع ذلك كانا مخيبين للآمال..الاتجاه الأول سياسي، والآخر عاطفي مثالي.

وملخص الاتجاه السياسي أن مأساة الجنوب سببها ليس حرب 1994 وإنما إدارة علي صالح لنتائج تلك الحرب..فعلي صالح، وفقا لهذا الاتجاه، لم يقل لأهل الجنوب بعد "فتحه" ما قاله النبي (ص) لقريش بعد فتح مكة: "إذهبوا فأنتم الطلقاء"..إذاً المشكلة وفقا لأصحاب هذا الاتجاه ليست في "الفتح" الذي يعتبرونه فريضة دينية، وإنما في إدارة قائد "الفتح" لنتائج الحرب..والمغالطة الكبرى في هذا الخطاب تكمن في أن أصحابه لا يستطيعون أن يثبتوا بأن إدارة علي صالح للقضايا الوطنية بعد الحرب تختلف عن إدارته لهذه القضايا قبل الحرب..والصحيح أن الذي تغير في علي صالح ليس طريقة إدارته، وإنما طبيعة تحالفاته السياسية وانقلابه على شركاء "الفتح".

أما الاتجاه المثالي فملخصه: إصبروا وصابروا؛ لا تكونوا أنانيين؛ يوجد في الشمال ظلم أكثر من الظلم الواقع عليكم؛ المشكلة ليست في الوحدة؛ الذين ينهبون الجنوب ليسوا شماليين فقط وإنما بينهم جنوبيون أيضا؛ وغير ذلك من الأطروحات المثالية التي تطلب من الجنوبيين أن يتشابهوا مع الشماليين كما يتشابه الموتى في المقابر، وإلا فهم إنفصاليون تحركهم الأنانية وحب الذات..وهذا تفكير إلحاقي يتعامل مع الجنوب مثلما يتعامل مع أي محافظة من محافظات الشمال ويعبر عن عدم معرفة بماهية القضية الجنوبية في بعدها السياسي.

إزاء ذلك يئس الجنوبيون من الشماليين والتفتوا إلى جنوبهم فوجدوا سلاح الجغرافيا السياسية وما يتعلق بها من تاريخ ورمزيات كَعَلَمِ الدولة التي كانت، ثم استقاموا على الأرض وهم يرفعون الأعلام قائلين: "نحن جنوب عربي واقع تحت الاحتلال اليمني ولا نقبل بأقل من استعادة دولتنا"..وهذا ليس لأنهم إنفصاليون، وإنما لأن المنتصر أغلق أمامهم كل أبواب المقاومة تحت مظلة الوحدة ولم يبقِ لهم إلا خيار استعادة الدولة..وهذا يفسر لماذا ظهرت القضية الجنوبية لصيقة بجغرافية الجنوب رغم طابعها الوطني العام.

الطابع الوطني العام للقضية الجنوبية:

ولو أن الجنوبيين استسلموا لإرادة المنتصر في حرب 1994 لتعذرت ثورة الشباب عام 2011..وهذا دليل إضافي على الطابع الوطني العام للقضية الجنوبية..ولكن رغم ثورة الشباب التي أسقطت مشروع التوريث بقي تحالف حرب 1994 قابضا على مفاصل السلطة بعد التوقيع على المبادرة الخليجية، وإن في مشهد خلافي وصراعي.

كما أن التعاطي مع القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني لم يكن مطمئنا للجنوبيين بدليل أن فريقها في هذا المؤتمر إختلف وتعثر، والحل الذي تضمنته مخرجات الحوار بشأن القضية الجنوبية صاغه المبعوث الأممي، وليس مكونات فريقها في المؤتمر..ولكل هذه الأسباب مازال شعار "فك الارتباط" مرفوعا.

من المنظور السياسي والوطني لسنا مع فك الارتباط، ومن المنظور نفسه لسنا مع الوحدة المعمدة بالدم..أما من المنظور الأخلاقي فالمساواة غير جائزة، لأن فك الارتباط إذا تحقق بواسطة النضال السلمي المدني فإنه أشرف بما لا يقاس من وحدة فرضتها الدبابات وراجمات الصواريخ..والمقارنات التي يعقدها البعض بين حرب 1994 والحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية وحروب بيسمارك ضد نبلاء الأقاليم في ألمانيا مقارنات باطلة جملة وتفصيلا لعدم تساوي الشروط وبسبب اختلاف دوافع الفاعلين هنا وهناك والهوة الأخلاقية الكبيرة بينهم..فحرب 1994 لم تكن مبررة ولم تكن من أجل الوحدة، ولم تكن الوحدة بحاجة إلى حرب..والخلاف كان حول الدولة، وما يزال إلى اليوم متمحورا حول الدولة..أي أن الحرب لم تنه هذا الخلاف وإنما رحلته إلى مؤتمر الحوار الوطني، ولكن بعد أن أساءت إلى قضية الوحدة ونقلت براميل التشطير من الجغرافيا إلى النفوس.

القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني:

يقول البعض إن القضية المركزية التي انعقد من أجلها مؤتمر الحوار الوطني هي القضية الجنوبية، وبدونها ما كان لهذا المؤتمر أن ينعقد..والحقيقة أن القضية المركزية في المؤتمر هي قضية بناء الدولة..لكن العلاقة بين القضيتين علاقة تلازم جوهري تتعذر معها الوحدة بدون الدولة..فالقضية الجنوبية نتجت عن خلاف حول الدولة، وحلها حلاً عادلا في ظل الوحدة غير ممكن إلا بحل مسألة الدولة..ولو أن الحراك الجنوبي رفع شعار "الدولة مقابل الوحدة" على غرار "الأرض مقابل السلام" لظهر البعد الوطني العام للقضية الجنوبية واضحا حتى للإنسان العادي في الشمال.

إن شعار "الدولة مقابل الوحدة" لا يسقط شعار "فك الارتباط" وإنما يحوله من شعار جنوبي إلى شعار يمني متسق مع حقيقة أن حرب 1994 كانت بين اتجاهين في السياسة وليس بين جهتين في الجغرافيا..والدولة هي محور خلاف هذين الاتجاهين..ونتائج الحرب تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الاتجاه الذي انتصر في الحرب هو الاتجاه الرافض للدولة، وأن الوحدة بالنسبة له ليست سوى قميص عثمان الذي ارتداه للتغطية على هذا الرفض.

وعلى افتراض أن الحراك رفع شعار "الدولة مقابل الوحدة" وأن المنتصر رفض القبول بدولة تحفظ بقاء الوحدة..وعلى افتراض أن الشعب في الشمال لم يتعاطف مع شعار "الدولة مقابل الوحدة" ولم يتحرك لإسقاط نظام المنتصر، فإن يمنية هذا الشعار لا تلغي الجنوب ولا تصادر حقه في فك الارتباط، وإنما تحفظ للجنوب وحدته التي حققها في 30 نوفمبر 1967 كجنوب يمني وتقطع الطريق على كل من يحلم أن يعود به إلى ما قبل هذا التاريخ متذرعا بمسمى الجنوب العربي الذي نعلم أنه كان مشروعا سياسيا إستعماريا مفصلا على عدن والمحميات الغربية فقط.

إن مسمى "الجنوب العربي" والنكوص عن مسمى "اليمن الجنوبي" ينم عن وجود قاسم مشترك كبير بين المتعلقين بهذا المسمى وبين المنتصر في حرب 1994..فكلاهما يعتدي على التاريخ الوطني للجنوب، وتحديدا على ثورة 14 أكتوبر 1963..وكلاهما تحركه كراهية من نوع ما لهذه الثورة وإن تظاهر بحبها، أو اعتقد أنه يحبها..والفارق أن المتعلقين بمسمى الجنوب العربي يسعون – من حيث يدرون أو لا يدرون - إلى تمزيق الجنوب، بينما ذهب المنتصر إلى إلغائه وضمه وإلحاقه والتعامل معه كجغرافيا مجردة من تاريخها الوطني.

إن شعار "الدولة مقابل الوحدة" شعار صعب قياسا إلى شعار "فك الارتباط" تحت مسمى الجنوب العربي الذي نراه شعارا سهلا..والصعوبة في الشعار الأول آتية من كونه شعارا سياسيا يحتاج إلى عقل سياسي..بينما الشعار الثاني شعار عدمي يتغذى على التحريض المفرغ من السياسة..فالشعار الأول يحتاج إلى برنامج عملي، بينما يكتفي الثاني بالخطابات الملتهبة..ولهذا غاب البرنامج عند فصائل الحراك وحضرت الخطابات والهتافات..يضاف إلى ذلك أن الشعار الأول شعار توحيدي، بينما الثاني شعار تمزيقي..ولهذا نرى الحراك حراكات.

إن السياسة في الشعار الأول تقوم على التشخيص الموضوعي للقضية الجنوبية وعلى اقتراح الحل الواقعي الذي ينطلق من المصلحة الحقيقية للإنسان العادي في الجنوب، وهي بالضرورة تلتقي مع مصلحة الإنسان العادي في الشمال..والتشخيص الموضوعي يشير ضمنا إلى خصوم هذه القضية دون أن يختراع لها أعداء من خارج الدائرة الضيقة للخصوم الفعليين..ولهذا قلنا إنه شعار صعب..والصعوبة ليست معرفية ناجمة عن استعصاء قراءة جذور القضية ومحتواها، وإنما ذاتية كامنة في أولئك الذين تصدوا للقراءة بأوجاعهم لا بعقولهم..ومن يقرأ بأوجاعه هو عمليا لا يقرأ وإنما يمارس الانتقام، والمقام ليس مقام انتقام، وإنما مقام انتصار..والحراكيون الذين شاركوا في مؤتمر الحوار الوطني كانوا عمليا ينتصرون للقضية الجنوبية، على خلاف أولئك الذين قالوا:" هذا المؤتمر لا يعنينا".

إن مأثرة مؤتمر الحوار الوطني تكمن في أنه تجاوز خطابات الحراك الحماسية وهتافاته إلى صياغة برنامج عقلاني لبناء دولة تعيد الجنوب إلى وضعه الطبيعي في الشراكة الوطنية..وبصياغة هذا البرنامج تشكلت لحظة تاريخية على فصائل الحراك أن تلتقطها لتنتصر بغير حرب في ظل الوحدة مع الشمال أو بدونها في ظل جنوب موحد..وشعار هذه اللحظة:" تنفيذ مخرجات الحوار الوطني مقابل الوحدة "..فإذا كنتم حريصين فعلا على الوحدة نفذوا مخرجات الحوار، ما لم إتركونا ننفذها في الجنوب بدون الوحدة، وعندما تتأهلون لها سنتوحد.

إن هذا الشعار يعيد الكرة إلى مرمى المتنفذين في الشمال تحت سمع وبصر المجتمع الدولي، وينقل الجنوب من مربع الدفاع إلى مربع الهجوم، ويعيد موضعة "الوحدوي والانفصالي" في الوعي العام الذي شوهته شعارات حرب 1994..فالانفصالي هو الذي يضع العراقيل أمام تنفيذ مخرجات الحوار الوطني ويدفع الجنوب دفعا إلى فك الارتباط بالشمال – وليس باليمن - ليتمكن من تنفيذ مخرجات الحوار الوطني في الجنوب لتصبح الدولة هناك هي الدولة الأنموذج التي توافق عليها اليمنيون شمالا وجنوبا..وهذه الدولة هي التي سيجري تعميمها سلميا على الشمال في المستقبل عندما يتغلب على المتنفذين الانفصاليين ويصبح جاهزا لوحدة طوعية مع الجنوب على أساس الدولة المتوافق عليها يمنيا في مؤتمر الحوار الوطني الذي شاركت فيه كل مكونات مجتمع الشمال.

ولكن هذا التحليل لا يعفينا من التعرف على المقاومة التي واجهها الحل العادل للقضية الجنوبية داخل مؤتمر الحوار الوطني..فكل مكونات فريق القضية الجنوبية أجمعت على أنها قضية سياسية وطنية عادلة بامتياز..وكلها أقرت ببعديها الحقوقي والسياسي..والبعد الحقوقي لم يكن محل خلاف لأنه يُرى بالعين المجردة ويمكن التعبير عنه بواسطة الأرقام..أما البعد السياسي فكان محل خلاف رغم الإجماع عليه، لأن كل مكوِّن يفهمه من منظوره الخاص..ولكي لا تغرق مكونات الفريق في بحر الخلافات ساعدتها الأمانة العامة للمؤتمر بِمُيَسِّرينَ محترفين، واستقرت موضوعات الحوار على ثلاثة محاور:

1 – جذور القضية الجنوبية.

2 – محتوى القضية الجنوبية.

3 – الحلول والضمانات.

على أن ينتهي الحوار في هذه المحاور إلى توافق على شكل الدولة من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية..فالحل هنا سياسي لتعلقه بالدولة التي هي موضوع الخلاف الذي أفضى إلى حرب 1994..وهو حل وطني بمعنى أنه يجب أن يتم في إطار الوحدة..وهو عادل بمعنى أنه يجب أن يضمن عودة الجنوب إلى وضعه الطبيعي في المعادلة الوطنية كشريك في الوحدة، وأن يحقق للشعب اليمني حلمه في دولة مواطنة تنتفي في ظلها الأزمات والحروب.

إذاً الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية هو الذي سيحدد شكل الدولة..فالشكل هنا تحدده المعرفة الموضوعية بهذه القضية، وليس التوجهات الأيديولوجية والحسابات السياسية لمكونات الحوار وأطرافه..ولهذا دار الكلام عن حوار وطني، وليس عن تفاوض سياسي..فالتفاوض يقوم على سعي كل طرف لتحقيق أكبر قدر من المكاسب والخروج بأقل قدر من الخسائر، ونتيجته تتوقف على ميزان القوى بين المتفاوضين وعلى ما بأيديهم من أوراق ضاغطة..أما الحوار الوطني فأمره مختلف شكلا ومضمونا..فهو أولا حوار بين أطراف متكافئة، بصرف النظر عن أوزانها الحقيقية في الواقع الفعلي..وهو ثانيا يقوم على أكبر قدر من التشارك والتعاون والتساند بين الأطراف للوصول إلى الحقيقة والتقاطها، بصرف النظر عن الطرف الذي ظهرت الحقيقة على يديه..والحقيقة بهذا المعنى حقيقة وطنية وأساسها معرفي في المقام الأول.

ولكن هل سارت الأمور على هذا النحو داخل فريق القضية الجنوبية؟ الجواب: لا..والحوار لم يكن حوارا وإنما تفاوض غير مباشر، حيث عمل كل مكوِّن على انفراد وقدم رؤية مكتوبة في جذور القضية الجنوبية وأخرى في محتواها وثالثة في الحلول والضمانات..وقد أتاحت هذه الآلية لكل مكوِّن أن يكتب ما يريد وأن يتجاهل ما يريد وأن يفسر ما يريد كما يريد..وقد أدى هذا إلى ظهور تباينات كبيرة في تشخيص الجذور والمحتوى نتج عنها تباينات كبيرة في الحلول والضمانات المقترحة..وقد أمكن تصنيف الحلول المقترحة إلى خمس مجموعات على النحو التالي:

1 – دولة إتحادية مستقلة في الجنوب..وهذا مقترح الحراك.

2 – دولة إتحادية يكون فيها الجنوب إقليما واحدا موحدا بشكل جديد..وهذامقترح الاشتراكي، واقترب منه إلى حد ما أنصار الله.

3 – دولة بسيطة لا مركزية..وهذامقترح حزب الرشاد.

4 – دولة إتحادية متعددة الأقاليم، مع تداخل جغرافي بين الشمال والجنوب عند تقسيم الأقاليم.

5 – دولة إتحادية متعددة الأقاليم، مع إحالة موضوع التقسيم إلى خبراء ومختصين.

والمقترحان الرابع والخامس هما من الناحية العملية مقترح واحد..وأصحاب هذين المقترحين هم حزب الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام والوحدوي الشعبي الناصري وحزب العدالة والبناء.

إذا حاكمنا المقترحات الخمسة من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية سنجد أنفسنا منطقيا أمام احتمالين:

1 – إما أن تكون جميعها خاطئة.

2 – وإما أن يكون مقترح واحد فقط صائبا والأربعة الأخرى خاطئة.

أما أن تكون جميعها صائبة، أو حتى إثنان، فهذا يخالف أبسط قواعد التفكير المنطقي..ونحن نرى مقترح الاشتراكي هو المقترح الصائب، ليس على وجه الإطلاق، وإنما من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية في المدى المنظور..وملخصه مناصفة بين إقليمين أو مساواة بين عدة أقاليم، وفي الحالتين الجنوب إقليم واحد موحد بشكل جديد..أما بقية المقترحات فقد جانبها الصواب..وحتى لا نتهم بالتحيز سنعرضها على السئوال التالي: ما هي المشكلة التي تصدت لها هذه المقترحات وأرادت أن تحلها؟..إذا عدتم إلى هذه المقترحات ستلاحظون ما يلي:

1 – مقترح الحراك جاء خارج إطار الوحدة..يعني يبحث عن فك ارتباط..وهذا تطرف في مواجهة تطرف آخر مضاد يتذرع بالخوف على الوحدة لفرض حلول سياسية بواسطة "الحوار" يعلم أن شروط قبولها غير متوفرة من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية..كما أن الخوف على الوحدة ينطوي على اتهام مبطن بأن الجنوب بيئة خطرة عليها..وهذا غير مقبول أخلاقيا من أي طرف شارك في حرب 1994 أو أيدها، وليس له أي مبرر سوى اختلاق العقبات أمام الحل العادل.

2 – مقترح حزب الرشاد انشغل بالوحدة وليس بدولة الوحدة..ولهذا ابتعد عن ملامسة جوهر القضية الجنوبية.

3 – مقترح بقية الأحزاب انشغل بمحاصرة جغرافيا الجنوب بجغرافيا لشمال..والمحرك هنا ليس دولة الوحدة وإنما الوحدة، وكأن الجنوب يشكل خطرا عليها ويجب محاصرته..وإذا علمنا أن الجغرافيا السياسية للجنوب كانت هي الملاذ الأخير الذي لجأ إليه الجنوبيون في المواجهة مع المنتصر في حرب 1994 سنعلم أن الجنوبيين، على المدى المنظور، لا يمكن أن يفرطوا بهذه الجغرافيا ما لم يأتِ الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية الذي ينهي واقع الضم والإلحاق ويعيد الجنوب إلى وضعه الطبيعي في المعادلة الوطنية ويضمن له شروط بقاء آمن ومستقر في دولة الوحدة.

وإذا بحثنا في الأسباب التي جعلت المقترحات المذكورة تجانب الصواب سنجدها كما يلي:

1 – أسباب معرفية.

2 – أسباب سياسية.

3 – أسباب أيديولوجية.

4 – أسباب إجرائية متعلقة بآلية التفاوض غير المباشر التي حلت محل آلية الحوار التعاوني التشاركي.

وقد تظافرت كل هذه الأسباب على إنتاج التباينات التي رأيناها في مقترحات مكونات فريق القضية الجنوبية..ولهذا حكم على هذا الفريق أن يتعثر..وجميعنا يعلم أن المبعوث الأممي هو الذي صاغ الحل فيما عرف ب"وثيقة بن عمر"، وأحيل تقسيم الأقاليم إلى لجنة شكلها رئيس المؤتمر..وهذه اللجنة قسمت الجنوب إلى إقليمين أحدهما يشغل ثلثي مساحة اليمن تقريبا، وهو الأقل سكانا بين الأقاليم الستة.

جذور القضية الجنوبية:

لم تهتم مكونات فريق القضية الجنوبية بتوحيد المفاهيم والمصطلحات والتعريفات التي اشتغلت عليها..ولم تحاول الإجابة على سئوال: ما هو جذر القضية؟ وما هي شروطه الجوهرية التي بدونها لا يكون الجذر جذرا؟..ولهذا تعددت الجذور إلى درجة يحتار معها المرء: هل يضحك أم يغضب؟..ومن بين هذه الجذور اقتطاع بريطانيا للجنوب، وحرب جبهتي التحرير والقومية قبيل استقلال الجنوب، وقانون التأميم، وغياب المرجعية الإسلامية في تشريعات دولة الجنوب...الخ

وباستثناء الحزب الاشتراكي اليمني، وإلى حد ما أنصار الله، ذهبت المكونات الحزبية في فريق القضية الجنوبية تفتش عن معظم جذور هذه القضية في الجنوب..وهذا لا يتسق مع الإقرار بطابعها الوطني الذي أجمعت عليه كل مكونات الفريق..ذلك أن البحث عن جذور هذه القضية في الجنوب دون الشمال ينزع عنها مقدما صفة الوطنية ويحولها إلى قضية جنوبية خالصة..وإذا صح أنها جنوبية خالصة فإن الحوار بشأنها لا يستقيم إلا إذا كان حوارا جنوبيا جنوبيا لا دخل للشمال فيه سوى احترام النتائج التي سيتمخض عنها، أي كانت.

واتساقا مع الطابع الوطني للقضية الجنوبية نراها ذات جذرين أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب..وجذرها الشمالي هو المسئول عنها على صعيد السببية..أما الجذر الجنوبي فلم يفعل سوى تقديم المناسبة..وحرب 1994 هي من التجليات العنيفة لجذر القضية الجنوبية في بعده الشمالي.

الجذر الشمالي للقضية الجنوبية:

انبثقت دولة الجمهورية العربية اليمنية في مناخ صراعي أفضى في الأخير إلى نظام سياسي عصبوي غير مؤهل لوحدة مع الجنوب قائمة على الندية والشراكة الوطنية..والحقيقة أن نظام الجمهورية العربية اليمنية بمركزه العصبوي وتحالفاته لم يكن قائما على الشراكة بين مكونات مجتمع الشمال أصلا، وإنما على هيمنة المركز العصبوي..ومن البديهي أنه سيقاوم الندية والشراكة مع الجنوب ما لم تكن "شراكة" إنتقائية تخدم حاجات المركز العصبوي وتمكنه من توسيع مصالحه في الجنوب دون أن تهددها في الشمال..وتأسيسا على ذلك يمكن صياغة الجذر الشمالي للقضية الجنوبية على النحو التالي:" عدم أهلية النظام السياسي في الشمال لوحدة مع الجنوب قائمة على الشراكة الوطنية"..ومن أجل اسئصال هذا الجذر يجب إعادة تأهيل هذا النظام كي يقبل بالشراكة التي يرفضها..ومن هنا جاء الحل الفيدرالي، أي تغيير شكل الدولة.

الجذر الجنوبي للقضية الجنوبية:

إنبثقت دولة الجنوب هي الأخرى في مناخ صراعي أفضى في النهاية إلى نظام سياسي غير مؤهل لذهاب آمن ومدروس إلى الوحدة مع الشمال..ومن أجل اسئصال هذا الجذر يجب توفير ضمانات بقاء آمن ومدروس للجنوب في ظل الوحدة..وهذه الضمانات لا تقتصر على مضمون الدولة وإنما تطال شكلها أيضا.

محتوى القضية الجنوبية:

للقضية الجنوبية محتوى حقوقي ومحتوى سياسي..الأول لا خلاف حوله..والثاني محل خلاف..وعموما يتمثل المحتوى السياسي للقضية الجنوبية في إخراج الجنوب من المعادلة الوطنية بواسطة حرب 1994، وتحويله من شريك في الوحدة بإرادته إلى ملحق بنظام الشمال بغير إرادته.

تعريف القضية الجنوبية:

بعد هذا العرض للقضية الجنوبية يمكننا أن نعرفها بأنها تعبير ملتبس عن أزمة المشروع الوطني اليمني ممثلا بدولة الوحدة التي انتظرها اليمنيون طويلا وعلقوا عليها كثيرا من الآمال..أما كونها تعبير ملتبس فلأن طابعها الوطني العام توارى خلف التسمية واحتاج إلى جهد ذهني كبير للكشف عنه وإبرازه..ولأن لهذه القضية خطوط تماس مع شبكة واسعة من المصالح المشروعة وغير المشروعة، في الشمال وفي الجنوب، ولأن كل طرف في هذه الشبكة ينظر إليها ويعرِّفها من الزاوية التي تهمه وتروق له، فقد تعذر على مكونات فريقها في مؤتمر الحوار الوطني أن تجمع ضمنيا على تعريف محدد لها..يضاف إلى ذلك أن آلية التفاوض غير المباشر التي حكمت عمل هذا الفريق أعفت مكوناته من البحث عن تعريف موضوعي لهذه القضية.

منطلقات عامة للتفكير في الحل السياسي العادل للقضية الجنوبية:

تقتضي المعالجة الموضوعية للقضية الجنوبية التعامل معها بقدر كاف من العقلانية السياسية بعيدا عن الأهواء والرغبات والتحيزات.وفيما يلي مجموعة من المنطلقات العامة التي نعتقد أنه بدونها يتعذر التعاطي الموضوعي مع هذه القضية.

1 - إن الخلاف القائم منذ أغسطس 1993 هو خلاف حول دولة الوحدة وليس حول الوحدة.

2 - إن الوحدة أستخدمت ذريعة لإشعال حرب 1994.

3 - إن حرب 1994 كانت هروبا من استحقاقات بناء دولة الوحدة.

4 - إن حرب 1994 عمقت أزمة دولة الوحدة وجعلتها أكثر تعقيدا.

5 - إن القضية الجنوبية من تجليات أزمة الدولة وليس من تجليات أزمة الوحدة.

6 - إن الدفاع عن الوحدة في مواجهة القضية الجنوبية هو عمليا دفاع عن حرب 1994 ونتائجها.

7 - إن شعار فك الارتباط ليس شعارا مناوئا للوحدة، وإنما لدولة الوحدة بوضعها الراهن الذي يحمل سمات وخصائص دولة الشمال ونظامها السياسي.

8 - إن الحراك الجنوبي السلمي هو من الناحية الموضوعية حراك وطني يعبر عن قضية سياسية وطنية بغض النظر عن الطريقة التي يقدم بها نفسه داخل فوضى المشهد السياسي اليمني المليئ بالتعقيدات والمناورات.

9 - إن دولة الوحدة بوضعها الراهن منذ 7 يوليو 1994 مشكلة، واستعادة دولة الجنوب ليس حلا.والحل يكمن بتوافق اليمنيين على دولة بمضمون وشكل جديدين.

10 - إن شكل الدولة يجب تحديده في ضوء التشخيص الدقيق والموضوعي لجذور القضية الجنوبية في الشمال وفي الجنوب،وفي ضوء التحديد الدقيق لمحتواها السياسي.

11 - إن الحل الوطني العادل للقضية الجنوبية فرصة تاريخية أمام أبناء الشمال قبل أبناء الجنوب،وإلا فلا مصداقية لأحاديثهم حول الدولة المدنية الديمقراطية، وأيضا لا معنى لتعلقهم بالوحدة إلا من قبيل التعلق العاطفي الغنائي غير العقلاني الذي لا يرفع الظلم عن الجنوب ولا يجلب العدل للشمال.

12 - إن الفرصة التاريخية المتاحة أمام اليمنيين من خلال الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية مرشحة للضياع إن هم إنشغلوا بأزمة الوحدة عن أزمة الدولة.

13 - إن الانشغال بالوحدة لا يستقيم إلا على أساس جهوي طرفاه الشمال والجنوب. أما الانشغال بالدولة فهو انشغال وطني بين اليمنيين مصنفين على أساس سياسي لا على أساس جهوي.

14 - إن الحراك الجنوبي السلمي لا يمثل الجنوب إلا من حيث أن الجنوب ضحية مباشرة لحرب 1994 في جوانبها الحقوقية.أما من الناحية السياسية فالحراك هو حامل اجتماعي للقضية الجنوبية كقضية وطنية يتعذر في الظروف الراهنه حلها حلا عادلا لصالح الشعب اليمني في الشمال والجنوب دون حضوره الفاعل والمؤثر. وأي حل للقضية الجنوبية – مهما بدا عادلا – لن يتمتع بالمشروعية الكافية إن هو قام على تقريب فصائل في الحراك الجنوبي السلمي واستبعاد فصائل أخرى.

15 - بغير يمن موحد سيظل الشمال مشكلة في الجنوب والجنوب مشكلة في الشمال على نحو أكثر خطورة مما كان عليه الحال قبل 22 مايو 1990.وليس أمام اليمنيين إلا التوافق على دولة لكل مواطنيها إنطلاقا من مصلحة الإنسان العادي في الجنوب والشمال بعيدا عن أهواء وتحيزات النخب.

16 - إن الواقعية السياسية تقتضي أن لا تقابل المطالبة بالاستفتاء على فك الارتباط بالرفض المطلق، وإنما بالقبول المشروط. وشرط الاستفتاء أن يتم في ظروف طبيعية غير صراعية وغير انفعالية وعلى قاعدة نقاش عقلاني شفاف يستطيع معه المواطن العادي في الجنوب أن يفاضل بين البقاء في الوحدة أو فك الارتباط إنطلاقا من إدراكه الحقيقي لمصلحته ومصلحة أبنائه بعيدا عن الأوهام والأهواء والتحيزات التي لا تقيم دولا ولا تبني أوطانا.وعلى الذين يريدون أن يكون الاستفتاء لصالح البقاء في الوحدة أن يسارعوا إلى خلق شروطه الطبيعية وأن لا يركنوا على استحالة حدوثه في غيابها،فاليمن ليس جغرافيا معلقة في فضاء خاص به، وإنما في فضاء إقليمي ودولي يؤثر عليها ويتأثر بها، وقد يذهب إلى تحبيذ وتشجيع حلول لا يحبذها معظم اليمنيين.

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

الجمعة, 08 نيسان/أبريل 2016 18:08

ليس دفاعا عن بحاح

ليس شرطا أن تفتح بيتا لبيع الهوى كي تمارس الدعارة المكشوفة.يمكنك أن تموِّل صحيفة أو إذاعة أو قناة فضائية أو موقعا الكترونيا لممارسة نوع آخر من الدعارة المقنعة بالعفة.ويمكنك في هذه الحالة أن تستأجر عشرات السفهاء الذين وضعتهم أقدارهم السيئة رهن الحاجة إليك ليأكلوا الثوم بفمك وينهشوا في عرض كل من يختلف معك، بينما تقف أنت في الظل لا تكلم الناس إلا من وراء حجاب متقمصا دور العازف عن متع الدنيا وغرورها.وفيما يلي نموذجا صارخا لهذا النوع من الدعارة:

هنا عدن - خاص

فضيحة بحاح رقم 2 وكواليس بيان التمرد:

كشف الصحفي اليمني انيس منصور الصبيحي في تغريدات على صفحتيه بالفيس بوك وتويتر عن معلومات خطيرة لبيان التمرد الاخير لرئيس الوزراء السابق خالد محفوظ بحاح حيث قدم البيان من امين عام الاشتراكي المتحوث عبدالرحمن السقاف بالاتفاق مع قيادات الانقلاب وارسل الى الوزير السابق محمد المخلافي الذي بدوره ارسله الى خالد بحاح.

نص منشور الصحفي انيس منصور :

"محمد العوادي مدير مكتب خالد بحاح عقد اجتماع مطول في أبوظبي مع احمد علي عبدالله صالح ، بالنسبة للبيان الذي نشره بحاح في صفحته كتبه عبدالرحمن السقاف امين عام الاشتراكي الحوثي و تم ارساله لمحمد المخلافي وزير الشئون القانونية السابق والصديق الروحي لبحاح على أساس انه قانوني وبدوره بحاح عمل قَص لصق فقط رغم قناعته بان القرارات صحيحة قانونيا وسياسيا وان بحاح اصابه الكبر فقط.

باي باي بحاح احتفظ بماء الوجه ولا تسمع الا بما يملي به ضميرك"

وفي تغريده ثانية:

" اقرأ رد فعل الناس يا معتوه. .انت لم تقدم شيء سوى شق الصف والرحلات والتمشيات الخارجية. الشرعية للدنبوع..أما أنت فلا شرعية لك إلا بمقدار صمتك عن تعز وتغاضيك عن الحوثة..الدنبوع منتخب وانت معين من قبل المنتخب. افهمها جيداً.. لا شرعية لك .. ارحل" ..

تعالوا الآن نبحث عن من يقف وراء هذه الدعارة.سنحتاج إلى أربع خطوات فقط كي نزيح الستار ونكشف عن المخبأ:

الخطوة الأولى:

صدور القرار الجمهوري رقم 49 لسنة 2016م الخاص بتعيين احمد عبيد بن دغر رئيساً لمجلس الوزراء.وقد تصدرت القرار ديباجة حولته من قرار إلى عريضة اتهام وبيان انقلاب.وفيما يلي نص القرار.

"رئيس الجمهورية بعد الاطلاع على دستور الجمهورية اليمنية وعلى مبادرة مجلس التعاون الخليجي وآلياتها التنفيذية الموقعتين بتاريخ 23 نوفمبر 2011م ، ونتيجة للاخفاق الذي رافق اداء الحكومة خلال الفترة الماضية في المجالات الاقتصادية والخدمية والامنية وتعثر الاداء الحكومي في تخفيف معاناة ابناء شعبنا وحلحلة مشكلاته وتوفير احتياجاته وخصوصاً دمج المقاومة وعلاج الجرحى ورعاية الشهداء ولعدم توفر الادارة الحكومية الرشيدة للدعم اللامحدود الذي قدمه الاشقاء في التحالف العربي وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية بقيادة اخي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولتحقيق مايصبوا اليه شعبنا من استعادة الدولة واستتباب الامن والاستقرار وللمصلحة الوطنية العليا للبلاد.

قرر:

مادة (1) يعين الاخ الدكتور احمد عبيد بن دغر رئيساً لمجلس الوزراء

مادة (2) يستمر اعضاء الحكومة في اداء مهامهم وفقاً لقرار تعيينهم

مادة (3) يعمل بهذا القرار من تاريخ صدورة وينشر في الجريدة الرسمية"

الخطوة الثانية:

وبسبب الولادة غير الطبيعية للقرار احتاج إلى قربة كبيرة من الدم كما هو واضح في الخبر التالي:

الأحزاب السياسية : قرارات رئيس الجمهورية تعزز الوحدة الوطنية وتقوي فرص السلام المنشود

باركت الأحزاب و التنظيمات والقوى السياسية اليمنية في اجتماعها الاستثنائي اليوم القرارين الصادرين من فخامة رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي مساء امس بتعيين الفريق الركن علي محسن الأحمر نائباً لرئيس الجمهورية و الدكتور احمد عبيد بن دغر رئيساً لمجلس الوزراء.وأعربت في بيان تلقته وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) عن ارتياحها الكبير للقرارين لانطلاقهما من المصلحة العليا لأبناء الشعب.وجاء في البيان: " بناً على ما ورد من حيثيات في القرارات،فإن الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية تعلن تأييدها المطلق للقرارين باعتبارهما يعززان الوحدة الوطنية و التوافق السياسي بما يقوي من فرص السلام المنشود و إنجاح مشاورات الكويت المقرر اجراءها في 18 ابريل الجاري بموجب الأسس والمرجعيات المتفق عليها لتنفيذ القرار 2216 والقرارات ذات الصلة واستكمال المرحلة الانتقالية بموجب المبادرة الخليجية و اليتها التنفيذية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني ".وأكدت الأحزاب و التنظيمات و القوى السياسية أن مواقفها تنطلق من المصلحة العليا للشعب اليمني و رفض الانقلاب والعمل على استعادة الدولة و ترسيخ الامن والاستقرار و انهاء الحرب و بناء السلام و تعزيز الوحدة الوطنية و إعادة الاعمار و تحريك عجلة التنمية وصولاً الى بناء الدولة الاتحادية المدنية الديمقراطية الحديثة المستندة الى قيم الجمهورية و مبادئ واهداف الثورة اليمنية.وجددت تقديرها وشكرها العميق لدول التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية الشقيقة و على رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز و الامارات العربية المتحدة على موقفهم الداعم والمستمر في مساندة الشعب اليمني و قيادته السياسية و حكومته الوطنية من اجل انهاء الانقلاب و استعادة الدولة و إعادة الاعمار .وصدر البيان مذيلا بتوقيع كل من المؤتمر الشعبي العام، الحزب الاشتراكي اليمني،التجمع اليمني للاصلاح،الحراك الجنوبي،التنظيم الوحدوي الناصري،الرشاد اليمني، حزب العدالة والبناء، التضامن الوطني، حركة النهضة للتغيير السلمي، حزب السلم والتنمية .

الخطوة الثالثة:

لم تكن الولادة غير الطبيعية لقرار هادي سوى انقلاب على التوافق الوطني الذي يرمز إليه هادي نفسه.وهذا ما فصله خالد بحاح في بيان إلى الناس هذا نصه:

" إن الظروف الصعبة والمعقدة التي تمر بها اليمن وكافة أبناء شعبنا، والتحديات الجسيمة الماثلة أمامنا، تتطلب من السلطة الشرعية العمل بكل مسؤولية وحرص لحماية الشرعية الدستورية والقانونية وترسيخها أثناء ممارستها لمهامها وعند اتخاذ كل قراراتها على مستوى الهيئات والأجهزة في كل المؤسسات المدنية والعسكرية في البلاد، فالعمل خارج الدستور والقانون والاستهتار بهما يفقد السلطة الحق والمصداقية في الدفاع عن الشرعية ويسهم في تعميم الفوضى وإضعاف كل أجهزة الدولة على السواء.

لقد تحملنا المسؤولية خلال الفترة القصيرة الماضية، وصبرنا على كل التجاوزات لصلاحيات ومهام الحكومة، وكذا العقبات التي توضع في طريقها، على أمل الحفاظ على الوحدة الداخلية وتحقيق الحد المعقول والمقبول من الانسجام بين الرئاسة والحكومة، والتغلب على كل الممارسات التي كانت تدفع بالحكومة إلى طريق مسدود لدفعها صوب الاستقالة، وما التعيينات التي كنا نسمع بها عبر وسائل الاعلام إلا أحد المؤشرات على السعي لإضعاف الحكومة وتعطيل قدرتها على العمل في ظل وجود حكومة موازية مع الرئاسة تعمل بصورة مستقلة عن الحكومة الشرعية.

ونظرا للمخاطر المحدقة بالبلاد وحرصنا وإحترامنا لتطلعات شعبنا في الحياة الحرة الكريمة، وسعينا الحثيث من أجل الانتصار للسلطة الشرعية رئاسة وحكومة بكل أركانها وبسط سيطرتها ونفوذها على كافة أنحاء البلاد، في ظل استمرار توجه خطير ومدمر يتجاهل الدستور والقوانين ويتمادى في خرقها من أجل الانتصار لسلطة فردية في وقت ترزح فيه البلاد تحت الحرب ولاتتحمل التسابق على شراء الذمم أو تقاسم الغنائم وتتجاهل المهام الجسيمة الماثلة أمام الدولة.

أمام هذا الواقع المؤلم كان من الأمانة والضرورة الوطنية والاخلاقية إيضاح موقفنا بالنسبة للقرارات التي أصدرها رئيس الجمهورية مساء يوم الأحد الثالث من أبريل 2016م، وأهمية مكاشفة شعبنا بحقائق ما واجهته الحكومة خلال عام من استجابتها للأخذ بزمام الأمور في هذا الظرف العصيب، ذلك أن السلطة لم تكن مغنما حتى نتأثر بتركها؛ فقد قبلنا الاستمرار والعودة إلى مهامنا خلال الفترة الماضية على الرغم من غياب كل مؤسسات الدولة و بذلنا قصار الجهد لردم الفجوة القائمة وتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات والوقوف أمام موجة فساد متنقلة من مكان الى آخر لا تشعر بحجم المأساة التي يعاني منها شعبنا فتجدها تمارس النهب والاسترزاق والتخصص في شراء الذمم والأتباع.

حاولنا التصدي لكل هذا العبث الممنهج، وعملنا على معالجة هذه الاختلالات بعيدا عن الصخب الإعلامي مستشعرين حجم الأمانة والمعاناة التي يعيشها شعبنا في كل أرجاء الوطن مع تأكيدنا أن وجودنا في السلطة لم يكن هدفا أو غاية ذاتية، وإنطلاقا من مسؤليتنا التاريخية في هذه الحقبة الزمنية، فإننا نبرأ إلى شعبنا بتوضيح الآتي:

أولا: وفق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ووثيقة ضمانات تنفيذ مخرجات الحوار، فإن المرحلة الانتقالية وعملية الانتقال السياسي مبنيتان على الشراكة والتوافق، وبموجبه فإن المفترض أن يكون هناك توافق على رئيس الحكومة كما هو الحال عند تعيين خالد بحاح الذي تم التوافق عليه، وفُوِّض بتشكيل حكومة كفاءات من داخل الأحزاب أو من خارجها، أو العودة إلى المبادرة الخليجية وآليتها التتفيذية وتشكيل الحكومة وفقا لها.

ثانيا: الدستور ليس معلقا، وماتزال أحكامه نافذة ماعدا التى أصبح لنصوص المبادرة والآلية أولوية التطبيق عليها عند التعارض، وهذا يعني أن الحكومة لابد أن تحصل على ثقة مجلس النواب، وهو ما سيتعذّر في ظل هذه الأوضاع الطارئة.

ثالثا: قبول القوى السياسية بهذا التعيين سيضعها في موقف متناقض مع تمسكها بالمرجعيات على الأقل المبادرة الخليجية وآليتها ووثيقة الضمانات ومرجعية الدستور، ما يعني القبول بتعيينات لم يتم التوافق عليها، وحكومة لم تنل ثقة مجلس النواب، وليست بتوافق المجلس، ومخالفة هذه القرارات لكل المرجعيات.

رابعا: قرارمجلس الأمن 2216 يتحدث عن الالتزام بمرجعية المبادرة والآلية والمخرجات وعن عودة الحكومة الشرعية، أي الحكومة التي شُكلت ومُنحت الثقة، وفق تلك المرجعيات التى يجب أن تعود لممارسة مهامها الدستورية والقانونية، ما يعني مخالفة صريحة لقرار مجلس الأمن.

خامسا: الدول الراعية لعملية الانتقال السياسي تدعو دائماً إلى الالتزام بالمرجعيات السابقة ودول التحالف الداعم للشرعية تدخلت مشكورة بقواتها بعد انقلاب الحوثي ومليشياته على تلك المرجعيات التى نظمت عملية الانتقال السياسي.

سادسا: القوى السياسية الداعمة للشرعية أعلنت عدم القبول بالانقلاب على المشروعية القائمة على تلك المرجعيات ودعت لإسقاطه وعودة العملية السياسية وفقا لمضامينها؛ فكيف ستبرر قبولها بانقلاب الرئيس هادي عليها بهذه التعيينات، وبحكومة لم تأت وفق الأحكام الواردة والمقررة فيها؟

سابعا: الأهم من ذلك كله أن هذه القرارات سوف توفر مبرراً للانقلابيين، للتشكيك بشرعية الحكومة والمطالبة بالمساواة معها، كطرف ندي لها في كل الإجراءات والتدابير التي ستتخذ سواء لتنفيذ قرارات مجلس الأمن أم بقية الاستحقاقات اللاحقة.

إن القبول بهذه القرارات يعتبر تخلياً صريحاً عن كل المرجعيات الحاكمة للفترة الانتقالية، وأحكام الدستور، ومخالفة لأحكام الدستور التي لاتقبل الاجتهاد أو التأويل إذ لايوجد أي نص دستوري يقضي بتعيين رئيسا للحكومة مع بقاء الحكومة وأعضائها لممارسة مهامهم؛ وهي تمثل خروجا عن الدستور بصرف النظر عن الأشخاص المعينين، وكذلك من سيعينون في الحكومة في حال الإصرار على المُضي في تنفيذ هذه القرارات المخالفة لأحكام الدستور وكل المرجعيات التي تقوم عليها شرعية المرحلة الانتقالية، ذلك أن الشرعية لاتعني شرعية الأفراد بل شرعية سلطة الدولة وقراراتها وفقاً للدستور والقانون.

والله من وراء القصد."

الخطوة الرابعة:

تبين أن قربة الدم التي احتواها بيان الأحزاب في الخطوة الثانية فاسدة، وأن أصحاب القربة حاولوا التغطية على فسادها بدم نظيف لكنه مسروق ومغتصب بحسب الخبر التالي المنشور في موقع الاشتراكي نت:

" نفى الحزب الاشتراكي اليمني صلته بالبيان الصادر يوم امس الاثنين باسم الاحزاب والتنظيمات السياسية بشان تأييد القرارات التي اصدرها الرئيس هادي الاحد الماضي.وقال مصدر مسؤول في الامانة للحزب الاشتراكي اليمني إن الحزب ليس له علاقه بالبيان الصادر ولم يعرف عنه شيئا الا من خلال وسائل الاعلام، مستنكرا في الوقت ذاته الزج باسم الحزب في مواقف دون الرجوع لقيادته.وأضاف المصدر إن الحزب الاشتراكي لم يكن شريكا في اتخاذ القرارات المعلن عنها ولم يتم التشاور معه بشأنها، مؤكدا وجوب ان تكون اي قرارات من هذا النوع في اطار التوافق السياسي والمرجعيات الحاكمة للمرحلة الراهنة".

والآن بمقدور القارئ اللبيب أن يلاحظ أننا احترمنا عقله وسردنا له الوقائع على النحو الذي يمكنه من ربطها ببعضها ربطا منطقيا ليستنتج من تلقاء نفسه من يقف وراء ما نشره أنيس منصور الصبيحي،وهل ما نشره ينتمي إلى مهنة الإعلام ورسالة الصحافة أم إلى الدعارة السياسية؟.ولكن هذا لا يعفينا من الاسترسال في الشرح والتوضيح وسرد الملاحظات.

أول ملاحظة:إن بيان بحاح لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى استبعاده من موقعه كنائب للرئيس وإحلال علي محسن الأحمر محله.وهنا تصرف الرجل كتنقراط وليس كسياسي يبحث عن أدوار في مستنقع الصراع الرخيص على السلطة.

والملاحظة الثانية:إن بيان بحاح لم يأتِ ضد شخص أحمد عبيد بن دغر وإنما ضد الديباجة التي حولته من قرار جمهوري إلى بيان انقلاب ضد رئيس حكومة الكفاءات المتوافق عليه، وكأن المطلوب ليس فقط إبعاد الرجل من رئاسة الحكومة وإنما من العمل الرسمي بالكامل ومن الحياة السياسية برمتها.وهذه دعارة سياسية لا يمكن أن يرتضيها إنسان يتمتع بالحد الأدنى من احترام الذات.

الملاحظة الثالثة:إن بيان بحاح كان على قدر كبير من قوة الإقناع في شكله ولغته ومضمونه وفي بنائه القانوني ومرجعياته.وهذا لا يجب أن يكون مستغربا من رجل مشهود له بالكفاءة العالية.

الملاحظة الرابعة:إن قوة بيان بحاح حجة دامغة كشفت عن تهافت القرار الجمهوري الانقلابي وبيان الأحزاب المؤيد للانقلاب.وللإنتقاص من هذه الحجة ذهب الانقلابيون يلفقون البيان على أمين عام الحزب الاشتراكي الدكتور عبد الرحمن السقاف ونائبه الدكتور محمد المخلافي، فالأول مثقف كبير والثاني قانوني فذ ،والتلفيق لا ينطلي إلا على شخصين كلاهما من العيار الثقيل،وهذه شهادة لبحاح وليست عليه.

الملاحظة الخامسة: إن نفي الأمانة العامة للحزب الاشتراكي صلة حزبها ببيان الأحزاب كشف عن الطريقة التي يدير بها هادي والشخصيات الإشكالية المحيطة به الأزمة الراهنة في البلاد.والأخطر من هذا أن النفي طابق روح بيان بحاح.وسر التطابق هو أن النفي والبيان كليهما نظر إلى هادي كرئيس توافقي مقيد بمرجعيات وعليه أن يتصرف على هذا الأساس، لا كشخصية إشكالية.

الملاحظة السادسة: إن القرار الجمهوري الانقلابي سبقته حملة تشويه واسعة على صفحات التواصل الاجتماعي استهدفت هادي شخصيا، ما يعني أن الرجل واقع تحت ضغوط مراكز قوى هي التي حملته على تعيين علي محسن نائبا للرئيس والانقلاب على رئيس الحكومة المتوافق عليه.ومن غير المستبعد أن تكون هذه خطوة في طريق الانقلاب على هادي نفسه تمهيدا لعودة النظام القديم بدون عفاش.

الملاحظة السابعة: إن بحاح هو الأكثر حرصا على إنهاء الحرب والعودة إلى العملية السياسية السلمية، والانقلاب عليه يضع علامات استفهام كثيرة أمام المصير الذي ينتظر لقاء الكويت بالنظر إلى تصريحات ياسين مكاوي المتكررة في محاولة منه لإقناع الرأي العام بأن تعيين علي محسن وبن دغر سيقوى الموقف التفاوضي لفريق الشرعية في الكويت.

الملاحظة التاسعة: لا مجال للمقارنة بين بحاح وبن دغر.فالأول كفاءة عالية لا يمكن أن تعرف البوار، لا داخل البلاد ولا خارجها. والثاني من السياسيين الرُّحل بحثا عن الماء والعشب.الأول كان مع ثورة 11 فبراير 2011 ، والثاني مستشار عفاش في قذف حرائر ثورة التغيير اللائي كن يودعن شهداء الثورة بالزغاريد التي تنطلق من ساحة الجامعة إلى عنان السماء.

الملاحظة العاشرة إن الثوم الذي أكله أنيس منصور بالنيابة لم يستزرع في حقول الفلاحين وإنما من النوع الذي ينبت في أكثر مجاري الصرف السياسي خسة وقذارة.وهذه المجاري هي وراء حكاية " هذا حوثي وذاك متحوث".

أخيرا : نتقدم برجاء خاص إلى المهندس خالد محفوظ بحاح: إكشف لنا عن ألغاز الحرب في تعز لعل وعسى أن يفهم الذي تعذر عليهم الفهم.

قناة الاشتراكي نت على التليجرام _ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

         قامت ثورة فبراير 2011 في بعدها الشعبي الجماهيري لإسقاط  معادلة الحكم القارة في نظام الجمهورية العربية اليمنية باعتبارها المعادلة المنتجة لكل أزمات البلاد وعلى رأسها أزمة الدولة المهددة للوحدة.وقد نجم عن الثورة مشهد ثلاثي الأضلاع على النحو التالي:

1 – ضلع الثورة نفسها بما مثلته من تطلع شعبي وجماهيري نحو التغيير.

2 – ضلع الوفاق الوطني الذي نقل السلطة إلى رئيس توافقي وحكومة وفاق وطني.

3 – ضلع الحوار الوطني الشامل.

         وإذا كان ضلع الحوار قد جسد نجاح الثورة على المستوى النظري فإن ضلع الوفاق قد مثل فشلها على المستوى العملي.وهذا عائد إلى أن الحوار قام على توسيع قاعدة المشاركة، بينما اقتصر الوفاق على قوى سياسية، ومركز الثقل فيه ذهب لصالح الأطراف التي شكلت تحالف حرب 1994 قبل انقسامها الصراعي الراهن.وحتى لا يكون حكمنا على فشل الوفاق جزافيا يلزمنا أن نعرج على تفاصيل الفترة الانتقالية.

معنى الفترة الإنتقالية:

         تعني الفترة الإنتقالية الانتقال من نظام سياسي تقادم وتآكلت شرعيته وأصبح مرفوضا إلى نظام جديد يفترض أن يحظى بالشرعية والمشروعية.ورفض النظام القديم  لا يكون عادة محل إجماع مجتمعي، ويكفي أن تكون هناك أكثرية شعبية كافية قادرة على ممارسة الرفض المنظم ومصرة على إحداث التغيير.وهذا ما ظهر واضحا في ثورة فبراير 2011 حيث الأغلبية الشعبية كانت مع التغيير ومستعدة من أجله أن تذهب إلى أبعد مستويات التضحية.

طبيعة المرحلة الانتقالية:

         تصنف المراحل الانتقالية من حيث سهولتها وصعوبتها إلى نوعين:

1 – مراحل انتقالية سهلة وسلسة يقتصر برنامجها على مهمتين إثنتين فقط هما التوافق على دستور جديد والاستفتاء عليه، ثم الذهاب إلى انتخابات وفقا للدستور الجديد. وهذه حالات نادرة لا تقع إلا حيث تكون هناك دولة مؤسساتها مؤهلة للوقوف على مسافة واحدة من أطراف السباق الانتخابي المرتقب.

2 – مراحل إنتقالية صعبة وصراعية لابد أن يتضمن برنامجها – إلى جانب التوافق على دستور جديد - مهاما أخرى يتعذر بغير إنجازها الذهاب إلى انتخابات نزيهة ضامنة للتغيير والتجديد حتى وإن كان الدستور المتوافق عليه ديمقراطيا 100%. وتختلف مهام هذا النوع من المراحل الانتقالية من بلد إلى آخر بحسب الحالة التي عليها مؤسسات الدولة، وبخاصة مؤسسات الجيش والأمن.

         والمرحلة الانتقالية التي شهدتها اليمن عقب ثورة فبراير 2011 تصنف ضمن المراحل الصعبة والصراعية التي لا يكفي معها التوافق على دستور جديد والذهاب إلى انتخابات، لأن حالة الدولة لا تسمح بممارسة ديمقراطية نزيهة ضامنة للتغيير والتجديد، وما دام الأمر كذلك فلابد من تضمينها مهاما أخرى تؤهل الدولة للحد الأدنى من الممارسة الديمقراطية الضامنة لإحداث التغيير.

مهام المرحلة الانتقالية:

          تحددت مهام المرحلة الانتقالية بعد ثورة فبراير 2011 بثماني قضايا توافقية تضمنتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية حين ألزمت الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق الوطني بالدعوة إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل خلال المرحلة الإنتقالية يبحث فيما يلي:

 1 - صياغة دستور جديد للبلاد.

2 - معالجة هيكل الدولة والنظام السياسي واقتراح التعديلات الدستورية إلى الشعب اليمني للاستفتاء عليها.

3 - حل القضية الجنوبية حلا عادلا يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه.

4 - النظر في القضايا المختلفة ذات البعد الوطني ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة.

5 - إتخاذ خطوات للمضي قدما نحو بناء نظام ديمقراطي كامل بما في ذلك اصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية.

6 - اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث إنتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلا.

7 - إتخاذ الوسائل القانونية وغيرها من الوسائل التي من شأنها تعزيز حماية الفئات الضعيفة وحقوقها، بما في ذلك الأطفال، والنهوض بالمرأة.

8 - الإسهام في تحديد أولويات برامج التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة لتوفير فرص عمل وخدمات اقتصادية واجتماعية وثقافية أفضل للجميع.

أطراف التسوية السياسية:

         قامت التسوية على التوافق المفترض بين اصطفافين كبيرين هما:

1 - الاصطفاف الذي أيد الثورة وآزرها:وقد تشكل من الأطراف التي تحالفت في إطار اللقاء المشترك ثم في إطار المجلس الوطني لقوى الثورة.وعلى هذا الاصطفاف علق ثوار فبراير الأمل في نجاح المرحلة الانتقالية.

2 - الاصطفاف الذي قامت الثورة للإطاحة به:وقد تشكل من تحالف المؤتمر الشعبي العام بقيادة الرئيس السابق مع ما يسمى بأحزاب التحالف الوطني الديمقراطي.وهذا الاصطفاف نظر إليه ثوار فبراير منذ البداية على أنه خطر متربص يهدد نجاح المرحلة الانتقالية.

 فشل المرحلة الإنتقالية:

         إذا كان الاصطفاف المتربص قد نفذ انقلابه المسلح على التسوية السياسية والوفاق الوطني فإن هذا الانقلاب تعبير عنيف عن فشل المرحلة الانتقالية.ولكن هل كان هذا الفشل قدرا حتميا لا فكاك منه؟ هل صحيح أن المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية هما اللتان أسستا لهذا الفشل؟ هل يجوز إعفاء الرئيس الانتقالي من المسئولية عما حدث؟ وماذا عن الاصطفاف الذي أيد الثورة وآزرها ومثلها في التسوية؟ هل يده بيضاء من غير سوء؟...تنطوي هذه الأسئلة على قدر ملحوظ من الصعوبة، لكن من غير الجائز أبدا القفز عليها بالنظر إلى حجم الكارثة التي أحدثها الانقلاب على الثورة وإشعاله الحرائق والدمار في كل البلاد، والإجابة عليها تبدأ من البحث الموضوعي في أهلية القيادة السياسية التي أدارت المرحلة الانتقالية.        

القيادة السياسية:

         القيادة السياسية عمليةProcess  تفاعلية بين ثلاثة عناصر هي: (القائد + النخبة + البرنامج)، على أن ينضبط هذا التفاعل لقيم ومثاليات المجتمع وما يتطلع إليه الشعب ويتوقعه من قيادته.وإذا علمنا أن القائد هنا هو الرئيس هادي، فإن البرنامج هو مهام المرحلة الانتقالية المذكورة أعلاه، وهذا البرنامج هو العنصر المحايد في عملية التفاعل.أما النخبة فهي ظاهرة جماعية تشمل كل من له سلطة ونفوذ من نوع ما ويستطيع أن يمارس التأثير على القائد بحثه على اتخاذ قرار ما أو صرفه عن اتخاذ قرار آخر، بصرف النظر عن حجم ونوع هذا التأثير.

          وبما أننا إزاء نخبة منقسمة إلى اصطفافين كبيرين متصارعين، وقائد واحد توافق عليه هذان الاصطفافان،فإن الحديث عن التفاعل بين القائد والنخبة يحتاج إلى مزيد من الضبط، لأن الأمر متعلق عمليا بنخبتين وليس بنخبة واحدة، وكل منهما ستحاول استمالة القائد إليها على نحو يضعه في موقف لا يحسد عليه إذا لم يحسن إدارة الصراع بينهما لصالح إنجاز مهام المرحلة الانتقالية التي تمثل العنصر المحايد في عملية التفاعل، وإخلاص القائد لهذه المهام يضعه ابتداء في نقطة انطلاق تقع على مسافة واحدة من الاصطفافين باعتبارها البرنامج الذي قامت عليه التسوية والملزم لكل أطرافها.

         وبمقدار اقتراب هذا الاصطفاف أو ذاك من مهام المرحلة الانتقالية وجديته في تنفيذها يكون اقترابه من القائد ويكون اقتراب القائد منه،بعيدا عن أي مساومة لا تحتملها طبيعة المرحلة.فمهمة القائد التوافقي هي قيادة أطراف التوافق الوطني لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية، وهو بهذا المعنى لا يستطيع أن يقف دائما على مسافة واحدة من كل الأطراف إلا إذا تساوت في قناعتها الفعلية بمهام المرحلة وعملت بروح الفريق الواحد من أجل إنجازها،وهذا غير وارد في مرحلة إنتقالية صعبة وصراعية،الأمر الذي يحتم على القائد التعاطي مع أطراف التوافق تبعا لموقفها من مهام المرحلة.

         وإذا كان معلوما أن ذلك الجزء من النخبة الذي قامت الثورة للإطاحة به هو خطر في حالة تربص فإن مصلحته لن تكون مع إنجاز مهام المرحلة الانتقالية وإنما في تعطيلها، الأمر الذي يضعه على مسافة بعيدة من القائد.وبالمقابل يفترض أن الجزء الآخر الذي أيد الثورة وآزرها هو صاحب مصلحة في إنجاز مهام المرحلة، الأمر الذي يضعه على مسافة قريبة جدا من القائد

         وعلى افتراض أن القائد نفسه مقتنع بمهام المرحلة الانتقالية وجاد في تنفيذها فالمتوقع منذ البداية أن يكون التفاعل بينه وبين النخبة التي آزرت الثورة على قدر كبير من الإيجابية بحيث لا تستطيع معه النخبة التي قامت الثورة للإطاحة بها أن تحقق أهدافها في إفشال المرحلة الإنتقالية.فما هي مكونات هذه النخبة على وجه التحديد؟ وكيف كان تفاعلها مع القائد؟ وما هي مخرجات هذا التفاعل؟.

مكونات النخبة التي أيدت الثورة ومثلتها في التسوية.

         القاسم المشترك الأعظم بين مكونات النخبة التي أيدت الثورة هو تأييدها للثورة ضد علي صالح، وما عدا ذلك فهي ليست متجانسة بحيث تكون على قلب رجل واحد.وفيما يلي قائمة بمكونات هذه النخبة كما رأيناها طافية على سطح المشهد السياسي:

أولا: مكوِّن التجمع اليمني للإصلاح.

1 – محمد عبد الله اليدومي (رئيس الحزب ومستشار الرئيس)

2 – عبد الوهاب الآنسي (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس)

3 – علي محسن الأحمر (صاحب نفوذ عسكري ومالي ومستشار الرئيس)

4 – حميد حسين الأحمر (صاحب سلطة مالية ونفوذ قبلي)

5 – عبد المجيد الزنداني (صاحب سلطة دينية ورئيس هيئة علماء اليمن ورئيس جامعة الإيمان)

6 – نصر طه مصطفى (مدير عام مكتب رئاسة الجمهورية)

7 – صالح سميع (وزير الكهرباء).

8 – عبد الرزاق الأشول (وزير التربية والتعليم).

9 – محمد العمراني (وزير الإعلام)

10 – حورية مشهور (وزير حقوق الإنسان).

11 – القاضي العرشاني (وزير العدل).

12 – محمد السعدي (وزير التخطيط والتعاون الدولي).

13 – عبد القادر قحطان (وزير الداخلية).

14 – صخر الوجيه (وزير المالية).

ثانيا: محمد سالم باسندوة (رئيس الحكومة).

ثالثا: مكوِّن الحزب الاشتراكي اليمني.

1 - ياسين نعمان (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس).

2 -  محمد المخلافي (وزير الشئون القانونية).

3 - واعد باذيب (وزير النقل).

4 - جوهرة حمود (وزير دولة).

رابعا: مكوِّن التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري.

1 - سلطان العتواني (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس).

2 – علي اليزيدي (وزير الإدارة المحلية).

خامسا: مكوِّن التجمع الوحدوي.

1 - عبد الله عوبل (وزير الثقافة).

سادسا – مكوِّن حزب الحق.

1 - حسن زيد (أمين عام الحزب ووزير دولة).

2 - محمد أحمد شرف الدين (وزير دولة).

ثامنا: مكون إتحاد القوى الشعبية.

1 - عبد السلام رزاز (وزير المياه والبيئة).

تاسعا: مكوِّن حزب البعث.

1 - عبد الحافظ نعمان (أمين عام الحزب، وزير التعليم المهني).

عاشرا: مكون إتحاد الرشاد السلفي.

1 - محمد العامري (رئيس الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق القضية الجنوبية).

2 - عبد الوهاب الحميقاني (أمين عام الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق بناء الدولة).

حادي عشر: مكوِّن حزب العدالة والبناء.

1 - علي أبو لحوم (رئيس الحزب ونائب رئيس فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني).

2 - عبد العزيز جباري (أمين عام الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق بناء الدولة).

ثاني عشر: مكون الحراك الجنوبي المشارك في الحوار.

1 - محمد علي أحمد (رئيس المكون ورئيس فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني).

2 - ياسين مكاوي (عضو الحوار الوطني ومستشار الرئيس).

 ثالث عشر: مستشارون:

1 - عبد الكريم الإرياني ( نائب أمين عام حزب المؤتمر ومستشار الرئيس).

2 - فارس السقاف (مستشار ثقافي للرئيس).

3 - محبوب علي (مستشار إعلامي للرئيس).

 رابع عشر: مقربون من هادي.

1 - محمد ناصر أحمد (وزير الدفاع).

2 - أحمد عوض بن مبارك (أمين عام مؤتمر الحوار الوطني).

3 - محمد الشدادي (عضو هيئة رئاسة مجلس النواب وعضو مؤتمر الحوار الوطني).

4 – محمد مارم (رئيس فريق بناء الدولة في مؤتمر الحوار الوطني).

          هذه هي أسماء ومواقع مكونات النخبة - المنظورة على سطح المشهد السياسي - التي كان معولا عليها مع الرئيس هادي أن تتعاون وتتظافر من أجل نجاح الفترة الانتقالية في تحقيق أهدافها.ومن الواضح أنها متفاوتة من حيث الكم ومن حيث حجم ونوع السلطة  المتاحة وما توفره من قدرات على ممارسة النفوذ والتأثير على القائد، ومن غير الجائز المساواة بينها في تحمل مسئولية فشل المرحلة الانتقالية.ومن غير شك هناك خفايا وأسرار تحتاج إلى مكاشفة مسئولة تجنب اليمنيين مساوئ ومخاطر تجريب المجرب وتكرار الوسائل والأدوات الفاشلة.

التفاعل بين القائد والنخبة التي أيدت الثورة:

         للتفاعل بين القائد والنخبة التي اصطفت مع الثورة وآزتها أربعة احتمالات نوجزها كما يلي:

1 - إما أن يكون القائد إيجابيا في تفاعله مع النخبة ومنضبطا لقيم ومثاليات المجتمع ومستوعبا لمهام المرحلة الانتقالية وحريصا على إنجازها، والنخبة أيضا مثله إيجابية ومنضبطة ومستوعبة وحريصة.وهذه عملية تفاعلية ضامنة لمعدلات عالية جدا في النجاح.

2 - إما أن يكون القائد إيجابيا ومنضبطا ومستوعبا وحريصا، والنخبة سلبية.وهذه عملية تفاعلية تحتمل نجاحا نسبيا يحسب - في حال تحققه - للقائد.

3 - إما أن تكون النخبة إيجابية ومنضبطة ومستوعبة ومخلصة، والقائد سلبي.وهذه عملية تفاعلية تحتمل النجاح الكلي أو الجزئي في بعض مهام المرحلة، والفشل الكلي أو الجزئي في البعض الآخر.ومن الطبيعي أن يحسب النجاح – في حال تحققه - للنخبة.

4 - إما أن يكون القائد سلبيا وغير منضبط وغير مستوعب وغير مخلص، وكذلك النخبة مثله سلبية وغير منضبطة وغير مستوعبة وغير مخلصة.وهذه عملية تفاعلية نتيجتها الفشل الكارثي.

         وبما أن الفشل الكارثي هو الذي حصل بالفعل، بدلالة نجاح الاصطفاف الآخر – متحالفا مع مليشيا الحوثي - في الإنقلاب على شرعية التوافق الوطني، فمعنى ذلك أن الاحتمال الرابع هو الذي تحقق،والمسئولية تقع على القائد والنخبة معا.

معيار قياس الإيجابية في التفاعل بين القائد والنخبة

         حكمنا على التفاعل المتبادل بين القائد والنخبة التي آزرت الثورة بأنه كان سلبيا.والملاحظ على هذا الحكم أنه تأسس على النتيجة، وبقي أن نؤسسه على مقدمات.ومن أجل ذلك علينا أن نعثر على معيار مقبول لقياس الإيجابية في عملية التفاعل بين القائد والنخبة.وهذا المعيار من وجهة نظرنا هو العنصر الثالث المحايد في عملية التفاعل ممثلاً ببرنامج المرحلة الإنتقالية المذكور أعلاه.فالتفاعل يكون إيجابيا إذا كان القائد والنخبة التي آزرت الثورة مقتنعين بهذا البرنامج ومتحمسين لإنجازه، وحصل بينهما تكامل وتعاون قوي أفلحا معه في التوصل إلى ما يلي:

1 – التحديد الدقيق للتحديات والمخاطر التي تهدد نجاح المرحلة الانتقالية.

2 – ترتيب هذه التحديات بحسب خطورتها.

3 – إختيار الوسائل والآليات الفعالة والملائمة للتغلب على هذه التحديات.

4 – التحديد الدقيق للفرص المتاحة لنجاح الفترة الانتقالية.

5 – إتخاذ القرارات اللازمة في التوقيت المناسب للتغلب على التحديات وإضعاف المخاطر، وتقوية الفرص.

         ومن الطبيعي أن يقطع هذا التعاون – في حال حدوثه – الطريق أمام الاصطفاف الآخر المتربص بإضعاف مواطن قوته بوسائل قانونية ونظامية وبآليات شفافة تستمد مشروعيتها من شرعية التوافق الوطني، مسنودة بتأييد الشعب المتطلع إلى التغيير.

         أما إذا كان القائد والنخبة غير مقتنعين ببرنامج المرحلة الانتقالية فلن يتحمسا لإنجازه،ولن يحصل بينهما تعاون للتعرف على تحديات المرحلة وكيفية التعاطي معها، ولن يعملا بروح الفريق الواحد.وهذا تفاعل سلبي تحتمل أسبابه تفسيرات كثيرة من بينها:

1 -  غياب الرؤية الجامعة.

2 - عدم كفاية الأهلية المعرفية.

3 - ضعف الاقتدار القيادي.

4 - تعدد الأجندة وتضاربها.

5 -  الاستغراق في تحقيق مكاسب شخصية وحزبية وفئوية وجهوية.

         وهذه كلها مقدمات لنجاح الاصطفاف الآخر المعطِّل بالنظر إلى السلطة العميقة التي يمتلكها رئيس سابق ظل في الحكم ثلاثة وثلاثين عاما أمضاها في شراء الذمم وشخصنة الفضاء العام ومصادرة مؤسسات الدولة وتسييد الفساد ونهب ثروات البلاد.

تحديات المرحلة الإنتقالية:

         تعرفنا على مهام المرحلة الانتقالية كما هي مضمنة في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية،ومهام من هذا القبيل في مرحلة إنتقالية صراعية لا بد أن تقف أمام إنجازها تحديات لا يحتاج التعرف عليها إلى اجتراح معجزات، وإنما إلى تعاون وتكامل وتفاعل إيجابي بين القائد والنخبة التي آزرت الثورة ومثلتها في التسوية السياسية.وكان بمقدور القائد والنخبة – في حال تعاونهما وتكاملهما – التعرف على هذه التحديات من خلال النظر الجاد والمسئول فيما يلي:

1 –  حالة مؤسسات الدولة.

2 – حالة الوحدة الوطنية للبلاد.

3 - حالة الأحزاب والتنظيمات السياسية.

4 - حالة منظمات المجتمع المدني.

          ومن شأن النظر الجاد في هذه الحالات أن يكشف للقائد والنخبة التي آزرت الثورة عن مواطن قوة الاصطفاف الآخر المتربص في كل حالة من الحالات الأربع،ومن ثم العمل على إضعافها وشل قدرتها على المقاومة بسلسلة من الإجراءات القانونية والنظامية المبكرة التي يتعذر الاعتراض عليها علنا مادامت تندرج في إطار ما يتوقعه الشعب المتطلع للتغيير من قياته، وأي اعتراض يمكن أن يقع سيكون من الميسور الرد عليه ودحضه عبر الإعلام الرسمي والحزبي والخاص بما يهيء الرأي العام للدعم والمساندة بكل أشكال التعبير المشروعة التي تبقي الشعب المتطلع للتغيير في حالة يقظة يومية.وللحديث عن تحديات المرحلة الانتقالية الكامنة في الحالات الأربع سنفرد مقالا خاصا.

خطل الحجة التي دفع بها القائد:

         يردد البعض مع الرئيس هادي أن علي صالح لم يسلم السلطة وإنما سلم العلم فقط، وأن السلطة على الجيش بقيت للرئيس السابق.فهل هذه حجة يعتد بها؟.هل فعلا أن صالح لم يسلم لهادي إلا العلم؟ أم أن المشكلة في هادي والنخبة التي مثلت الثورة في التسوية؟.

         إننا إزاء تسوية سياسية تمت في مناخ ثوري، وقامت على مرحلتين إنتقاليتين برعاية إقليمية ودولية.المرحلة الأولى مدتها ستون يوما إنتقلت خلالها صلاحيات الرئيس إلى النائب،بينما بقي علي صالح محتفظا بشرعيته كرئيس.وشرعية بلا صلاحيات هي شرعية في حالة احتضار.

 

         ويوم 21 فبراير 2012 تم الإعلان عن موت شرعية علي صالح ودفنها ليصبح هادي هو الرئيس الشرعي بموجب توافق وطني ممهور بتزكية الشعب.فهل من الجائز القول إنه لم يستلم إلا العلم؟.هل كان ينتظر من الرئيس السابق أن يعمل له جردا مخزنيا بضباط وأفراد الجيش؟. إننا إزاء مرحلة إنتقالية صراعية ومعترك سياسي لا مكان فيه لحسن النوايا.والشرعية التي أصبحت لهادي كرئيس انتقالي منحته صلاحيات تقليم أظافر الرئيس السابق في المؤسسة العسكرية وتجفيف منابع شهيته في العودة إلى السلطة خلال الستة الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية.لكن هادي لم يحسن استخدام السلطة التي آلت إليه كرئيس انتقالي، وهذا بسبب التفاعل السلبي المتبادل بينه وبين النخبة التي آزرت الثورة.

      فرص لم يستثمرها  الرئيس الانتقالي    لنجاح المرحلة:

1 - أصبح هادي رئيسا انتقاليا للبلاد بتوافق وطني ممهور بتزكية الشعب، وتم هذا في مناخ ثورة شعبية عارمة مطالبة بإسقاط نظام علي صالح وبناء دولة لكل مواطنيها.ومن الطبيعي أن يتوقع الشعب الثائر من رئيسه الانتقالي تحقيق أهداف الثورة في التغيير والطلاق مع النظام القديم.والشعب عندما يتوقع التغيير من القائد فإن جاهزيته تكون في أعلى مستوياتها لدعمه وتأييد خطواته والانتصار لقراراته.وما على القائد إلا أن يبقى في حالة تواصل دائم ومنظم مع الشعب.فهل استثمر القائد الحالة الثورية القائمة واهتم بالتواصل مع الشعب الثائر المتطلع للتغيير؟

2 - على المستوى الإقليمي والدولي حظي هادي بدعم ملحوظ لم يحظَ به رئيس يمني من قبل.ومن مظاهر هذا الدعم غير المسبوق أن مجلس الأمن جاء بكامل قوامه إلى اليمن وانعقد في صنعاء بحضور الأمين العام للأمم المتحدة.وكان سفراء الدول العشر على تواصل شبه يومي مع هادي، فضلا عن تعاون المبعوث الأممي جمال بن عمر الذي رأيناه منذ بداية المرحلة الانتقالية عرضة للتشكيك بنزاهته وحياديته من قبل الآلة الإعلامية المحسوبة على الرئيس السابق حد قولها إنه يتصرف كمندوب سامي.     

3 - والبرنامج السياسي المطلوب إنجازه خلال المرحلة الإنتقالية وتضمنته المبادرة الخليجية قبلت به – نظريا على الأقل – كل أطراف التسوية السياسية الموقعة على المبادرة، بما في ذلك الرئيس السابق وحزبه،وهو من هذه الناحية ليس برنامج هادي وإنما برنامج توافقي ملزم لكل الأطراف،وهذا عامل قوة للرئيس الانتقالي يتعذر معه تبرير أي تقاعس في الإنجاز والتنفيذ.

         ولكن هل كان الرئيس هادي مؤهلا على المستوى الشخصي لاستثمار هذه المتاحات والفرص؟ النتيجة التي آلت إليها الأمور في البلاد تقول إنه لم يكن مؤهلا.ومع ذلك من غير الجائز الحكم على أدائه إلا من خلال التفاعل المتبادل بينه وبين أهل السلطة والنفوذ في النخبة التي آزرت ثورة فبراير،وهذا ما قد سبق بيانه أعلاه.وحتى لا نتهم بالتحامل على هذه النخبة سنضرب على ما قلناه مثلا:

         كانت أزمة دماج بين السلفيين ومليشيا الحوثي من بين التحديات التي أثيرت في وجه المرحلة الانتقالية.ومعالجة تلك الأزمة على النحو الذي تم ضاعف خطر هذا التحدي.والسئوال: هل كان بمقدور هادي أن يعالج المشكلة بقرار جمهوري يجمد التعليم الديني الموازي – الزيدي والسلفي -  في كل محافظات البلاد،بما في ذلك جامعة الإيمان، على أن يقرر الحوار الوطني مصير هذا النوع من التعليم؟. في اعتقادنا أن هذا لم يكن ممكنا، وبمقدورنا أن نتخيل حجم العاصفة التي كان سيستدعيها الشيخ الزنداني لو أن هادي اتخذ قرارا كهذا قصد به مصلحة الوطن وأمنه واستقراره وقطع الطريق على المتربصين لإشعال الحرائق.هذا مثال على أن القائد لا يعمل في فضاء مثالي خاص به وإنما في فضاء مكتظ بفاعلين كثر يؤثرون على القائد انطلاقا من مصالحهم ودفاعا عنها.لذلك ألقينا بالمسئولية في فشل المرحلة الانتقاليه عليه وعلى هؤلاء الفاعلين الذين لم يستفيدوا من دروس معركة أحد فانشغلوا بجمع الغنائم ليلتف عليهم قائد جيش المشركين ويحول انتصارهم إلى هزيمة.

تعقيب لابد منه:

         في العدد الماضي من هذه الصحيفة كتبنا:" وأن لا يكون الحزب الاشتراكي طرفا في هذه الحرب فهذا ليس عيبا وإنما ميزة، والعيب – كل العيب – أن لا يكون فاعلا في إيقاف الحرب وصناعة السلام "..فهل من الجائز تحميل ما كتبناه ما لا يحتمل؟.أن لا يكون الحزب طرفا في الحرب فهذا لا يعني أنه محايد وأن الحرب لا تعنيه، بل لا يوجد مواطن يمني واحد محايد في هذه الحرب.إعقلوا، غفر الله لي ولكم.

قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية
للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
https://telegram.me/aleshterakiNet

 

 

   ليس من حق أي حزب أن يزيِّن نفسه بعدد القتلى من أعضائه وكوادره الذين قضوا في الحرب الراهنة إلا إذا كانوا قد قضوا وهم يقاتلون تحت رايته الحزبية الخاصة، وليس دفاعا عن النفس في حرب تحاصر مدنهم وقراهم وتقصف بيوتهم وتقتل أطفالهم.فالحزب – أي حزب – تنظيم مدني، وأي يمني يقتل محسوب عليه بصرف النظر عن انتسابه إلى هذا الحزب أو ذاك،أو عدم انتسابه إلى أي حزب.

         وعلى الصعيد الشخصي أنا مع السلم ضد الحرب.إنني مع كل من يستطيع أن ينتج السلم، حتى في اللحظات الأخيرة،ولا أقبل من أي كان أن يفرض علي ثنائياته القاتلة التي تصنف اليمنيين إلى " شياطين الحرب الظالمة " و " ملائكة الحرب العادلة ".ولو قدر للحوثي أن يلقي بندقيته وأن يميل إلى السلم سأصطف معه في كل موقف يصنع السلام.وفي هذا أنطلق من رأي خاص أراه، غير مدع أنني فيما أرى أمثل الضمير الجمعي داخل الحزب الاشتراكي الذي أنتسب إليه.فالحزب حين يعبر عن موقف ما من قضية ما، أو حين لا يعبر، غير ملزم برأي فلان أو بوصايا علاَّن من منتسبيه، أي كانت صفتهم الحزبية،وقراراته يجب أن تصنع بحكمة وروية عبر قنواته النظامية المتوافق عليها داخله.وفي حال أراد شخص ما من منتسبيه أو المتعاطفين معه أن يعبر عن رأيه فله ذلك، لكن ليس من حقه أبدا أن يطالب الحزب بتبني موقفه الشخصي أو رؤيته الذاتية،كما ليس من حقه أن يسوق نفسه ناطقا بلسان الضمير الحزبي الجمعي.فالحزب الاشتراكي كيان مدني يقبل بتعددية الآراء داخله قبل خارجه، وليس " داحس أو الغبراء "، ولا هو " عبس أو ذبيان ".

         وفيما أعلم أن هذا الحزب ليس طرفا في الحرب الراهنة،فهو لم يتسبب فيها، وليس له – كحزب - عداء مع أحد، لا على خلفية أيديولوجية ولا بسبب غنائم ومصالح.ولا يجب أن يستدل من ارتفاع منسوب القتلى من أعضائه على أنه طرف في الحرب، فهؤلاء يمنيون تجمع بينهم وبين كل قتلى الحرب رابطة المواطنة،وعلى هذا الأساس يجب أن يجمعهم – بعد انقشاع غبار الحرب - ملف واحد وحقوق واحدة غير قابلة للتمييز والانتقاص.أما إذا فكرنا بطريقة مغايرة على طريقة " قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " فسنتحول إلى عصبية مغلقة ذات بعد مذهبي غير مؤهلة للشراكة الواعية في بناء دولة المواطنة التي ننشدها.

         وأن لا يكون الحزب الاشتراكي طرفا في الحرب فهذا ليس عيبا وإنما ميزة.والعيب – كل العيب – أن لا يكون فاعلا في إيقاف الحرب وصناعة السلام.وهذا لا يتأتى عبر إعلان مواقف وجودها مثل عدمها،كما لا يتأتى عبر العنتريات الكلامية التي ما قتلت ذبابة.أما كيف يتأتى على وجه التفصيل والتحديد فهذا أمر يناقش داخل هيئات الحزب المعنية، وليس عبر صفحات الجرائد.وفي كل الأحوال من غير الجائز أبدا أن تتحول التقييمات المزاجية لأفراد في الحزب إلى تشويه للحزب وتصويره على أنه لا يقول إلا نصف الحقيقة.فما هي الحقيقة التي لم يقلها الحزب الاشتراكي كاملة ولم يدفع ثمن قولها؟    

         إن تعبير " أطراف الحرب " أو " طرفا الحرب " ليس تعبيرا مراوغا كما يحلو للبعض أن يقول. إنه تعبير شائع في الخطابات السياسية المتداولة، وشائع حتى في بيانات وقرارات الشرعية الدولية الخاصة باليمن.لكن هذا التعبير لا يجب أن يعمينا عن طرح أسئلة صحيحة للحصول على معرفة صحيحة.والسئوال الصحيح من وجهة نظرنا:مَنْ هم المستفيدون من الحرب؟ ثم ما هي مستويات الاستفادة؟ وما هي دوافع ومبررات الاشتراك في الحرب؟ والإجابة على هذه الأسئلة ستكشف لنا عن التقاءات وقواسم مشتركة بين أطراف بعينها، وفي الوقت نفسه ستكشف عن تبايناتها.وإلا كيف نفسر تحالف صالح والحوثي في الحرب الراهنة على ما بينهما من عداوة صنعتها ستة حروب؟ وكيف نفسر التقاء هادي وحزب التجمع اليمني للإصلاح في هذه الحرب بعدما ألقى الثاني باللائمة على الأول واتهمه بالتواطؤ مع الحوثي لاجتياح عمران على طريق اجتياح العاصمة؟.

         إن البحث عن الأطراف المستفيدة من الحرب هو بحث عن معرفة موضوعية، وليس عن مداخل لتسجيل مواقف ضد أطراف نكرهها لصالح أطراف نتملقها ونحاول التقرب منها.ومن كانت غاية همه أن يسجل موقفا، لأمر في نفس يعقوب،لا يستطيع أن يتجنب محذور الخلط بين الذات والموضوع، حتى وإن استنجد بعشرات المفاهيم وحشد عشرات المقارنات لتضليل القارئ بما يشبه المعرفة.وفيما يلي عرضا بالأطراف المستفيدة من الحرب:

أولا: علي عبد الله صالح.

         قبل هذا الرجل بالتسوية السياسية مكرها لا بطل، ولطالما سمعناه يصف ثورة 11 فبراير 2011 بأنها انقلاب مكتمل الأركان على شرعيته كرئيس انتخبه الشعب.ومعنى ذلك أنه مثَّل في إطار التسوية ثورة مضادة في حالة تربص تنتظر اللحظة المواتية.وعندما بدا له أن هذه اللحظة قد نضجت قرأ الواقع بشكل معين واعتقد أنه يستطيع العودة إلى السلطة.وكان تحالفه مع جماعة الحوثي مغامرة لم تأخذ في الحسبان حساسية الموقع الجغرافي لليمن.وبسبب هذه الحساسية وجد نفسه في مواجهة تدخل خارجي لم يتوقعه.وفي الوقت نفسه لم يترك له هذا التدخل أي فرصة للمناورة، فبدا بلا خيارات سوى خيار مواصلة الحرب تحت ضغط جملة من العوامل.

         فعلى مدى سنوات حكمه الطويل صنع هذا الرجل لنفسه صورة ذهنية زائفة انطلت على فئات واسعة في المجتمع.وبرغم تحرر الأغلبية الشعبية من هذه الصورة إلا أن أقلية مجتمعية وقعت ضحية لها إلى اليوم.وهذه الأقلية من بين أبرز العوامل الضاغطة على أعصاب الرجل،وتضاعف ضغطها مع لقب " الزعيم " الذي أصبح عبئا على صاحبه بما يتضمنه من إيحاءات لقاعدته الشعبية وأوهام للزعيم نفسه.فالوطنية،والوحدوية، والمبدئية، والحنكة السياسية، والدهاء،والزعامة...الخ تحولت من أكاذيب إلى أعباء ضاغطة على رجل ليس له من الثقافة إلا حظ جد متواضع، والعقول التي كانت تفكر بالنيابة عنه لم يعد لها وجود حوله.

         وخلال سنوات حكمه الطويلة وحرصه على تأبيد هذا الحكم وتوريثه أحاط علي صالح نفسه بطابور واسع من المنتفعين الذين ربطوا مصيرهم بمصيره، وهم الآن عبئ ضاغط عليه دفاعا عن مصالحهم التي لا يتخيلونها بدونه.

         وخلاصة القول أن علي صالح مكبل بحرب خطط لها وأشعلها بدافع الحقد، والكراهية، والرغبة في الانتقام التي أعمت بصره وبصيرته وشلت قدرته على التفكير.وغاية ما يتمناه اليوم أن يحصل على خروج آمن يبقي على رأسه فوق عنقه بعدما انقلب على التسوية السياسية التي حصنته، وكل من عمل معه، من الملاحقة القضائية والمساءلة القانونية وأبقت عليه حاضرا في المشهد السياسي على رأس المؤتمر الشعبي العام.

ثانيا: عبد الملك الحوثي.

         الحياة بالنسبة للبعض كلها ماض.وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على الحوثي.فالرجل ضحية لماضيه وشعاراته وتصوراته عن نفسه وما رسخه عند أنصاره.فلقد رسم لنفسه صورة ذهنية أصبحت عبئا عليه وأصبح حبيسها، بعد أن كانت مصدر قوة بالنسبة له داخل جغرافية صعدة.لكن عندما تجاوز هذه الجغرافيا بدأ عده التنازلي رغم الفرص التي حصل عليها ليدخل الحياة السياسية شريكا معترفا به من كل الأطراف.

         لقد شاركت جماعة أنصار الله في كل مكونات مؤتمر الحوار الوطني وسط قبول واسع بتمثيلها لقضية صعدة.وأصبح لها مكاتب في عديد من المحافظات كتعز وعدن.وضمن لها اتفاق السلم والشراكة مكاسب سياسية لم تكن تحلم بها من قبل.لكن حسابات خاطئة قادتها إلى التحالف مع عدوها اللدود علي عبد الله صالح، على قاعدة " إعطوني عنوانكم وخذوا جيشي". ومن غير الجائز القول إن صالح غرر بالجماعة ودفع بها إلى الهاوية.فلو لم تكن عندها قابلية للتغرير لما تجاوبت معه.وهذه القابلية ناجمة عن بنيتها العسكرية التي لا تؤهلها للعمل السياسي.والنتيجة أنها خسرت السياسة ولن تفلح في الحرب.أما لماذا تُواصلُ القتال فلأنها – مثل حليفها صالح – لا تملك خيارا آخر يحفظ لها ماء الوجه.

ثالثا: الرئيس هادي.

         مشكلة هادي أنه لم يتصرف كرئيس توافقي لمرحلة انتقالية ذات مهام محددة هي – وليس غيرها – معيار اقترابه أو ابتعاده من أطراف التوافق.فالرجل ذهب يمارس سياسة الإرضاء والاسترضاء في مسعى منه ليصبح مركز قوة موازية لمراكز القوى القائمة، وربما على حسابها فيما بعد.باختصار شديد طاب للرجل أن يبقى في السلطة إلى أجل غير مسمى.ولهذا السبب تورط في التواطؤ مع الحوثي وصالح – وبضوء أخضر إقليمي -  لقطع الأذرع العسكرية لحزب التجمع اليمني للإصلاح.وهذه لعبة كبيرة كادت أن تأتي عليه.

         والآن ليس أمام هادي إلا الحرب كخيار وحيد، مع أنه ليس خياره.فدوره في الحرب هو دور " المحلِّلْ " لا أكثر ولا أقل.إنه ترس صغير في آلة ضخمة لا يمكنه إيقافها، ومن المشكوك فيه أنه يعرف مَنْ يحركُّها.لذلك ليس بمقدور هادي أن يجترح حلاً،كما ليس بمقدوره حتى أن يعلن استقالته،وهو ينتظر نهاية الحرب كما ينتظرها أي مواطن.صحيح أن من مصلحته أن تنتهي الحرب بانتصار الشرعية التي يمثلها، وهي شرعية صحيحة في جانبها الشكلاني القانوني.لكن، في كل الأحوال، هذا الانتصار هو الذي سيطيح بهادي وسيخرجه من المسرح السياسي نهائيا كرجل لم يكن بحجم المسئولية التي قبل إلقاءها على كاهله.

رابعا: حزب تجمع الإصلاح.

         هذا الحزب ليس مستفيدا من الحرب، ولا سعى إليها، وقتال رموزه هو دفاع عن وجود أكثر مما هو دفاع عن مصلحة.وتفسير ذلك أن حزب الإصلاح كان أكبر المستفيدين من المرحلة التي تلت ثورة فبراير 2011، وذنبه أنه تعامل مع المرحلة الانتقالية كما لو كانت مرحلة لتعزيز المواقع وتكثير الغنائم،لذلك خسَّرته الحرب وخلقت له وجودا قلقا.

         صحيح أن لحزب الاصلاح مصلحة في انتهاء الحرب بهزيمة تحالف الحوثي – صالح وانتصار جانب الشرعية التي يمثلها هادي، لكن هذه المصلحة ليست أكثر من العودة بالسلامة.وهذه العودة هي غنيمته الكبرى التي بررت مشاركته في الحرب وتأييده لعاصفة الحزم.وعندما تنتهي الحرب قد لا تكون كعكته كبيرة،وقد يقلق من احتمال أن يأتي الدور عليه.

خامسا: السلفيون.

         السلفيون ليسوا لونا واحدا.وهم، مثل تجمع الإصلاح، لا خيار لهم سوى الدفاع عن النفس.وإذا جاز الحديث عن مصلحة فهي للون واحد له ثأر مع مليشيا الحوثي على خلفية أحداث دماج وترحيل جماعة الحجوري من صعدة.

سادسا: المقاومة الشعبية.

         المقاومة الشعبية جزء منها محسوب على أطراف،وما يسري على تلك الأطراف يسري عليها.وجزء محسوب على مناطق تدافع عن نفسها كوجود ذاتي.وجزء يشارك في الحرب بمبادرات ذاتية دفاعا عن النفس.وكل هذه من تجليات إنهيار الدولة الهشة.

سابعا: الأطراف الإقليمية.

         التحالف العربي عنوان كبير يرمز إلى الثقل الذي تمثله السعودلة كفاعل إقليمي استشعر الخطر عند خاصرته الجنوبية في ظل حربه الباردة مع إيران.والسعودية هي الأخرى حبيسة خطابها المعلن في بداية الحرب عندما توهمت أنها ستحقق انتصارا حاسما وبسرعة قياسية، وهو ما لم يقله حتى حلف شمال الأطلسي عندما بدأ الحرب على العراق!!

         أما إيران فهي الأخرى فاعل إقليمي كبير لها مصالح تخيَّلتَها في اليمن لمساومة فاعلين آخرين.وهذا أمر يعرفه في سلوك الدول كل من يقرأ تاريخها وصراعاتها.وبين السعودية وإيران تبقى عمان الدولة الوحيدة في مجلس التعاون الخليجي التي قررت عدم المشاركة في التحالف العربي.وهذا ربما رغبة منها في الوقوف على الحياد كي يكون بمقدورها ممارسة دبلوماسية التوسط للحد من تفجر برميل البارود من حولها.

الانتصار والهزيمة والاستئصال:

         الانتصار في الحرب له شروط كثيرة ليس بينها شرط واحد متوفر لدى تحالف الثورة المضادة.ونقطة قوة هذا التحالف الوحيدة تكمن في أنه بدأ سباق الألف كيلو  من نقطة ما قريبة من نهاية المضمار، بينما بدأت الشرعية من نقطة الصفر.لكن الشرعية تسير بمتوالية هندسية، بينما تسير الثورة المضادة بمتوالية عددية.ونتيجة السباق لن تكون لصالحها.إن دفتر حساباتها اليومية طافح بالمصروفات وخال تماما من أي وارد.والعكس بالنسبة للشرعية التي تحقق أرباحا يومية تنكرها الثورة المضادة باستغراقها في عد أشهر الحرب متجاهلة أن العبرة في نتيجة الحرب وليس في طولها الزمني.

         لكن هذا لا يعني أن الاستئصال هو المصير الذي ينتظر تحالف الثورة المضادة.فالاستئصال ستواجهه عقبات لم تراعها الشرعية عندما وضعت أهداف الحرب:

1 – القضاء على الفئة المتمردة.

2 – تسليم السلاح.

3 – الانسحاب.

4 – إنتهاء كل ما أبرم مع الحوثيين من شراكة.

         إن هذه الأهداف صحيحة مادام الأمر متعلق بثورة مضادة لم تنقلب على التسوية السياسية فحسب،وإنما على ثورتي سبتمبر وأكتوبر وعلى الوحدة والنظام الجمهوري وعلى السلام الاجتماعي وعلى كل التاريخ الوطني للشعب اليمني.لكن تحقيقها لا يتوقف فقط على رغبة المنتصر وقدرته، فهناك واقع موضوعي سيفرض نفسه وسيخلق تعقيدات من نوع آخر لن يتمكن معها المنتصر من تحقيق كل ما يريد، بما في ذلك الجوانب الإيجابية مما يريده.

         وما ينتظر الثورة المضادة من وجهة نظرنا هو الهزيمة وليس الاستئصال.والهزيمة تسليم مؤقت بوضع معين يتضمن خروج علي صالح كشخص من المشهد السياسي مع بقاء وجوه محسوبة عليه على رأس المؤتمر الشعبي العام.والحوثي سيخرج بتمثيل من نوع ما في حكومة قادمة.صحيح أن صالح والحوثي سيخسران كثيرا بالقياس إلى ما كانا يريدانه، لكن هذا ليس نهاية المطاف بالنسبة لهما ما لم تفضِ نهاية الحرب إلى توافق وطني على دولة لكل اليمنيين تطبيقا لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني.وهنا علينا أن نستدعي قول آينشتاين: " إذا أردتَ أن تحصلَ على نتيجة مغايرة للنتيجة التي حصلتَ عليها في المرة الأولى واتبعتَ في سبيل ذلك الوسائل والأدوات نفسها فهذا هو الجنون بعينه ".والجنون، كل الجنون، أن ينبري صناع المشكلة لصناعة الحل، وأن نذهب بعد نهاية الحرب إلى استكمال مناقشة الدستور والاستفتاء عليه ثم الذهاب إلى انتخابات في ظل غياب الحد الأدنى من الدولة الضامنة.

         أخيرا للحرب تداعياتها وثاراتها المرشحة لتهديد أية مكاسب يمكن أن تتحقق بهزيمة الثورة المضادة.وتعزيز هذه المكاسب يتعذر ما لم تدعم السعودية مرحلة ما بعد الحرب بنفس الحماس الذي أظهرته في مرحلة الحرب.وهذا يحتاج إلى ضخ أموال كبيرة تستوعب البطالة وتعيد بناء البنية التحتية وتحدث انتعاشا اقتصاديا يتجاوز به الناس آثار ومآسي الحرب.      

 

للاشتراك في قناة الاشتراكي نت على التليجرام اضغط على الرابط التالي

https://telegram.me/aleshterakiNet

 

 

السبت, 12 أيلول/سبتمبر 2015 18:19

الجمهورية اليمنية ( 1990 – 2015 ) "3"

ثالثا: الجمهورية اليمنية (21 فبراير 2012 – 21 سبتمبر 2014):

         إنتهينا في الجزء الثاني إلى القول بأن فشل المرحلة الإنتقالية التي أعقبت خلع علي صالح كان كارثيا، بدلالة انقلاب الثورة المضادة المسلح على خارطة طريق التسوية السياسية والتوافق الوطني وتسببها في دفع البلاد إلى الحرب الراهنة بأبعادها المحلية والخارجية..وقلنا إنه من غير الجائز إلقاء اللائمة فيما حصل على المبادرة الخليجية..وحتى لا يتكرر الفشل، على أي نحو كان، لابد من الكشف عن أسبابه الحقيقية وتسمية الأشياء بأسمائها..وهذا ما سنفعله في هذا الجزء المكرس للفترة الزمنية الواقعة بين 21 فبراير 2012 و 21 سبتمبر 2014.

 معنى الفترة الإنتقالية:

         تعني الفترة الإنتقالية الانتقال من نظام سياسي تقادم وتآكلت شرعيته وأصبح مرفوضا إلى نظام جديد يفترض أن يحظى بالقبول والمشروعية..ورفض النظام القديم  لا يكون عادة محل إجماع مجتمعي، ويكفي أن تكون هناك أكثرية شعبية كافية قادرة على ممارسة الرفض المنظم ومصرة على إحداث التغيير..وهذا ما ظهر واضحا في ثورة فبراير 2011 حيث الأغلبية الشعبية كانت مع التغيير حد الاستعداد للتضحية من أجله.

         واليمن ليس أول بلد في العالم يشهد فترة إنتقالية..فالفترات الانتقالية مرت بها كل البلدان التي شهدت تحولات ثورية عاصفة على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي..والمراحل الانتقالية إما أن تتسم بالسهولة والسلاسة وإما أن تكون صعبة وصراعية..في الحالة الأولى يقتصر برنامجها على مهمتين إثنتين هما التوافق على دستور جديد ثم الذهاب إلى انتخابات وفقا للدستور المتوافق عليه..وهذه حالة مثالية أنموذجها الأبرز المرحلة الانتقالية في أسبانيا بعد الدكتاتور فرانكو..أما في الحالات الصعبة والصراعية فلابد أن يتضمن برنامج المراحلة الانتقالية – إلى جانب هاتين المهمتين - مهاما أخرى يتعذر بغير إنجازها نجاح الديمقراطية حتى وإن كان الدستور المتوافق عليه ديمقراطيا 100%..وتختلف هذه المهام من بلد إلى آخر بحسب خصوصية كل بلد..وفي الحالة اليمنية تحدد برنامج الفترة الانتقالية بثمان قضايا تضمنتها المبادرة الخليجية حين ألزمت الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق الوطني بالدعوة إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل خلال المرحلة الإنتقالية يبحث فيما يلي:

1 - صياغة دستور جديد للبلاد.

2 - معالجة هيكل الدولة والنظام السياسي واقتراح التعديلات الدستورية إلى الشعب اليمني للاستفتاء عليها.

3 - حل القضية الجنوبية حلا عادلا يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه.

4 - النظر في القضايا المختلفة ذات البعد الوطني ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة.

5 - إتخاذ خطوات للمضي قدما نحو بناء نظام ديمقراطي كامل بما في ذلك إصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية.

6 - اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث إنتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلا.

7 - إتخاذ الوسائل القانونية وغيرها من الوسائل التي من شأنها تعزيز حماية الفئات الضعيفة وحقوقها، بما في ذلك الأطفال، والنهوض بالمرأة.

8 - الإسهام في تحديد أولويات برامج التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة لتوفير فرص عمل وخدمات اقتصادية واجتماعية وثقافية أفضل للجميع.

         وبما أن المرحلة الانتقالية في الحالة اليمنية صعبة وصراعية فقد كان واضحا منذ البداية أن عبورها محفوف بمخاطر كثيرة..وهذا يتوقف على أداء مختلف أطراف التسوية السياسية التي ترتبت على ثورة فبراير 2011..والمعروف أن بعض هذه الأطراف كان داعما للثورة، والبعض الآخر جاءت الثورة للإطاحة به..والمتوقع أن يسعى البعض الآخر هذا إلى إفشال المرحلة الانتقالية دفاعا عن النظام القديم..وهو بهذا المعنى يشكل تحديا منظورا بإجماع الأغلبية الشعبية التي ثارت ضده، وما كانت أبداً تريد أن تراه طرفا في التسوية السياسية..ولكن ماذا بالنسبة للبعض الأول الذي وقف مع الثورة وآزرها؟.والسؤال هنا متعلق بتلك الأطراف التي تحالفت في إطار اللقاء المشترك ثم في إطار المجلس الوطني لقوى الثورة..وفي اعتقادنا أنها هي الأخرى تنطوي على تحدٍ من نوع ما سنسميه تحدياً غير منظور نسبيا، وليس بالمعنى المطلق..فهي – كلها أو بعضها – فاقدة لإرادة التغيير الذي يتطلع إليه الشعب وغير مؤهلة للعبور فوق انتماءاتها الحزبية والجهوية والفئوية وكل ما سواها من التحيزات ما دون الوطنية..ونحن هنا لا نتحدث عن كيانات متحالفة وإنما عن نخب قادت هذا التحالف وأصبحت طرفا في التسوية السياسية من موقعها المعارض لنظام علي صالح..وسوف نعرِّف هذا الطرف إجرائيا على أنه "يسار النخبة" تمييزا له عن "يمين النخبة" الذي قامت الثورة للإطاحة به.

          ومن حق القارئ اللبيب أن يتابعنا بحذر شديد ونحن نناقش أداء "يسار النخبة" لأن الأمر متعلق بأطراف في التسوية السياسية انقلبت عليها ثورة مضادة جهوية متكئة على أوهام عنصرية إستعلائية وإقصائية تهدد وحدة البلاد وأمنها واستقرارها وسلامها الاجتماعي وتعرض نسيجها الوطني للتمزق.

 العامل القيادي خلال المرحلة الإنتقالية:

         تميِّز الدراسات السياسية بين القيادة السياسية كطبقة، والقيادة السياسية كعملية(Process)..فمن حيث هي طبقة فهي حاصل جمع القائد والنخبة..ومن حيث هي عملية فإنها حاصل تفاعل ثلاثة عناصر: (القائد + النخبة + البرنامج السياسي)، على أن ينضبط هذا التفاعل لقيم ومثاليات المجتمع وما يتطلع إليه الشعب ويتوقعه من القيادة..والذي يهمنا هنا هو التعريف الثاني للقيادة كعملية تفاعلية القائد فيها هو الرئيس هادي كفرد..أما النخبة فهي ظاهرة جماعية تشمل كل من له سلطة ونفوذ من نوع ما ويستطيع أن يمارس التأثير على القائد بحثه على اتخاذ قرار ما أو صرفه عن اتخاذ قرار آخر، بصرف النظر عن حجم ونوع هذا التأثير..أما البرنامج السياسي فهو هنا برنامج المرحلة الانتقالية المحدد بقضايا ثمان تضمنتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وقد أتينا على ذكرها أعلاه..والملاحظ على هذا البرنامج أنه العنصر المحايد في عملية التفاعل..أما بالنسبة لمخرجات التفاعل فلا يهمنا منها سوى تلك التي أفرزها تفاعل القائد مع يسار النخبة..أما يمين النخبة فقد حسمنا موقفنا منه باعتباره تحديا منظورا يتربص للإنتقام من الثورة..وحاصل التفاعل بين القائد ويسار النخبة  له أربعة احتمالات نجملها فيما يلي:

1 - إما أن يكون القائد إيجابيا في تفاعله مع يسار النخبة ومنضبطا لقيم ومثاليات المجتمع، ويسار النخبة أيضا مثله إيجابي ومنضبط..وهذه عملية تفاعلية ضامنة لمعدلات عالية في النجاح.

2 - إما أن يكون القائد إيجابيا ومنضبطا لقيم ومثاليات المجتمع ويسار النخبة سلبي وغير منضبط..وهذه عملية تفاعلية تحتمل نجاحا نسبيا يحسب للقائد.

3 - إما أن يكون القائد سلبيا وغير منضبط لقيم ومثاليات المجتمع ويسار النخبة إيجابي ومنضبط..وهذه عملية تفاعلية تحتمل النجاح الكلي أو الجزئي في بعض مهام المرحلة والفشل الكلي أو الجزئي في البعض الآخر..ومن الطبيعي أن يحسب النجاح ليسار النخبة.

4 - إما أن يكون القائد سلبيا وغير منضبط لقيم ومثاليات المجتمع، وكذلك يسار النخبة مثله سلبي وغير منضبط..وهذه عملية تفاعلية نتيجتها الفشل الكارثي..ومسؤلية الفشل في هذه الحالة يتحملها القائد ويسار النخبة معا.

         وباستثناء النجاح الذي حققه مؤتمر الحوار الوطني فإن فشل المرحلة الانتقالية في إنجاز مهامها كان كارثيا بدلالة نجاح الثورة المضادة في الإنقلاب المسلح على التسوية السياسية وجرها البلاد إلى حرب شاملة ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية..ومعنى ذلك أن الاحتمال الرابع هو الذي تحقق وأن القائد ويسار النخبة كليهما كان سلبيا في تفاعلهما المتبادل، وكليهما كان غير منضبط لقيم ومثاليات المجتمع..وإذا كنا نعرف القائد كفرد ممثلا بالرئيس هادي فإن النخبة كظاهرة جماعية تحتاج إلى مزيد من التعريق والتحديد..وهي كما رأيناها طافية في المشهد السياسي تشمل ما يلي:

أولا: يسار النخبة:

         وهو ذلك الجزء من النخبة الذي دعم الثورة وآزرها، أو على لأقل رحب بها واستحسنها صراحة أو مواربة..وسوف نأتي على ذكر مكوناته فيما بعد.

ثانيا: يمين النخبة:

         وهو ذلك الجزء من النخبة الذي استهدفته ثورة فبراير 2011..وقد اعتبرناه تحديا منظورا أمام نجاح المرحلة الانتقالية في إنجاز مهامها..وهو بهذا المعنى ثورة مضادة في حالة تربص، بصرف النظر عن دخولها طرفا في التسوية، وتشمل ما يلي:

1 – علي صالح وفريقه على رأس المؤتمر الشعبي العام صاحب السلطة العميقة في البلاد على مستوى المركز والمحليات.

2 – 50 % من أعضاء حكومة الوفاق (نصيب المؤتمر الشعبي العام وحلفائه).

3 – قيادات عسكرية موالية لعلي صالح.

         وما يهمنا هنا هو المجموعة التي اعتبرناها يسار النخبة وليس يمينها..ذلك أن الآمال في نجاح المرحلة الانتقالية كانت معلقة على هذا المجموعة تحديداً..فهل كانت إيجابية في تفاعلها مع القائد؟ وهل كان القائد إيجابيا في تفاعله معها؟ وهل كان الطرفان منضبطين لقيم ومثاليات المجتمع ومخلصين لتطلعات الشعب في بناء دولة لكل مواطنيها؟.

         قبل الإجابة على هذه الأسئلة يجب أولا أن نعثر على معيار مقبول لقياس الإيجابية في عملية التفاعل بين القائد ويسار النخبة..وهذا المعيار من وجهة نظرنا هو العنصر الثالث المحايد في عملية التفاعل ممثلاً ببرنامج المرحلة الإنتقالية المذكور أعلاه..فالتفاعل يكون إيجابيا إذا كان الطرفان مقتنعين بهذا البرنامج ومتحمسين لإنجازه، وحصل بينهما تعاون قوي أفلحا معه في التوصل إلى ما يلي:

1 - التحديد الدقيق للتحديات التي تهدد نجاح المرحلة الانتقالية في إنجاز برنامجها.

2 – ترتيب هذه التحديات حسب خطورتها وأولويتها.

3 - إختيار الوسائل والآليات الملائمة للتغلب على هذه التحديات بما يتفق مع القدرات الحقيقية للمجتمع والإمكانيات المتاحة.

4 - إتخاذ القرارات اللازمة في التوقيت المناسب لقطع الطريق أمام المشكلات والأزمات المتوقعة التي يمكن أن تفرزها هذه التحديات.

         ويكون التفاعل سلبيا إذا كان الطرفان غير مقتنعين ببرنامج المرحلة الانتقالية وغير متحمسين لإنجازه، ولم يحصل بينهما تعاون قوي للتعرف على تحديات المرحلة وكيفية التعاطي معها..والسلبية هنا تعني عدم الأهلية المعرفية، وعدم الاقتدار القيادي، وغياب الرؤية، والاستغراق في تحقيق مكاسب شخصية وحزبية وفئوية وجهوية...الخ..ولكن كيف جاز لنا الحكم على هذا الجزء من النخبة بالسلبية التي ضمناها هذه المعاني؟.لماذا لم نأخذ بعين الاعتبار أن هذا الجزء من النخبة هو الآخر غير متجانس سياسيا؟.

         لقد أصدرنا حكما إجماليا على القائد ويسار النخبة أسسناه على نجاح الثورة المضادة في الإنقلاب المسلح على مسار التسوية السياسية وجرها البلاد إلى حرب مدمرة كان يمكن تجنبها..لكن حكما كهذا ينطوي دون شك على قدر من الظلم والإجحاف إذا بقي إجماليا على قاعدة "السيئة تعم والحسنة تخص"..لكنا ندعو القارئ اللبيب إلى التريث وعدم استعجال التفاصيل التي سنأتي عليها لاحقا في السياق.  

تحديات المرحلة الانتقالية:

         تعرفنا على مهام المرحلة الانتقالية كما هي مضمنة في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومحددة في نقاط ثمان من بينها " إتخاذ خطوات للمضي قدما نحو بناء نظام ديمقراطي كامل بما في ذلك إصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية"..ومهام من هذا القبيل في مرحلة إنتقالية صراعية لا بد أن تقف أمام إنجازها تحديات..والتعرف عليها لا يحتاج إلى اجتراح معجزة وإنما إلى تعاون وتكامل بين القائد ويسار النخبة..وفيما يلي سنحاول التعرف على هذه التحديات من خلال الإجابة على الأسئلة التالية: 1 – ما هي حالة الدولة؟.2 – ماهي حالة المجتمع المدني؟.3 – ما هي حالة التنظيمات الوسيطة؟.4 - ما هي حالة الوحدة الوطنية للبلاد؟

         إن الإجابة الموضوعية على هذه الأسئلة ستكشف عن كثير من المستور وستساعدنا في  التعرف على الأسباب الحقيقية لفشل المرحلة الانتقالية في إنجاز مهامها وتمكين الثورة المضادة من الانقلاب على التوافق الوطني ودفع البلاد نحو حرب كان يمكن تجنبها.

أولا: حالة الدولة:

         عشية ثورة فبراير 2011 كانت الدولة مصنفة عالميا كدولة " فاشلة عاجزة عن تحقيق وظائفها تجاه المجتمع فيما يتعلق بالأمن والنظام والعدل والتنمية "..وهذا عائد إلى كونها دولة مصادرة في طريقها لأن تصبح دولة صالحية مهيئة للتوريث مثلها مثل أي عقار خاص أو رصيد بنكي ينتقل بالوراثة من الأب إلى الإبن..وهناك جيش خاص تحت مسمى الحرس الجمهوري جاهز لسحق أي إرادة معارضة لإرادة التوريث..والولاء في كل مؤسسات الدولة المركزية والمحلية كان لشخص الرئيس، وكذلك هو الحال في سلطات الدولة الثلاث، بما في ذلك البرلمان الذي يفترض أنه يعبر عن إرادة الشعب..هذا فضلا عن جيش جرار من المنتفعين تحت مسمى المؤتمر الشعبي العام الذي يصادر الوظيفة العامة رأسيا وأفقيا في كل مفاصل الدولة في المركز والمحليات..باختصار لم تكن هناك دولة حاضنة للسلطة، وإنما سلطة عميقة صادرت الدولة واستحوذت عليها كليا ولم تبقِ فيها على أي شيء اسمه فضاء عام لكل اليمنيين، بما في ذلك كتب المطالعة المدرسية التي تلقن التلاميذ أيديولوجيا النظام وتقدس حروبه الداخلية ضد الشركاء الوطنيين..ودولة من هذا القبيل لا يمكن أن تدار إلا بآليات الفساد والإفساد فضلا عن القوة القهرية.

         إذن حالة الدولة تنطوي على تحديات كثيرة تمتد من المركز إلى المحليات وتتحرك داخل مساحة واسعة تشمل كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك مؤسسة الرئاسة..لكنها تتفاوت من حيث درجة خطورتها وقدرتها على إفشال مهام المرحلة الانتقالية..وكان على القيادة السياسية أن ترتبها بحسب خطورتها وأن تعالجها على مرحلتين..بحيث تكون الأولى إسعافية وسريعة لا تحتمل التأجيل، والثانية نهائية تترك للنقاش والتوافق على كيفية معالجتها عبر الحوار الوطني..والمعالجة الإسعافية تعني تحييد هذا التحدي أو ذاك وشل قدرته على الإعاقة والتعطيل والممانعة.

         وإذا أردنا أن نسمي بعض التحديات التي تمثلها حالة الدولة سنشير تلقائيا إلى القضاء وأجهزة الضبط القضائي والخدمة المدنية والسلطة المحلية والتعليم والإعلام والجيش والأمن....الخ..لكن إذا رتبناها بحسب خطورتها فسنضع الجيش على رأسها، ويليه في الخطورة حالة الإعلام كسلطة ناعمة شديدة التأثير على اتجاهات الرأي العام.

         وفيما يتعلق بالجيش جميعنا يعلم أن المبعوث الأممي جمال بن عمر ذهب شخصيا إلى كبار أركان نظام علي صالح في المؤسسة العسكرية وأقنعهم بعدم جدوى التمرد على قرارات الرئيس الانتقالي التي قضت بتغييرهم..وكان هذا أول وأصعب إجراء إسعافي شمل أقرباء علي صالح على رأس الجيش وقوبل بارتياح شعبي واسع..وهذا الإجراء هيأ المناخ لمواصلة الاجراءات الإسعافية في المؤسسة العسكرية على نحو سريع وشامل بحيث يتم الانتهاء منها قبل انصرام الستة الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية؟.فلماذا لم تتواصل هذه الإجراءات؟.هنا لا مناص من الكشف عن المستور.

         إن تحديا غير منظور هو الذي حال دون مواصلة الاجراءات الاسعافية في المؤسسة العسكرية..وهذا التحدي مثلته " سلبية القائد في تفاعله مع يسار النخبة، وسلبية يسار النخبة في تفاعلها مع القائد"..ولأنه غير منظور فإنه موضوع خلافي لن يوافقنا عليه كثيرون ممن اصطفوا مع ثورة فبراير 2011..أما عدم الموافقة فلأسباب هي في أغلبها حزبية وسياسية وأيديولوجية..وهناك متحررون من هذه الأسباب قد يعترضون علينا لاعتقادهم أننا أفرطنا في المثالية عندما ألقينا باللائمة على القيادة السياسية ممثلة بالقائد ويسار النخبة..ويعتقد هؤلاء أن تفاعل القائد ويسار النخبة مع التحدي الذي مثله الجيش لم يكن سلبيا، وأن التعاطي مع هذا التحدي كان مرنا وواقعيا..وهذا اعتراض يستحق المناقشة.

         إن الجيش في نظر هؤلاء المعترضين منطقة خطرة يتعذر الاقتراب منها وإخضاعها لإصلاحات إسعافية سريعة تنقله من مربع الولاء لعلي صالح إلى مربع الحياد الإجباري، وإعادة هيكلة الجيش على النحو الذي تم كان هو الممكن الواقعي الوحيد..ويردد هؤلاء مع الرئيس هادي أن علي صالح لم يسلم السلطة وإنما سلم العلم فقط، وأن السلطة على الجيش بقيت للرئيس السابق..فهل هذه حجة يعتد بها؟.هل فعلا أن صالح لم يسلم لهادي إلا العلم؟ أم أن المشكلة في هادي ويسار النخبة؟. علينا أن نقف أمام هذه الجزئية بموضوعية وشجاعة أدبية.

         إننا إزاء تسوية سياسية تمت في مناخ ثوري، وقامت على مرحلتين إنتقاليتين برعاية إقليمية ودولية..المرحلة الأولى مدتها ستون يوما إنتقلت خلالها صلاحيات الرئيس إلى النائب..بينما بقي علي صالح محتفظا بشرعيته كرئيس..وشرعية بلا صلاحيات هي شرعية في حالة احتضار..ويوم 21 فبراير 2012 تم الإعلان عن موت شرعية علي صالح ودفنها ليصبح هادي هو الرئيس الشرعي بموجب توافق وطني ممهور بتزكية الشعب..فهل من الجائز القول إنه لم يستلم إلا العلم؟.هل كان ينتظر من علي صالح أن يعمل له جردا مخزنيا بضباط الجيش؟.هل كان ينتظر من الشيطان أن يتحول إلى ملاك؟.إننا إزاء مرحلة إنتقالية صراعية ومعترك سياسي لا مكان فيه لحسن النوايا..والشرعية التي أصبحت لهادي كرئيس انتقالي منحته صلاحيات تقليم أظافر الشيطان في المؤسسة العسكرية خلال الستة الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية..لكن تحديا غير منظور هو الذي أعاق هادي ورفع شهية علي صالح للعودة إلى السلطة.

         لقد كان على القائد وبتعاون فعلي من يسار النخبة الشروع فورا في عقد مؤتمر وطني شفاف للجيش تبنى تقاريره بناء علميا ووطنيا على قاعدة بيانات ميدانية دقيقة وشفافة تكشف حقائق الفساد الكبير في هذه المؤسسة وتؤسس لسلسلة من القرارات الإسعافية والسريعة التي تخرج الجيش من حالة الخطر الذي يمثله على المرحلة الانتقالية، وما تبقى يترك للمعالجة عبر الحوار الوطني..وهذه مهمة كان بالإمكان إنجازها خلال الستة الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية بعيدا عن حسابات الربح والخسارة، وأن تصاحبها تغطية إعلامية واسعة ونوعية تضع الرأي العام في صورة ما يجري أولا بأول لضمان مساندة إيجابية ومنظمة من قبل الشعب التواق إلى رؤية التغيير والجاهز للدعم والتأييد..أما القول بأننا مفرطون في المثالية فمعناه أن الثورة المضادة كانت حتمية ولا راد لقضائها وقدرها..وهذا تبرير للفشل وتستر على الفاشلين الذين لم يكونوا عند مستوى اللحظة التاريخية التي وفرتها الثورة.

          أما إعادة هيكلة الجيش - على النحو الذي تم – فقد تحكمت بها حسابات ما دون وطنية عند القائد وعند يسار النخبة..وتجلى ذلك من خلال المناقلة وتبادل المواقع القيادية في الجيش وممارسة سياسة الإرضاء والاسترضاء..وبرغم أن إعادة الهيكلة لم تقلم أظافر الشيطان إلا أنها كانت عرضة لتشكيكه وتسفيهه حد القول بأنها مؤامرة على درع الوطن وعينه الساهرة..مع أن إعادة الهيكلة كشفت عن أرقام ومعلومات خطيرة ظلت طي الكتمان..فالشعب لم يعلم إلى اليوم أن حجم الفساد في كل لواء عسكري تراوح بين 20 و 40 مليون ريال يمني شهريا (الحرس وحده 32 لواء وربما أكثر والفرقة 27 لواء)، وأن الجيش اليمني هرم مقلوب عدد العقداء فيه أكثر من عدد الملازمين بسبب الترقيات التي كانت تتم خارج القانون، وأن 97 ألف جندي و17 ألف ضابط من محافظة ذمار وحدها وأغلبهم من مديرية واحدة (آنس)..كما لم يتم الكشف عن الأسماء الوهمية التي بلغت أرقاما مهولة تجاوزت الأسماء الفعلية في الميدان..يضاف إلى ذلك التركيبة المناطقية للجيش الذي ينتمي معظمه إلى ثلاث محافظات هي ذمار وصنعاء وعمران..يضاف إلى ذلك مناطق تموضعه التي لا يوجد ما يبررها من منظور الأمن القومي للبلاد..ومناطق التموضع هذه تستدعي بالضرورة تكريس عقيدة عسكرية غير وطنية..وهذا يفسر السهولة التي انقاد بها الجيش وراء مليشيات الحوثي ليخوض حربها ضد الوطن.

         ولكن هذا كله لا يعني أبدا أن الجيش كان منطقة عصية على أية إصلاحات إسعافية..فالمشكلة تكمن في البنية، أما الأفراد ومعظم الضباط فلن يقفوا ضد أية إصلاحات وطنية ومدروسة من كل جوانبها بحيث تتضمن معالجات مقنعة لكل الأعراض الجانبية التي يمكن أن تنتج عن الاصلاحات الاسعافية..وبما أن فساد نظام علي صالح طال كل مؤسسات الدولة وكل قطاعاتها فإن القضاء عليه في مؤسسة الجيش دون غيرها سيكون عديم المصداقية وسيفسر على أنه استهداف مالم ترافقه إصلاحات جادة في ثلاثة أو أربعة من أهم القطاعات..وبما أن شيئا من هذا القبيل لم يحصل فإن أول شعار رفعته الثورة المضادة هو إقالة حكومة الفساد..وسنبتعد كثيرا عن الموضوعية إذا لم نعترف بأن حكومة باسندوة كانت فعلا حكومة فساد.  

ثانيا: حالة المجتمع المدني.

         المجتمع المدني في أحد تعريفاته هو شبكة واسعة من المنظمات والتنظيمات والنقابات والاتحادات والجمعيات القوية والمتماسكة..وهو من خلال هذه الشبكة يسمي حاجاته ومطالبه التي يتوجب على السياسة أن تصغي إليها وأن تلبيها..وهي دائما حاجات متجددة تغطي كل مناحي حياة المجتمع التي لا تستقيم الحياة المعاصرة بدونها..وفضلا عن ذلك يلعب المجتمع المدني القوي والمنظم دورا محوريا في منع تغول الدولة وجنوحها نحو الاستبداد.

         وإذا نظرنا إلى المجتمع المدني عندنا في ضؤ هذا التعريف سنجده مجتمعا ممزقا وضعيفا معظمه يفتقر إلى الحد الأنى من التنظيم..والتنظيمات القائمة مسميات بلا أي فاعلية لأنها عمليا مخترقة من الأجهزة الأمنية وزبانية السلطة ومخبريها، فضلا عن اختراقها من قبل الأحزاب التي تعتقد أنها لا تستطيع أن تتنفس إلا بالسيطرة على تنظيمات المجتمع المدني الأمر الذي جعل من هذه التنظيمات ساحات للصراع بين أحزاب هي في مجملها تفتقر إلى الديمقراطية الفعلية في حياتها الداخلية..وهذه في مجموعها عوامل أضعفت المجتمع المدني وشلت فاعليته وقدرته على التأثير الإيجابي في الشأن العام.

         ولمقاربة الأهمية الكبيرة التي يمثلها المجتمع المدني المنظم بمقدور القارئ اللبيب أن يتخيل كل شيوخ القبائل وكل رجال الدين وكل عقال الحارات وكل مسلحي أنصار الله وقد قرروا أن يعتصموا في منازلهم ولا يغادرونها لعام كامل..بالتأكيد لن يترك هذا أي أثر سلبي على مسار الحياة اليومية..ولربما خلت شوارع المدن من المسلحين وكف الناس عن سماع أصوات الأعيرة النارية وتراجع حجم المخالفات المرورية إلى مستويات متدنية...الخ.

         لكن ماذا لو قرر كل المعلمين وكل المحامين وكل الصحفيين وكل المهندسين وكل الأطباء والصيادلة وكل أساتذة الجامعات وكل الجمعيات والاتحادات النسائية وكل الغرف التجارية وكل عمال القطاع الخاص والحكومي والمختلط وكل موظفي الجهاز المدني للدولة...إلخ أن يتواروا في منازلهم ليوم واحد؟..بالتأكيد ستصاب الحياة العامة بالشلل..أما إذا أضفنا إلى هؤلاء أولئك الذين يقدمون للمجتمع مختلف أنواع الخدمات الأخرى كسائقي سيارات الأجرة وعمال المطاعم وباعة التجزئة وعمال النظافة...الخ فإن المشهد سيتسم بالشلل التام.

         هذه الفئات مجتمعة منعت من تأطير نفسها مهنيا في تنظيمات مجتمعية مدنية، وتلك التي أطرت نفسها تعرضت تنظيماتها للإختراق الممنهج لإضعافها وشل فاعليتها..وهذا يفسر إلى حد كبير لماذا تجرأت مليشيات الحوثي من اجتياح العاصمة  ومصادرة أجهزة الدولة وتعطيل إيقاع الحياة اليومية وتضييع مصالح الناس وانتهاك الحقوق والحريات وتحويل البلاد إلى ساحة حرب وسوق سوداء للمتاجرة بالمحروقات والمشتقات النفطية..لقد فعلت كل هذا وأكثر لأنها جاءت إلى فضاء مجتمعي تعلم افتقاره إلى التنظيم الذي يمنحه القوة والقدرة على المقاومة المدنية السلمية الفاعلة..وبسبب غياب هذا النوع من المقاومة ذهبت المليشيات المسلحة تسوق نفسها على أنها الشرعية التي من حقها أن تفعل ما تريد وكيفما تريد..ولمواجهة هذا الوضع الشاذ نشأت مقاومة شعبية مسلحة لتملأ الفراغ الذي تركه ضعف المجتمع المدني..وشتان بين المقاومة المدنية السلمية والمقاومة الشعبية المسلحة..فالأولى هي مقاومة وطنية بالضرورة، والثانية يخالطها قدر كبير من عدم النقاء الوطني..ومن يشكك في هذا الحكم الآن عليه أن ينتظر حتى يحين وقت حصاد النتائج..والوضع الأمني في عدن بعد تحريرها يشير إلى بعض ملامح هذا الحصاد.

         إن ضعف المجتمع المدني كان من بين أبرز التحديات المنظورة أمام إنجاز المرحلة الانتقالية..أما التحدي غير المنظور فقد مثلته القيادة السياسية ممثلة بالقائد ويسار النخبة..وإذا قدر لأي باحث أن ينقب في أرشيف الصحافة اليومية الصادرة خلال هذه المرحلة فلن يعثر على قرينة واحدة تثبت أن هذه القيادة كانت مدركة لطبيعة هذا التحدي..علما بأن الحديث هنا يتعلق بمنظمات كان بمقدورها أن تحشد مئات الآلاف من الفاعلين الاجتماعيين النوعيين لدعم عملية التحول السياسي في البلاد..ولم يكن مطلوبا من القيادة السياسية سوى الاعتراف الفعلي بشراكة المجتمع المدني في التغيير وتحريره من القبضة الأمنية والوصاية الحزبية وتمكينه من تنظيم طاقاته بالسرعة التي تشعر الثورة المضادة بأن حركة قطار التغيير أقوى من قدرتها على الإعاقة والممانعة..لكن الذي حصل أن الثورة المضادة كانت هي صاحبة المبادأة في حشد القبائل المسلحة للإعتصام في مداخل العاصمة وترديد شعارات كانت في مجملها كلمة حق أريد بها باطل..بينما أبقي المجتمع المدني مشلولا خارج دائرة الفعل السياسي.   

ثالثا:حالة التنظيمات الوسيطة:

         التنظيمات الوسيطة هي الأحزاب السياسية لوقوعها وسطا بين المجتمع والدولة..وبسبب هذا الموقع تأخذ الأحزاب معظم مضمونها من المجتمع ومعظم شكلها من الدولة..فكثير من خصائص المجتمع والدولة تنتقل إلى الأحزاب وتؤثر فيها..ونوع هذا التأثير يتوقف سلبا أو إيجابا على طبيعة المجتمع وطبيعة الدولة..فإذا كان المجتمع مستنيرا وعقلانيا وكانت الطبيعة المدنية هي الغالبة عليه كان تأثيره على الأحزاب إيجابيا..أما إذا كانت الأمية هي الغالبة وكانت الثقافة السياسية متدنية وكان المجتمع مكتضا بالعصبيات القبلية فإن التأثير يكون سلبيا..وقل مثل ذلك فيما يتعلق بأثر الدولة على الأحزاب..فإذا كانت الدولة ديمقراطية فعلا فإن هذه السمة تمتد لتشمل الأحزاب باعتبارها جزءا من المنظومة السياسية للبلاد..أما إذا كانت الدولة غير ديمقراطية فإن مرضها هذا ينتقل إلى الأحزاب بما في ذلك الحزب الحاكم الذي يستمد قوته من آليات الدولة لا من بنيانه الداخلي..والدولة غير الديمقراطية تذهب مذاهب متطرفة في السعي لإضعاف الأحزاب أمام حزب السلطة المصادرة للدولة..وأي حزب يتمتع بالقوة والعافية يظل في مرمى نيرانها حتى يفقد عافيته.

         ومثلما أن تأثير الدولة يطال كل الأحزاب فإن تأثير المجتمع أيضا يطالها جميعا ولكن بنسب متفاوتة بحسب طبيعة كل حزب..ويكون هذا التأثير كبيرا جدا على الأحزاب التقليدية التي تسعى إلى التوسع والانتشار بالجنوح نحو مسايرة المجتمع ومنافقته والتَّكيُّف معه حد التفريط بنقائها المدني..وفي الحالة اليمنية يتجلى هذا التفريط من خلال الاستقواء بالشق القبلي من المجتمع على شقه المدني تحت مسمى التحالفات التي غالبا ما تكون معيقة لبناء الدولة.

         وفي الغالب تكون مظاهر المسايرة والتكيف السمة البارزة في الأحزاب الدينية التي تمارس السياسة بخطاب ديني وعظي..وقد سارت على هذا النهج لأنه أقصر وأسهل الطرق لكسب قلوب الناس في مجتمع معظمه أمي..والهدف هنا هو الاستحواذ على القاعدة الشعبية وليس الارتقاء بالمجتمع وقيادته لإنتاج الدولة الديمقراطية..وبسبب هذا النهج تقف الأحزاب الدينية بكل طاقتها ضد محاولات التأثير على القاعدة الشعبية بخطاب سياسي مدني غير ديني..وهذا يفسر وقوعها في التطرف وتكفير وتسفيه وتحقير الخطابات المغايرة لخطاباتها.

         الأمر الآخر فيما يتعلق بالأحزاب اليمنية أن معظمها أحزاب كرتونية مفرخة..والأحزاب الفعلية هي في الغالب أحزاب غير ديمقراطية وغير برنامجية..وهي من هذه الناحية قبائل عصرية، إذا جاز التعبير، ورئيس الحزب هو عمليا شيخ الحزب الذي تمحضه القواعد ولاءها الأعمى وترى في شخصه تجسيدا للحكمة التي بدونها لا يمكن لبنيان الحزب أن يستقيم..وما لم تصحح الأحزاب أوضاعها الداخلية ديمقراطيا فإنها ستظل فاقدة للمصداقية فيما يتعلق بخطابها تجاه دمقرطة الدولة..فمثلما تؤثر الدولة غير الديمقراطية سلبا على الأحزاب فإن تأثير الأحزاب غير الديمقراطية على بناء مؤسسات الدولة وإدارتها يكون هو الآخر سلبيا وعلى نحو خاص في المراحل الانتقالية.

         وإذا تأملنا في الخارطة الحزبية اليمنية سنجد أنفسنا أمام واحد من أبرز التحديات المنظورة أمام مهام المرحلة الانتقالية..ومن بين مظاهر هذا التحدي بقاء الرئيس السابق حاضرا في المشهد السياسي على رأس المؤتمر الشعبي العام صاحب السلطة العميقة في البلاد..ولم يكن من سبيل للتغلب على هذا التحدي سوى أن يكون القائد ويسار النخبة مدركين لهذا التحدي ومقتنعين بضرورة إحداث إصلاحات واسعة تطال كل المنظومة الحزبية على نحو لا يستطيع معه المؤتمر الشعبي العام أن يغرد خارج السرب ويظل متمسكا بزعيم خلعه شعبه..وبما أن القيادة السياسية لم تكن مدركة ولا مقتنعة بضرورة هذه الإصلاحات فقد مثلت هي نفسها تحديا غير منظور أمام نجاح المرحلة الانتقالية بتركها الأحزاب السياسية الداعمة للثورة وللتغيير جامدة خارج دائرة الفعل الإيجابي..وقد استثمرت قيادة المؤتمر الشعبي العام هذا التحدي وذهبت تمارس دور المعارضة رغم احتفاضها ب 50 % من قوام الحكومة إلى جانب كونها صاحبة السلطة العميقة في البلاد..ومن الطبيعي والأمر كذلك أن تنجح مساعي الثورة المضادة في الانقلاب على التسوية السياسية وخارطة طريق المرحلة الانتقالية.

رابعا: حالة الوحدة الوطنية للبلاد:

         أحدثت حرب 1994 شرخا واسعا في الوحدة الوطنية يشكل اليوم أكبر تهديد  لوحدة البلاد التي أعلنت في 22 مايو 1990..وعندما اندلعت ثورة فبراير 2011 ساعدت إلى حد كبير على توحيد المزاج العام الرافض لنظام علي صالح ووفرت فرصا مواتية لترميم شروخ الوحدة الوطنية..لكن الإدارة السيئة للمرحلة الانتقالية تركت هذه الفرص تذهب أدراج الرياح..والإدارة السيئة فيما يتعلق بهذه الجزئية تندرج في إطار التحديات غير المنظورة التي استثمرتها الثورة المضادة للمزايدة السياسية على القضية الجنوبية..ونحن نعلم أن عبد الملك الحوثي اعترف على طريقته بهذه القضية ورفع رايتها ودعا القيادات الجنوبية في الخارج للعودة إلى صنعاء معززة "مكرمة للجلوس على طاولة الحوار" كما قال..وبصرف النظر عن موقفنا من هذا الاعتراف وهذه الدعوة فنحن أمام فراغ كبير وجدته الثورة المضادة لتتحرك داخله.

         إن القيادة السياسية ممثلة بالقائد ويسار النخبة لم تفعل شيئا للقضية الجنوبية طوال المرحلة الانتقالية غير ذلك الاعتذار الهزيل الذي قدمته حكومة الوفاق على استحياء..والأنكأ من ذلك أن القيادة السياسية ذهبت تطرح القضية الجنوبية بشقيها السياسي والحقوقي على طاولة الحوار الوطني..والطبيعي أن يقتصر الحوار على الشق الأول فقط..أما الشق الثاني فليس من الجائز أن يكون موضوعا للحوار لتعلقه بحقوق ثابتة لا تحتاج سوى إلى سلسلة من القرارات الرئاسية والحكومية الكفيلة بإعادة الحقوق إلى أهلها..فعلى سبيل المثال هناك جيش بكامله جرى إحالته إلى التقاعد القسري بإجراءات مهينة وحقوق منقوصة وحكم على قادته وضباطه أن يتحولوا إلى عاطلين فقراء مجبرين على ممارسة مهن لا تليق بأناس تخرجوا من أرقى الأكاديميات العسكرية..وكل هذا لأنهم جنوبيون غير مضموني الولاء لنظام علي صالح الذي قلَّد أقرباءه من كل الدرجات أعلى المناصب العسكرية وأطلق أيديهم للعبث بالمليارات، وكأن اليمن مزرعة خاصة بهم..وأثناء ثورة فبراير 2011 كان ثوار الساحات يضحون ويسترخصون الموت لاعتقادهم أن ثورتهم ستعيد الحقوق إلى أهلها وسترمم الشروخ التي أحدثها علي صالح في جدار الوطن والجروح التي مزقت نسيجه الاجتماعي..لكن رياح السياسة أتت بما لا تشتهي سفن الثورة..فالقائد ومعظم يسار النخبة شركاء في حرب 1994 وغير مؤهلين لمعالجة آثارها.

        

         والحديث عن حالة الوحدة الوطنية يستدعينا تلقائيا للذهاب إلى محافظات شمال الشمال التي يصنفها البعض كحاضنة شعبية لانقلاب الثورة المضادة، في مقابل بقية محافظات الجمهورية التي ترفض هذا الانقلاب وتقاومه..وإذا صح هذا التصنيف فنحن أمام انقسام مجتمعي كبير على أساس مذهبي وجهوي..ولكن كيف نفسر مشاركة هذه المحافظات في ثورة فبراير 2011 وتقديمها شهداء قضوا في ساحات الحرية والتغيير من أجل إسقاط نظام علي صالح؟.

         في اعتقادنا أن تصنيف محافظات شمال الشمال على أنها حاضنة شعبية للثورة المضادة لمجرد أنها محافظات زيدية ينطوي على قدر كبير من الإجحاف..ولا يمكن التسليم بصحته إلا إذا اعتبرنا مقاومة المحافظات الأخرى للثورة المضادة ناجمة عن سنيَّتها..وفي هذه الحالة يجب توصيف ما يجري في البلاد على أنه احتراب طائفي مكشوف..ونحن لا نرى هذا التوصيف صائبا البتة رغم وجود من يستدعي هذا البعد ويعمل على تغذيته من الجانبين مختزلا الوطن في المذهب والمنطقة كوسيلة من وسائل الحشد والتعبئة في بلد تعثر مشروعه الوطني وفشلت نخبه في إنتاج دولة لكل مواطنيها.

         والحقيقة أن محافظات شمال الشمال شهدت خلال المرحلة الانتقالية حالة فراغ استثمرته الثورة المضادة للتحرك من خلاله بخطاب تحريضي غير معلن أثار في أبنائها الخوف والفزع من المستقبل..ومؤدى هذا الخطاب أن أبناء هذه المحافظات سيتعرضون للتهميش ولن يجدوا فرص عمل للعيش الكريم حتى في الجيش الذي ينتمي نحو 80 % من أفراده وضباطه إلى هذه المحافظات..وضاعف من هذا الخوف التشويه المتعمد الذي طال مفهوم الدولة الاتحادية في ظل تفشي الأمية وتغييب دور وسائل الإعلام الرسمي، وعلى نحو خاص المسموع والمرئي..ثم تضاعف هذا الخوف أكثر بسبب توزيع الأقاليم على النحو الذي حاصر محافظات شمال الشمال في جغرافيا مغلقة انتزعت منها محافظة حجة بسبب انفتاحها على البحر..والذين فعلوا هذا فعلوه بذهنية صراعية لمحاصرة الحوثية، وليس بذهنية وطنية تتوخى بناء دولة..وبهذا الفعل بدا كما لو أن حكما قد صدر على أبناء هذه المحافظات بأن يدفعوا ثمن وجودهم في جغرافيا احتضنت خلال القرون الوسطى الإمامة الهادوية بمحمولها السلالي العنصري..وبدلا من التفكير بإخراج  هذه الجغرافيا من تلك القرون وإدماجها في الفضاء الوطني الأوسع قرر مهندسو الأقاليم محاصرتها هناك لتكون إقطاعية مملوكة حصرا لمراكز قوى استمرأت المركزية الإلحاقية..وما الحوثية إلا أحدى تعبيرات هذه المركزية، ولكن ببعد سلالي عنصري تجاوزه الزمن معرفيا وأخلاقيا.

         إن اليمن كله يدفع ثمن تعثر المشروع الوطني الذي بشرت به ثورتا سبتمبر وأكتوبر..لكن محافظات شمال الشمال دفعت الثمن الأكبر بسبب استخدامها مخزونا عسكريا لصالح نظام 5 نوفمبر 1967 الذي لولاه ما آل حكم البلاد إلى رجل نكرة كثير عليه أن يكون مجرد ضابط صغير في الجيش..وبسبب عسكرة هذه المحافظات أصبحت تستحوذ على معظم الفائض الاقتصادي للبلاد الذي يذهب لصالح حفنة من المتنفذين بينما لا يذهب لصالح التنمية المحلية إلا القليل القليل..وكان من نتائج ذلك أن معظم أبناء هذه المحافظات وجدوا أنفسهم غير قادرين على المنافسة القوية في سوق العمل..وقد اتكأت الثورة المضادة على هذه الحقيقة لإقناعهم أنهم سيكونون ضحايا التغيير القادم عبر الحوار الوطني..والمؤسف أن القيادة السياسية ممثلة بالقائد ويسار النخبة لم تبعث برسالة تطمين واحدة إلى أبناء هذه المحافظات تقنعهم بأن الآتي سيكون أفضل بما لا يقاس من الماضي، وأن دولة لكل مواطنيها هي التي ستوفر لهم فرص الحياة الكريمة بصرف النظر عن: من ومن أين يكون رئيسها؟.

         تلك إذن حالات الدولة والمجتمع المدني والأحزاب السياسية والوحدة الوطنية للبلاد..وجميعها تحديات لا تسمح بالحديث عن فترة إنتقالية مثالية يكتفى خلالها بالتوافق على دستور جديد والذهاب إلى إنتخابات..والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا لم تشهد الفترة الانتقالية إصلاحات حقيقية ولو بالحدود الدنيا الإسعافية التي يتعذر معها الانقلاب على شرعية التوافق الوطني؟.لماذا تمكنت الثورة من تنفيذ انقلابها وتسويق نفسها كثورة بديلة ارتدت ثوب الشرعية الثورية؟.في اعتقادنا أن الأسباب تكمن في العامل القيادي الذي قاد المرحلة الإنتقالية..وحتى لا يكون هذا حكما مرسلا سنفرد لكل من القائد ويسار النخبة عنوانا جانبيا.

أولا: القائد (الرئيس الانتقالي).

         أصبح هادي رئيسا انتقاليا للبلاد بتوافق وطني ممهور بتزكية الشعب..وتم هذا في مناخ ثورة شعبية عارمة مطالبة بإسقاط نظام علي صالح وبناء دولة لكل مواطنيها..ومن الطبيعي أن يتوقع الشعب الثائر من رئيسه الانتقالي تحقيق أهداف الثورة في التغيير والطلاق مع النظام القديم..والشعب عندما يتوقع هذا من القائد فإن جاهزيته تكون في أعلى مستوياتها لدعمه وتأييد خطواته والانتصار لقراراته..وما على القائد إلا أن يبقى في حالة تواصل دائم ومنظم مع الشعب..فهل استثمر القائد الحالة الثورية القائمة واهتم بالتواصل مع الشعب الثائر المتطلع للتغيير؟

         وعلى المستوى الإقليمي والدولي حظي هادي بدعم ملحوظ لم يحظ به رئيس يمني من قبل..ومن مظاهر هذا الدعم غير المسبوق أن مجلس الأمن جاء بكامل قوامه إلى اليمن وانعقد في صنعاء بحضور الأمين العام للأمم المتحدة..وكان سفراء الدول العشر على تواصل شبه يومي مع هادي..فضلا عن تعاون المبعوث الأممي جمال بن عمر الذي رأيناه منذ بداية المرحلة الانتقالية عرضة للتشكيك بنزاهته وحياديته من قبل الآلة الإعلامية المحسوبة على الرئيس السابق حد قولها إنه يتصرف كمندوب سامي.

         والبرنامج السياسي المطلوب إنجازه خلال المرحلة الإنتقالية وتضمنته المبادرة الخليجية قبلت به – نظريا على الأقل – كل أطراف التسوية السياسية الموقعة على المبادرة، بما في ذلك صالح وحزبه..وهو من هذه الناحية ليس برنامج هادي وإنما برنامج توافقي ملزم لكل الأطراف..وهذا عامل قوة للرئيس الانتقالي يتعذر معه تبرير أي تقاعس في الإنجاز والتنفيذ.

         ولكن هل كان الرئيس هادي مؤهلا على المستوى الشخصي لاستثمار هذه المتاحات والفرص؟.النتيجة التي آلت إليها الأمور في البلاد تقول إنه لم يكن مؤهلا..ومع ذلك من غير الجائز الحكم على أدائه إلا من خلال التفاعل المتبادل بينه وبين يسار النخبة.

ثانيا: يسار النحبة.

         سبق وأن عرفنا يسار النخبة بأنه ذلك الجزء من النخبة الذي شارك في الثورة ودعمها وآزرها وأعلن تأييده لها أو على الأقل رحب بها واستحسنها..ومعظم يسار النخبة كان مؤتلفا في إطار أحزاب اللقاء المشترك، ثم اتسعت دائرته في إطار المجلس الوطني لقوى الثورة..وبما أن هذا الجزء من النخبة غير متجانس سياسيا إلا من حيث موقفه الإيجابي من الثورة فمن غير الجائز محاكمته ككتلة صماء..لذلك سننتقل في الحديث عن يسار النخبة من التعميم إلى التخصيص مبتدئين بالتعرف على مكوناته:

أولا: مكوِّن التجمع اليمني للإصلاح:

1 – محمد عبد الله اليدومي (رئيس الحزب ومستشار الرئيس)

2 – عبد الوهاب الآنسي (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس)

3 – علي محسن الأحمر (صاحب سلطة عسكرية ومالية ومستشار الرئيس)

4 – حميد بن حسين الأحمر (صاحب سلطة مالية ونفوذ قبلي)

5 – عبد المجيد الزنداني (صاحب سلطة دينية ورئيس هيئة علماء اليمن ورئيس جامعة الإيمان)

6 - مدير مكتب رئاسة الجمهورية.

7 - وزير الكهرباء.

8 – وزير التربية والتعليم.

9 – وزير الإعلام.

10 – وزير حقوق الإنسان.

11 – وزير العدل.

12 – وزير التخطيط والتعاون الدولي.

13 – وزير الداخلية.

14 – وزير المالية.

ثانيا: محمد سالم باسندوة (رئيس الحكومة).

ثالثا: مكوِّن الحزب الاشتراكي اليمني.

1 – ياسين نعمان (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس)

2 – وزير الشئون القانونية.

3 – وزير النقل

4 – وزير دولة.

رابعا: مكوِّن الوحدوي الشعبي الناصري.

1 – سلطان العتواني (رئيس الحزب ومستشار الرئيس)

2 – وزير الإدارة المحلية

خامسا: مكوِّن التجمع الوحدوي.

1 –وزير الثقافة.

سادسا – مكوِّن حزب الحق.

1 – حسن زيد (أمين عام الحزب ووزير دولة)

2 – وزير دولة.

ثامنا: مكون إتحاد القوى الشعبية.

1 – وزير المياه والبيئة.

تاسعا: مكوِّن حزب البعث.

1 – عبد الحافظ نعمان (أمين عام الحزب ووزير التعليم المهني)

عاشرا: مكون إتحاد الرشاد السلفي.

1- العامري (رئيس الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق القضية الجنوبية)

2 – عبد الوهاب الحميقاني (أمين عام الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق بناء الدولة).

حادي عشر: مكوِّن حزب العدالة والبناء.

1 – أبو لحوم (رئيس الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق القضية الجنوبية)

2 - عبد العزيز جباري (أمين عام الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق بناء الدولة).

ثاني عشر: المكون الحراكي المشارك في الحوار.

1 – محمد علي أحمد (رئيس المكون ورئيس فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني)

2 – ياسين مكاوي (عضو الحوار الوطني ومستشار الرئيس).

ثالث عشر: مستشارون:

1 – عبد الكريم الإرياني ( المؤتمر الشعبي)

2 – فارس السقاف (مستشار ثقافي للرئيس)

3 – محبوب علي (مستشار إعلامي للرئيس)

رابع عشر: مقربون من هادي.

1 – وزير الدفاع

1 – أمين عام مؤتمر الحوار الوطني.

          وهذه هي مكونات النخبة التي كان معولا عليها مع الرئيس هادي أن تتعاون وتتظافر من أجل نجاح الفترة الانتقالية في تحقيق أهدافها..هل تفاعلت مع القائد إيجابيا؟..هل كانت في تفاعلها مع القائد منضبطة لقيم ومثاليات المجتمع  ومخلصة لتطلعات الشعب؟..هذا موضوع الجزء الرابع من هذه القراءة.

 

الجمهورية اليمنية ( 1990 – 2015 )

ثانيا: الجمهورية اليمنية (7 يوليو 1994 – 21 فبراير 2012):

أهدرت حرب 1994 فرصة تاريخية كان قد وفرها إعلان 22 مايو 1990 من أجل بناء دولة حديثة لكل مواطنيها على قاعدة التوافق والشراكة الوطنية..ولكن لماذا لم ينهض التحالف الخماسي المنتصر بهذه المهمة التاريخية ليثبت أن حربه كانت ضرورية ومبررة؟ لماذا تحولت العلاقة بين حزبي التحالف الخماسي من علاقة تحالف استراتيجي كما كانت توصف إلى علاقة خصومة حد الفجور والمواجهة العنيفة؟. لماذا ظهرت القضية الجنوبية بشقيها السياسي والحقوقي؟. لماذا نشبت حروب صعدة الستة؟.لماذا اتسع نشاط القاعدة في اليمن؟.لماذا استشرى الفساد واستشرس على نحو لم يكن مسبوقا في أحجامه ومستوياته ؟. ماهي مآثر وإنجازات حزب المؤتمر الشعبي العام حتى يصبح صاحب الأغلبية المريحة ثم الكاسحة في انتخابات 1997 و 2003؟. لماذا تبدلت خارطة التحالفات السياسية بين الأحزاب؟.ولماذا ذهب اليمنيون إلى ثورة فبراير 2011؟.

لدينا إجابة موثقة قدمها قيادي مُخوَّل في حزب الإصلاح إلى فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني تعيد ما ذكرناه إلى سوء إدارة الرئيس صالح للبلاد بعد حرب 1994..لكن هذه الإجابة تظل بلا وجاهة ما لم يأتِ من يثبت أن إدارة علي صالح للبلاد قبل حرب 1994 كانت جيدة ووطنية وأنها لم تصبح سيئة وغير وطنية إلا بعد تلك الحرب..أما نحن فنلقي باللائمة كلها على الحرب نفسها وعلى الأهداف والدوافع والمحركات التي أغرت التحالف الخماسي بالذهاب إليها، ولا نراها إلا حرب أطراف هذا التحالف كلها وليست حرب علي صالح وحده..وإذا كان القيادي الإصلاحي المخوَّل لا يرى المشكلة إلا في إدارة علي صالح للبلاد بعد الحرب فهذا أمر غير مستغرب من أي طرف حرض على الحرب وخطط لها وشارك فيها.

وإذا كانت العبرة في النتائج التي أفضت إليها الحرب وليس في الشعارات والرايات التي سبقتها ورافقتها، فالنتائج تؤكد أن الوطن والشعب كانا الخاسر الأكبر فيها..بينما وزع علي صالح الغنائم بسخاء على الكبار والصغار في الفئات الخمس التي شكلت تحالف الحرب وأضاف إليها متحالفين من الجنوب شكلوا فئة المؤلفة قلوبهم داخل التحالف الخماسي..وهذه حقيقة لا تحتاج إلى إثبات ويكفي فقط النظر إلى الإرتفاع الخيالي والفجائي في منسوب الثروات التي أصبحت لكبار الفئات الخمس في هذا التحالف بصرف النظر عن تموضعها الحزبي داخل المؤتمر الشعبي العام أو داخل التجمع اليمني للإصلاح.

تخوين وثيقة العهد والاتفاق:

يوم 7 يوليو 1994، وقبل أن تصل القيادات الجنوبية إلى منافيها، تعهدت الحكومة اليمنية للإمم المتحدة خطيا بأنها ستعمل على تطبيق وثيقة العهد والاتفاق..وبعد أيام قال عنها علي صالح علناً بأنها وثيقة الخيانة..ولم ينبرِ أحد في كل الفئات الخمس، لا من الشمال ولا من الجنوب، لا في المؤتمر الشعبي العام ولا في التجمع اليمني للإصلاح، ليقول له: "عَيْبْ..هذه وثيقة بناء الدولة التي توافق عليها اليمنيون عبر حوار وطني وليست وثيقة خيانة".

وقد تكرر هذا التخوين في سبتمبر 2014، ولكن هذه المرة على لسان عبد الملك الحوثي عقب اجتياح مليشياته للعاصمة حين قال عن مشروع دستور الدولة الاتحادية بأنه "نتاج مؤامرة أجنبية"، وليس نتاج حوار وطني دام عشرة أشهر.

والمقارنة بين تخوين علي صالح لوثيقة العهد والاتفاق وتخوين عبد الملك الحوثي لمشروع دستور الدولة الاتحادية لا تخلو أبدا من قيمة نظرية وعملية..فمن الخطأ جدا النظر إلى هذا التكرار وهذا التشابه على أنه محض مصادفة..فالحوثي طرف في الحوار الذي أنتج مشروع الدستور مثلما كان علي صالح طرفا في الحوار الذي أنتج وثيقة العهد والاتفاق..والحوثي طالب بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني عندما كان يحاصر العاصمة بالقبائل المسلحة قبل اجتياحها، مثلما طالب علي صالح بالتئام هيئات الدولة في صنعاء لتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق قبل أن يجتاح الجنوب..ومثلما اعتبر الحوثي اجتياح العاصمة يوم 21 سبتمبر 2014 ثورة حقيقية بديلة لثورة فبراير 2011 كان علي صالح قد سبقه من قبلُ إلى اجتياح الجنوب واعتبار يوم 7 يوليو 1994 يوم وحدة حقيقية بديلة عن وحدة 22 مايو 1990..ومثلما قال الحوثي عن ثورته إنها ستغير وجه اليمن وستقضي على الفساد وستحل مظلومية الجنوب، قال علي صالح عن وحدة 7 يوليو إنها راسخة كرسوخ الجبال..وإذا كان معروفا لدينا منذ البداية أن الحوثي اجتاح العاصمة بمليشيا مسلحة فإن مالم يعرفه اليمنيون إلا مؤخرا هو أن على صالح أيضا اجتاح الجنوب عام 1994 بمليشيا مسلحة استطاع من موقعه كرئيس للدولة وقائد أعلى للقوات المسلحة أن يجعلها تتمظهر بمظهر الجيش الوطني..والحرب الراهنة هي التي كشفت هذا المستور وعرت حقيقة الجيش الذي يتلقى أوامره اليوم من قادة ميدانيين لمليشيا متمردة منذ العام 2004.. وهذا التكرار والتشابه يعبر في الحالتين أيما تعبير عن مفاعيل قانون واحد هو قانون المركزية الإلحاقية التي حركت تحالف حرب 1994 مثلما حركت تحالف الحرب الراهنة..وعلي صالح هو الثابت الحاضر في الحربين.

التبدل في خارطة التحالفات:

إن التبدلات في خارطة التحالفات لا تعبر بالضرورة عن تحول نوعي في طرائق التفكير عند النظر إلى القضايا الوطنية الجوهرية وعلى رأسها قضية الدولة..وغالبا ما تندرج هذه التبدلات في إطار ردود الأفعال التي تحركها المصالح..والذي حدث أن أطراف التحالف الخماسي أقصت الحزب الاشتراكي بواسطة الحرب عام 1994..وقد فعلت ذلك بحمية عصبوية لم تدرك معها أنها بهذا الفعل كانت تضعف وحدتها وتعجل ببروز تناقضاتها البينية كأطراف جمعتها مصالح لم تؤسس يوما ما على مبادئ محترمة وطنيا وأخلاقيا يتعذر الفكاك منها والإنقلاب عليها.

وهذا يفسر اعتراف علي صالح ل"قناة الحرة" بأن التجمع اليمني للإصلاح لم يكن بالنسبة له سوى كرت استخدمه وعندما انتهت صلاحيته رمى به..وكلام مثل هذا إذا صدر عن رئيس في دولة تخضع مؤسساتها للقانون فإن رد الفعل الطبيعي المتوقع هو تقديمه إلى العدالة ليواجه أحد احتمالين: إما وضعه في مشفى للأمراض العقلية أو تعليقه فوق أعواد المشنقة.

لقد توهم هذا الرجل أن نتائج حرب 1994 تمنحه القدرة على فعل ما يريد وكما يريد لتأسيس دولة صالحية وتمكين قطارها من السير فوق قضبان آمنة..ولهذا ذهب يتعجل طي الملفات العالقة وأخطرها ملف الحدود..كما ذهب يبرم عقودا جائرة في مجالي النفط والغاز مقابل رشاوى لاسترضاء الشركات ذات التأثير على سياسات بلدانها..والذي فك عرى التحالف الخماسي في موضوع التوريث ليس ملف الحدود، ولا الفساد الكبير في مجالي النفط والغاز، ولا الإشفاق على النظام الجمهوري، وإنما ما يتضمنه التوريث من انقلاب واسع على الفئات الخمس التي تموضعت داخل التجمع اليمني للإصلاح..فالتوريث لن يقتصر فقط على رئاسة الدولة، وإنما سيأتي بنخب غير تلك التي أحاطت بالرئيس الوالد وآزرته وتحالفت معه طوال سنوات حكمه وشكلت أهم عوامل قوته في كل محطاته الصراعية التي كان لا يخرج منها إلا ظافرا حتى طال عهده في الحكم ليتجاوز الثلاثة عقود..أي أن التوريث سيعيد توزيع السلطة والنفوذ والجاه والامتيازات على نحو مختلف عما كان عليه الحال في التحالف الخماسي..وهذا هو السبب الجوهري الذي أثار حفيظة قوى النفوذ العسكرية والمشيخية والدينية والمالية المحسوبة على حزب التجمع اليمني للإصلاح.

كان علي صالح يدرك جيدا أن توريث الحكم وإعادة توزيع السلطة والنفوذ عملية إنقلابية موجهة ضد حلفاء الأمس في التحالف الخماسي ومن المستبعد أن يتركه هؤلاء يمضي إلى حيث يشاء..فبالتوريث كان الرجل يعرِّض ويعلم أنه يعرِّض نظامه السياسي لأزمة قرر أن يستعد لكل احتمالاتها المتوقعه..ومن أجل ذلك ذهب يبني جيشا صالحيا خالصا له..كما ذهب يؤسس لتحالف جديد ذي طابع مذهبي مده بالمال والسلاح لمواجهة حلفاء الأمس..وقد أظهرت نتائج حروب صعدة الستة أنها كانت حروب تمكين لجماعة الحوثي للتنكيل بالفرقة الأولى مدرع والتجمع اليمني للإصلاح وكل الجماعات السلفية..إنها لعبة الرقص على رؤوس الثعابين التي استمرأها كثيرا.

أفضت نتائج حرب 1994 تدريجيا إلى انفراط عقد التحالف الاستراتيجي بين المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح.. والرجل الذي تنبأ بهذا قبل أن تطفو مؤشراته على السطح هو القائد الاشتراكي جار الله عمر الكهالي..وهو حين تنبأ لم يكن عرافا، وإنما سياسي محترف يقرأ خارطة التفاعلات الجارية في الوطن بعقل سياسي متحرر من التحيزات ما دون الوطنية.

راهن جار الله عمر مبكرا على تحالف حزبه مع التجمع اليمني للإصلاح وماتزال الكراهية على أشدها بين الحزبين..وأساس هذا الرهان قراءته المبكرة والدقيقة للمشهد السياسي الذي شكلته الحرب..وهو مشهد ينطوي على عناصر مواجهة حتمية بين التجمع اليمني للإصلاح وعلي صالح..فبعد تخلص "الأخوين" من "ابن عمهما" برزت تناقضاتهما الثنائية إلى المقدمة..وبهذه الطريقة رأى جار الله عمر في التجمع اليمني للإصلاح قوة معارضة كامنة خلف الغلالة الأيديولوجية السميكة التي تحجبها عن الأنظار..وهو لم يرَ هذه الحالة إلا لأنه ميز في هذا الحزب بين بنيته الأيديولوجية والتنظيمية المغلقة وبين قواعده وجماهيره التي تتطلع إلى وطن يوفر لها شروط حياة كريمة..وهذا الوطن مستحيل في ظل نظام علي صالح الذي لا يملك مشروعا وطنيا حتى على مستوى روضة أطفال..وإذا بقيت قيادة التجمع اليمني للإصلاح على تحالفها مع هذا الرجل فستخسر مصداقيتها عند قواعدها وعند جماهيرها.

وبهذا النوع من التفكير السياسي نشأ تحالف أحزاب اللقاء المشترك.. وكان من نتائج ذلك تراجع دور الفقهاء في أداء حزب الإصلاح مقابل بروز دور السياسيين..أي أن التجمع اليمني للإصلاح بدأ يتحول إلى حزب سياسي بعد أن كان جماعة دينية تمارس السياسة بخطاب ديني متطرف..وكان هذا على قدر كبير من الأهمية بالمنظور الوطني.

مراكمة عوامل ثورة فبراير 2011:

كان تحالف أحزاب اللقاء المشترك عقبة كأداء أمام مشروع الدولة الصالحية..وكانت انتخابات 2006 الرئاسية من بين أبرز محطات المواجهة السياسية مع نظام علي صالح الذي أيقن أن الديمقراطية ليست نزهة..وكان شعار المرشح الرئاسي الفقيد بن شملان: "رئيس من أجل اليمن، لا يمن من أجل الرئيس" جرعة توعوية هائلة بحقيقة الإشكال السياسي في اليمن، ومنه تطايرت شرارة اللهيب الذي اندلع إبتداء من المحافظات الجنوبية وحراكها السلمي.

ومن بين محطات المواجهة السياسية مع نظام علي صالح نشير إلى رفض تحالف اللقاء المشترك الذهاب إلى انتخابات نيابية تحل أزمة النظام وتبقي على أزمات البلاد..وكان شرط أحزاب المشترك أن يسبق الانتخابات حوار وطني شامل يناقش كل القضايا وتشارك فيه كل الأطراف بما في ذلك مكونات الحراك الجنوبي ومعارضة الخارج وجماعة الحوثي التي تتحالف اليوم مع المخلوع صالح لإقصاء الجميع..والكل يعلم أن النظام ناور ووافق ووقع على اتفاق فبراير 2009، ثم عاد وانقلب وقرر أن يذهب إلى انتخابات انفرادية ينافس فيها حزبُه حزبَه..غير أن ثورة الربيع العربي داهمته من حيث لا يحتسب.

ثورة الربيع العربي في اليمن:

إستمات علي صالح في تشويه ثورة الربيع العربي في اليمن، وحاول بكل السبل أن يجرها إلى مربع العنف باستخدامه القوة المفرطة ضد الاعتصامات والمسيرات السلمية..لكن كل محاولاته باءت بالفشل..كما لم تفلح محاولات تحويل الثورة إلى مواجهات مسلحة بين مراكز القوى.

لقد كانت ثورة فبراير ثورة مجتمعية بحكم الضرورة خرج فيها الشعب من أجل الحرية والكرامة الإنسانية وضد الفساد..وهي إلى جانب ذلك كانت سلمية في أساليبها وشعبية في شمولها الذي غطى كل فئات وشرائح المجتمع وكل محافظات البلاد، واتسمت بالصبر والمثابرة والتحمل والإصرار على إسقاط النظام..ولم تشهد الوحدة الوطنية للبلاد ذلك القدر من التماسك والتلاحم الذي شهدته أثناء ثورة فبراير 2011.

وعلى مدى عام تحولت خيام الثوار في ساحات الحرية والتغيير إلى منتديات سياسية يومية لمناقشة الشأن العام، وعلى نحو خاص قضية الدولة والنظام السياسي..لكن رغم هذا كله كانت الثورة تعاني من نقاط ضعف جوهرية نلخصها فيما يلي:

1 – كان الثوار رافضين لنظام علي صالح وجاهزين للتضحية من أجل إسقاطه ومقتنعين بقدرتهم على فعل ذلك سلميا..لكن كيف السبيل إلى النظام البديل الذي يريدونه؟.هذا الأمر لم يكن واضحا لهم بما فيه الكفاية، لا نظريا ولا إجرائيا.

2 – كانت الأحزاب السياسية المعول عليها مساعدة الثورة في الإبحار إلى شاطئ الأمان خارج الجاهزية التنظيمية، وأقصى ما فعلته أنها حضرت بقواعدها كأفراد بلا تنظيم وبلا توجيه.

3 – الحزب الذي اتسم بالجاهزية التنظيمية هو التجمع اليمني للإصلاح..لكن التوجيه القيادي كان لمراكز القوى العسكرية والمشيخية والدينية والمالية صاحبة النفوذ في هذا الحزب..وكان الثأر من علي صالح غاية ما تريده هذه القوى للاستئثار بنظامه الذي هو أيضا نظامها باعتبارها شريكة في صناعته..وهذا يفسر لماذا بدت الثورة كما لو كانت ثورة الإخوان المسلمين، مع أنها ثورة شعبية شاركت فيها كل الأطراف..والحقيقة أن النزعة الاستئثارية بدأت من الساحات ومن المنصات ومكبرات الصوت والشعارات ونمط الخطاب، ثم في تشكيل المجلس الوطني للثورة.

المبادرة الخليجية:

إستطاع ثوار فبراير 2011 أن يطووا صفحة ثلاثة وثلاثين عاما من ثقافة الخوف والخنوع والنفاق وأقنعوا الأشقاء في الإقليم والأصدقاء في العالم بأن الحال لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه..وعلى هذا الأساس جاءت المبادرة الخليجية ومن ورائها إرادة دولية تدفع باتجاه التسوية السياسية وقطع الطريق على خيار العنف..ثم جاءت آليتها التنفيذية كإسهام دولي لإخراج المبادرة، بعد تعديلاتها المختلفة، من حالة الإنسداد والإعاقة وتحويلها إلى مادة قابلة للتعامل والتنفيذ.

لقد ألزمت الآلية التنفيذية طرفي التسوية على " الاعتراف بالمأزق الذي وصلت إليه عملية الانتقال السياسي في البلاد وما ترتب على ذلك من تدهور شديد للأوضاع السياسية والاقتصادية والإنسانية والأمنية، فيما يعاني الشعب اليمني من مصاعب جمة"..ونصت صراحة أن هذه الأوضاع " تتطلب وفاء جميع الأطراف السياسية بمسئولياتها تجاه الشعب، عبر التنفيذ الفوري لمسار واضح للإنتقال إلى حكم ديمقراطي رشيد ". كما نصت على فترة انتقالية من مرحلتين مدة المرحلة الثانية سنتان تبدأ بانتخابات رئاسية مبكرة في 21 فبراير 2012 وتنتهي بوضع دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة في ظل الدستور الجديد وعلى أساسه.على أن يدعو الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق الوطني خلال المرحلة الانتقالية الثانية إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل يبحث فيما يلي:

1 - صياغة دستور جديد للبلاد.

2 - معالجة هيكل الدولة والنظام السياسي واقتراح التعديلات الدستورية إلى الشعب اليمني للاستفتاء عليها.

3 - حل القضية الجنوبية حلا عادلا يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه.

4 - النظر في القضايا المختلفة ذات البعد الوطني ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة.

5 - إتخاذ خطوات للمضي قدما نحو بناء نظام ديمقراطي كامل بما في ذلك إصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية.

6 - اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث إنتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلا.

7 - إتخاذ الوسائل القانونية وغيرها من الوسائل التي من شأنها تعزيز حماية الفئات الضعيفة وحقوقها، بما في ذلك الأطفال، والنهوض بالمرأة.

8 - الإسهام في تحديد أولويات برامج التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة لتوفير فرص عمل وخدمات اقتصادية واجتماعية وثقافية أفضل للجميع.

إن القضايا المذكورة – ومن ضمنها إعادة هيكلة الجيش- هي برنامج الفترة الانتقالية والملاحظ أنه استوعب البرامج السياسية التي أنتجها اليمنيون منذ أربعينيات القرن الماضي وتجاوزها إلى الديمقراطية الكاملة..وكخارطة طريق لتسوية سياسية بين فرقاء كان من الطبيعي أن تحتوي المبادرة الخليجية على ما يرضي الرئيس المخلوع وفريقه..وتمثل هذا فيما يلي:

1 - منح الحصانة لعلي صالح وكل من عملوا معه خلال سنوات حكمه.

2 – إحتفظت للمؤتمر الشعبي العام ب 50% من مقاعد حكومة الوفاق الوطني.

3 - أبقت على البرلمان رغم انتهاء ولايته وامتلاك حزب علي صالح لأغلبيته المريحة.

لكن في مقابل هذا قضت المبادرة أن تكون رئاسة الحكومة للمعارضة، ونصت على أن تتخذ القرارات في الحكومة والبرلمان بالتوافق وليس بالأغلبية، وفي حال تعذر التوافق فالمرجعية للرئس هادي ليقرر بنفسه ما يراه مناسبا..وهذه نقطة إيجابية من جهة تعزيز صلاحيات الرئيس الانتقالي..أما بقاء علي صالح حاضرا في المشهد السياسي من خلال تمسكه برئاسة المؤتمر الشعبي العام رغم حصوله على الحصانة التي بدت مجانية دون أي مقابل فهذا عائد إلى ضعف أداء الأطراف الأخرى التي وقعت معه على المبادرة.

وباستثناء إنجاز الحوار الوطني أخفقت المرحلة الانتقالية في إنجاز مهامها وتمكنت الثورة المضادة من الإنقلاب المسلح على التسوية السياسية والوفاق الوطني..وهذا فشل كارثي بالنظر إلى الدمار الذي تمارسه الثورة المضادة الآن في طول البلاد وعرضها وتحول اليمن إلى ساحة حرب ذات أبعاد داخلية وإقليمية ودولية..لكن إلقاء اللائمة على المبادرة الخليجية وعلى ما احتفظت به لعلي صالح وفريقه يعمينا عن رؤية الأسباب الحقيقية لهذا الفشل الكارثي ويعفي الفاشلين من أي محاسبة.

لقد جنبتنا المبادرة الخليجية الذهاب إلى خيار العنف المكلف الذي لا يستطيع أحد أن يزعم أن نتائجه ستكون هي الأفضل، حتى وإن انتهت المواجهة بسقوط علي صالح أو حتى قتله..ذلك أن الأكثر جاهزية في مثل هكذا مواجهة هما الفريقان اللذان شكلا في يوم ما أطراف تحالف الفئات الخمس التي انفرط عقدها تدريجيا بعد حرب 1994..وانتصار أي من هذين الفريقين على الآخر بواسطة السلاح لن يحقق لليمنيين حلمهم الوطني في الدولة التي يتطلعون إليها..وهذا ليس من قبيل الرجم بالغيب، وإنما من باب العلم بأن الفروق بينهما هي فروق في الدرجة وليس في النوع..ومن السذاجة الاعتقاد أن أحدهما يمثل حالة نوعية مختلفة جذريا عن الآخر..إنهما طيفان للون واحد..والطيف كفرع لا يلغي اللون كأصل..وإذا أردنا أن نتقدم إلى الأمام فلا مناص من الكشف عن الأسباب الحقيقية للإخفاقات التي حدثت وانتهت بالشرعية إلى المنفى وبرئيسها إلى مشرِّع لعاصفة الحزم كي تعيد له من الجو ما كان قد حصل عليه في الأرض بتوافق وطني ممهور بتزكية الشعب.(وهذا موضوع الحلقة الثالثة).

الجمهورية اليمنية ( 1990 – 2015) "الجزء الاول"

         ونحن نقرأ المشهد السياسي اليمني قبضنا على ثلاث قضايا صراعية نعتقد أنها تظافرت لتشكل في مجموعها أزمة اليمن الراهنة..وهي: 1 – إدارة الدولة..2 – إعادة بناء الدولة..3 – القضية الجنوبية..وهذه القضايا تداخلت وتفاعلت منذ العام 1990 إلى اليوم حتى ألفى الشعب اليمني نفسه واقعا تحت طائلة الموت والدمار والحصار والجوع والمرض والخوف والتشرد..وكل هذا إلى أجل لا أحد يعرف منتهاه.. وأي حل لا يعالج هذه القضايا الثلاث معالجة جذرية ليس حلا البتة..والمعالجة الجذرية تبدأ من التشخيص الموضوعي الدقيق الذي لا يجاري ولا يحابي.

         وبالقبض على هذه القضايا تجنبنا الوقوع في خداع التبسيط المخل للأزمة الذي يصورها على أنها وليدة 21 سبتمبر 2014..وكأن اجتياح مليشيات الحوثي للعاصمة وتوسعها في المحافظات هو سبب وليس نتيجة..فالتبسيط المخل والمخادع لن يخرج اليمن من أزماته المستدامة بقدر ما يعقدها ويغلق الأبواب أمام حلها، وفي أحسن الأحوال يرحلها إلى أجل غير مسمى لتنفجر من جديد..ونحن إذ نقدم هذه القراءة إنما نقدمها لكل يمني يريد أن يكون جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة..أما الذين ظلوا يصنعون أزمات اليمن ويراكمونها منذ عقود فليسوا مؤهلين لأن يكونوا جزءا من الحل..ومما يؤسف له أن هؤلاء هم الذين يتصدرون المشهد الآن وقد انقسموا إلى فريقين متصارعين أحدهما يبحث عن الحل في الرياض والآخر يبحث عنه في طهران..وما لم يكن الحل يمنيا ومرجعيته وطنية فلا أمل في الخروج من عنق الزجاجة.

أولا: الجمهورية اليمنية (مايو 1990 – يوليو 1994).

         يكمن جوهر المشكلة اليمنية في أن مسار التطور التاريخي للشعب اليمني لم يفضِ إلى إنتاج دولة حديثة تخضع هي نفسها للقانون وتساوي بين مواطنيها أمامه دون أي تمييز من أي نوع كان..والفشل في إنتاج هذه الدولة خلال نصف قرن مضى يفسر كل الحروب والأزمات الدورية والمستدامة في هذا البلد على كل المستويات.

من الثورة إلى السلطة:

         صنع اليمنيون ثورة في الشمال ضد نظام الإمامة القروسطي وأخرى في الجنوب من أجل توحيده واستقلاله..لكن لأسباب كثيرة من الداخل وأخرى مساندة من الخارج لم تفلح أي من الثورتين في إنتاج دولة مدنية لكل مواطنيها.

         ففي الشمال إنتكست الثورة بعد نحو سبع سنوات من الحرب بين الجمهوريين والملكيين..ثم انتكست محاولة الرئيس الحمدي التصحيحية وذهب هو شخصيا ضحية نهجه الوطني الإصلاحي..وفي عهد الرئيس صالح آل مشروع الدولة التي بشرت بها الثورة إلى سلطة يتقاسم امتيازاتها بأحجام متفاوتة تحالف خماسي تألف من كبار قادة الجيش، وكبار شيوخ القبائل، وكبار رجال الدين، وكبار السياسيين الرسميين أصحاب الشهادات الجامعية والعليا الذين يئسوا من إمكانية بناء الدولة واختاروا أن يكونوا جزءا من السلطة على أن يكونوا خارجها، ثم الطارئين من أهل المال والأعمال الذين راكموا ثروات كبيرة مستفيدين من فساد السلطة والطموح الشخصي لرئيسها..وعندما تأسس حزب المؤتمر الشعبي العام تحت شعار " توسيع المشاركة الشعبية في الحكم" لم يكن في الواقع العملي سوى مظلة لهذا التحالف الذي لم تجتمع أطرافه على برنامج وطني لبناء الدولة بقدر ما اجتمعت كعصابات ترى في بناء الدولة نقيضا لمصالحها.

         وفي الجنوب تطرفت الثورة وتحول مشروع الدولة إلى سلطة صريحة لحزب "العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين" وخلت القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي من غير هذه الفئات..ولم يكن التطرف نحو اليسار وقتها اختيارا معرفيا مدروسا بقدر ما كان اختيارا سياسيا ثوريا زمن الحرب الباردة في بلد فقير شحيح الموارد معظم جغرافيته طاردة للسكان، ويقع في محيط إقليمي غني، تقليدي، يتطير من الثورات، والتأثير الأكبر فيه لدولة واحدة غنية ذات مسار إقليمي لا تمد يد العون إلا إلى نخب تقليدية تسجيب لما تريد..والنخب التقليدية ذات النفوذ في الجنوب أطاحت بها ثورة 14 أكتوبر وأقصتها لأنها – إلا ما ندر -  وقفت ضد الهوية اليمنية للجنوب وضد توحيده في دولة وطنية واحدة كخطوة على طريق التوحيد الكامل لليمن.

         وكانت التنمية هي هدف الثورة في الشمال وفي الجنوب..ولم تكن الديمقراطية ولا حقوق الإنسان من بين القضايا الحاضرة في الثقافة السياسية لنخبتي الحكم في الجانبين..وهذه إشكالية كبيرة ألقت بظلالها الكثيفة على الدولة وعلى الاستقرار السياسي ومن ثم على التنمية التي لم تحقق، لا في الشمال ولا في الجنوب، معدلات النجاح التي توقعها الشعب اليمني في مناخ الثورتين وشعاراتهما..ومع مرور الوقت فقدت الثورتان الجاذبية التي كانت لهما عند الشعب لتحل محلها جاذبية الوحدة اليمنية التي غدت أمل اليمنيين في الانتقال إلى دولة خالية من تطرف سلطة اليسار في الجنوب وفساد سلطة اليمين في الشمال وقادرة على تحقيق التنمية التي يتطلع إليها الشعب.

دولة الوحدة:

         في 22 مايو 1990 أعلن عن قيام الجمهورية اليمنية على أساس الجمع بين الوحدة والديمقراطية..وبهذا الإعلان لاحت فرصة تاريخية لبناء دولة مدنية حديثة في مناخات مواتية أتاحها خارجيا انتهاء الحرب الباردة، وأتاحها داخليا الفرح الشعبي الجارف بالوحدة التي حملت معها بشائر دولة ديمقراطية نافية للفساد والاستبداد وخالية من التطرف ومؤهلة لتحقيق التنمية..لكن النخب السياسية في السلطة وفي المعارضة لم تكن عند مستوى هذا الإنجاز التاريخي.

         وفي الوقت نفسه لم يكن الوعي الجمعي العام مدركا للعلاقة الجدلية بين الوحدة ودولة الوحدة، وأن عافية الأولى مشروطة بعافية الثانية وديمقراطيتها..وهذا من بين أهم العوامل التي أغرت أطراف التحالف الخماسي المذكور آنفا بالذهاب إلى حرب 1994 تحت شعارات الوحدة، بينما كانت دولة الوحدة، وليس الوحدة، هي موضوع الخلاف الذي فجر الحرب..وإذا كانت العبرة في نتائج الحرب لا في مقدماتها وشعاراتها فالنتائج أهدرت الفرصة التاريخية التي وفرتها الوحدة لبناء الدولة وفي الوقت نفسه أنتجت أزمة في الوحدة نفسها ترتب عليها ظهور تيار واسع في الجنوب يطالب بفك الارتباط بعد أن كانت ثورة 14 أكتوبر قد جعلت من الوحدة قدس الأقداس.  

الفترة الإنتقالية (مايو 1990 – أبريل 1993):

         في مسألة الدولة يجري عادة التمييز بين إدارتها وبين إعادة بنائها..فالإدارة تتم على قاعدة التنافس الديمقراطي بين الأحزاب إذا كانت الدولة ناجزة البناء وجاهزة لهذا التنافس..أما إعادة البناء فتتم على قاعدة التوافق الوطني بما يضمن عدم تحيز أي من مؤسساتها لهذا الطرف أو ذاك..ولم يكن الهدف من الفترة الانتقالية المشار إليها سوى إعادة بناء مؤسسات دولة الوحدة على قاعدة التوافق الوطني والتكافؤ بين الشمال والجنوب ومن ثم تأهيلها لممارسة الديمقراطية.

         وما حدث أن النخب السياسية في السلطة والمعارضة وضعت العربة قبل الحصان واستعجلت إنهاء الفترة الإنتقالية بالذهاب إلى انتخابات تنافسية في ظل دولة غير ناجزة وغير مؤهلة للوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف..وكانت الفترة الإنتقالية موضوع خلاف بين من يراها محددة بزمن تنتهي بانتهائه وبين من يراها محددة بمهام وطنية لا تنتهي إلا بإنجازها..ولم تكن أغلبية النخب في المعارضة تنظر إلى الفترة الانتقالية على أنها فترة بناء مؤسسات دولة الوحدة بقدر ما نظرت إليها على أنها فترة تقاسم ثنائي للسلطة بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام..ولهذا اعتبرتها "فترة إنتقامية"..وكانت في حالة شوق جارف لانتهاء الزمن المحدد للفترة الانتقالية لاعتقادها أن الانتخابات ستعيد توزيع السلطة توزيعا نزيها على الجميع، ولم تكن تدرك أن حالة مؤسسات دولة الوحدة غير مؤهلة بعد لمثل هذا التوزيع وأن النتيجة ستكون لصالح حزبي السلطة ومعهما التجمع اليمني للإصلاح الذي كان حينها في جوهره حزب سلطة إرتدى شكل المعارضة..وكان لتحالف الفئات الخمس مصلحة مشتركة في تقييد الفترة الانتقالية بالزمن الذي حددته اتفاقية إعلان الوحدة بسنتين ونصف بصرف النظر عن مهامها الخطيرة التي لم تنجز وعلى رأسها دمج مؤسستي الجيش والأمن..لذلك آلت إنتخابات 1993 البرلمانية إلى أزمة سياسية أفضت إلى حرب 1994 التي فجرتها أزمة الدولة..والحرب لم تنهِ أزمة الدولة وإنما رحلتها وأضافت إليها أزمة في الوحدة..وهذه نتيجة طبيعية لأي ديمقراطية بلا ديمقراطيين..ولأن النخب السياسية اليمنية لم تستوعب دروس الفترة الانتقالية التي أعقبت إعلان قيام دولة الوحدة فقد أساءت التصرف خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة فبراير 2011 ومكنت الثورة المضادة من إعادة ترتيب أوضاعها ومن ثم الإنقلاب المسلح على توافقات هذه المرحلة..وهذا ما سنكشف عنه في هذه القراءة.

تعثر دمج مؤسسات الدولتين:

         أعلنت الوحدة بين دولتي الشمال والجنوب على أن تكون دولتها مختلفة، لا هي دولة الشمال ولا هي دولة الجنوب وإنما دولة اليمن..واتفق أن تبنى دولة الوحدة على قاعدة دمج مؤسسات الدولتين السابقتين دمجا وطنيا ينهي ولاءاتها السابقة لصالح الولاء لليمن..لكن الذي حدث من الناحية العملية أن إعلان دولة الوحدة لم يقم على الدمج منذ البداية وإنما على أساس الجمع الميكانيكي لبعض المؤسسات، كالبرلمانين اللذين جمعا في قاعة واحدة، أو على أساس المجاورة، كما حصل مع مؤسستي الجيش اللتين تم نقل بعض وحداتهما من الجنوب إلى الشمال والعكس لتتجاور بغير دمج.

         ومن الطبيعي والأمر كذلك أن تظل هذه المؤسسات محتفظة بولاءاتها السابقة، وأن تتوقف علاقاتها البينية على نوع العلاقة بين رموز النظامين السابقين..وأبرز هذه الرموز الرئيس علي صالح ونائبه علي سالم البيض..لذلك رأينا أنه عندما وصلت العلاقة بين الرجلين إلى مستواها الصفري حدث الصدام بين معسكرات الجيش المتجاورة بما فيها تلك التي كان أفرادها يصلُّون معا في جامع واحد ويأكلون من مطبخ مشترك.

         وأن تقوم الوحدة منذ البداية على أساس الجمع الميكانيكي أو المجاورة بين مؤسسات الدولتين فهذا – على ما فيه من مغامرة كبيرة - أمر يمكن تفهمه مادامت هناك فترة إنتقالية من بين أبرز مهامها الانتقال بهذه المؤسسات من حالتي الجمع الميكانيكي والمجاورة إلى حالة الدمج الوطني.

         وبما أن الدمج في جوهره يتعلق ببناء مؤسسات دولة الوحدة فقد كان موضوع خلاف كبير، وعلى نحو خاص دمج مؤسستي الجيش والأمن..وهذا الخلاف كان من حيث شكله خلافا بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام حول إدارة الدولة..أما من حيث مضمونه فقد كان خلافا بين الشمال، الذي يهيمن عليه التحالف الخماسي، والجنوب الذي يهيمن عليه الحزب الاشتراكي، حول إعادة بناء الدولة..والذي حجب هذا المضمون عن الأنظار هو انفراد قيادة الحزب الاشتراكي بتمثيل الجنوب في الوحدة مع الشمال وانفراد قيادة المؤتمر الشعبي العام بتمثيل الشمال في الوحدة مع الجنوب..ولو أن الوحدة قامت على مبدأ المشاركة الواسعة للجنوب والشمال لما تعثرت الفترة الانتقالية في إنجاز مهامها.

         ولكن لماذا استبعد مبدأ المشاركة في إعلان قيام دولة الوحدة وبناء مؤسساتها؟..ليست الإجابة على هذا السئوال هي ما يجب أن ينشغل به اليمنيون اليوم وهم يتطلعون إلى المستقبل، وإنما الدرس الذي يجب أن يتعلموه من استبعاد مبدأ المشاركة في القضايا الوطنية، وتحديدا تلك التي تتعلق ببناء الدولة ككيان جامع.

إخراج الجنوب من المعادلة الوطنية:

         هناك أمر جوهري لا يجوز القفز عليه ونحن نتطلع إلى المستقبل وهو أن حرب 1994 كانت من وجهة نظر القانون الدولي حربا في نطاق دولة واحدة..أما من الناحية الواقعية فقد كانت حربا بين مؤسسات دولتين أعيق دمجها..وقد أفضت الحرب إلى تدمير مؤسسات دولة الجنوب وحلها وتسريحها، وعلى نحو خاص مؤسسة الجيش الذي أحيل جماعيا إلى التقاعد القسري..وفي الوقت نفسه تم تعميم دولة الشمال على الجنوب كما لو كانت هي دولة الوحدة، وأصبح اسمها الجمهورية اليمنية بدلا عن الجمهورية العربية اليمنية..وبهذا خسر الجنوب دولته دون أن يحصل على الدولة التي ذهب إلى الوحدة من أجلها..أي أن الجنوب أخرج من المعادلة الوطنية كشريك وطني في بناء دولة الوحدة وتحولت الوحدة بالنسبة له إلى ضم وإلحاق قسري، وكأنه استدرج إلى الوحدة ليلقى هذا المصير الذي نقل الحدود الشطرية السابقة بين الشمال والجنوب من الجغرافيا إلى النفوس..وهنا تحديدا يكمن الجذر السياسي للقضية الجنوبية.

         والمحرك الفعلي الذي وقف وراء تعميم دولة الشمال على الجنوب هو المركزية الإلحاقية المهيمنة على كامل الشمال منذ ما قبل ثورة سبتمبر 1962..وبدلا من التخلي عنها كشرط لازم لبناء دولة الوحدة، ومن ثم تحرير الشمال من هيمنتها، تم تعميمها بالقوة على الجنوب..ولتبرير هذا التعميم والتستر على محركه الفعلي ساق التحالف الخماسي عشرات التخريجات للإيحاء بأن دولة الشمال تنتمي إلى المعسكر الغربي الديمقراطي الذي انتصر في الحرب الباردة وأن دولة الجنوب تنتمي إلى المعسكر الشرقي الشمولي الذي هزم..وبالتالي على دولة الجنوب أن تتوارى وعلى دولة الشمال أن تسود..وهذا تبرير مردود عليه لمخالفته اتفاق اعلان الوحدة من ناحية، ولأنه يجافي حقيقة انتماء الدولتين إلى دائرة واحدة هي دائرة البلدان الفقيرة والأقل نموا في العالم وكلتاهما لا تعرفان الديمقراطية..فدولة الشمال لم تكن ألمانيا الغربية، ولا دولة الجنوب كانت الشرقية.    

أزمة الوحدة:

         بعد حرب 1994 أفضت أزمة دولة الوحدة إلى أزمة في الوحدة..لكن الوعي الشعبي لم يكن منذ البداية مدركا لهذا التلازم بين الأزمتين، ولهذا أمكن تضليله بشعارات الوحدة لتسويغ الحرب فتعذر عليه التمييز بين الزعم والحقيقة، والنتيجة أنه بحرب 1994 خسر الشعب اليمني الدولة التي تطلع إليها دون أن يطمئن على مستقبل الوحدة..ولم تكن الثقافة السياسية لدى الأحزاب خارج طرفي الأزمة تدرك هي الأخرى هذا التلازم بين أزمة الدولة وأزمة الوحدة..وحتى تلك التي استنكرت حرب 1994 لم تستنكرها من حيث المبدأ، وإنما لخوفها على الوحدة واعتقادها أن ميزان القوى بين طرفي الحرب سيعيد البلاد إلى ما قبل 22 مايو 1990 وبالتالي ضياع الوحدة..ولذلك رفعت شعارا مائعا: " نحن ضد الحرب وضد الإنفصال " وكأن الحرب قامت من أجل القضاء على إنفصال تم إعلانه، لا من أجل تعميم مركزية إلحاقية مقيتة باسم الوحدة..وعندما انتهت الحرب إلى ما انتهت إليه تنفست هذه الأحزاب الصعداء وذهبت تشارك المنتصر اعتقاده بأن الوحدة تجاوزت الخطر وأصبحت في مأمن..وهذا يفسر لماذا احتاج بعضها إلى وقت طويل كي يستوعب ويتفهم بروز ظاهرة الحراك الجنوبي عام 2007.

         إن حرب 1994 لم تكن دفاعا عن الوحدة وإنما هروب من استحقاقات بناء دولة الوحدة..والكشف عن الأسباب الحقيقية لأزمة 1993 أمر لا ينطوي اليوم على أي عيب ولا يخلو من فائدة كبيرة لمن يهمه أن يرى العلاقة القائمة بين الحرب الراهنة التي تقتل اليمنيين من السماء ومن الأرض وبين حرب 1994..ومن لا يستطيع أن يرى هذه العلاقة لا يستطيع أن يكون جزءا من الحل..بل هو جزء من المشكلة.

دور التجمع اليمني للإصلاح في إرباك المرحلة الإنتقالية:

         في سبتمبر 1990 خرج الإسلاميون من المؤتمر الشعبي العام وأعلنوا أنفسهم حزبا مستقلا تحت مسمى التجمع اليمني للإصلاح..وبحسب مذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر تم ذلك على قاعدة التفاهم داخل تحالف الفئات الخمس..حيث هيمنت هذه الفئات على الحزبين اللذين كانا حزبا واحدا قبل إعلان الوحدة وظلت صاحبة الهيمنة في كليهما بعد إعلانها..وبموجب هذا التفاهم أوكلت للتجمع اليمني للإصلاح مهمة إرباك المرحلة الإنتقالية من خارج السلطة يسانده المؤتمر الشعبي العام من داخلها تطبيقا للمبدأ العصبوي:"أنا وأخي على إبن عمي"..ونحن عندما نقول:"إرباك المرحلة الانتقالية" فلأننا نميز بين الإرباك الذي يخلط الأوراق ويضلل الرأي العام وبين مفهوم المعارضة التي لا مصلحة لها في الخلط والتضليل..لذلك لم يكن التجمع اليمني للإصلاح خلال المرحلة الإنتقالية حزبا معارضا للسلطة وإنما كان في جوهره سلطة لبست ثوب المعارضة ورفعت صوتها عاليا لصالح سلطة تحالف الفئات الخمس.

         وقد ذهب هذا الصوت العالي يستميت لإقناع الرأي العام أن الفترة الانتقالية ليست سوى فترة تقاسم ثنائي للسلطة بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام..وأن هذا التقاسم هو المسئول عن الفساد في مؤسسات دولة الوحدة وهو الذي يفسر عدم فاعليتها..والمطلوب هو الذهاب إلى انتخابات تنهي هذا التقاسم.

         والحقيقة أن الفترة الانتقالية كانت على قدر كبير من الأهمية الوطنية فيما يتعلق بإعادة بناء مؤسسات دولة الوحدة وتأهيل هذه الدولة للممارسة الديمقراطية..وهذا أمر لم يدركه التجمع اليمني للإصلاح إلا فيما بعد عندما تحول من سلطة ترتدي ثوب المعارضة إلى معارضة..وهو اليوم يدفع ثمن أخطائه الكبيرة تلك..وإذا كان الاعتقاد السائد لديه أنه لا يدفع إلا ثمن مشاركته الفعالة في ثورة 2011 فمعنى ذلك أن إدراك هذا الحزب لأخطائه الكبيرة مازال أقل من الحد الأدنى المطلوب لنقدها وتجاوزها وعدم تكرارها..وهذا ليس تجنيا عليه وإنما حقيقة أثبتتها أخطاء قياداته النافذة خلال الفترة الانتقالية الأخيرة التي أعقبت الإطاحة بالرئيس صالح..ومثلما أفضت الفترة الانتقالية الأولى إلى حرب 1994 أفضت الأخيرة إلى الحرب الراهنة..ولا يستطيع التجمع اليمني للإصلاح أن يكون جزءا من الحل ما لم يكاشف نفسه وقواعده وجماهيره بخطاياه في الفترة الانتقالية الأولى وأخطائه في الفترة الانتقالية الأخيرة..والفرق بين الخطايا والأخطاء أن الأولى كانت في الغالب قصدية وعن سابق إصرار وترصد، بينما نجمت الثانية عن غياب المشروع وانعدام الرؤية وحضور نزعتي الثأر والاستئثار.

إختزال الشراكة في شقها السياسي واستبعاد شقها الوطني:

          حصدت الأحزاب الثلاثة الكبيرة معظم المقاعد في انتخابات أبريل 1993..وآلت رئاسة البرلمان شكليا للتجمع اليمني للإصلاح وفعليا للتحالف الخماسي، وقسمت الحكومة على ثلاثة بعد أن كانت مقسومة على إثنين وبقيت رئاستها للحزب الاشتراكي..أما مجلس الرئاسة فقد بقي كما هو لخمسة أشهر قادمة ريثما يتم التوافق على تعديلات دستورية تتضمن تغيير شكل رئاسة الدولة من مجلس رئاسي إلى رئيس ونائب أراد علي سالم البيض أن ينتخبا من الشعب في قائمة واحدة، وهو ما لم يقبل به الطرف الآخر وذهب يفسره للرأي العام على أنه تدبير إشتراكي تآمري بنية قتل الرئيس وحلول النائب محله.

         ومن الوهلة الأولى يبدو مطلب البيض هنا غريبا بالنظر إلى أن الرجلين ليسا من حزب واحد..لكن إذا علمنا أن الأمر لا يتعلق بإدارة الدولة فحسب، وإنما بإعادة بنائها على قاعدة الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب سيبدو الجمع بينهما في قائمة إنتخابية واحدة أمرا ضروريا..فالرئيس فيما يتعلق بالشراكة الوطنية شمالي يمثل الشمال ونائبه جنوبي يمثل الجنوب..وهذا وضع إنتقالي نجم عن الذهاب إلى انتخابات نيابية قبل إنجاز مهام الفترة الانتقالية.

         وقد سبق أن بينا أن الشراكة السياسية بين الأحزاب تنصرف إلى إدارة الدولة على قاعدة التنافس الديمقراطي والقبول بمفهوم الأغلبية والأقلية الانتخابية، بينما تنصرف الشراكة الوطنية إلى بناء الدولة على قاعدة التوافق والندية والتكافؤ بين الشمال والجنوب..لكن الذي حدث أن التحالف الخماسي بعد انتخابات أبريل 1993 ذهب يستقوي بالأغلبية العددية في البرلمان لاختزال الشراكة في شقها السياسي مع الحزب الاشتراكي اليمني واستبعاد شقها الوطني مع الجنوب..ومعنى هذا أن بناء مؤسسات الدولة وعلى نحو خاص مؤسستي الجيش والأمن أمر تقرره الأغلبية العددية الشمالية في البرلمان..وكان هذا موضوع خلاف كبير وخطير يدور في كواليس السلطة..ومصدر الخطورة يكمن في أن الأغلبية العددية الشمالية كانت تعبر عمليا عن الإرادة السياسية للتحالف الخماسي وليس عن مصلحة كل أبناء الشمال التي تتطابق بالضرورة مع مصلحة كل أبناء الجنوب

إخراج أزمة دولة الوحدة إلى العلن:

         في أغسطس 1993 وبعد اعتكافين صامتين اضطر علي سالم البيض أن يخرج أزمة الائتلاف الثلاثي الحاكم إلى العلن لإشراك الأطراف الأخرى خارجه في مناقشتها وحلها على قاعدة الحوار الوطني..في البداية أنكر التحالف الخماسي وجود الأزمة وقال إن البيض افتعلها للحصول على مكاسب أكبر من حجم حزبه في البرلمان..والملاحظ على هذه المحاجة أنها أسَّستْ – نظريا على الأقل – لجذر القضية الجنوبية في شقه السياسي..ولمن يتعذر عليه أن يرى الأمر كذلك سنعيد صياغتها على النحو التالي: "إن البيض افتعل الأزمة للحصول على مكاسب أكبر من حجم الجنوب في البرلمان".

         فالبيض لم يخرج الأزمة إلى العلن باعتباره يمنيا يتزعم الحزب الاشتراكي اليمني، وإنما باعتباره جنوبيا قاد الجنوب إلى الوحدة..أي أنه لم يخرجها دفاعا عن الشراكة السياسية للحزب الاشتراكي وإنما أخرجها دفاعا عن الشراكة الوطنية للجنوب..وهو منذ أن خرج عن صمته في منفاه يتصرف كجنوبي خالص، وليس كيمني..ولكي يتصرف كجنوبي إعتذر عن انتمائه إلى الحزب الاشتراكي وعن تاريخه في هذا الحزب..ونحن نتفهم تصرفه هذا على أنه رد فعل سياسي في مواجهة سياسة الإلحاق التي تسوق نفسها بشعارات وطنية تتستر بها على مناطقيتها الضيقة.  

         وإذا علمنا أن الرجل انفرد مع علي صالح في ترتيبات وإجراءات إعلان الوحدة، دون أن ينظر بعين التقدير للمحاذير التي ابداها آخرون في قيادة حزبه، فإنه دون غيره يتحمل مسئولية النتائج التي ستترتب على انفراده مع علي صالح بهذا القرار التاريخي..والنتائج التي جرى تحذير البيض منها أصبحت واضحة له قبل أن يستكمل إعلان الوحدة عامه الثاني، ولم يكن الرجل بحاجة إلى مجهر عملاق كي يراها..وملخصها أن الجنوب واقع لا محالة تحت قبضة المركزية الإلحاقية التي تعاني منها محافظات الشمال..وهذا يراد له أن يتم باسم الوحدة وباسم الديمقراطية التي أفرزت في انتخابات أبريل 1993 أغلبية عددية شمالية..وكأنه على الجنوب أن يدفع ثمن كونه أقلية سكانية لا تملك سوى 20 % من مقاعد البرلمان.

         لقد ذهب الحزب الاشتراكي اليمني إلى الوحدة كشريك سياسي مع غيره من الأحزاب بينما ذهب إليها الجنوب كشريك وطني مع الشمال.. فالجنوب جزء من اليمن وليس جزءا من الشمال..وهو فيما يتعلق ببناء الدولة يتساوى مع الشمال بصرف النظر عن التفاوت في عدد السكان وإلا فلا معنى لذهابه إلى الوحدة إذا كان سيخسر دولته دون أن يكون الثمن دولة أفضل منها يشارك هو في صناعتها ويطمئن على مستقبله في ظلها..ومن البديهيات أن الشراكة الوطنية الفعلية للجنوب في بناء دولة الوحدة تستدعي وتستوجب شراكة وطنية فعلية للشمال بما يحقق لليمنيين دولة مواطنة السيادة فيها للقانون عليها وعلى مواطنيها دون أي تمييز..واستبعاد الشراكة الوطنية للجنوب في إعادة بناء الدولة هو تلقائيا إستبعاد للشراكة الوطنية للشمال وإبقائه تحت هيمنة المركزية الإلحاقية.

التمترس خلف المصالح غير المشروعة على حساب بناء دولة الوحدة:

         إن الشراكة الوطنية للشمال والجنوب غير ممكنة دون تقديم تنازلات لصالح بناء دولة الوحدة..وقد تبين أن الثقافة السياسية لأطراف التحالف الخماسي ترفض التنازل عن المصالح والامتيازات غير المشروعة التي استقرت لها في ظل الجمهورية العربية اليمنية..ورفض التنازلات لصالح بناء دولة الوحدة ينطوي ضمنيا على التضحية بالوحدة التي قامت طواعية على الجمع بينها وبين الديمقراطية..والتضحية بالوحدة والعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990 أمر لا يستطيع تحالف الفئات الخمس التنصل من مسئولية حدوثه بالنظر إلى التنازلات التي قدمها الجنوب من أجل الوحدة حين قبل أن تكون صنعاء عاصمة دولة الوحدة وعلي صالح رئيسها..فعلي سالم البيض هو الذي قبل أن يكون نائبا للرئيس في صنعاء، بينما لم يقبل علي صالح أن يكون رئيسا في عدن..فالعاصمة ليست مجرد مدينة وإنما شروط ونمط حياة.

         وما دمنا نتحدث عن خطر التمترس وراء المصالح على حساب بناء دولة الوحدة فلا بأس من مقاربة هذا الخطر بفرضيتين إحداهما خاطئة.

1 - إن رفض الشراكة الوطنية في بناء دولة الوحدة مع الإبقاء على الوحدة أمر مستحيل من منظور السياسة ومنطقها.

2 - إن رفض الشراكة الوطنية في بناء دولة الوحدة مع الإبقاء على الوحدة أمر ممكن من منظور القوة والحرب.

         والذي حدث أن الفرضية الثانية الخاطئة هي التي أغرت التحالف الخماسي فقرر أن يعسكر الأزمة وأن يهيمن على الجنوب عسكريا وأن يخرج الحزب الاشتراكي من الحياة السياسية بواسطة الحرب ويعمم بالتالي نظام الجمهورية العربية اليمنية على كل اليمن..ومن أجل ذلك أنتج خطابا سياسيا وإعلاميا ودينيا يمهد للحرب ويبررها..وفي الوقت نفسه قرر أن يستجيب تكتيكيا لدعوات الحوار ريثما يحقق الجاهزية القتالية التي تحسم الحرب لصالحه.

الخطاب التحضيري  لحرب 1994:

         على صعيد الخطاب لا يهمنا هنا سوى الخطاب السياسي الذي مازالت بعض مقولاته مؤثرة في الثقافة السياسية إلى اليوم..أما الخطاب الديني فقد تكفل به الزمن وصار مخجلا حتى لأصحابه إلا قليلا ممن لا أمل في سويتهم السياسية..ومن بين أهم أطروحات الخطاب السياسي التي نرى أهمية التذكير بها في الحاضر الذي وصلنا إليه نكتفي بما يلي:

1 – القول بأن الحزب الاشتراكي هزم في انتخابات 1993 والنظر إلى نتائج تلك الانتخابات على أنها الكلمة الفاصلة والنهائية في تقرير مصير دولة الوحدة وفق ما يريده التحالف الخماسي باعتباره صاحب الأغلبية الانتخابية والتفويض الشعبي..وهذه الأطروحة نناقشها في ضؤ حقائق الواقع وفلسفة الديمقراطية على النحو التالي:      

أولا: الأغلبية في نتائج انتخابات أبريل 1993 لم تكن أغلبية إنتخابية وإنما أغلبية عددية شطرية ناجمة عن الفارق الكبير في عدد السكان..وبمقدور أي باحث موضوعي أن يعود إلى الأرقام والأسماء التي أفرزتها تلك الانتخابات ليكتشف أن تحالف حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح ظهرا كحزبين شماليين بنسبة 100% تقريبا فيما يتعلق بدوائر الفوز وبنسبة تفوق ال90% فيما يتعلق بالأصوات المحصودة..وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المؤتمر الشعبي العام كان صاحب الهيمنة في الشمال قبل الوحدة وأن نسبة نجاحه في معقله لم تتجاوز 48% من إجمالي دوائر الشمال فبمقدورنا أن نؤكد دون أن نتجاوز الحقيقة أن قيادته نظرت إلى نتائج انتخابات 1993 على أنها صفارة إنذار أتتها وهي في أوج قوتها وفي أعلى مستويات شعبيتها..لذلك عقدت العزم على التخلص من الديمقراطية بواسطة الحرب مستفيدة من تحالفها المتين مع التجمع اليمني للإصلاح الذي كان أكثر حماسا للحرب منقادا وراء إرادة شيخ القبيلة وشيخ المؤسسة الدينية..ولم تكن الحرب في حقيقتها سوى حرب التحالف الخماسي المهيمن على هذين الحزبين ضدا على مصالح قواعدهما وجماهيرهما، وضدا على مصالح الشعب اليمني برمته.

ثانيا: إن الأقلية ممثلة بالحزب الاشتراكي اليمني هي وحدها التي برزت كأقلية إنتخابية من حيث المقاعد التي حازتها والأصوات التي حصدتها..فإذا علمنا أن عدد المقاعد الرسمية التي فاز بها مرشحون باسم الحزب الاشتراكي بلغ 56 مقعدا فإن 65% من هذه المقاعد جاء من الجنوب (أي 36 مقعدا جنوبيا) و35% جاء من الشمال (أي 20 مقعدا شماليا)..كما أن 49% من إجمالي الأصوات التي حصدها الحزب الاشتراكي هي أصوات من الشمال مقابل 51% من الجنوب.

         وإذا علمنا أن الحزب الاشتراكي حصد كل مقاعد الجنوب تقريبا فمعنى ذلك أن المقاعد التي فاز بها إشتراكيون خاضوا الانتخابات في الجنوب كمستقلين بلغ حوالي 20 مقعدا..وإذا أضفنا إلى هؤلاء المستقلين نظراءهم الاشتراكيين في الشمال فإن كتلة الحزب الاشتراكي في برلمان 1993 تتجاوز الثمانين عضوا..ومعنى ذلك أن الحزب الاشتراكي جاء ثانيا في عدد المقاعد بعد المؤتمر الشعبي العام وليس ثالثا بعد التجمع اليمني للإصلاح..كما جاء ثانيا في عدد الأصوات..لكن حجمه في البرلمان قياسا إلى إجمالي دوائر التحالف الخماسي المهيمن على حزبي المؤتمر والإصلاح يضعه في خانة الأقلية..مع تميز هذه الأقلية بأنها انتخابية تغطي معظم اليمن، وليست عددية قاصرة على الجنوب دون الشمال.

ثالثا: إن التصويت لمرشحي الحزب الاشتراكي كان تصويتا لهذا الحزب..بينما كان التصويت لمرشحي تحالف المؤتمر والإصلاح في معظمه تصويتا لشخوص هؤلاء المرشحين..وتفسير ذلك أن مرشحي الحزب الاشتراكي كانوا من أبناء الطبقة الوسطى ولم يكن بينهم مرشح واحد من أهل الوجاهة التقليدية والنفوذ والمال الذين شكلوا معظم قائمة مرشحي تحالف المؤتمر والإصلاح..وتاريخ الممارسة الديمقراطية في العالم يؤكد أن أي برلمان يتألف من أشخاص احتلوا مقاعدهم بحكم وضعهم أو مركزهم الإجتماعي فإن هذا البرلمان غير ديمقراطي..وهذا ينطبق على برلمان 1993 الذي حولته الأغلبية العددية إلى ساحة اقتتال بين طرفي الأزمة ومنعته من الوقوف على الحياد وإجبار الطرفين على الخضوع المتساوي للمصلحة الوطنية العليا.

ثالثا: لم يساور الحزب الاشتراكي اليمني أي إحساس بالهزيمة بالنظر إلى أن الانتخابات التي خاضها هي الأولى في ظل الوحدة وأنها تأثرت كثيرا بالصراع الأيديولوجي القديم بين الشطرين وأنه خاضها وحيدا بغير تحالفات في مواجهة تحالف حزبي المؤتمر والإصلاح..والقول بأنه خرج مهزوما في السباق الانتخابي ليس له مصداقية من منظور الديمقراطية ومستقبلها المأمول، وإذا كان له من دلالة فهي تهيئة الرأي العام لتقبل الحرب.

رابعا: تقوم الديمقراطية على مبدأ السيطرة الدورية للناخبين على من يحكمونهم..ومن هنا جاءت فكرة تكرار الانتخابات بصورة منتظمة من أجل المحافظة على الموافقة الشعبية..ولهذا يقال إنه كلما ازداد عدد المرات التي يستشار فيها الشعب إزداد وضوح موافقته ونقاء مبادئ الدولة.

         لكن حرب صيف 1994 حالت دون أن يكرر اليمنيون الإنتخابات النيابية بشروط وحدة 22 مايو السلمية..والذين دفعوا البلاد بإتجاه تلك الحرب أسسوا شرعيتها على أغلبيتهم العددية في البرلمان، ونظروا إلى تلك الأغلبية على أنها الكلمة الأخيرة والنهائية للشعب اليمني..وكانت النتيجة إنتكاسة حقيقية للديمقراطية الناشئة في اليمن.

2 – القول بأنه ليس من حق الحزب الاشتراكي بعد انتخابات 1993 أن يدعي تمثيل الجنوب.

         وهنا نطرح السئوال التالي: إذا كانت انتخابات 1993 قد أظهرت حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح كحزبين شماليين فكيف تسنى لهما أن يحاججا بهذه الأطروحة التي تصادر على الحزب الاشتراكي حق التحدث باسم الجنوب وهو الذي حكم الجنوب وقاده إلى الوحدة وحصد كل مقاعده في الانتخابات؟.والإجابة على هذا السئوال تكشف عن حقيقة ظلت مستورة إلى اليوم.

          فمما لا يعلمه كثيرون أن مجموعة من السياسيين الذين غادروا الجنوب مع علي ناصر محمد بعد أحداث يناير 1986 وعلى رأسهم المرحوم علي عبد الرزاق باذيب أرادوا تأسيس حزب سياسي لمنافسة الحزب الاشتراكي في انتخابات 1993 في الجنوب لاعتقادهم أنهم وحدهم المؤهلون لهذه المنافسة بحكم جنوبيتهم، واعتقدوا أن علي صالح سيرحب بهذه الخطوة وسيمد لهم يد العون..لكن الرجل اعتبر تأسيس حزب كهذا من المحرمات، وقال لهؤلاء ليس أمامكم سوى الانخراط في المؤتمر الشعبي العام لأن المقام هو مقام إضعاف القوي ( الطرف المنتصر في أحداث يناير 1986) وليس مقام تقوية الضعيف (الطرف المهزوم في تلك الأحداث)..فعلي صالح كان ينظر إلى الحزب الاشتراكي كمشكلة يجب التخلص منها..والسماح بتأسيس حزب آخر يعني بالنسبة لما يخطط له خلق مشكلة موازية..وقد فهم هؤلاء رسالة علي صالح جيدا وانقسموا حولها إلى مجموعتين إحداهما رفضت الصفقة واختارت العودة إلى الحزب الاشتراكي، والثانية رأتها فرصة ذهبية سانحة لاستثمار حاجة علي صالح الماسة لوجوه سياسية من الجنوب فالتحقت بقيادة المؤتمر الشعبي العام لإضفاء الطابع اليمني على هذا الحزب الذي أظهرته انتخابات 1993 حزبا شماليا خالصا..أما علي باذيب نفسه فقد اختار أن يعتزل السياسة حتى توفاه الله.

         والخلاصة أن علي صالح اعتبر الجنوب ممثلا في حزبه بأسماء جنوبية معروفة أغدق عليها من المال العام بسخاء وضمها لحسابه في التحالف الخماسي وقلد بعضها مناصب في الحكومة..وبالتالي لم يعد من حق الحزب الاشتراكي الذي قاد الجنوب إلى الوحدة أن يحتكر تمثيل الجنوب، فالمؤتمر الشعبي العام يمثل الجنوب ومن حقه أن يقرر باسم الجنوب ما يريد بما في ذلك إعلان الحرب عليه لتحريره من الحزب الاشتراكي..والأنكأ من هذا أن علي صالح لم يكتف بهذا وإنما ذهب ينقب في صراعات الجنوب ما قبل الاستقلال..كل هذا كي لا يعترف للحزب الاشتراكي بحق تمثيل الجنوب ولكي يخرجه من الحياة السياسية بالقوة العسكرية..وإذا أردنا أن نفسر هذه القدرة على التلاعب والمناورة فعلينا أن نفتش في الأسس التي قامت عليها الوحدة وانفراد علي البيض وعلي صالح بقرار إعلانها.

3 – القول بأن الحزب الاشتراكي اليمني حزب إنفصالي وأنه هرب إلى الوحدة تكتيكيا ليتجنب المصير الذي لقيه تشاوشيسكو في رومانيا وأنه الآن يخطط للعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990.      

         كانت هذه الأطروحة إعلانا صريحا لحرب 1994 باسم الوحدة..ورغم ذلك تكررت بهذا الشكل أو ذاك داخل مؤتمر الحوار الوطني في موفنبيك ردا على مقترح الإقليمين الذي تقدم به الحزب الاشتراكي..فالبعض فسَّر هذا المقترح على أنه تدبير إشتراكي يمهد لإنفصال الجنوب فيما بعد عبر الاستفتاء الشعبي على بقائه في إطار الوحدة أو فك ارتباطه بها..ويعتقد هذا البعض أن الشعب في الجنوب سيصوت بالضرورة لصالح فك الارتباط..وبالتالي فالاستفتاء من المحرمات الوطنية..أما لماذا يفكر هذا البعض بهذه الطريقة؟ فلأنه لا يرى العلاقة الجدلية بين الوحدة ودولة الوحدة وأن عافية الأولى مشروطة بعافية الثانية وديمقراطيتها وحداثتها..باختصار: لا يؤمن هذا البعض بأن أزمة الوحدة هي نتيجة طبيعية لأزمة دولة الوحدة..وبما أنه لا يملك مشروعا وطنيا لبناء دولة الوحدة فإن دفاعه عن الوحدة يفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية..والتفكير العقلاني يستبعد تماما أن تكون هناك وحدة مجانية كما لو كانت غاية مطلوبة لذاتها..ومن لا يقبل بمبدأ الدولة مقابل الوحدة فإن دفاعه عن الوحدة دفاع غير مستقيم وطنيا.

         والملفت للإنتباه أن أي حديث عن الإنفصال في الشمال يشير دائما إلى الجنوب كما لو كان الانفصال صناعة جنوبية..وهذا ليس له أي تفسير سوى حضور المركزية الإلحاقية في اللاشعور السياسي حتى عند كثير من الشماليين المصنفين من ضحاياها..وهذه المركزية الإلحاقية هي فقاسة التجزئة طوال مراحل التاريخ اليمني..وهي التي عبر عنها عبد الملك الحوثي بعد اجتياح العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014 أيما تعبير عندما وصف مشروع الدستور الجديد بأنه مؤامرة أجنبية لتفتيت اليمن إلى ستة أقاليم متصارعة وأنه لن يسمح لهذه المؤامرة أن تمر..والحقيقة أن كلام الحوثي هذا ليس إلا إخراج مخادع لنص مدون في اللاشعور السياسي منطوقه الحرفي هكذا: " لن نسمح لأي أحد المساس بالمركزية الإلحاقية التي تمنحنا وضعا مهيمنا على كل اليمن أو على شماله في أسوأ الأحوال".

         إن الوحدة اليمنية غير ممكنة بدون دولة لكل اليمنيين..وهذه الدولة غير ممكنة دون الطلاق مع المركزية الإلحاقية التي لا تنتج سوى الحروب والأزمات المستدامة..والجنوب لا يرفض الوحدة لكنه يرفض المركزية الإلحاقية ولن يقبل بها وسيقاومها وسيذهب في مقاومته لها إلى آخر الدنيا..وهذه حقيقة أنتجها تفاعل الجغرافيا والتاريخ الذي أفضى إلى يمنين سياسيين داخل اليمن الحضاري الثقافي الواحد، ولم ينتجها الحزب الاشتراكي اليمني الذي قاد الجنوب إلى الوحدة..فيمنية هذا الحزب لا تلغي جنوبية الجنوب ولا شمالية الشمال.

         ومن باب الإنصاف وتسمية الأشياء بأسمائها علينا أن نشير إلى ميزة ينفرد بها الحزب الاشتراكي اليمني عن غيره من الأحزاب اليمنية وهي أنه تأسس منذ البداية على مشروعية وطنية عابرة للحدود السابقة بين الشمال والجنوب، ولم يتأسس على مشروعية سياسية قاصرة على الجنوب دون الشمال أو على الشمال دون الجنوب..ومشروعيته الوطنية هذه هي المكون الجوهري في بنيته إلى درجة لا يستطيع معها أن يكون جنوبيا خالصا ولا شماليا خالصا..أي أن حظه في البقاء كحزب سياسي على قيد الحياة مشروط بوحدويته..وعليه فإن اتهامه بالتخطيط لانفصال الجنوب لا يعبر عن فهم لحقيقة هذا الحزب بقدر ما يعبر عن الكراهية له بدوافع أيديولوجية في الغالب..وأي متابع للشأن اليمني لن تتعذر عليه ملاحظة أن هذا الحزب غير مقبول عند من يتمسك بالمركزية الإلحاقية في الشمال، ولا عند من يريد العودة بالجنوب إلى ما قبل 22 مايو 1990.  

         والمشروعية الوطنية للحزب الاشتراكي مصدرها الحركة الوطنية اليمنية..فهو المصب الذي التقت داخله روافد هذه الحركة من الشمال والجنوب..والوحدة اليمنية هي محور ومرتكز هذه المشروعية..وليست نتائج انتخابات أبريل 1993 بالنسبة للحزب الاشتراكي مجرد مصادفة وإنما هي تعبير بالأرقام عن المشروعية الوطنية لهذا الحزب.

          وإذا علمنا أن حرب 1994 كانت بين اتجاهين في السياسة وليس بين جهتين في الجغرافيا فإن إنعكاسات هذه الحرب على قضية الوحدة اليمنية تؤكد المشروعية الوطنية للحزب الاشتراكي أيما تأكيد..فقد تجاوزت أضرار تلك الحرب الحزب الاشتراكي واستطالت لتنال من المشروعية الوطنية للوحدة نفسها..فالعلاقة بين حالة هذا الحزب وحالة الوحدة هي علاقة تناسب طردي..وحالة الوحدة متغير تابع لمتغير آخر هو حالة الدولة..وبالتالي لا مصداقية أبدا لمن يتمسك بالوحدة ولا يقبل بدولة حديثة لكل مواطنيها..فالوحديون الحقيقيون هم أولئك الذين يسعون لبناء هذه الدولة، والإنفصاليون الحقيقيون هم أولئك الذين يضعون العقبات في طريقها..وليست الأقاليم الستة التي جرى تمريرها في لجنة الأقاليم، وانطلت على البعض، إلا واحدة من هذه العقبات التي استثمرت لصب الزيت على نار الحرب الراهنة كما سنبين لاحقا.

         أما لجنة الأقاليم نفسها فلم تكن سوى حيلة للهروب من مناقشة مقترح الحزب الاشتراكي داخل مؤتمر الحوار الوطني..وهي الحيلة التي أضعفت قرار الستة أقاليم وجعلت مشروعيته محل طعن، ومن غير المستبعد أن يعاد النظر فيه من جديد..وعلى افتراض أنه اتسم بالتوزيع الأفضل فإن آلية إقراره كانت سلطوية وليست حوارية توافقية..والثقافة السياسية الديمقراطية تعتد بسلامة الإجراءات والآليات أكثر من اعتدادها بالقرارات..بينما نحن اليمنيين تعودنا أن نسلك مسلكا معاكسا يجعل أفضل القرارات عرضة للطعن والتشكيك.

من الحوار إلى حرب 1994:

          إعترف التحالف الخماسي تكتيكيا بالأزمة التي أخرجها البيض إلى العلن في أغسطس 1993..وعلى مضض جلس ممثلوه على طاولة الحوار مع كل الأطراف الأخرى، وتمخض الأمر عن وثيقة لبناء الدولة عرفت ب"وثيقة العهد والاتفاق"..لكن المتحاورين وقعوا على الوثيقة دون أن يتوافقوا بالتوازي معها على آليات التنفيذ التي تتجاوز من حيث الأهمية الوثيقة نفسها..ولهذا رأينا أثناء مراسم التوقيع في العاصمة الأردنية عمان أن علي صالح اعتبر التوقيع منهيا للأزمة وعلى هيئات الدولة أن تلتئم في صنعاء لمباشرة التنفيذ..أي أن الآلية التي اقترحها صالح لتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق هي مجلس الرئاسة والحكومة ومجلس النواب..وكل واحدة من هذه الهيئات كانت عمليا ساحة صراع بين إرادتين متعارضتين فيما يتعلق بالموقف من مسألة بناء مؤسسات دولة الوحدة وبالأخص مؤسستي الجيش والأمن..بينما علي البيض اعتبر التوقيع مجرد اعتراف بالأزمة التي كان الطرف الآخر ينكرها..ومن أجل عودة ممثلي الحزب الاشتراكي من عدن إلى صنعاء إشترط البيض تقديم المتهمين بحوادث الاغتيالات السياسية إلى العدالة لإثبات حسن النية..وكانت تلك الاغتيالات قد طالت حينها نحو 150 من قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي اليمني.

         وبينما كانت لجنة حوار القوى السياسية تعكف على مناقشة الآلية المناسبة لتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق كان التحالف الخماسي قد حدد عمليا ساعة الصفر دون أن يعلن عنها وبدأ بتصفية معسكرات الجيش الجنوبي المرابطة في الشمال بعيدا عن مناطق إمدادها، وعندما تم له ذلك أعلن الحرب الشاملة وأطلق جيوشه من مرتفعات الشمال لتلتحم مع تلك التي موضعها اتفاق الوحدة في سهول الجنوب..وقد استطاع هذا التحالف أن يخدع معظم الرأي العام في الشمال عندما أدار حربه تحت شعارات الوحدة وقدمها كحرب بين وحدويين وإنفصاليين، فضلا عن ترسانة الشعارات والفتاوى والخطب الدينية..وهو بهذا كان يهدف إلى إخراج الحزب الاشتراكي من الحياة السياسية وإنهاء وجوده ماديا ومعنويا..ولم يكن بمقدور الحزب الاشتراكي أن يخرج من بين أنقاض تلك الحرب لولا أصالة مشروعيته الوطنية التي حمته من المصير الذي أراده له التحالف الخماسي..ومع الوقت كشفت نتائج الحرب وانعكاساتها على الوحدة زيف تلك الشعارات وأظهرت بجلاء أنها كانت أكثر الحروب قذارة في تاريخ اليمن..ولولاها لما وصل اليمنيون إلى الوضع المأساوي الذي هم عليه اليوم حيث الموت والدمار والحصار يلاحقهم من السماء ومن الأرض..ومن لا يستطيع أن يرى مقدمات حرب 2015 في حرب 1994 لا يستطيع أن يكون جزءا من الحل لا في الرياض ولا في جنييف ولا في صنعاء ولا في أي مكان على كوكب الأرض.

الأربعاء, 20 أيار 2015 19:00

29 ساعة في "ضيافة" "أنصار الله":

قبيل غروب يوم السبت 11 أبريل الماضي كنت وآخرون في جمعية سفوح عيبان الاجتماعية الخيرية.. مقرها يقع بجوار منزلي وهي مرخصة أسست بمبادرة من بعض سكان الحي وليس لها أغراض سياسية منظورة أو غير منظورة ونشاطها يعتمد كليا على اشتراكات الأعضاء.. وبما أن التجمع اليمني للإصلاح اشتهر بهذا النوع من النشاط فيبدو أن جماعة الحوثي حسبتها عليه.

ذات يوم زار الجمعية صيدلاني من خارج الحي..ولم يكن للزيارة من غرض سوى المقيل مع أصدقائه..ومن باب المزاح قالوا له: ما الذي تستطيع أن تقدمه لجمعيتنا؟..إبتسم وقال: سأقدم لكم أدوية..وبالفعل عاود الزيارة بعد أيام ومعه كمية من "قطر الحديد" صناعة سعودية..ويبدو أن "فاعل خير" وجدها مناسبة للوشاية عند "أنصار الله" الذين داهمونا بطقم شرطة يرتدي أفراده زياً رسميا.

إقتحم أفراد الطقم مقر الجمعية وكأنهم في مهمة إستثنائية..فتشوا المقر بحثا عن أدوية سعودية كقرينة على إثبات ما يعتقدونه جرما..لم يجدوا شيئا..وعندما سألوا عنها قال لهم المهندس أبو بكر محمد عبد الولي: "وزعناها على سكان الحي" فاعتبروا قوله إقرارا بالجرم الذي توهموه وقالوا له: "أنت إذن مطلوب للتحقيق معك".

وسط الضجيج والصياح إنتبهت إلى أحد أفراد الطقم وهو يفتش في كيس صغير اعتدت أن أحمله معي كلما ذهبت للمقيل في مقر الجمعية..كان الكيس يحتوي على صحيفة الثوري ودفاتر خاصة وبضعة أوراق دونت فيها أفكارا حول مفردات الخطاب السياسي لجماعة الحوثي.

إستنكرت على الرجل أن يفتيش أوراقي الخاصة دون إذن مني وبغير وجه حق لكنه لم يكترث لما قلته وذهب يقلب الأوراق ويقرأ في كل منها السطور الأولى ثم ذهب يعرضها على قائد الطقم الواقف أمام الجمعية..وفي هذه اللحظة أيقنت أني سأنزل "ضيفا" عليهم..وبالفعل عاد الرجل يستدعيني لآخذ مقعدي في الطقم إلى جانب المهندسين أبو بكر وجمال جحيش..وهذا الأخير هو رئيس الجمعية وهو أيضا مدير عام النظافة في أمانة العاصة، وإذا قدر لشوارع المدينة وأزقتها أن تفاضل بينه وبين عبد الملك الحوثي لفضلته على هذا الأخير الذي لا يملك في صنعاء 1% من الشرعية والمشروعية التي يملكها عمال النظافة..لكنها فوضى القوة المنفلتة حين تنتهك حرمة عاصمة الدولة وتقلب الطاولة على الجميع لتضع من هو أدنى في منظور الدولة فوق من هو أعلى.

عندما أوشك الطقم أن يتحرك بنا قلت لأفراده: ": لن تكسبوا شيئا من وراء تصرفكم هذا سوى سوء السمعة"..قالوا: " لا تخافوا..هو مجرد إجراء أمني ولن يمسكم أي سوء".

سار بنا الطقم نحو نصف كيلو متر في الطريق الترابي ونصف كيلو متر آخر على الإسفلت، وعندما وصلنا إلى بداية شارع الخمسين باتجاه النهدين عصبوا على أعيننا لمنعنا من رؤية مسار حركة الطقم..وفي هذه اللحظة بدأت أقيس المسافة بواسطة العد (وااااحد إثنييين ثلاااااااثة..الخ)..كان واضحا أن الطقم يخرج عن مساره على الإسفلت ويسير في طريق ترابي غير مستو للتمويه، وكان أيضا يتوقف لدقائق مع إغلاق المحرك وخروج السائق مع آخر للإيحاء بأنه مرَّ على مركز ما للتشاور..فعلوا هذا ثلاث مرات..وعندما كان الطقم يتوقف كنت أنا أتوقف عن العد، وعندما يستأنف حركته أستأنف العدَّ من حيث انتهيت..وعندما وصلنا إلى مقر "الضيافة" كان العد قد وصل إلى الرقم (349) أي 349 ثانية تقريبا، ما يعني أن المسافة ليست طويلة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الطقم كان مسرعا وحركة السير في الشوارع خفيفة جدا بسبب أزمة الوقود.

طلب منا أن ننزل من الطقم ونحن معصوبو الأعين..إقتادونا من سواعدنا اليسرى..لكل منا دليل يقوده ويرشده: أمامك درجة؛ إطلع الدرجة الثانية؛ إطلع الدرجة الثالثة؛ الطريق الآن مستوية..وهكذا إلى أن فتح باب لنلج منه إلى محطتنا الأخيرة..وهنا فقط سمح لنا بالرؤية لنجد أنفسنا في غرفة سبقنا إليها تسعة آخرون أغلبهم في الثلاثينيات من العمر والبقية ما دون ذلك..وكنت أنا العاشر وجمال جحيش الحادي عشر..أما أبو بكر فقد أقتيد إلى غرفة أخرى ليصبح فيها الثاني عشر.

كانت الغرفة مضاءة بالشمع..وكان سابقونا إليها يمضغون وريقات القات بصمت لم يكسره إلا تحيتنا وردهم الجماعي بأحسن منها..جلسنا نحن أيضا بصمت نقرأ لبعض الوقت في وجوههم..بدا لنا أنهم من أبناء القبائل..كسرنا الصمت ثانية وتعارفنا وعرفنا أنهم يقضون ليلتهم الثانية هنا وأنهم جميعا من صرواح، وتحديدا من آل طعيمان والزائدي..وجميعهم لا يعرف التهمة الموجهة إليه..كل ما في الأمر أنهم كانوا يتناولون القات في منزل طعيمان في الجرداء ومن هناك أقتيدوا إلى حيث هم الآن..وطعيمان هذا هو عضو مجلس النواب كتلة حزب الإصلاح وقد فهمنا أنه عند مداهمة منزله كان على سفر خارج البلاد في رحلة علاجية.

بعد ساعة تقريبا أضاءت مصابيح الكهرباء..لاحظت أننا في غرفة مساحتها نحو عشرين مترا مربعا ولها ثلاث نوافذ كبيرة محمية بقوائم حديدية سماكة 16 مليمتر وأبواب من الألمنيوم والزجاج..فتحت النافذة ومن معرفة اتجاه القبلة أدركت أن الغرفة تطل من الشرق والجنوب على بهو عرضه حوالي متر واحد فقط ينتهي بجدار إسمنتي إرتفاعه أعلى من ارتفاع الغرفة نفسها.

فتح باب الغرفة ورمى أحدهم إلينا بستة أكياس من النيلون الأبيض: كيسان (كُدَم) وكيسان (فول) وكيسان (شاي) ثم سأل: هل بينكم من يريد الذهاب إلى الحمام؟..ذهبت إلى الحمام ولاحظت أنه إفرنجي أنيق يعاني كثيرا من سوء الاستخدام..وعندما خرجت وقعت عيناي على صالة تطل عليها إلى جانب غرفتنا ثلاث غرف أخرى مغلقة وحمام آخر في الزاوية اليمنى من الجهة المقابلة..ومن هذا الوصف بدا لي أننا في بيت تحت الأرض سقفه مفتوح على السماء..لكن عندما دخلنا ونحن معصبو الأعين لم نحس أبدا بشيئ من هذا القبيل..لقد صعدنا ثلاث درجات ثم اقتادونا في خط مستقيم إلى الغرفة التي نحن فيها!!! الأمر إذن مازال ملتبسا علي.

دعونا نوزع الغرف الأربع : الأولى تلك التي نحن فيها، والثانية تلك التي فيها أبو بكر، والثالثة كانت إنفرادية للشيخ محمد حسن دماج، أما الرابعة فالأرجح أنها مطبخ يستخدم كمخزن..والعزل من بين إجراءات "الضيافة" المتبعة في هذا البيت حيث لا يستطيع أي منا أن يرى أحدا غير أولئك الذين يقاسمونه غرفته..ومع ذلك شاهد أبو بكر الشيخ دماج يغادر الحمام الآخر متجها إلى غرفته..وهذه مصادفة صنعتها المزامنة بين ذهابيهما إلى الحمام..والمزامنة خطأ لا يجب أن يتكرر.

عندما يخرج أحدنا من الحمام يعود إلى الغرفة فورا ليسمع خلفه صكيك مفتاح بابها..فالغرفة دائما مغلقة..وإذا احتاج أحدنا إلى الحمام في ليل أو نهار فعليه أن يقبض أصابع يده اليمنى ويحدث أربع أو خمس ظربات على الباب حتى يسمعه أبو صقر..وهذا إسم مستعار لشاب من بني بهلول في الثانية والعشرين من عمره بالكاد أنهى الثانوية العامة وليس لديه رغبة في مواصلة الدراسة، وهو وديع وخلوق حتى أنه إذا عبر أحدنا عن استيائه من ضيق المكان يقول: سامحوني يا إخواني، والله لو الأمر بيدي لوضعتكم فوق رأسي.

لم يلتفت أحد لا إلى الكدم ولا إلى الفول ولا إلى الشاي الذي ليس له نكهة الشاي..وأبو صقر لا يقصر في تقديم خدماته..أمسك بورقة وقلم وسجل طلباتنا من البقالة..أخذ منا النقود وذهب ليعود محملا بأكياس الحليب والبسكويت وعلب الدخان..لاحظ جمال جحيش أن الحليب صناعة سعودية - مثله مثل "قطر الحديد" - وقرر أن يحتفظ بالعلب الفارغة لرد الصاع بصاع.

الكل أكل البسكويت وشرب الحليب..أما أنا فقد فضلت كدمتين مع الحليب على الحليب مع البسكويت وملأت فراغ معدتي جيدا خوف أن يداهمني الصداع..وبعدها بدأت أفكر كيف اقاوم الليل الطويل في غرفة مزدحمة يتعذر فيها النوم..ومن حسن الطالع كان هناك مصحف وملزمتان لحسين بدر الدين الحوثي الأولى بعنوان "في معرفة الله" والثانية بعنوان "لتحذون حذو بني إسرائيل" وعلى غلاف كل منهما قائمة طويلة بعناوين ملازم أخرى لهذا الرجل..وكل ملزمة عبارة عن محاضرة ألقيت شفاهة باللهجة المحلية وسجلت صوتيا في كاسيت ثم جرى تفريغها وطباعتها الكترونيا بلغة عربية مستقيمة وبخط بجيل مريح لعين القارئ.

خلال أقل من ثلاث ساعات قرأت الملزمة الأولى والثانية، وكذلك فعل جمال جحيش..تعرفت على حسين الحوثي عن قرب من خلال ما قاله لأتباعه ومريديه..وجدت نفسي أمام قراءة قروسطية للدين بدا معها حسين الحوثي سلفيا جهاديا في إطار زيدي هادوي يخالطه إعجاب مفرط بالنموذج الإيراني الذي أرساه الخميني..وليس في هذا الإعجاب ما يدل على اختيار فكري صريح وواضح وإنما هو من عمل العقل السياسي الباحث من حيث يشعر أو لا يشعر عن خارج يستعين به على الداخل..إنه إعجاب أملاه الضعف وليس القوة..باختصار أملته أحلام عودة الإمامة في زمن تجاوزها معرفيا وثقافيا وسياسيا وفي مكان كان لها فيه صولات وجولات..وحسين الحوثي لا يختلف في هذا عن رجال السلفية الجهادية المقلدين سوى أن هؤلاء يريدونها خلافة لمن هو أهل للبيعة من المؤمنين ويريدها هو إمامة حصرية لآل البيت باعتبارهم ورثة العلم الرباني وأهل الولاية بأمر أوجبه الله..

في وقت متأخر من الليل كنا نسمع مضادات الطائرات وكأنها فوق رؤوسنا..وعندما تلاشت تلك الأصوات تزاحمنا للنوم مثل علب السردين..المظلوم فينا كان جمال جحيش..وطوله الملفت هو الذي ظلمه..وبسبب ضيق المساحة حاول أن ينكمش حتى كادت ركبتاه أن تلامسا عنقه..نام على بطانية سوداء من النوع الذي يصرف للجنود في معسكرات الجيش..أما أنا فقد وجدت مساحة اتسعت لي في محاذاة باب الغرفة..فرشت بطانيتي واتخذت من بعض أكياس الكدم المتراكمة وسادة وضعتها تحت البطانية وما أن وضعت رأسي عليها بدأ الشخير يملأ فضاء الغرفة..كل يعزف بطريقة مختلفة لاتملك معها إلا أن تنشغل غصبا بملاحة الفروق بين العازفين..ونحو أربعة من بين أحدعشر احتاجوا إلى الحمام في أوقات متفاوتة..والحاجة إلى الحمام تكفي لإيقاظ نزلاء الغرف المجاورة..تعذر علي النوم في تلك الليلة وتكدر مزاجي بعض الشيء.

عندما انبلج شعاع الفجر بدأ النعاس يداعب عيني..سمعت صوت مؤذن جامع الحي.. حاولت أن أستدل بهذا الصوت على المكان الذي نحن فيه ولكن دون جدوى، فأصوات المؤذنين في صنعاء تبدو كما لو أنها تخرج من حنجرة واحدة..وعندما انتهى الأذان نمت ولكن لدقائق فقط..لقد فتح أحدهم الباب وصاح بأعلى صوته: صلا صلا صلا صلا.

الكل إنتفض بحماس لأداء الصلاة إلا أنا ألقيت شالي على وجهي لاستدعاء النوم..إلتفت الرجل إلي قائلا: وأنت لماذا لا تقوم للصلاة؟..قلت له لن أصلي..ذهب وعاد سريعا بمعية آخر يحمل بيده عصا لمن عصى..وقف هذا الآخر على الباب ملوحا بعصاته: من هذا الذي لا يريد أن يصلي؟..قلت له: أنا..سأل مستغربا: لماذا؟..إستويت جالسا وقلت له: قلت له أنا هنا معتقل وحريتي مصادرة ومن صودرت حريته سقطت عنه كل الواجبات الدينية..إستفزه هذا الكلام أكثر فقال: والله ستصلي غصبا عنك.

في هذه اللحظات كان جمال جحيش قد فرش شاله للصلاة وتوجه نحو القبلة ولكن قبل أن يشرع في صلاته إلتفت إلى الرجل قائلا: يا أخي الصلاة موش بالغصب..فرد عليه الرجل قائلا: يا أخي هذا دبور على المجتمع..إبتسم جمال وقال: يا أخي لا يجوز لك أن تقول هذا وتقرر نيابة عن الله فقد يذهب هذا الدبور إلى الجنة ونذهب نحن وأنت إلى جهنم...وكان كلام جمال هذا القول الفصل الذي أنهى المشادة..لكن ما أن ذهب الرجل حتى التفت إلي زملاء الغرفة مستغربين وهموا أن يدخلوا معي في نقاش..قلت لهم دعوني أنام وعندما أصحو سأشرح لكم مذهبي في الدنيا والدين..وهكذا نمت عند الفجر ونام زملاء الغرفة أيضا.

عند منتصف النهار فتح أبو صقر باب الغرفة ورمى بأربعة أكياس: كدم ورز معمول برداءة وإدام لا يستصاغ وشاي ليس له صلة قرابة بالشاي..لم يقترب أحد من هذا الأكل سواي..لا خيار لدي سوى أن أكون خشنا..أكلت كدمتين مع الشاي..كان هذا كافيا كي ترسل المعدة إشارة إلى المركز المعني في الدماغ بأن كل شيء على ما يرام.

فتح أبو صقر باب الغرفة ثانية ورمى بأكياس صغيرة كلها قات رديء جدا ومن النوع الرخيص جدا..أحد عشر كيسا..همست في أذن جمال جحيش: هذه المرة الأولى والأخيرة بالنسبة لك مع هذا القات أما بالنسبة لي فيبدو أنها المرة الأولى وستليها مرات..كان لدي إحساس قوي بأن جمال وأبو بكر سيغادران عند حلول المساء على الأكثر بينما سأمكث أنا أسبوعا على أقل تقدير.

فتح أبو صقر باب الغرفة ثالثة ومعه ثلاثة: الأول يحمل صحنا واسعا مليئا بالرز الفاخر يغطيه ربع كبش حنيد..والثاني يحمل صحنا مشابها..والثالث يحمل كرتونا من الماء وكمية كبيرة من القات الممتاز..كيف حصل هذا؟ كيف سمح لهذه الوجبة أن تصل إلى معتقل ليس له عنوان ولا أحد خارجه يعرف نزلاءه؟.الأمر بسيط جدا..إنها الرابطة القبلية حين تعلو فوق غيرها من الروابط..حوثي من صرواح إستطاع أن يعرف المكان الذي ينزل فيه أبناء قبيلته التسعة..والعرف يوجب عليه أن يحيد حوثيته وأن يكون شهما مع أبناء ربعه..ومن حسن الحظ أني وجمال كنا في غرفة واحدة مع هؤلاء..لقد أكلنا مما أكلوا ومثلما أكلوا وكان لنا نصيب طيب من القات الفاخر.

أثناء المقيل ألحوا أن أشرح لهم مذهبي في الدنيا والدين..قلت لهم الصلاة بالنسبة لي عبادة وأراها عندكم كأنها عادة..وهي بالنسبة لي حق بينما ترونها أنتم واجبا..أنتم تخافون الله وأنا أحبه..أنتم تعتبرون أنفسكم عبيدا لله بينما أنا عابد له وليس عبدا لأن الله لا يحتاج إلى عبيد وهو لم يخلق الإنسان إلا ليمتحن قدرته على أن يكون حرا..وعندما رفضت صلاة الغصب كنت أمارس حريتي وأرفض العبودية الهمجية حتى وإن لبست عمامة الورع والتقوى..ثم شرحت وفصلت مجمل ما قلته..وما أن انتهيت حتى قال أحدهم واسمه خالد : يا أستاذ طاهر أنت إشتراكي..وأضاف: أنا أحب الاشتراكيين..قالها بصدق قرأته في تعابير وجهه.

ذهب معظم وقت المقيل في نقاش سياسي عقلاني حول الحوار الوطني ونتائجه وانقلاب التحالف الحوثي العفاشي عليه..وعندما حل الغروب بدأت أقرأ في المصحف على ضوء الشموع..وعندما أضاءت الكهرباء فتح باب الغرفة ونودي على جمال جحيش..قالوا له: سنطلق سراحك الآن..قال: وحدي؟..قالوا: نعم..قال: لا، إما أن أخرج مع طاهر وأبو بكر أو أبقى معهما..وقد تم أن خرجنا الثلاثة بعد تسع وعشرين ساعة دون أن يحقق مع أي منا..خرجنا غير معصوبي الأعين وعرفنا أنا كنا في أحد منازل علي محسن الأحمر في حدة..والملفت أن الكيس الذي أخذ مني عاد سليما بكل محتوياته..وقد وصلنا إلى منازلنا على طقم يقوده ضابط ويرافقه آخر..وطوال الطريق سمعنا منهما كلمات كلها إعتذار عما حدث لنا.

.................................................

كان علي أن أكتب هذا حين خرجت وفاء بالوعد لأصدقاء الفيسبوك..لكن الدخول إلى الفيسبوك لم يعد في متناول يدي هذه الأيام..معذرة عن التأخير.

 

         مشكلة المشاكل اليمنية تتمثل في عدم قدرة نخبنا على إنتاج دولة لكل مواطنيها..وعن هذه المشكلة تفرعت كل المشاكل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل والأخلاقية أيضا..وعلى مدى نحو عام ظل اليمنيون يتحاورون في موفنبيك حول هذه القضايا وفي الصدارة منها قضية الدولة..وتمخض الحوار عن نتائج تشكل في مجموعها مشروعا وطنيا لبناء الدولة على أساس إتحادي..وهذا ليس ولهاً في الدولة الإتحادية وإنما لأن بناء دولة لكل مواطنيها من مدخل الدولة البسيطة صار من أشباه المستحيلات في ظل الاستعصاءات المحلية التي ترفض نقل ولاءاتها من ولاء محلي إلى ولاء وطني على مستوى الدولة..وقدرة الحوثي على تجييش القبائل واجتياح العاصمة وبسط سيطرته على مؤسسات الدولة بما في ذلك مؤسسة الرئاسة ومحاصرة رئيس الدولة والوزراء وإجبارهم على الاستقالة أكبر دليل على قوة الاستعصاءات المحلية المعيقة لبناء الدولة في اليمن..وقد فعل الحوثي كل ذلك باسم الشعب وهو يفتقر إلى أي حضور شعبي خارج إقليم أزال..وفعله باسم الثورة وهو يدير ثورة مضادة..وفعله باسم الشرعية الثورية وهو خارج كل شرعية.

         صحيح أن الحوثي فعل ما فعله بالتحالف مع المخلوع علي صالح..لكن علي صالح نفسه هو نتيجة لهذه الاستعصاءات التي مكنته من السلطة لثلاثة وثلاثين عاما حتى تحول من مجرد رئيس إلى ظاهرة متغلغلة في كل مفاصل الدولة الهشة العسكرية والأمنية والمدنية..والحوثي عمليا إستمد قوته من علي صالح الظاهرة وليس من علي صالح الشخص..فعلى المستوى الشخصي هناك خلاف ظاهر للعيان الآن بين الرجلين اللذين صنعا الأزمة الراهنة وتباينا في الإجابة على سئوال: لصالح من يجب أن تذهب مكاسب صناعة الأزمة؟..فكل منهما يريد أن تذهب المكاسب لصالحه..فعلي صالح لا يرى بديلا عن العودة إلى البرلمان والذهاب إلى إنتخابات مبكرة..والحوثي يريد مجلس رئاسة..وكلاهما لايريد عودة هادي عن استقالته لأن هادي يرمز إلى التسوية السياسية التي أفضت إلى نتائج الحوار الوطني الشامل..والرجلان عمليا يرفضان هذه النتائج، ويرفضان على نحو خاص الشكل الإتحادي للدولة حتى وإن أدى هذا الرفض إلى فك ارتباط الجنوب بالوحدة..ولسان حالهما يقول: إذا كانت الوحدة ستنهي هيمنتنا على كل اليمن فلا بأس من التضحية بها لنضمن هيمنتنا على كامل الشمال.

         ومن أجل تحقيق هذا الهدف يوجهان سهامهما نحو الدولة الاتحادية ويقولان إنها مؤامرة خارجية لتفتيت اليمن وتحويله إلى كانتونات متصارعة..وفي الوقت نفسه يقولان إنهما مع تنفيذ مخرجات الحوار الوطني..بل إن الحوثي يذهب بعيدا في اتهام هادي بأنه متباطئ في تنفيذ هذه المخرجات!!! وهذا تناقض فاضح لا يراه كثيرون ممن يعتقدون أن الحوثي فقط ضد تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم وليس ضد الدولة الاتحادية من حيث المبدأ..وغاب عن هؤلاء أن يسألوا أنفسهم: لماذا يتجنب الحوثي تقديم مقترحات بديلة عن الأقاليم الستة؟ ولماذا أسرع في اجتياح المحافظات بعد اجتياح العاصمة؟ ولماذا هو مصر على اجتياح مأرب؟

         لو أن الحوثي يملك مشروعا وطنيا لكان اكتفى بالتخلص من علي محسن والزنداني وعرض مشروعه على اليمنيين وحاول أن يتوسع في المحافظات بمشروعه لا ببندقيته..لو أنه فعل ذلك لكان بمقدوره أن يتواجد في المحافظات بأناس من أبناء المحافظات نفسها لا بمليشياته الجهوية التي يستخدمها لفرض هيمنته على أقدار اليمنيين.

         ليس الحوثي وعلي صالح وحدهما من يرفضان الدولة الاتحادية..هناك آخرون من أصحاب المصالح يرفضون هذه الدولة..لكن الملفت للإنتباه أنها مرفوضة أيضا من أناس ليس لهم مصالح شخصية ولا فئوية في الرفض..فهم يرفضونها بدافع الخوف على وحدة البلاد وتماسكها الوطني كما يقولون..لكن رفضهم من النوع العدمي الذي لا يقدم أي حل ولم يقل لنا كيف يمكن أن نبني دولة لكل مواطنيها من مدخل الدولة البسيطة..ولهؤلاء أقول: دولة لكل مواطنيها أمر مرفوض سواء كانت بسيطة أم إتحادية..لكن الذهاب إليها من مدخل الدولة الاتحادية أسهل..وإذا أردتم أن تتأكدوا قدموا خارطة طريق لبناء الدولة البسيطة التي تحلمون بها وانتظروا ردود أفعال قوى الاستعصاء التي تمارس الهيمنة المركزية على كل اليمنيين بإسم الوطنية.

         الحوثي نفسه من ضحايا الهيمنة المركزية التي اكتوت صعدة بحروبها الست..ومع ذلك لا يريد الحوثي أن يتخلص من هذه المركزية وإنما يريدها أن تتحول إليه وأن يصبح هو المركز.. أن يحل "السيد" محل "الشيخ والجنرال"..ومن يريد أن يختبر نواياه يقدم خارطة طريق بدولة بسيطة لكل مواطنيها وينتظر رأي الحوثي فيها..باختصار نحن أمام غطرسة تريد أن تصادر حق الشعب اليمني في حياة كريمة..تريد أن تبقي الشمال عصبويا ينتظر داعي القبيلة الملتحمة بالدولة..ويريد أن يبقي الوسط واقعا تحت هيمنة مراكز القوى..وعلى الجنوب أن يقبل بالهيمنة عليه أو يفك ارتباطه بالوحدة وسيأتي من يمارس عليه الهيمنة والمركزية المقيتة من داخله، وقد يتمزق..وفي نهاية المطاف سيتعايش المهيمنون في الشمال مع المهيمنين في الجنوب على حساب الشعب اليمني هنا وهناك.لكن ما لم يفهمه الحوثي بعد هو أن اليمن بعد 2011 ليس هو اليمن قبل 2011 وأن اليمنيين في الشمال وفي الجنوب لن يقبلوا بدولة تصادرها قوى النفوذ والهيمنة أي كان الرداء الذي ترتديه وأي كان الشعار الذي تسوق نفسها من خلاله.

 

         بداية يجب  ألاَّ تستغرقنا تفاصيل معركة محيط دار الرئاسة قبل العثور على العنوان الكبير الذي يشير إلى ما حدث..وسنبدأ من التحالف القائم بين علي عبدالله صالح وحركة الحوثي على اعتبار أنه صار من حقائق المشهد السياسي الراهن في اليمن..ولأنه تحالف مريب فإن طرفيه يتجنبان الإقرار به، وفي الوقت نفسه يتعذر عليهما النفي والإنكار..لذلك لزما الصمت.

تحالفات علي صالح:

         في لحظة من لحظات الزهو خرج علي صالح علينا ذات يوم ليقول: "من أجل تحقيق أهدافي سأتحالف حتى مع الشيطان"..والحقيقة أن أخطر تحالفات هذا الرجل كانت كلها مع الشيطان..فقبل رحيله كشف الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته خلفية تأسيس التجمع اليمني للإصلاح في سبتمبر 1990 قائلا ما معناه: "بعد تحقيق الوحدة دعانا الرئيس صالح أنا والزنداني وآخرين وقال لنا إنه وقع على اتفاقية الوحدة مع الحزب الاشتراكي وإن الاتفاقية تحتوي على بنود هو نفسه غير مقتنع بها، لكنه كطرف موقع على الاتفاقية لا يستطيع أن يعارض أياً من بنودها..لذلك طلب منا الخروج من المؤتمر الشعبي العام وإعلان أنفسنا حزبا سياسيا مستقلا غير ملزم باتفاقية الوحدة ومن حقه أن يعارض بنودها التي لا تروق لنا وله..وقال إنه سوف يقدم للحزب الذي سنؤسسه كامل الدعم مثله مثل المؤتمر الشعبي العام".

         واضح أن هذا التحالف لم يكن محكوما لا بقيم ولا بأخلاقيات ولا بمبادئ نبيلة ولا هو تحالف من أجل الوطن..وهو بهذا المعنى تحالف مع الشيطان..والشعب اليمني يعاني إلى اليوم من ضياع الفرصة التاريخية التي أهدرها ذلك التحالف الشيطاني.

         وآخر تحالفات صالح مع الشيطان هو تحالفه الراهن مع عبد الملك الحوثي..قال "للسيد" الكلام نفسه الذي قاله ل"الشيخ" :" أنا طرف موقع على المبادرة الخليجية أما أنت فلست طرفا فيها ولا أنت ملزم بها..وعليك أن تسقط هذه المبادرة وأنا من وراء الستار سأقدم لك الدعم الذي يمكنك من بسط النفوذ والسيطرة على كامل الشمال كحد أدنى"..وهذا باختصار عنوان تحالف الحوثي وعلي صالح..وتحته تقع تفاصيل كثيرة..وكل ما يصدر عن حركة الحوثي من أفعال وأقول يثبت حقيقة هذا العنوان الكبير ويدل عليه.

علاقة صالح بنشأة حركة الحوثي:

         يتساءل البعض: كيف استطاع صالح أن يحقق التحالف مع حركة الحوثي رغم الحروب الستة وقتله مؤسس الحركة حسين بدر الدين الحوثي؟..لكن هذا السئوال سيفقد عنصر الدهشة التي يوحي بها إذا غاص القارئ في العمق واكتشف أن حركة الحوثي خرجت إلى الوجود بسبب انقلاب على جماعة الشباب المؤمن موَّله صالح ونفذه بدر الدين الحوثي وابنه حسين بدءً بانشقاقهما مع آخرين عن حزب الحق وتحولهما إلى المؤتمر الشعبي العام..وقد كان صالح يدعم الحركة لتحقيق أربعة أهداف: الأول إنتخابي لضمان دوائر صعدة..والثاني محاصرة حزب الإصلاح وإضعافه والحد من توسعه..والثالث توريط الفرقة الأولى مدرع في حروب تنهكها وتقتل قائدها، أو على الأقل تضعفه لصالح الحرس الجمهوري وأحمد علي..والرابع ابتزاز السعودية.

البعد الشخصي لحرب صعدة الأولى:

         نشبت حرب صعدة الأولى على خلفية خلاف شخصي بين صالح وحسين بدأ بمكالمة تلفونية سمع فيها الثاني من الأول ما لا يحب أن يسمع من ألفاظ إعتاد صالح أن يُسمعها لكثيرين ممن قرَّبهم إليه ومنحهم بعض امتيازات السلطة والوجاهة..لكن صالح أساء التقدير عندما ظن أن حسين من هذا النوع..فالرجل ذاد عن كرامته ورد الصاع بصاعين ثم أقفل سماعة الهاتف في وجه "صاحب الفخامة"..وعندما عاد إلى هدوئه أدرك أنه أصبح في دائرة الخطر فطلب من مجاهد أبو شوارب والشيخ عبدالله بن حسين أن يتدخلا لدى الرئيس من أجل عودة المياه إلى مجاريها وعليه السمع والطاعة في الحدود التي تحفظ له كرامته.

         لم يقبل علي صالح وساطة الشيخين وردهما بغطرسة مفرطة قائلا إنه سيأتي بحسين من صعدة إلى صنعاء مسحوبا من أذنيه..وفي ذلك الوقت كان حسين قد أصبح زعيما روحيا لجماعة تربت على الأعراف القبلية والسلفية الزيدية التي تقدس حاملها الاجتماعي..وإلى هذا الحامل ينتمي حسين الحوثي..وهذا مقام يدفع صاحبه دفعا إلى مقاومة أي تصرف يمكن أن يخدش وجاهته وهيبته أمام مريديه..لذلك رفض حسين الحوثي المثول أمام محافظ صعدة حينها عندما استدعاه إليه فقرر هذا الأخير أن يأتي به غصبا من حيدان صعدة إلى صنعاء..وعندما جاءت الأطقم العسكرية لسحبه من أذنيه إستقوى حسين بجغرافية المكان وأوعز إلى مريديه أن يتعاملوا مع القوة بالقوة دون أن يكشف لهم عن خلفية المشكلة وطابعها الشخصي..وهم حتى هذه اللحظة يعتقدون أنهم واجهوا في ذلك اليوم أول عدوان غير مبرر على المذهب وعلى الخصوصية الثقافية للمنطقة المستهدفة من السلفية الوهابية..وفي ظل هذا الاعتقاد نما شعار الدفاع عن النفس ضد محاولات إستئصال الزيدية كمذهب وكحامل اجتماعي.

الحقيقة التي أخفاها شعار الدفاع عن النظام الجمهوري:

         مثلما أخفى حسين الحوثي الحقيقة عن مريديه أخفاها علي صالح عن الشعب اليمني..لم يقل للناس إن حسين الحوثي دافع عن كرامته الشخصية كإنسان ضد رئيس دولة تعود أن يضع نفسه فوق الدستور وفوق القوانين ولا يحترم أبسط أخلاقيات التخاطب مع من يقربهم إليه..فكل من يتحسس لكرامته هو في نظر صالح شخص غير مرغوب فيه، وبمقدار ونوع التحسس الذي يبديه يجب التعامل معه..وحسين الحوثي أفرط في التحسس، وإذا تعذرت إهانته وإذلاله فيجب قتله..ولكن لا يجب أن يقتل بسبب الدفاع عن كرامتة وإنما كهاشمي متآمر على النظام الجمهوري ومتطلع إلى الإمامة..ومن هنا بدأ مسلسل حروب صعدة المحاطة بعشرات الألغاز حتى قيل إن صالح كان يشعلها بالتلفون ويوقفها بالتلفون..والحقيقة أن غاية ما أراده صالح من تلك الحروب هو الثأر الشخصي من حسين الحوثي مع الإبقاء على حركته في حالة جاهزية قتالية لإنهاك الفرقة الأولى مدرع التي خاضت ستة حروب متتالية تورطت السعودية في إحداها..ولو قدر للجنرال علي محسن أن يُقتل في الحرب الأولى أو الثانية لتغير السيناريو في صعدة وسار في منحنى مختلف.

عداء حركة الحوثي لعلي محسن:

         نشأت حركة الحوثي كرديف مذهبي غير معلن للمؤتمر الشعبي العام على قاعدة اتفاق مع علي صالح..وهي من هذه الزاوية ماتزال إلى اليوم تحمل جينات نشأتها الانقلابية على الشباب المؤمن..وهذا يفسر عداءها لعلي محسن دون صالح الذي لم يكن علي محسن سوى منفذ متحمس لأوامره..والثمن الذي دفعه الجنرال محسن في 21 سبتمبر 2014 لم يكن بسبب عسكريته ولا بسبب فساده وإنما بسبب عقائديته التي جعلت الحوثي يصنفه في مربع الانشقاق المعلن على الزيدية الهادوية لصالح تحالفات من خارجها..وقل مثل هذا عن مشيخة العصيمات التي لم تدفع ثمن فسادها وإنما ثمن "خيانتها" للزيدية الهادوية.

أنصار صالح وليسوا أنصار الله:

         إذا قمنا بعملية رصد بسيطة لسلوك "أنصار الله" بعد 21 سبتمبر 2014 سنعثر على عشرات الوقائع التي تؤكد أن الله هو الغائب الأكبر في هذا السلوك، بينما علي صالح هو صاحب الحضور الملفت..فتوكل كرمان ليست من مراكز القوى ولا من أساطين الفساد ولا هي من أهل السلاح حتى يقتحم الحوثيون منزلها في صنعاء، لكنها دفعت ثمن شعارها الثوري: "كلما زدنا شهيد إهتز عرشك يا علي"..وقل مثل ذلك عن محمد قحطان الذي هدد بسحب علي صالح من غرفة نومه، وعن صخر الوجيه الذي تحدث عن ليااااااااااااااالي طرابلسية في اليمن مقابل ليلى طرابلسي واحدة في تونس..حتى الفقيد فرج بن غانم لم يسلم منزله من الاقتحام لأنه قال لعلي صالح: "أنت رئيس عصابات وليس رئيس دولة" وقدم استقالته من رئاسة الحكومة..وإذا استعدنا تفاصيل مسلسل اقتحام البيوت في صنعاء سنجد أنفسنا إزاء أنصار صالح، أما الله القادر المقتدر الذي لا حدود لقدرته فلا يحتاج إلى أنصار يثأرون له.

المبادرة الخليجية والحصانة:  

         كانت ثورة فبراير 2011 ثورة يمنية بكل المقاييس الجغرافية والمجتمعية..وكان الشباب الأعزل ضميرها ورافدها الأساس..غير أن روافد ثانوية مسلحة التحقت بها بسبب انقسام قوى النفوذ والسيطرة على نفسها..وفي مشهد كهذا بدا أن إرادة الثورة السلمية في الساحات أقوى من أن تكسرها الآلة العسكرية والأمنية للرئيس صالح..غير أن  فاتورة إنتصارها ستكون كبيرة جدا، مع احتمالات انزلاق البلاد إلى حرب أهلية بسبب انقسام الجيش وتشبث صالح بالسلطة وبمشروعه العائلي..ولهذا جاءت المبادرة الخليجية لتجنب اليمنيين فاتورة الثورة مع ضمان التغيير على قاعدة التوافق الوطني..ونصت على نقل السلطة من الرئيس إلى نائبه مقابل منح الحصانة للرئيس الذي كان هو نفسه قد سعى إلى هذه المبادرة واطمأن على مستقبله الشخصي ومستقبل أبنائه..والحقيقة أن أصحاب المبادرة كانوا أوفياء مع صالح في لحظات سقوطه المهين الذي لم يتوقعه لا هو ولا هم، رغم أنه ظل لسنوات طوال يراكم عوامل هذا السقوط بفساده الذي طال كل شيء في اليمن، بما في ذلك منظومة قيم المجتمع.

بعض مظاهر الانتقائية في مواقف الحوثي:

         اتسم موقف الحوثي من المبادرة الخليجية بالإنتقائية..فهو ضد المبادرة لكنه ليس ضد الحصانة التي هي جزء لا يتجزأ من المبادرة..وهذه الانتقائية ملحوظة بشكل ملفت في موقفه من "الفاسدين"، حيث لم يعثر الحوثي على فاسد واحد في معسكر علي صالح.

هادي وعلي صالح:

         شاءت نتائج حرب 1994 أن يكون نائب الرئيس جنوبيا لإضفاء طابع الشراكة مع الجنوب على نظام إستباحه وأقصاه بواسطة الحرب..لذلك كان النائب بغير صلاحيات فعلية..ومع ذلك إستطاع من موقعه الشكلي هذا أن يتعرف على نظام علي صالح وطريقة إدارته وخارطة توزيع القوة فيه..والمرجح أنه لم يكن يتصور أن نهاية نظام العائلة ممكنة على المدى المنظور..وعندما رأى الشباب يندفعون إلى الساحات كأسراب الجراد رافعين شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" لزم الصمت..وهنا إرتاب الرئيس صاح من نائبه وهمَّ أن يقيله وأن يأتي بعلي مجور بدلا عنه، غير أن الوقت والحيلة لم يسعفاه وسط الإرباك الذي سببته له الثورة..لذلك قرر صالح أن يسلم العَلَم لهادي وأن يتظاهر بدعمه نهاراً ليتآمر عليه ليلاً.

هادي والجنرال علي محسن: 

         وفي المعسكر المضاد لصالح كان الجنرال علي محسن يرى في هادي فرس رهان لكسب المعركة مع صالح والبقاء كرئيس فعلي يدير البلاد من الظل..لكن الجنرال لم يحتج إلى وقت طويل كي يكتشف أن حساباته كانت خاطئة فانقلب من مراهن على هادي إلى كاره له كرها شديدا..وملف هذه الكراهية لم يخرج إلى دائرة الضوء بعد..والأرجح أنه في حال خروجه سيكشف عن قضايا في منتهى الخطورة من الناحية الأمنية..وروائح هذه الكراهية تتسرب حتى اليوم عبر الصحافة المحسوبة على الجنرال وعلى حلفائه الذين يحاولون إقناعنا بأن هادي متحالف مع الحوثي وأنه يهرول نحو إيران لمجرد أنه أصدر قرارات تعيين لأشخاص محسوبين على الحوثي..وللتذكير: كانت هذه الصحافة نفسها تعتبر حرب هادي الشرسة ضد القاعدة في أبين حربا إنتقائية لمجرد أن هادي لم يحارب الحوثي!!!

التركة التي ورثها هادي عن صالح:

         كان هادي على علم بحجم التركة الثقيلة التي سيرثها عن صالح..كان يعلم أنه لن يرث دولة وإنما ركام هائل من الفوضى: فتركيبة الجيش وطبيعة ولاءاته الرأسية والأفقية تشير إلى إقطاعيات لن تأتمر بأمره..ومؤسسات الدولة ينخرها الفساد المالي والإداري الكبير والمتوسط والصغير، ويديرها من الأعلى إلى الأدنى أهل الثقة لا أهل الكفاءة..وعلى مدى ثلاثة وثلاثين عاما تكاثر أهل الثقة كالفطر في كل مفاصل مؤسسات الدولة في المركز والمحليات وأصبحوا مثل طابور خامس جاهز نفسيا وبحكم المصلحة لإعاقة أي تغيير أو إصلاح..والمؤتمر الشعبي العام مجرد جمعية لكبار المنتفعين وليس حزبا سياسيا يعتمد عليه في إحداث أي تغيير جاد..ومؤسسات المجتمع المدني مخترقة أمنيا إلى الدرجة التي أقعدتها وشلت قدرتها على أن تكون شريكا فاعلا في التغيير والإصلاح..والأحزاب السياسية بعضها تعرض لضربات موجعة شغلته بنفسه، والبعض الآخر جزء من المشكلة وليس جزءا من الحل..وكان صالح قد قضى ثلاثة وثلاثين عاما على رأس الدولة يشتري الذمم والولاءات ويفسد الضمائر ويمزق نسيج المجتمع ويدمر منظومة قيمه..وفضلا عن ذلك هناك قضية صعدة والقضية الجنوبية..وهناك القاعدة التي جعل منها صالح طابورا خامسا في الجنوب لتعلن نفسها إمارة في أبين ولها تواجد قوي في شبوة وحضرموت وتحاول التمدد في لحج ويدها تطال أهدافا في عدن..يضاف إلى كل ذلك ضعف الموارد والاعتماد على الهبات والمساعدات والقروض في ظل مستويات عالية من الفقر والبطالة التي طالت حتى الشباب وأصحاب المؤهلات في بلد معظم سكانه يعانون من الأمية الأبجدية والثقافية..وقل مثل ذلك عن خدمات الصحة والتعليم والإنارة والمياه...الخ.

         وأخيرا كان هادي يدرك أن العاصمة صنعاء ليست بعد مدينة لكل اليمنيين وأنها ليست حاضنته وأن فيها من يعتبره "مَخْرَجِيْ" نفذ إلى رأس الدولة من شقوق في جدار أهل البيت..وقد رأينا فيما بعد وسمعنا عبارات المن عليه من بعض مراكز القوى التي لبست عباءة الثورة على صالح، بل أن بعضها تجرأ في المن وقال : نحن جئنا بك ونستطيع أن نخلعك..وخلاصة ذلك أن نقل السلطة إلى هادي كان محض صدفة أنتجتها الوحدة اليمنية رغم حرب 1994 التي اعتقد أمراؤها أنها قد أغلقت الأبواب أمام أي صُدف من هذا النوع..وما يريده الحوثي اليوم هو أن تكون هذه هي الصدفة الأولى والأخيرة حتى وإن اقتضى الأمر التضحية بالوحدة اليمنية.

هادي ودعم المجتمع الدولي للتسوية:

         قبل هادي أن تنتقل السلطة إليه ولكن بعد أن أخذ تعهدات من المجتمع الدولي بأن يكون إلى جانبه وأن يمد له يد العون والمساعدة..ودون ذلك ما كان بمقدوره أن يغامر..وكلنا يعلم أن جمال بن عمر ذهب شخصيا إلى جنرالات العائلة في محتلف وحدات الجيش والأمن وحذرهم من مغبة التمرد على قرارات الرئيس الانتقالي التي قضت بإبعادهم..فهل من الجائز بعد هذا القول بأن هادي هو من جاء بالمجتمع الدولي الذي يسميه عبد الملك الحوثي "قوى أجنبية" أم أن "العنزة البلدي لا تستجيب إلا للتيس الغريب"؟.

الحقيقة التي تخفيها حساسية الحوثي من القوى الأجنبية:

         إن دعم المجتمع الدولي لمسار التسوية في اليمن هو أهم عوامل القوة التي يتكئ عليها هادي، إن لم يكن العامل الوحيد..وهذا يفسر إرتفاع حساسية عبد الملك الحوثي من الخارج غير الإيراني وتجرأه على رأس الدولة وصاحب الشرعية بقوله على الملأ: "هادي دمية بيد القوى الأجنبية"..وهذا قول لم نسمع مثله ضد علي صالح في أوج حروب صعدة.. وإذا علمنا أن هادي ليس هو من قتل حسين بدر الدين الحوثي سيكون بمقدورنا معرفة حقيقة تحسس الحوثي من القوى الأجنبية..إنه تحسس من الرئيس "المخرَجي" الذي لا ينتمي لا إلى المنطقة ولا إلى المذهب..ومن غير الجائز أن ندفن رؤوسنا في الرمال كي لا نرى هذا القبح الذي يفترض أننا قد دفناه في 26 سبتمبر 1962.

طائفية الحوثي:

         لم يكن المذهب الزيدي ضد تنمية مناطق شمال الشمال حتى تتعرض هذه المناطق لإلغاء خصوصيتها الثقافية لصالح المذهب السني الذي ارتدى عباءة السلفية الوهابية..ولم يكن أبناء هذه المناطق ضد أي حزب سياسي يخاطبهم ببرنامج وطني يحترم خصوصيتهم الثقافية..ثم أن السلفية الوهابية لم تكن تحمل أي محتوى تنموي يبرر إنتشارها الممنهج في هذه المناطق..لكن ذلك كان من مظاهر غياب المشروع الوطني عن نظام علي صالح وتحالفاته السياسية..وبسبب غياب هذا المشروع جاء مشروع الحوثي ليملأ الفراغ..وبما أنه مشروع سلفي فمن الطبيعي أن يسلك مسالك غير وطنية في تعامله مع المشروع السلفي المناظر ممثلا بالوهابية..لذلك لم يسمح الحوثي لعشرات من أبناء مختلف المحافظات اليمنية أن يتعلموا الجهل على يد الحجوري في دماج، وأخرجهم من هناك بقوة السلاح لا بقوة المشروع الوطني..ولأننا سكتنا عن استخدام السلاح في دماج هاهو الحوثي يستخدمه في العاصمة ومختلف المحافظات ليفرض جهله على الملايين من أبنائها..فالرجل اليوم لم يعد يهتم بإزالة مظالم صعدة وتطبيق ما يخصها من مخرجات الحوار الوطني بعد أن نكبها علي صالح بالحوثي والحوثية..ولا هو مهتم بتنمية مناطق شمال الشمال وتأهيل أبنائها للمنافسة الشريفة في سوق العمل..إنه مهتم بحشد القبائل للحرب ضد التكفيريين والدواعش..وكل يمني سيقف ضده هو تكفيري وداعشي بالضرورة..باختصار شديد نحن إزاء خطر حقيقي يهدد المجتمع بالإنقسام على أساس طائفي زائف..بينما المحرك الحقيقي هو محرك سياسي كما سنرى لاحقا في السياق.

حرب هادي ضد القاعدة:

         الحرب ضد القاعدة ليست مثل أي حرب يمكن إدارتها فوق أرض معلومة وضد أهداف مرئية..وحرب كهذه لا يمكن الانتصار فيها إعتمادا على الإجراءات الأمنية وحدها..كما لا يمكن أن تديرها الدولة بنجاح دون إسناد مجتمعي منظم..ومع كل ذلك لم تشهد القاعدة مواجهة حقيقية وفعالة معها إلا في عهد هادي الذي أسقط إمارتها في أبين وملأ الفراغ الذي تركته باللجان الشعبية التي استفز حضورها ثورة صالح المضادة فاستحقت أن يصفها الحوثي بالفساد الممارس من قبل وزارة الدفاع حسب قوله!!..ولو أن تحقيقا جادا وشفافا جرى حول تلك الحرب ونقاط الضعف التي رافقت مسارها لعرف اليمنيون أن قرار تشكيل اللجان الشعبية كان قرارا وطنيا بامتياز ويجب أن تستمر مادام صالح محتفظا بكثير من الولاءات الشخصه داخل الجيش.

حرب الحوثي المزعومة ضد القاعدة:

         إن تشكيك الحوثي باللجان الشعبية واعتبارها من مظاهر فساد وزارة الدفاع يكشف عن حقيقة حرب الحوثي المزعومة ضد القاعدة..فالحوثي لا يحارب القاعدة وإنما يتمدد ويمارس الفتوحات لفرض الأمر الواقع على محافظات الشمال..والقاعدة هي التي تحاربه وليس العكس..فتمدده فتح شهيتها ومنحها تعاطفا شعبيا في بعض المناطق التي ترى فيه تمددا رافضيا يجب مقاومته..واليمني الذي يراه الحوثي تكفيريا وداعشيا هو نفسه يرى الحوثي رافضيا ويسترخص الموت في قتاله..والنتيجة أننا إزاء حروب تهدد البلاد بالإنقسام الطائفي ليس إلا..وفي هذا السياق يجب أن نقرأ إصرار الحوثي على اجتياح مأرب لخنق اليمن وإملاء شروطه الطائفية على كل اليمنيين..وإذا ما سقطت مأرب بيد الحوثي فستسقط تعز أيضا..وحينها على كل الشمال أن يقول بصوت واحد: " وداعا للوحدة اليمنية".

التهيئة للثورة المضادة:

         "الشعب يريد إسقاط النظام"..هذا شعار ثورة فبراير 2011..ولكن أين هو النظام الذي أراد الشعب إسقاطه؟..والصحيح أن الشعب أراد إسقاط الفوضى التي تسمي نفسها نظاما..فعلى مدى ثلاثة وثلاثين عاما شيَّد علي صالح ركاما هائلا من الفوضى وأبقاه تحت السيطرة بواسطة المال العام والوظيفة العامة والقوة القهرية..ومن الطبيعي أن سقوط علي صالح بواسطة الثورة سيؤدي تلقائيا إلى إنفلات هذا الركام..وهذا ما قصده هو نفسه عندما حذر من عواقب الثورة عليه وقال إن الحرب ستدور من طاقة إلى طاقة..ولكي لا تقع هذه الحرب جاءت التسوية بواسطة المبادرة الخليجية.

         إنتزعت التسوية صاعق القوة القهرية من يد علي صالح وجاءت بحكومة وفاق وطني كي تستخلص النظام من بين ركام الفوضى..ولكن الحكومة لا تستطيع أن تفعل هذا إلا إذا كان النظام المراد استخلاصه موجودا في وعيها أولا..أي أن تكون حكومة إستثنائية لمواجهة ظرف استثنائي..والواقع أنها كانت حكومة نمطية لا تختلف عن حكومة علي مجور حتى في برنامجها الإنشائي الذي سلقته في ظرف أسبوع..وهي بهذا المعنى حكومة حملت بذور فشلها منذ اليوم الأول..فعلي صالح إحتفظ بنصف قوامها..ومعظم النصف الآخر مع رئيس الحكومة كان مرتهنا لمراكز القوى التي التحقت بقطار الثورة..ولهذا لم تكن حكومة وفاق وطني إلا من حيث التسمية فقط..أما عمليا فكانت حكومة محاصصة واقتسام غنائم..لذلك بقي ركام الفوضى قائما وفي حالة سيلان يومي..ولأن علي صالح هو من شيد هذا الركام فقد كان على علم بكل أسراره، الأمر الذي مكنه من تشغيل ماكنة الإعاقة من وراء الستار..وساعده على ذلك أن نقل السلطة إلى هادي لم يكن كاملا..فالمؤتمر الشعبي صاحب الأغلبية البرلمانية "الكاسحة" ظل بيد صالح..وإلى هذا الحزب ينتمي كل محافظي المحافظات تقريبا و90% من المجالس المحلية ومعظم مستويات الكادر القيادي في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والمدنية.

         وفي ظل سيلان ركام الفوضى تعرضت خطوط نقل الطاقة الكهربائية وأنابيب النفط لاعتداءات متواصلة حولت نهارات اليمن إلى عذاب  ولياليه إلى ظلام دامس..ولأول مرة في تاريخ اليمن تقريبا رأينا طوابير طويلة للسيارات ترابط أمام محطات البنزين على مدار الساعة..أما الحالة الأمنية فقد كانت مقلقة على نحو إستثنائي في كل أنحاء البلاد..وتعطلت معظم مصالح الناس وأصاب الهلع مئات الآلاف من عمال اليومية في المدن وفي المناطق الزراعية..وعلى صعيد مؤسسات الدولة ظل الفساد كما هو، بل وأكثر شراسة..وفي ظل هذه الأجواء تعرض المواطنون لتدفق إعلامي هائل من كل الاتجاهات المتضاربة، بما في ذلك إعلام علي صالح الذي أنشأ قناة تلفزيونية تعمل 24 ساعة على تكريس حضوره في المشهد السياسي بلقب "زعيم" وتبشر اليمنيين بالويل والثبور وعظائم الأمور لأن ربان السفينة "الملهم" لم يعد هو القبطان، والغرق آت لا ريب فيه..والإعلام الرسمي الذي تربى على التطبيل والتزمير لعلي صالح لم يستطع أن يتحول إلى إعلام مواكب ومسئول فاختار أضعف الإيمان وهو الوقوف على الحياد وترك الرأي العام لتجاذبات إعلام مراكز القوى المتصارعة ألتي أحبطت الناس وأوصلتهم إلى حالة من اليأس أصبح معها لسان حالهم يقول: اليوم أسوأ من أمس وغدا سيكون أسوأ من اليوم..بل وظهر من يقول:سلام الله على عفاش..وتكاثر باعة صور أحمد علي في الجولات، لتتحول إلى ملصقات معلقة على بعض سيارات الجيش بكل تحد ودون أدنى حياء.

         وفي هذا المناخ الكئيب جاء من يقترح على هادي أن يرفع سعر البنزين والديزل حتى لا تتعرض خزينة الدولة للإفلاس وتعجز الحكومة عن دفع مرتبات الموظفين..ولتنفيذ هذا المقترح اختارت الحكومة توقيتا نزع ما تبقى لها من احترام عند الشعب..وما أن دخل حيز التنفيذ حتى انقشعت أزمة الوقود خلال دقائق فبدا الأمر كما لو كان مؤامرة دبرتها الحكومة في ليل..وبذلك تهيأ جزء من الرأي العام لتقبل الثور المضادة وتهيأ الجزء الآخر للإنقسام بين متشفٍ ومتفرج .

الثورة المضادة:

         بدأت الثورة المضادة بالإنقلاب على مشيخة العصيمات وتدمير قصورها وتشريدها من معقلها التاريخي..وفي الوقت نفسه توحيد حاشد بقيادة "السيد" الذي أعاد الاعتبار للسربلة وألغى الضم ليثبت أن القبيلة دائما على مذهب المتغلب..لكن ما كان بمقدور "السيد" أن يشرد الشيخ لولا المظالم الكبيرة التي راكمها هذا الأخير، والتحالف مع القبيلي علي صالح الذي حركته نزعات الثأر والانتقام من مشيخته..والسئوال: هل كانت الثورة المضادة مفاجئة؟.والجواب كانت متوقعة..ولأنها متوقعة جاءت حكاية إقليم أزال لمحاصرتها داخله.

لماذا الفدرالية؟

         بصرف النظر عن التحسس الذي يبديه بعض أصحاب النوايا الطيبة من الفدرالية إلا أن بناء دولة مدنية حديثة في اليمن من مدخل الدولة البسيطة صار مستحيلا على المدى المنظور لأسباب كثيرة نذكر منها ما يلي:

1 - إنحراف الدولة البسيطة في اليمن عن مسارات العقد الاجتماعي الوطني الذي تأسست عليه، وذلك بسبب الاستعصاءات المحلية – في المنطقة المعروفة حاليا بإقليم أزال - وعدم القدرة على تحييد مؤثراتها السلبية على مختلف مناطق البلاد..ولذلك إنزلقت البلاد بسرعة قياسية نحو الحرب بعد تحقيق الوحدة اليمنية وفقد الشعب اليمني فرصة تاريخية ثمينة من أجل التنمية والحياة الكريمة.

2 - تكتظ الخارطة الاجتماعية في اليمن بوجود قوى محلية مؤثرة ترفض على المدى المنظور نقل ولاءاتها الأولية إلى ولاء وطني للدولة..وقد فشلت الدولة البسيطة في تحييد المؤثرات السلبية لهذه القوى على مستوى الدولة..وبسبب ذلك تحولت الدولة بوضعها الراهن إلى أداة قهر مركزي في إطار اندماج وطني شكلي ومشوه.

3 - بسبب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية تحولت ثورة فبراير 2011 إلى تسوية سياسية منحت الحصانة لقوى النظام التي لم تقم الثورة إلا للتخلص منها..وإذا كانت الحصانة مقبولة لتجنيب البلاد حربا أهلية متوقعة فإنها من  منظور العدالة ظلم بواح  مالم تفضِ التسوية إلى دولة تحول دون إلتفاف مراكز القوى على الثورة وكسب معركة السلطة من جديد بما راكمته من مال وقوة ونفوذ، فضلا عن العصبيات والمليشيات المسلحة.

         لكل ذلك وغيره كان لابد من إعادة بناء الدولة على أساس إتحادي باعتبار ذلك هو الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به الجنوب للبقاء في ظل الوحدة بعدما دفع ثمن ذهابه الطوعي إليها وأقصي جبرا وقسرا من مكانه الطبيعي في معادلة الشراكة الوطنية..ولكن لماذا ستة أقاليم وليس إثنين مادام الأمر متعلق بالمآل المأساوي الذي صار إليه الجنوب؟.

خيار الإقليمين:

         الحقيقة أن الحزب الاشتراكي اليمني هو من طرح خيار الإقليمين داخل مؤتمر الحوار الوطني في الوقت الذي كان فيه علي صالح يحرك أدواته لتقسيم الجنوب إلى إقليمين أحدهما الإقليم الشرقي..وهذا في إطار خطة محكمة  لتمزيق الجنوب لاحقا إلى ما هو أكثر من ذلك وفك ارتباطه بالوحدة مع الشمال..وللتغطية على هذا المخطط  جرى التشكيك بخيار الإقليمين واعتباره خطوة على طريق الانفصال..تم هذا في الوقت الذي كان فيه الاشتراكي يطالب بطرح رؤيته للنقاش داخل مؤتمر الحوار الوطني ويعلن جهارا نهارا أنه سيحترم الخيار الذي سيخرج به الحوار.

هل فعلا الاشتراكي مع إقليمين؟

         الحقيقة أن ما يهم الحزب الاشتراكي على المدى المنظور هو أن يبقى الجنوب موحدا في إقليم واحد لأسباب بيَّنها بدقة ووضوح ولا مانع عنده أن يكون الشمال إقليمين أو أكثر، لكن يبدو أنه تجنب الإشارة إلى ذلك حتى لا يأتي من يزايد عليه..أما ما يتعلق بالجنوب فالأمر مختلف بالنسبة لهذا الحزب للأسباب التالية:

1 – توحد الجنوب عام 1967 على أنقاض 23 سلطنة ومشيخة وإمارة أسقطتها مجتمعة ثورة 14 أكتوبر بقيادة الجبهة القومية.. ومعنى هذا أن وحدة الجنوب ماتزال غضة طرية، وماضي السلطنات والمشيخات والإمارات مايزال يتربص.

2 – عمل المنتصر في حرب 1994 على بعث القوى التقليدية في الجنوب وحرضها ودعمها لتصفية حسابات مع الحزب الاشتراكي، وهذا فتح شهيتها للعودة بالجنوب إلى ما قبل 1967 ..وليس من قبيل المصادفة أن يظهر من يجاهر بإنكار يمنية الجنوب ويعتبرها صناعة اخترعتها الجبهة القومية وواصلها الحزب الاشتراكي الذي يحملونه مسئولية توحيد الجنوب مع الشمال وتقديمه فريسة لقوى حرب 1994.

3 – أظهر مسار التسوية السياسية بعد ثورة فبراير 2011 أن مراكز القوى والنفوذ في الشمال مستعدة للتضحية بالوحدة لضمان هيمنتها على كامل الشمال كحد أدنى مادامت الوحدة تهدد هيمنتها في كل اليمن..وسلوك الثورة المضادة بعد 21 سبتمبر 2014 يدل على ذلك..والأنكأ من كل هذا أن مراكز القوى والنفوذ لا تريد أن ترى الجنوب موحدا في حال نجحت في فض عرى الوحدة اليمنية بالتفاهم مع قوى تقليدية في الجنوب.

         وللأسباب المذكورة يرى الحزب الاشتراكي نفسه صاحب مسئولية تاريخية وسياسية وأخلاقية تجاه الجنوب وهو معني بالدفاع عن وحدته في ظل الوحدة مع الشمال أو بدونها إذا تعذر استمرارها.

حكاية الأقاليم الستة:

         خيار الستة أقاليم هو خيار تكتيكي رمى به علي صالح لتمرير خيار الإقليمين على الجنوب ثم بعد ذلك الانقلاب على هذا الخيار في الشمال..وهذا ما تفعله الثورة المضادة الآن من خلال التمدد بالسلاح تحت شعار الحرب ضد التكفيريين..وهي أيضا تعلن صراحة أنها لن تسمح لخيار الستة أقاليم أن يمر..وعلى القارئ اللبيب أن يعلم أن ما تقصده فعلا هو عدم السماح لخيار الأربعة أقاليم أن يمر على الشمال..أما الجنوب فليذهب إلى الجحيم إذا كان التمسك به سيؤدي إلى تحرير الشمال من هيمنتها عليه.

إقليم أزال لمحاصرة قوى التعطيل:

         لم يكن علي صالح يتوقع أن يمر خيار الستة أقاليم بالبساطة التي مر بها..فالرجل رمى برقم دون أن يقدم أية حيثيات موضوعية تؤيد هذا المقترح..واللاعب الكبير الذي ترك هذا الخيار يمر كان يعلم أن علي صالح يلعب، ولا بأس من اللعب معه..كان اللاعب الكبير يدرك طبيعة القوى المعطلة لمسار التسوية وموقعها في جغرافية اليمن..ولهذا أفرد لها إقليما خاصا هو إقليم أزال..وإلى هذا الإقليم ينتمي علي صالح وعلي محسن ومشيخة العصيمات والزنداني والحوثي..لقد سرى على هؤلاء جميعا قوله تعالى: " وإذا الوحوش حشرت ".

إقليم أزال وحكاية تآمر هادي على القشيبي:

         إقليم أزال هو مربع الاستعصاءات المحلية التي أعاقت بناء الدولة الوطنية البسيطة منذ ثورة سبتمبر 1962 إلى اليوم، وتعيق الآن بناء الدولة على أساس إتحادي..وإلى هذا الإقليم ينتمي حوالي 80% من قوام الجيش..ومن أجل بناء الدولة الاتحادية كان لابد من محاصرة هذه الاستعصاءات داخل مربعها الجغرافي وتحييد مؤثراتها السلبية على مختلف مناطق البلاد.

         لقد جرى حشر كل مراكز القوى المتصارعة داخل هذا الإقليم – بما في ذلك القشيبي -  وترك لها المجال أن تعود إلى رشدها أو أن تمارس الجنون كما يحلو لها، لكن داخل إقليم أزال وليس خارجه..وبدلا من العودة إلى الرشد إختارت الجنون ومارسته في حاشد وهمدان وأرحب وعمران..أما سنحان وبلاد الروس وبني بهلول وخولان فيبدو أن علي صالح أقنع الحوثي بعدم الاقتراب منها على اعتبار أن معظمها جيوب مضمونة له..لكن عندما كان الجنون يمتد إلى الجوف كانت الدولة تتدخل لأن الجوف ينتمي إلى إقليم سبأ الذي يضم أيضا مأرب والبيضاء..والحوثي يريد أن يهشم عظام هذا الإقليم..وهذا يفسر حروبه في البيضاء والجوف وتحفزه لاجتياح مأرب.

لماذا دولة الإمارات:

         قبيل نقل السلطة إلى هادي كانت دولة الإمارات قد تهيأت لتكون السلة التي سينقل إليها علي صالح معظم ثرواته التي نهبها من مقدرات الشعب اليمني خلال ثلاثة وثلاثين عاما..وليس مصادفة أن يعين أحمد علي سفيرا هناك..وهناك أيضا شيَّد صالح مدينة إستثمارية كبيرة في نخلة..دولة الإمارات إذن هي البنك الذي استُدرج علي صالح إليه حتى يسهل تأديبه عندما يلعب بذيله.

مخطط اجتياح صنعاء والعقوبات الدولية:

         بما أن صنعاء هي عاصمة الدولة الاتحادية فيجب أن تقف على مسافة واحدة من كل أقاليم الدولة..وهي لا تستطيع أن تكون كذلك إلا إذا خلت من هيمنة مراكز القوى المتصارعة داخل إقليم أزال..وقد تكفل صالح لدولة الإمارات بإخلائها وإفراغها من الأذرع العسكرية للإخوان المسلمين وأهمها علي محسن وفرقته المدرعة..تعهد أن الحوثي سيقوم بهذه المهمة وسيعود أدراجه من حيث أتى..ومع الحوثي عزف على موَّال مختلف ووفر له عوامل كسب المعركة وبدأ مخطط اجتياح صنعاء..ولتبرير المخطط رفع شعار: " إعادة أسعار المحروقات إلى ماكانت عليه وإقالة حكومة الفساد وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني"..وهذا كلمة حق أريد بها باطل لأن مخرجات الحوار الوطني سُمٌ قاتل لقوى الإعاقة والتعطيل، وهي في جملتها مرفوضة من الحوثي وصالح مثلما هي مرفوضة من الزنداني ومحسن وحميد.

         بدأت عملية تطويق العاصمة بالقبائل المسلحة..واكتظت المخيمات بالمتضررين من تطبيق نظام البصمة وأصحاب الأسماء الوهمية في الجيش والأمن..وكان واضحا أن علي صالح يأكل الثوم بفم الحوثي..وأن ما يجري أكبر من طاقة مليشيات الحوثي على القيام به..وفعلا تمت عملية الاجتياح وسقطت قيادة الفرقة ونجا علي محسن الأحمر بجلده واختفى الزنداني مستفيدا من تحالف غير معلن مع علي صالح الذي كان يحركه للتحريض ضد مؤتمر الحوار الوطني.

         جرت الأمور على نحو مغاير لما توقعه علي صالح..فحزب الإصلاح تصرف وكأنه لا وجود له..وهادي حايد ولم يطلق رصاصة واحدة ولم يغادر العاصمة ولم يعط أحدا فرصة للطعن في شرعيته..وصنعاء لم تتحول إلى ساحة حرب طويلة ودامية ومدمرة حتى يدخلها علي صالح منقذا ومرحبا به من برلمان يحي الراعي..باختصار فشل إنقلاب علي صالح وانكشف أمره لرعاة التسوية وتعرض لعقوبات قابلة لأن تكون أكثر قساوة وربما تمتد إلى آخرين في عائلته..أما الحوثي فليس أكثر من زوبعة في فنجان..لكن هذا الفنجان يحتوي على فراغات كبيرة تتحرك داخلها مليشياته وبدعم متواصل من علي صالح..ونقطة ضعف هادي أنه لا يرى هذه الفراغات ولا ينتبه إلا عندما يسمع أصوات الرصاص.

الحوثي واتفاق السلم والشراكة:

         الحوثي في اتفاق السلم والشراكة طرف واحد إلى جانب كل الأطراف الموقعة..لكنه يتصرف كما لو كان هو الكل في الكل..فالرجل لا يحترم تعهداته والتزاماته ولا هو في وارد احترامها مادام يحلم أن يصبح "خميني" آخر في اليمن..والفارق أن خميني إيران كان يمثل معظم الشعب الإيراني بينما صاحبنا لا حضور له خارج إقليم أزال، ويريد أن يهيمن على اليمن بميليشيات جهوية تعتقد أن الرجل سيحكم الجزيرة العربية وسيحرر القدس وسيعيد خلافة الإمام علي، ولا تعلم أنه يشق المجتمع يهدد الوحدة اليمنية في مقتل..ولهذا لا نعتقد أن اتفاق وقف إطلاق النار سيصمد طويلا..فالثورة المضادة سقفها مرتفع جدا، وعلى هادي أن يعيد حساباته وأن يتأمل بجدية قائمة أخطائه..وأول هذه الأخطاء مراهنته كليا على دعم المجتمع الدولي وعزفه عن البحث عن نقاط القوة في الداخل اليمني، وما أكثرها..ونقاط القوة هذه هي وحدها الكفيلة بفضح وكشف حقيقة "الشرعية الثورية" التي يتنطع بها الحوثي.

        

 

 

        

 

 

قالوا مضى فاستردَّ الصمتُ ما لَحَنُوا

واستوقفَ القلبُ ما قالتْ له الأُذنُ

تسمرتْ كلماتي وارتدى بصريْ

حزنٌ، وكبَّلَ صوتي الآهُ والشجنُ

مضى؟ أحقاً مضى؟ هيهاتَ يدركُهُ

موتٌ، سيبقى إلى أن يرحلَ الزمنُ

صوتُ الرصاصِ أصابَ القلبَ من وطني

وحينَ يقتلُ حرٌ ينزفُ الوطنُ

شاءَ الرصاصُ الرخيصُ النذلُ غيلتَهُ

وقد رقَى حيثُ لا خوفٌ ولا حزنُ

مضى الأبيُّ إلى العلياءِ منتصراً

ولمْ يكنْ أبداً للزيفِ يرتهنُ

وما استطاعوا له ضراً ولا بلغوا

من روحهِ ما أراد الحقدُ والدَّخنُ

وصوَّبوا باتجاه القلبِ خِسَّتهمْ

وكانَ قصدُهُمُ أنْ تُقتلَ اليمنُ

وخططوا لاغتيالِ الصِّدقِ فابتدرتْ

تبكي على بعدِهِ الأريافُ والمدنُ

وصارَ مثلَ اسمهِ جاراً لخالقهِ

والروحُ باقيةٌ إن غادرَ البدنُ

مازال يسخرُ من موتٍ أريدَ لهُ

في كلِّ جارحةٍ منَّا لهُ سكنُ

لمْ يدَّعِ، لمْ يُزايدْ، لمْ يكنْ أبداً

ممَّنْ تحركهُ الأهواءُ والضِّغنُ

يا بؤسَهُ وطنٌ يقصيْ أهلَّتهُ

وتستبدُ بهِ الشَّحناءُ والإِحنُ

لا، لن يَمًرُّوا، ولن ينجوا بفَعْلتِهِمْ

ولن يصيبَكَ من تدليسِهمْ وهَنُ

لا، لن يَمُرُّوا، وما كادوا وما فعلوا

وقد تحالفَ فيكَ السرُ والعلنُ

شاءوا بقتلِكَ قتلَ النبلِ، ما عَلِموا

أنَّ المكارمَ لا تغتالُها الفتنُ

تبقى كما أنتَ رمزاً شامخاً أبداً

حراً، وإنْ دارتِ الأيامُ والمحنُ

كما عهدناكَ أسمى من مكائدِهِمْ

بقيتَ حياً وماتوا قبلَ مَنْ دَفنوا

بشراكَ، أسقطتَهُمْ من زهوِ غفلتهِمْ

وصَحَّ ما قلتَهُ واستُوجبَ الثمنُ

قد نلتَ منهم بحسنِ الرأي فانفرطَ

الجاهُ العريضُ وخرَّ الحاكمُ العفنُ

بقيتَ أعلى وظلوا في سفالتِهِمْتمْ

تبكيكَ صنعا وتستعدي الأسى عدنُ

" كمْ قد قُتلتَ وكمْ قد مُتَّ عندَهُمُ

ثُمَّ انتفضْتَ فزالَ القبرُ والكفنُ "

 

رفعت ثورة فبراير 2011 شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"..ولكن النظام لم يكن موجودا حتى يسقط..وما كان موجودا لم يكن سوى ركام من  الفوضى يسمى نظام علي صالح..والقوة القهرية هي التي صنعت هذا الركام على مدى ثلاثة وثلاثين عاما وظلت ممسكة به طيلة هذه الفترة..وشعار "إسقاط النظام" لم يكن يعني من الناحية العملية سوى إسقاط هذه القوة القهرية..ولو أن الثورة أسقطتها فعلا فإن السيناريو الذي كان متوقعا نتيجة لذلك هو كما يلي:

1 – إن فاتورة إسقاط القوة القهرية ستكون كبيرة جدا على مستوى الخسائر البشرية والمادية.

2 – إن تعدد روافد الثورة وتباين مرجعياتها وأهدافها سيؤدي إلى انفلات ركام الفوضى وخروجه عن السيطرة.

3 - إن انفلات ركام الفوضى سيشجع على الممارسات الثأرية والإنتقامية.

4 - إذا تعذرت السيطرة على الممارسات الثأرية بسرعة قياسية ستكون مرشحة للتحول إلى حرب أهلية على نحو ما هو حاصل في ليبيا بعد إسقاط قوة القذافي القهرية.

         والذي حدث أن التسوية السياسية في اليمن حالت دون إسقاط القوة القهرية، لكنها انتزعت صاعقها من يد علي صالح وفوتت عليه إمكانية تحويل الثورة إلى حرب تدور رحاها من طاقة إلى طاقة حسبما أراد عملا بقاعدة "عليَّ وعلى أعدائي"

         والتسوية عندما انتزعت الصاعق من يد علي صالح أبطلت مفعول القوة القهرية وأرخت يدها الممسكة بركام الفوضى وتركت التعامل مع سيلانه للسياسة كي تستخلص النظام من بين الركام السائل..وهذا يقتضي أن يكون النظام المراد استخلاصه حاضرا في وعي النخب القائمة على العملية السياسية، على المستويين النظري والعملي الإجرائي..أي أنها يجب أن تكون مدركة لما يجب أن تفعله وكيف يجب أن تفعله، ومن أين ستبدأ وإلى أين ستنتهي، وما هي الأعراض الجانبية التي يمكن أن تبرز نتيجة لذلك وكيف يكون التعامل معها.

         وباستثناء مؤتمر الحوار الوطني الذي وقفت وراءه إرادة وخبرة دولية لم تستطع العملية السياسية أن تحقق توقعات الشعب باستخلاص النظام من ركام الفوضى ولو في حدوده الدنيا..ولهذا سببان: الأول يكمن في وجود مراكز قوى ركبت قطار الثورة وتحولت إلى ثورة مضادة غير معلنة تحاصر مؤسسة الرئاسة بالخطوط الحمراء من كل الجهات العسكرية والأمنية والمدنية ..والثاني يكمن في أن النظام المراد استخلاصه غير موجود في وعي رئيس حكومة الوفاق وأطرافها ذات النفوذ..ولهذا أصبحت حكومة باسندوة جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل.

         ولهذين السببين تعذر استخلاص النظام من بين ركام الفوضى ودفع الشعب ثمن ذلك حتى أصيب بالإحباط واليأس وهو يرى سنوات التسوية تمضي في أجواء معظمها عنف ودماء وخوف وظلام وطوابير وحرب إعلامية اختلط فيها الحابل بالنابل والحق بالباطل..والأنكأ من ذلك أن القائمين على العملية السياسية توجوا فشلهم الذريع برفع الدعم عن المشتقات النفطية بطريقة بدت للرأي العام كما لو أنها مؤامرة دبرت في ليل ليتحمل الشعب وحده الثمن دون أن يرى ما يشجعه على الصبر وما يدل على أن الغد سيكون أفضل، بينما قوى الفساد تسرح وتمرح دونما حياء أو خجل.

         ومن بين ركام الفوضى نفذ عبد الملك الحوثي واستطاع بالمال والسلاح أن يتمدد بسرعة قياسية في محافظات شمال الشمال..وقد ساعده على ذلك ثلاثة عوامل:

1 – حضور سلفي وهابي غير مبرر في مناطق تعاني من غياب التنمية وليس من فراغ في الإيمان الديني..ولذلك بدا هذا الحضور بمثابة إعتداء على خصوصيتها الثقافية لأهداف سياسية غير وطنية.. وعندما نقول غير وطنية فلأن زيدية هذه المناطق لم ولن تمنع أهلها من الانخراط في أي عمل وطني عابر للمذهبية..لذلك كان من السهل على الحوثي أن يدخل في معركة مع هذا الحضور وينتصر عليه..وعيب هذا الانتصار أنه تم بقوة السلاح، ما يعني أن الحوثي انتصر على الباطل بالباطل..وما بني على باطل فهو بالضرورة باطل.

2 – الظلم والحرمان الذي طال هذه المناطق من قبل مشيخة العصيمات التي استخدمت أهلها كمخزون اجتماعي وعسكري لبناء النفوذ ومراكمة الثروات والأموال المدنسة على حساب التنمية ليبقى الداعي القبلي مستجابا في أي لحظة والقبيلة جاهزة لحمل السلاح والحرب من أجل المشيخة التي استمرأت الحكم والتحكم وهي ترفض ألف باء الدولة، وترفض على نحو خاص أن تحتكر الدولة أدوات القوة وأن تكون العاصمة والمدن اليمنية خالية من السلاح..وها هو السلاح يقتلع هذه المشيخة من حاشد وبمباركة ومشاركة من حاشد نفسها..وسيتكرر هذا السيناريو مع الحوثي إن هو استمر في المراهنة على السلاح ليحل محل الدولة وفوقها.

3 – الفراغ الذي تركه علي صالح في مناطق شمال الشمال..فالرجل الذي كان على رأس الدولة كان يديرها من خارجها وبأدوات غير دولنية..لذلك عمل على تغييب الدولة هناك ليحضر هو بدلا عنها، ومعه حضرت مصالح مشروعة وأخرى غير مشروعة، وأبواب للرزق وأخرى للإرتزاق..وكان هذا هو الأساس الذي بنى عليه صالح قاعدته الاجتماعية القبلية في هذه المناطق من موقعه على رأس الدولة وضدا عليها..ومن الطبيعي أن يستقر في وعي هذه القاعدة  أن ذهاب علي صالح معناه إغلاق هذه الأبواب التي لن يتركها مفتوحة إلا رئيس من أبنائها..ومن السهل جدا العزف غير المعلن على هذا الوعي الخائف من المستقبل وتوظيفه لإرباك العملية السياسية المتعثرة..والأرجح أن علي صالح هو أكبر العازفين.

         ومن دواعي الأسف أن هذه القاعدة الاجتماعية القبلية لم تسمع من القائمين على العملية السياسية ما يطمئنها بأن الغد سيكون أفضل، وماتزال بعد ثلاث سنوات من الثورة تعتقد أن هزيمة علي صالح هي هزيمة لها، وأن مراكز القوى القبلية والعسكرية والدينية التي انشقت عليه وساندت الثورة ضده هي عمليا خائنة له وليست ثائرة على نظامه الذي هو أيضا نظامها..ولهذا وجدت نفسها جاهزة للإحتشاد وراء الحوثي، ليس حبا فيه، وإنما كراهية لخصومه الذين هم في الوقت نفسه خونة علي صالح..ومن بديهيات الأشياء أن يستريح صالح لهذا الاحتشاد وأن يشجعه ويدعمه رغم علمه أن الحوثي إذا تمكن سيعلقه فوق أعواد المشنقة جنبا إلى جنب مع كبار خونته.

         إن الفراغ الذي تركه علي صالح في مناطق شمال الشمال يفسر قدرة الحوثي على الحشد السريع تحت شعار: إسقاط الجرعة وإسقاط الحكومة وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني..وتبني هذه المطالب هو دون أدنى شك إستثمار ذكي لفشل حكومة باسندوة وضيق أفق مراكز القوى التي تحاصر هادي وتريده أن يتصرف كضيف عندها لا كرئيس لكل اليمنيين ..لكنه استثمار من النوع الجائر والمثير للخوف..فما يقوم به الحوثي هو حشد مسلح أبعد ما يكون عن الاحتجاج المدني السلمي..خاصة وأن خطاباته طافحة بالتهديد والوعيد بما يفيد أنه سيذهب إلى حيث يريد وأنه جاهز لكل احتمالات التصدي لما يريد..وما يريده لم يقله صراحة حتى الآن..فهو يتحدث بلغة عمومية قابلة لأكثر من تأويل، ولا أحد يعرف بدقة ما هو السقف النهائي للتصعيد الذي يتحدث عنه وما هي الخطوات المؤلمة التي يهدد بها..والرسالة الوحيدة التي وصلت للناس أن الرجل لا يعترف بخطوط حمراء ممنوع عليه أن يتعداها..وعندما يفتقر الخطاب إلى الشفافية والوضوح والتحديد يكون خطابا غوغائيا وبلا مصداقية.

         إن غوغائية خطاب الحوثي تركت لمراكز القوى في حزب الإصلاح مساحة واسعة للمناورة واللعب على مخاوف الناس من حركة أنصار الله في وطن بلا دولة قادرة على أن تنتصر له..والقاسم المشترك الأعظم بين الكبار في هذين المعسكرين هو وجودهما موضوعيا في معادلة واحدة حاصل تفاعلها تغييب الدولة في الوعي وفي الواقع العياني الملموس..ولهذا نرى طرفا يحاصر الرئيس هادي ويخنق أنفاسه وطرفا يحاصر العاصمة ليضعف قدرته على فك الحصار الواقع عليه..إنهما عمليا جبهة واحدة..وعندما نقول جبهة واحدة فلأن العبرة في النتيجة وليس في المقدمات..والحل في انبثاق جبهة ثالثة قوية هي جبهة أنصار الدولة..وبدون هذه الجبهة الثالثة لن يتوقف الصراع العبثي بين أنصار الله وأحباب الله حتى بعد أن نصبح تحت الأنقاض..إنه صراع بلا نهاية لأن الموت في سبيل الله غاية أماني طرفيه..وبما أن الله حي دائم لا يموت فالموت في سبيله لن يتوقف إلا عندما توجد دولة يرى الناس في ظلها أن احترام الحياة هو أقصر الطرق إلى الله..ومجزرة الثلاثاء تدل دلالة قاطعة أن الحياة في هذا البلد لم تعد محترمة وأن معظم القتل فيه صار من أجل القتل..والقتل لا يجر إلا القتل.

 

 

الدولة إما قديمة أو حديثة..وبينهما تقع الدولة المنقولة..والمسمى الأخير محدود التداول وليس مفهوما شائعا..أما القديمة فهي دولة القرون الوسطى، وآخر تجلياتها عالميا إمبراطورية النمسا - المجر والإمبراطورية الروسية والخلافة العثمانية، ومحليا دولة الإمام يحي..والحديثة هي الدولة المدنية الديمقراطية في الغرب المعاصر واليابان، وتلك التي سارت على غرارها في كوريا الجنوبية وتركيا وماليزيا وجنوب أفريقيا بعد الأبارتيد..أما الدولة المنقولة فهي تلك التي أخذت عن الدولة الحديثة هياكلها من حيث الشكل، مع محافظتها على عناصر القدامة من حيث المضمون..فالمدرسة حديثة، لكنها تقدم تعليما قروسطيا وتفكر نيابة عن التلاميذ ولا تعلمهم طرائق التفكير العقلاني المستقل..والجيش حديث في هيكليته وعتاده ومسمياته، لكن بنيته قبلية أو طائفية وولاءاته ما دون وطنية..والأحزاب تشبه نظيراتها في الدول الديمقراطية، لكنها في الحقيقة "قبائل عصرية" إذا جاز التعبير..فهي، وليس الدولة، مركز الولاء بالنسبة لأعضائها الذين يحتشدون كالقطيع تحت راية أيديولوجية توهمهم بأنهم الجماعة الأنقى والأطهر والأشرف والأصلح..وقس على ذلك بقية الهياكل.

         ودول العالم العربي بعد الحقبة الاستعمارية نماذج للدولة المنقولة، على مابينها من اختلافات في الدرجة، وليس في النوع.

         والجمهورية اليمنية دولة منقولة في معظم مظهرها وقديمة في معظم جوهرها..والاتساق بين المظهر والجوهر يكاد أن يكون منعدما، لأن الأول ليس من جنس الثاني، والثاني ليس من جنس الأول..وليس من باب الظرافة إطلاق الكاتب الصحفي الفقيد عبد الحبيب سالم مقبل على البرلمان مسمى "ديوان الشيخ" في إشارة إلى الراحل عبد الله بن حسين الأحمر الذي كان حينها رئيسا للبرلمان دونما أي مؤهل يضعه على رأس مؤسسة من هذا القبيل سوى وضعه الاجتماعي كشيخ لقبيلة حاشد ذات الحضور العصبوي الكبير في الدولة.

         ومادام الأمر كذلك فطريق اليمنيين إلى الدولة المدنية مكتظ بالتحديات..ولكي نتعرف على هذه التحديات يلزم أولا أن تكون لدينا فكرة عن الدولة المدنية نفسها..ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعرف على بعض سماتها الأكثر بروزا، وهي كما يلي:

1 -الدولة المدنية دولة سياسية وليست أيديولوجية، ودستورها عقد سياسي وليس عقدا فكريا أو عقائديا..وبدون هذا لن يكون بمقدورها أن تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها المنتمين إلى أفكار وعقائد ومذاهب وطوائف وأعراق مختلفة..فحيادها تجاه هذا التنوع هو الذي يضمن قدرتها على توحيد المجتمع وضمان تماسكه الداخلي كجماعة وطنية واحدة.

2-الدولة المدنية دولة الأمة ودولة للأمة..وهي وحدها مركز الولاء الوطني، وليس العقيدة الدينية أو الطائفة أو الجماعة العرقية أو القبيلة أو الحزب السياسي أو أي شيء آخر من هذا القبيل..فالمواطنة هنا تقوم على ولاء المواطنين لدولة واحدة وقانون واحد مع حق التباين في الاعتقاد..وبدون هذا يتعذر الحديث عن رابطة وطنية جامعة.

3 -الدولة المدنية دولة قانونية يمكن إتهامها..فهي تخضع للقانون لتتساوى مع مواطنيها في هذا الخضوع..والقانون في هذه الدولة – وليس الضمير - هو أداة السياسة..والعلاقة بين المواطنين تصبح علاقة حقوقيقة وقانونية..والقانون هو الذي ينتصر في أي خصومة أو خلاف، وليس الأفراد.

4 -الدولة المدنية هي دولة الحرية..وموضوع السياسة فيها هو تنمية وإدارة الحرية، وليس تنمية وإدارة مشاعر الإيمان..فالإيمان وتنميته وإدارة مشاعره يصبح من اختصاص الاجتماع المدني، وليس من مهام الدولة..وبدون هذا الإجراء لا تستطيع الدولة أن تكون لكل مواطنيها على اختلاف معتقداتهم ومذاهبهم وطوائفهم.

5 -الدولة المدنية دولة ديمقراطية كل فرد فيها هو مصدر للسلطة..وشوكة الدولة لا تقوم على التعالي فوق المجتمع، وإنما على التنازل عن سيادتها لمواطنيها دوريا من خلال الاقتراع العام.

6 - الدولة المدنية دولة مواطنة..ومعنى ذلك أن المشترك القرابي الجامع لكل المواطنين هو الوطن والخضوع لقانون عقلاني واحد، وليس العقيدة الدينية..وفي هذه الحالة يصبح الاجتماع المدني اجتماعا سياسيا، وليس اجتماعا دينيا..فالمجال السياسي هو المجال العام للمواطنين، بينما المجال الديني هو المجال الخاص للمتدينين..والدولة تحمي المجالين معا.

7 -الدولة المدنية دولة مساواة..فالناس في هذه الدولة متساوون في القيمة والدور والمكانة، بصرف النظر عن المعتقد والعرق والجنس.

8 -الدولة المدنية دولة تضامن مجتمعي السياسة فيها تعمل على حل مشكلة التفاوت بين المواطنين بتحويل الدولة إلى أداة لتحقيق التضامن المجتمعي الحقيقي بطريقة تحفظ كرامة الإنسان وتحرره من الحاجة إلى غيره من الناس..بينما السياسة في الدولة القديمة كانت تتجاوز التفاوت الواقعي باللجوء إلى استدعاء مشاعر الرحمة بين المؤمنين ليتصدق الغني على الفقير.

9 -الدولة المدنية دولة تعددية السياسة فيها تفترض التعدد والدولة المفتوحة..بينما السياسة في الدولة القديمة كانت تفترض وجود العقيدة الدينية الواحدة.

10 -الدولة المدنية دولة مؤسسات السياسة فيها تهتم بتطوير الشكل كوسيلة لتطوير المضمون..بينما السياسة في الدولة القديمة كانت تهتم بتطوير المضمون كوسيلة لتنظيم الشكل..ولهذا ضمنت الدولة المدنية حيادها المؤسسي وألغت كل أشكال الوساطة بينها وبين المواطن الفرد الذي صار بمقدوره أن يحقق المكانة التي يستحقها بصرف النظر عن انتماءاته الأولية.

11 - الدولة المدنية دولة تنموية..ففيها تنعدم الصراعات والحروب الداخلية ويسود الاستقرار ويتفرغ المجتمع كله للتنمية المستدامة وتشييد العمران وبناء الحضارة.

12 –في الدولة المدنية السيادة للقانون، وليس لشيء آخر غيره..وهذه السيادة مستحيلة ما لم تكن الدولة وحدها من يحتكر أدوات القوة، ولها وحدها حق استخدام هذه الأدوات في إطار القانون.

         بمقدور القارئ اللبيب الآن أن يعرض كل واحدة من هذه السمات على الواقع العياني الملموس في اليمن ليكتشف حجم التحديات التي تقف أمام بناء الدولة المدنية..وسيجدها دون عناء في بنية الدولة المنقولة، وفي البنية الاجتماعية التقليدية، وفي وعي النخب التي تتحكم بأقدار المجتمع ومصير الدولة..ومن بين أبرز هذه التحديات نذكر ما يلي:

1 – الخلط بين الدولة والسلطة..وخطورة هذا التحدي تكمن في وجوده المزدوج على مستوى الدولة المنقولة وعلى مستوى وعي النخب المعطلة لمسار العملية الانتقالية..وليست المحاصصة في الوظيفة العامة للدولة وتمكين أهل الثقة والولاء سوى أحد تجليات هذا الخلط..

2 – الخلط بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية، واختزال مفهوم المواطن في مفهوم المؤمن، ومفهوم الجماعة الوطنية في مفهوم الجماعة الدينية..وهذا التحدي ناجم عن إشكالية معرفية في وعي النخب التي مايزال عقلها واقعا تحت سلطة النظام المعرفي للقرون الوسطى في مشهدها الإسلامي.

3 – عدم احتكار الدولة المنقولة لأدوات القوة، ووجود جماعات موازية لها تمتلك السلاح وتستخدمه لإملاء شروطها وفرض إرادتها.

4 – الأحزاب ذات البنية الأيديولوجية المغلقة التي هي في الواقع عصبيات أكثر مما هي أحزاب سياسية..فهي تمارس الاستقطاب داخل المجتمع لصالحها هي وليس لصالح الوطن وتصبح هي مركز ولاء أعضائها وأنصارها، وليس الدولة..وما لم تتراجع الأيديولوجيات داخل هذه الأحزاب إلى حدودها الدنيا يستحيل تحولها إلى أحزاب ديمقراطية وستظل تشكل تحديا حقيقيا لبناء الدولة المدنية.

         وللتذكير كانت التحديات الثلاثة الأولى هي أبرز موضوعات الخلاف خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت إعلان 22 مايو 1990..فعوضا عن القبول بمنطق بناء الدولة المدنية أبدت مراكز القوى العسكرية والقبلية والدينية في الشمال معارضة شديدة له وفرضت منطقها هي بقوة السلاح وتحت شعارات دينية ووطنية لتضيِّع على الشعب اليمني أكثر من عشرين عاما معظمها مضى في حروب وأزمات..وها هي اليوم تصرخ: وامعتصماه..والمعتصم هذه المرة هو عبد ربه منصور هادي..وإذا استمرأ أنصار الله إحراج المعتصم الجديد وإضعافه أمام مراكز القوى المعطلة سيأتي يوم يستغيثون فيه الناس فلا يغاثون..والخبرة المنظورة تؤكد أن المنتصر في الحروب الداخلية هو مهزوم لا محالة..والانتصار الحقيقي هو الانتصار لمشروع وطني جامع..وهذا النوع من المشاريع لا يقبل الانتصار بسلاح بعض الناس وإنما بوعي معظم الناس، إذا تعذر كلُّهم.

الخلط بين الدولة والسلطة:

         من أبرز سمات الدولة القديمة أنها دولة محافظة تقاوم التغيير دائما وتنزع نحو الثبات، وهذا لأنها مكونة من سلطة ومتسلطين وجماعات مصالح ومراكز قوى وقوانين تحمي هؤلاء..بينما من أبرز سمات السياسة أنها متغيرة دائما بسبب الحاجات المتجددة التي يخلقها المجتمع ويتوقع من الدولة أن تحققها له..وهنا ينشأ تناقض حقيقي وحاد بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة..وعندما يصل هذا التناقض إلى مرحلة حرجة يقع الصدام الذي يتسم في الغالب بطابع عنيف..وطرفا هذا الصدام عادة هما النخب التي تحكم وتتحكم والنخب التي تتطلع إلى الحكم وتعلن نفسها حاملة لمطالب المجتمع.

         ونتيجة الصدام إما أن تفضي إلى هزيمة النخب المتطلعة إلى الحكم وإما أن تفضي إلى الإطاحة بالنخب التي تحكم وتتحكم..في الحالة الأولى يسمى الصدام تمردا وخروجا على الشرعية وإقلاقا للسكينة العامة ويُعلق المتمردون على أعواد المشانق حفاظا على هيبة الدولة..وفي الحالة الثانية يسمى الصدام ثورة وملحمة بطولية ويسمى المتمردون ثوارا..ولكن ما أن يجلس الثوار على مقاعد الحكم حتى تستريح لها مؤخراتهم  وتتحول الثورة إلى هراوات لقمع أي ثائر جديد..والسبب لأن الثورة لم تغير الطبيعة المحافظة للدولة، وكل ما فعلته هو أنها أطاحت بنخب وجاءت بنخب أخرى بديلة..وفي لحظة ما قادمة يفضي التناقض بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة إلى صدام جديد فيما يشبه الدوران داخل عجلة مفرغة.

         وفي دولة كهذه تتعذر التنمية المستدامة لأن النخب التي تحكم وتتحكم تهدر معظم الموارد المتاحة للحفاظ على بقائها في الحكم..والنخب التي تعارض تهدر معظم وقتها وجهدها ومالها في التآمر على النخب التي تحكم..وكل منهما يجر وراءه الأنصار والمؤيدين من داخل المجتمع الذي يصبح موضوعا للاستقطاب الحاد فتشيع في أوساطه ثقافة الكراهية ويكون من ثم مرشحا للإنزلاق إلى حروب داخلية.

         وللخروج من هذه الدوامة الصراعية أنتج العقل الإنساني دولة مغايرة هي الدولة المدنية الحديثة التي حلت في الغرب محل الدولة القديمة وضمنت لمجتمعاته الأمن والاستقرار الدائمين والتنمية المستدامة التي أنتجت كل هذا التقدم في مختلف مجالات الحياة..ولكن هذا العقل لم يكن مؤهلا لإنتاج هذه الدولة إلا بعد أن تحرر من السلطة المعرفية للقرون الوسطى التي كانت فيما مضى تصوغ طرائق تفكيره واستدلالاته ومحاكماته..والقرون الوسطى ليست مجرد فترة زمنية خاصة بأوروبا المسيحية وإنما هي حالة ثقافية ذهنية ذات طابع عالمي مارست تأثيرها بأشكال مختلفة على العقل الإنساني في كل مكان، وماتزال تمارس هذا التأثير في أكثر من مكان، بما في ذلك العالم العربي.

         لقد وقف العقل الخارج من القرون الوسطى أمام ظاهرة الدولة القديمة ودرسها بعمق واكتشف نزعتها المحافظة، مثلما اكتشف الطبيعة المتغيرة للسياسة..واستنتج أن التناقض الصراعي بين طرفي هذه المعادلة هو جوهر المشكلة..ورأى أن الحل يكمن في القضاء على النزعة المحافظة للدولة وتحويلها إلى دولة مرنة تتكيف بسرعة مع متغير السياسة..وفي الوقت نفسه عقلنة السياسة ومأسستها..وهو إلى جانب ذلك ميَّز بين بناء الدولة وبين إدارة الدولة..وقرر أن البناء لا يقوم إلا على قاعدة التوافق الوطني، بينما تقوم الإدارة على قاعدة التنافس الديمقراطي..والبناء يسبق الإدارة زمنيا ومنطقيا.

         ومن مآثر العقل الخارج من القرون الوسطى أنه أيضا ميَّز بين الدولة وبين السلطة..ولاحظ أن هذه الأخيرة تستحوذ على الدولة القديمة وتصادرها وتنفيها وتحل محلها..وهذا هو الخلط بين الدولة والسلطة..والحل يكمن في إزالة هذا الخلط بوضع حدود صارمة بين الدولة والسلطة، بحيث تكون الدولة هي العام الثابت وتكون السلطة هي الخاص المتغير..ولضمان صرامة الحدود بين الدولة والسلطة وعدم تعدي أي منهما على الأخرى جرى ابتكار نظام يؤدي هذا الدور..وهذا النظام تحديدا هو النظام السياسي الحديث الذي بدونه تستحيل مدنية الدولة.

        إن النظام السياسي في الدولة المدنية هو الذي يضبط العلاقة بين الدولة والسلطة ويجعل الدولة حاضنة للسلطة، ويمنع السلطة من مصادرة الدولة ونفيها..ويتكون هذا النظام من ثلاثة أضلاع على النحو التالي:

1 – قوى تحكم في النظام ومن أجل النظام، وليس خارجه ومن أجلها هي.

2 – قوى تعارض في النظام ومن أجل النظام، وليس خارجه ومن أجلها هي.

3 – قوى تحمي النظام.

         إن القوى التي تحكم منتخبة من الشعب..والقوى التي تعارض هي أيضا منتخبة من الشعب..وكل منهما حاصل على تفويض من صاحب السيادة الشعب..والفرق بينهما ليس في القيمة ولا في الأهمية، وإنما هو فرق إجرائي ناجم عن الفرق في عدد أصوات الناخبين.. فالشعب لا ينتخب الأكثرية فقط، وإنما الأقلية أيضا..لذلك كلاهما سلطة مستمدة من إرادة الشعب..الأولى سلطة الحكم والإدارة، والثانية سلطة المعارضة والرقابة..وليس بمقدور أي منهما أن تعيق الأخرى عن ممارسة مهامها، لأن القوى التي تحمي النظام لا تسمح بذلك.

         أما القوى التي تحمي النظام فليست منتخبة، وإنما متوافق عليها..وهي لهذا السبب تنتمي إلى الدولة لا إلى السلطة، إلى الثابت لا إلى المتغير، إلى العام لا إلى الخاص..وهي لا تكون مؤهلة للقيام بدور الحماية إلا بوقوفها على مسافة واحدة من القوى التي تحكم والقوى التي تعارض..وتتكون قوى الحماية من الجيش، ومنظومة الأمن، ومنظومة القضاء، ومنظومة التعليم، والجهاز البيروقراطي للدولة (الخدمة المدنية)، والإعلام، والرأي العام، وصناديق الاقتراع.

         إذا تأملنا في الأضلاع الثلاثة للنظام السياسي سنلاحظ أنه أوسع من مفهوم السلطة، لأنه يتضمنها بشقيها الأكثري الذي يحكم ويدير، والأقلِّي الذي يعارض ويراقب..وسنلاحظ أنه أضيق من مفهوم الدولة لأنه لا يتضمنها كلها..وإذا أضفنا إلى أضلاعه الثلاثة الأرض (الإقليم) والشعب (السكان) اكتملت عناصر الدولة وفقا لتعريفها الأكاديمي.

         وإذا عدنا إلى الحالة اليمنية وتذكرنا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي أطلقه الشباب في ثورة فبراير 2011، سنلاحظ أن النظام الذي أراد الشباب إسقاطه لا وجود له بالمعنى الذي نتحدث عنه هنا، وما هو موجود ليس نظاما وإنما ركام من الفوضى الموحدة بالقوة القهرية..ومعنى ذلك أن شعار إسقاط النظام لا يعني شيئا من الناحية العملية سوى إسقاط هذه القوة القهرية التي توحد ركام الفوضى..ولو أنها أسقطت فعلا فإن تباين أهداف المهاجمين سيفضي إلى نتيجة خطيرة هي انفلات الركام وشيوع الفوضى التي قد تصل إلى الحرب "من طاقة إلى طاقة" حسب تعبير الرجل الممسك بصاعق القوة القهرية..وهو عندما قال ذلك كان يعي ما يقول، لأن موقعه على رأس الدولة على مدى ثلاثة وثلاثين عاما أتاح له أن يحول البلاد كلها إلى حقل ألغام تحسبا ليوم السقوط..والذي حدث أن التسوية السياسية انتزعت الصاعق من يده وتركت التعامل مع ركام الفوضى للسياسة خلال فترة إنتقالية مهمتها استخلاص النظام من بين هذا الركام.

         واستخلاص النظام من بين ركام الفوضى يقتضي أولا أن يكون النظام نفسه حاضرا في وعي النخب القائمة على العملية السياسية على المستويين النظري والإجرائي العملي..بمعنى أنها يجب أن تكون مدركة لما هو مطلوب منها أن تفعله وكيف يجب أن تفعله ومن أين تكون البداية..وباستثناء مؤتمر الحوار الوطني الذي وقفت وراءه إرادة وخبرة دولية لم تستطع لا مؤسسة الرئاسة ولا حكومة الوفاق أن تحققا توقعات الشباب من الثورة..ولهذا شاعت حكاية سرقتها ولقيت رواجا واسعا.

         وفي ظل هذا الرواج ألقى عبد الملك الحوثي بما ألقى..قال إنه يريد إلغاء "الجرعة" وإسقاط الحكومة الفاسدة وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وإلا فالصميل مخلوق من الجنة..وبدلا من التعاطي السياسي مع معطيات اللحظة ذهب البعض يتحدث عن الرجل القادم من الكهوف ويستغيث بمجلس الأمن والدول العشر..مع أن اليمن معظمها كهوف، وأكثر كهوفها في العاصمة وحول الرئيس تضغط عليه لتفجير الموقف عسكريا مع أنصار الله..وإذا وقع المحذور ونجحت في إقناعه فإن الحرب لن تنهي أنصار الله ولا خصوم أنصار الله، وإنما ما تبقى من الدولة..وسيكون هادي أول ضحاياها ومعه العملية السياسية برمتها لتخلو اليمن للمجانين من كل حدب وصوب.

         إن المرحلة تقتضي وعلى نحو عاجل تشكيل حكومة كفاءات برئاسة رجل قوي يستطيع أن يقول هذا الوزير لا يلزمني ومكانه ليس هنا..على أن تنفذ الحكومة برنامجا توافقيا محددا قابلا للقياس والتزمين والتنفيذ..وأن ترتب مهام المرحلة منطقيا على النحو التالي:

1 – الأمن أولا..وعلى رأس هذه المهمة إعادة الجيش والأمن إلى حظيرة الدولة وتحريرهما تماما من كل الولاءات القديمة تطبيقا لمخرجات الحوار الوطني..ومكافحة الإرهاب واستئصال أسبابه ومسبباته يندرج في إطار هذه المهمة.

2 – النظام ثانيا..والنظام هنا يعني التخلص تماما من الخلط القائم بين الدولة والسلطة في كل هياكل ومستويات الدولة، وعقلنة الرأي العام بواسطة إعلام مهني وشفاف، ومعالجة التحديات التي تقف أمام بناء الدولة المدنية..باختصار شديد تمكين الدولة الضامنة من الحضور في حياة اليمنيين.

3 – العدل ثالثا..بعد الأمن والنظام يأتي العدل الذي يستحيل بدونهما..والمقصود بالعدل هنا توفير الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة للناس وعدم تحميل الأغلبية الفقيرة في المجتمع كلفة التغيير والإصلاح.

4 – التنمية رابعا..إذا توفر الأمن والنظام والعدل فإن التنمية ستصبح ممكنة وستتوفر لها شروطها المؤسساتية والنظامية والقانونية وسيجد المجتمع نفسه ينخرط فيها.

5 – توفير شروط انتقال مدروس وآمن وفاعل إلى الدولة الاتحادية لا يقتصر على مجرد الاستفتاء على الدستور الجديد والذهاب إلى انتخابات.

5 – تنفيذ كل مخرجات الحوار الوطني فيما يتعلق بالمحتوى الحقوقي للقضية الجنوبية.

6 – تنفيذ مخرجات الحوار الوطني فيما يخص قضية صعدة.

         وأول شرط في أي حكومة كفاءة أن تكون على علم بكل الخطوات الإجرائية  اللازمة لتنفيذ هذه المهام والأعراض الجانبية المتوقعة وكيفية معالجتها والتعامل معها بفاعلية..والشرط الثاني أن تعرف كيف تتعامل تعاملا عقلانيا وفاعلا يقتنع به الشعب ويحترمه المانحون والداعمون الدوليون مع أي معارضة ديماغوجية اعتادت العيش على تجهيل الرأي العام وتضليله وتعبئته ضد مصالحه ومستقبله.

 

         من الصعب جدا أن تقنع إخوانيا واحدا في العالم العربي أن الإخوان المسلمين غير مؤهلين لإدارة الدولة في أي قطر عربي وأن أقصى ما يقدرون عليه هو إدارة جمعية خيرية خالصة لهم لا يشاركهم فيها أحد..والصعوبة في الإقناع تكمن في أن الإخواني لا يفكر في مسألة الحكم بعقل سياسي، وإنما بعقل أخلاقي..العقل السياسي يقول: لا يوجد حاكم عادل، وإنما توجد أوضاع ومؤسسات تجبر الحاكم أن يكون عادلا في كل تصرفاته المنضبطة لقانون عقلاني..والعقل الأخلاقي يفكر بطريقة معاكسة، فالمشكلة عنده في الحاكم..في الضمير وليس في المؤسسة..وبما أن الإخوان يربون قواعدهم على الاعتقاد بأنهم جماعة نقية ومصطفاة فإن الحاكم العادل لا وجود له إلا داخل هذه الجماعة.

         ومن يفكر بهذه الطريقة لا يصلح لإدارة دولة لأن البعد الثقافي الأحادي يسلبه القدرة على العمل مع الآخرين الذين يقعون خارج جماعته..ولهذا يعجز الإخواني أن يقود وأن يدير أناسا من خارج جماعته..وهو من هذه الناحية لا يختلف عن الحاكم الذي يقرب أهل الثقة والولاء ويستبعد أهل الكفاءة.

         إنظروا كيف يتعامل حزب الإصلاح مع التحدي الذي يمثله الحوثي..هذا الأخير حشد الناس تحت ثلاثة مطالب محددة بدقة، واستخدمها كأوراق ضغط لتحقيق مكاسب..وهذا أمر تعرفه الممارسة السياسية حتى في الديمقراطيات العريقة..وعوضا عن إحراج الحوثي بمنطق السياسة ذهب الإصلاح يشيطنه بخطاب طافح بمفردات الكراهية، ثم خرج يستعرض قوته بتنظيم تظاهرة موازية جند من أجلها وسائل الإعلام الرسمية التي يفترض أنها تقف على مسافة واحدة منه ومن الحوثي..وكان قد فعل مثل هذا في الجنوب عندما استعان بالسلطة المحلية لتنظيم مسيرة مزامنة ومضادة لمسيرة نظمها الحراك..ولعلكم تذكرون الدماء التي سالت حينها..وهذا خلط بين الدولة والسلطة دلالته أن حزب الإصلاح يتصرف كما لوكان هو الدولة وهو الإجماع الوطني والديني..وهذا أمر خطير يجر وراءه مخاطر كثيرة مساوية له في القوة ومضادة له في الاتجاه..ولهذا نقول، ونكرر القول، إن الظاهرة الحوثية ليست فعلا، وإنما ردفعل..وهي لم تنشأ للقضاء على مشروع وطني قائم، وإنما نشأت بسبب غياب هذا المشروع.

         وحزب الإصلاح مولع بالشعارات الكبرى من قبيل الدفاع عن الثورة والجمهورية والوحدة والدين...الخ..ودفاعه عن هذه المسميات دفاع أيديولوجي، وليس سياسيا..وليس لهذا أي تفسير سوى عجزه عن إنتاج مشروع سياسي وطني مقنع لكل اليمنيين على اختلاف مشاربهم..والفرق بينه وبين الحوثي أن هذا الأخير قوة صاعدة حركيا وخالية من مراكز القوى وأهل النفوذ وناهبي المال العام..بينما حزب الإصلاح قوة سائدة ألفها الناس واعتادوا عليها وتكيفوا معها واستسلموا للأنماط الثقافية التي فرضتها عليهم خلال عقود من تحالفها مع النظام منذ الإطاحة بالرئيس عبد الله السلال وتولي القاضي عبد الرحمن الإرياني في نوفمر 1967..وحزب الإصلاح طرف أساس في صياغة هذا النظام.

         لقد خرج الحوثي باسم الشعب، ومعظم الشعب ليس معه..والإصلاح فعل الشيء نفسه وقال هذا هو الشعب قد خرج معي..وفي هذه الحالة لا فرق بينه وبين الحوثي......سيقول البعض: ماذا كان على حزب الإصلاح أن يفعل؟..والجواب: كان عليه أن ينسحب من الحكومة وأن يعلن للرأي العام أنه سيقترح على الرئيس هادي أن يعرض على الحوثي تشكيل حكومة كلها من أنصار الله باستثناء أربع حقائب يجب أن تكون سيادية يختار وزراءها الرئيس هادي نفسه وهي الدفاع والداخلية والإعلام والتربية والتعليم...وإذا كانت هناك مخاوف عند الإصلاح من حكومة يديرها أنصار الله فإن هذه المخاوف لن تكون مشروعة إلا إذا وافقته عليها بقية الأطراف..وفي هذه الحالة لا يستطيع الحوثي أن يشكك بمشروعيتها وسيكون طرفا في التوقيع مع الجميع على اتفاق من نوع ما يبدد تلك المخاوف.

         سيقول البعض: المبادرة الخليجية تتحدث عن فترة إنتقالية تديرها حكومة وفاق وطني..وهذه حجة ضعيفة من ثلاث جهات..أولا: المشاركة في حكومة الوفاق حق وليس واجبا..والحق يمكن التنازل عنه..ثانيا: من حق الحوثي أن يشرك معه من يريد من أطراف الوفاق شريطة أن يتحمل هو المسئولية عن أداء الحكومة..ثالثا: الجوهري في الحكومة هو برنامجها..والبرنامج يمكن – بل يجب -  أن يكون توافقيا، في ضؤ نتائج الحوار الوطني، وقابلا للتنفيذ والتزمين والقياس.

         إذا رفض الحوثي هذا العرض سقطت أوراق الضغط التي يلعب بها..وإذا قبل سيكون أمام احتمالين: إما أن تحقق حكومته نجاحات مقنعة..وإما أن يكون الفشل في انتظارها..في الحالة الأولى سيكون النجاح نجاحا للوطن كله، والحوثي أحد مكوناته..وفي الحالة الثانية سيكون الفشل بمثابة الطعم الذي ابتلعه الحوثي، وقد لا يتعافى منه أبدا.

         إذا كان حزب الإصلاح متأكدا من عدم أهلية الحوثي فعليه أن يدع اليمنيين يتأكدون من ذلك بأنفسهم..علما أن كثيرا من اليمنيين يحملون حزب الإصلاح القسط الأكبر من المسئولية عن فشل حكومة باسندوة وتعثر إنجاز مهام المرحلة الانتقالية. 

         والذي يجري الآن أن الحوثي يقدم نفسه على أنه المنقذ من الضياع..بينما يعتقد حزب الإصلاح أن البلاد بدونه ستضيع..وهذا قاسم مشترك أعظم بين الطرفين يضعهما في خانة واحدة كنوع واحد..وما تبقى من اختلافات تنتمي إلى الدرجة.   

الأحد, 17 آب/أغسطس 2014 21:07

الدولة من مدخل الاجتماع المدني

 

الدولة ظاهرة تاريخية، وتاريخ تطورها منذ انبثاقها هو تاريخ تطور نضجها المدني، وعندما بان عليها هذا النضج وصار سمتها الأكثر بروزا قيل عنها دولة تنموية، ودولة قانونية، ودولة مواطنة، ودولة سياسية، ودولة ديمقراطية، ودولة تضامن مجتمعي، ودولة حريات، ودولة مساواة، ودولة مؤسسات...الخ، في إشارة إلى أن هذه الدولة تحديدا هي الدولة المدنية، وأن كل أنماط الدولة السابقة عليها في التاريخ لم تكن كذلك..ومن ثم من غير الجائز الحديث عن دولة مدنية لم تجتمع فيها هذه السمات.

وبما أن الدولة تعريفا هي التنظيم السياسي للمجتمع فإن نضج مدنيتها هو متغير تابع لنضج مدنية الاجتماع المدني الذي نشأت لتعبر عن نظامه وانتظامه، والحديث عنها، في أي مرحلة من مراحل تطورها، هو ضمنا حديث عن قرابة ورهان الاجتماع المدني في تلك المرحلة..وتاريخ الإنسان لم يعرف سوى ثلاثة أنماط من الاجتماع: عائلي، وعشائري قبلي، ومدني..وبما أن الاجتماع المدني هو مدخلنا للحديث عن الدولة فلابد أن نتعرف أولا على ماهية هذا الاجتماع من خلال المقارنة بينه وبين الاجتماعين العائلي والعشائري القبلي.

الاجتماع العائلي:

العائلة اجتماع قرابي قائم على رابطة الدم..والقرابة بين أفرادها قرابة طبيعية غير مختارة وغير مفكر بها، لأن الإنسان لا يختار أبويه..والعائلة مؤتمنة على أبنائها أخلاقيا وليس قانونيا..وهي لهذا السبب مفهوم أخلاقي وليس مفهوما سياسيا..ولحفظ نوعه وضمان التهدئة بين أفراده كان رهان الاجتماع العائلي دائما رهانا أخلاقيا لا يحتاج إلى تدخل القانون، سواء تعلق الأمر بالتنشئة أو بتوزيع الأدوار..ومن بديهيات الأشياء أن هذا النوع من الاجتماع لا يفضي أبدا إلى نشوء دولة، لأنه لا يحتاج إليها من أجل تنظيم شئونه..فالعائلة وجدت قبل الدولة وعاشت بدونها..لكن عندما ظهرت الدولة كنتاج لتبلور الاجتماع المدني بدأ تدخل القانون تدريجيا في شئون الأسرة..وهذا ليس إلا من تأثيرات الاجتماع المدني عليها بحكم انتمائها إلى فضائه وحاجته إلى تكييفها على النحو الذي يستجيب لقرابته ورهانه.

الاجتماع العشائري القبلي:

الاجتماع العشائري القبلي هو الآخر اجتماع قرابي قائم على رابطة الدم..والقرابة هنا هي أيضا قرابة طبيعية غير مختارة وغير مفكر بها لأن الإنسان لا يختار عشيرته وقبيلته..وهذا النوع من الاجتماع لا ينتج القانون مهما استطال به الزمن، وإنما ينتج الأعراف..ومعنى ذلك أنه لم ولن ينتج السلطة السياسية ولا الدولة وإنما أنتج السلطة الإجتماعية لشيوخ العشائر والقبائل..إنه إذن إجتماع ينتمي إلى ما قبل ظهور الدولة..ومن أجل تنظيم شئونه وحفظ التهدئة بين أفراده وجماعاته راهن الاجتماع العشائري القبلي دائما على أعرافه وعلى السلطة الاجتماعية لشيوخ العشيرة والقبيلة..وهذا أيضا رهان أخلاقي وليس رهانا سياسيا.

والاجتماع العشائري القبلي هو بالضرورة اجتماع عصبوي في مواجهة الاجتماعات العشائرية القبلية المناظرة له..وعندما تنبثق الدولة في بيئة مكتظة بالعصبيات العشائرية القبلية فإنها لا تنبثق عن هذا النوع من الاجتماع وإنما عن اجتماع مدني، تشكَّل كعصبية جديدة نوعيا، غالبا ما يعتريه الضَّعف بمجرد نجاحه في تعميم الدولة وفرض سلطتها على محيطه العشائري القبلي..فالدولة عندما تعم تستوعب العصبيات العشائرية القبلية في كيانها دون أن تقوى على صهرها وإذابتها كليا في العصبية الجديدة..وما يحدث بعد ذلك، في الغالب، هو أن تستأثر عصبية قبلية قوية أو تحالف عصبيات بالدولة..وحينها تتعالى الدولة على المجتمع وتتحول إلى قوة قهرية..وهنا تكمن جذور عدم الاستقرار والحروب الداخلية..وإذا تمكنت عصبية طامحة من الإطاحة بعصبية حاكمة والحلول محلها فإن هذا لا يغير من نمط الدولة المتعالية والقهرية.

وخلاصة القول: إن العصبيات العشائرية القبلية لا تنتج الدولة، لكنها تهيمن عليها عندما توجد وتحولها بالضرورة  من فضاء مساواتي لم تتوفر له موضوعيا شروط الثبات والاستمرار إلى فضاء عصبوي تهيمن فيه السلطة على الدولة وتنفيها..والهيمنة مهما كانت قبضتها فإنها، عاجلا أو آجلا، تستدعي شروط تفكك الدولة الواحدة أو انهيارها..وحدث هذا على نحو خاص في البلدان التي لا يكون فيها التفاعل بين الجغرافيا والتاريخ قويا بما فيه الكفاية.

الاجتماع المدني:

الحديث عن الاجتماع المدني هو حديث عن نوع مختلف من القرابة لا تقوم على رابطة الدم..إنها قرابة نوعية مختارة ومفكر بها تجعل الناس، أفرادا وجماعات، يتجاوزون قراباتهم الطبيعية الموروثة ويندمجون في قرابة جديدة نوعيا في إطار المدن التي نشأت تاريخيا بالتلازم مع نشوء هذا النوع من الاجتماع..ومن المدينة استمد الاجتماع المدني تسميته.

وإذا كانت القرابة في الاجتماعين العائلي والعشائري القبلي ثابتة فإنها في الاجتماع المدني قرابة متغيرة تبعا للتغير في النظام المعرفي الذي يصوغ العقل الجمعي وطرائق تفكيره واستدلالاته ومحاكماته..وإذا كانت التهدئة وحفظ النوع في الاجتماعين العائلي والعشائري القبلي قد قامت وتقوم دائما على رهان أخلاقي ثابت فإن رهانات الاجتماع المدني رهانات متغيرة تبعا للتغير في نوع القرابة..ونمط الدولة متغير تابع لهذا الرهان..فكلما تغير رهان الاجتماع المدني تغير نمط الدولة المعبرة عن نظامه وانتظامه.

رهان الاجتماع المدني:

على ماذا راهنت الاجتماعات المدنية حتى ضمنت لنفسها التهدئة العامة التي حققت لأفرادها وجماعاتها الأمن والسلام والاطمئنان على النوع ومكنتها من الإنخراط في تشييد العمران وإبداع الحضارات القديمة والوسيطة والحديثة؟..سيقول أكثر الناس: راهنت على الدولة باعتبارها التنظيم السياسي للمجتمع..فالدولة هي التي تسن القوانين الملزمة للناس وهي التي تملك أدوات القسر والإكراه التي تضمن "إحترامها" من قبل الأفراد والجماعات..والحقيقة أن الدولة ليست هي الرهان.

إن الحديث عن الرهان ليس حديثا عن الدولة وإنما عن مكوِّن جوهري في الدولة هو الذي يصوغ نمطها وعلاقتها بالاجتماع المدني..فالرهان "عقد اجتماعي" ضمني لم تتوفر شروط كتابته إلا في مرحلة متأخرة من تطور الدولة توفرت فيها فعليا – وليس فقط نظريا - شروط التزامها وإلزامها بهذا العقد كمؤشر على بدايات نضجها المدني..والعلاقة بين الرهان ونمط الدولة علاقة سببية يبرز فيها نمط الدولة كمتغير تابع لمتغير مستقل هو رهان الاجتماع المدني..وكلما تغير مضمون الرهان تغير نمط الدولة وتغيرت قوانينها..فالدولة لا تستطيع أن تسن قوانين مصادمة صراحة لرهان الاجتماع المدني..كما ليس بمقدور رأس الدولة – بما في ذلك الفرعون– أن يأتي بقول أو فعل يصادم صراحة هذا الرهان..والفروق التي نراها بين المصري القديم الذي يقدس "الملك الإله" أو الفرعون، والمسلم الوسيط الذي لا يجيز الخروج على الحاكم الظالم إلا إذا ظهر منه كفر بواح، والأوروبي الحديث الذي يعتبر رئيس الدولة موظفا عموميا ملزما باحترام القوانين مثله مثل أي مواطن، هي فروق بين الرهانات التي قام عليها الاجتماع المدني في مصر القديمة والعالم الإسلامي في العصر الوسيط وأوروبا الحديثة.

إننا هنا أمام ثلاثة أنواع من الاجتماعات المدنية اختلفت في نوع القرابة وفي نوع الرهان المطابق لها..وتبعا لاختلاف الرهان إختلفت العلاقة بين الحاكم والمحكوم..واختلاف هذه العلاقة يعبر عن نشوء فروق جوهرية طرأت على نمط الدولة في الحالات الثلاث..وهذا يعني أن الحديث عن الدولة المدنية هو في المقام الأول حديث عن قرابة ورهان اجتماعها المدني المختلف نوعيا عن قرابات ورهانات الاجتماعات المدنية السابقة عليه..وأبرز ما يميز رهان الاجتماع المدني في ظل الدولة المدنية الحديثة هو أنه لأول مرة في التاريخ يصبح رهانا مكتوبا في صيغة عقد اجتماعي عقلاني ملزم لطرفيه.

الرهان وعلاقته بالنظام المعرفي السائد:

قلنا إن نمط الدولة متغير تابع لمتغير مستقل هو رهان الاجتماع المدني على التهدئة وحفظ النوع..فكلما تغير الرهان تغير نمط الدولة تبعا لذلك..ولمعرفة الكيفية التي تتحقق بها هذه العملية علينا ملاحظة حركة خمسة متغيرات مترابطة سببيا ومرتبة زمنيا ومنطقيا على النحو التالي:

1 -  متغير التحولات في البناء التحتي للمجتمع (الوجود الاجتماعي)

2 -  متغير التحول في النظام المعرفي (الوعي الاجتماعي)

3 - متغير المشترك القرابي الذي يوحِّد الاجتماع المدني.

4 - متغير الرهان الذي تواقع عليه الاجتماع المدني لحفظ النوع وضمان التهدئة العامة.

5 - متغير نمط الدولة "المطابق" لرهان الاجتماع المدني.

وكل متغير هو نتيجة للمتغير السابق عليه وسبب للمتغير اللاحق له..أما المتغير رقم واحد فله أسباب ومحركات تقع في صلب اهتمام التفسير الاقتصادي للتاريخ الذي أكد على أن أسلوب انتاج الخيرات المادية هو العنصر الحاسم في تطور المجتمعات البشرية والتحولات النوعية التي تطرأ على بناها التحتية ووجودها الاجتماعي..وطبقا لهذا التفسير: " كل وجود اجتماعي ينتج وعيه الاجتماعي الخاص به والمطابق له"..ويشير " الوعي الاجتماعي " هنا إلى "النظام المعرفي" الذي يصوغ عقل الإنسان بما هو أداة التفكير والاستدلال والمحاكمات العقلية، أي بما هو فاعلية متحركة ومتغيرة، وليس مجرد وعاء للمعلومات والحقائق والمعارف..والعقل بهذا المعنى متغير تابع لمتغير الثقافة التي يتشكل فيها وبها النظام المعرفي..وتبعا للتحولات التي شهدتها البنى التحتية للمجتمعات البشرية عرف تاريخ الإنسان أربعة أنظمة معرفية تنتمي إلى أربعة عصور توالت في التاريخ على النحو التالي :

1 - النظام المعرفي لعصر الأسطورة..والسيادة فيه للتفكير الأسطوري الإحيائي.

2 - النظام المعرفي لعصر الإيمان..والسيادة فيه للتفكير الديني.

3 - النظام المعرفي لعصر العقل..والسيادة فيه للتفكير الفلسفي التأملي.

4 - النظام المعرفي لعصر العلم..والسيادة فيه للتفكير العلمي.

وسوف نلاحظ أن الاجتماع المدني في كل عصر من هذه العصور قام على قرابة مختلفة أنتجت رهانا مختلفا ونمط دولة "مطابق " للرهان..ومعنى ذلك أننا أمام أربعة أنماط من الدول هي على التوالي:

1 - نمط الدولة العبودية في عصر الأسطورة..والدولة الفرعونية في مصر القديمة أنموذجا لها.

2 - نمط الدولة الإقطاعية في عصر الإيمان..والإمبراطورية الرومانية المقدسة والخلافة الإسلامية أنموذجان.

3 - نمط الدولة البرجوازية في عصر العقل..والدولة القومية في أوروبا الحديثة أنموذجا.

4 - نمط الدولة في عصر العلم..والدولة المدنية الحديثة في الغرب المعاصر أنموذجا.

والملاحظ هنا أننا نفرِّق في الدولة بينها كثابت وبين نمطها كمتغير بتغير العصور..فنمط الدولة في كل عصر يكون بالضرورة "مطابقا" لقرابة ورهان الاجتماع المدني في ذلك العصر..وقد وضعنا كلمة "مطابقا" بين مزدوجين لنعطي هذه المفردة معنى ليس هو بالدقة معناها الدلالي المباطن لها..إن ما نقصده بمطابقة الدولة لرهان الاجتماع المدني هو دخول هذا الرهان كعنصر جوهري في مكوِّنات كيانها يستحيل عليها بدونه أن تكون لها المشروعية التي تحتاجها لإضفاء الشرعية على تصرفاتها..فالرهان هو ما يريده الاجتماع المدني من الدولة وما يتوقعه منها كعقد اجتماعي ضمني في ظل النظام المعرفي الذي يمارس سلطته على العقل الجمعي..لكن هذا لا يعني أن الدولة كانت دائما صارمة في إخلاصها لهذا الرهان..فالغالب عليها هو التحايل عليه مادامت دولة قهرية ومتعالية على المجتمع.

ولمقاربة ذلك نستحضر القاعدة الفقهية الشهيرة عند أهل السُّنة التي تقول ب"عدم جواز الخروج على الحاكم الظالم إلا إذا ظهر منه كفر بواح"..فالكفر البواح هنا هو خروج صريح على رهان الاجتماع المدني الذي قام على إجماع ديني وشيَّد الدين قرابته..وهذا من المستحيل أن يحدث، لأنه يتجاوز "الخيانة العظمى"، حسب التعبير المعاصر، إلى تهديد كيانية المجتمع ومعنى وجوده..وعلى افتراض حدوثه فإن الحاكم لن يفقد شرعيته فقط، وإنما حياته أيضا..ولهذا لم يفعل الفقهاء الذين صاغوا تلك القاعدة شيئا، من الناحية العملية، سوى أنهم كرسوا شطرها الأول (عدم الخروج على الحاكم الظالم)، أما شطرها الثاني (إلا إذا ظهر منه كفر بواح) فليس له أي قيمة عملية غير الاحتيال على الاجتماع المدني لتمرير وتبرير الشطر الأول..إننا مع هذه القاعدة أمام مقايضة قامت على إقناع الاجتماع المدني بالصبر على ظلم الحاكم مقابل أن يظهر الحاكم إلتزامه الشكلي باحترام رهان الاجتماع المدني.

إن القاعدة الفقهية المذكورة هي صياغة متحايلة على رهان الاجتماع المدني، الذي شيَّد قرابته على الاخوة في العقيدة "إنما المؤمنون إخوة"، قياسا إلى القاعدة التي صاغها الخليفة الأول أبو بكر الصديق عندما قال:" أطيعوني ما أطعت الله فيكم"..فالصدِّيق هنا عبَّر عن ضمير الاجتماع المدني، وعن ما يتوقعه هذا الاجتماع من الحاكم..وبما أن الاجتماع المدني قام على إجماع ديني فإن الظلم الواقع من الحاكم هو عمليا خروج على الدين الذي أمر بإقامة العدل وحث عليه..أي أنه خروج على طاعة الله..والخروج على طاعة الله كفرٌ بالله..وهذا ما تضمنته قاعدة الصدِّيق التي اعتبرت الظلم كفرا يجوز معه للمحكومين الخروج على الحاكم.

ولتفسير دوافع التحايل على قاعدة الصدِّيق علينا أن ندرك أنها صدرت عن حاكم كان أثر العقيدة عليه أقوى من أثر الدولة التي كانت في طور تأسيسها المبكر ولم تكن حينها قد انتهت من فرض سلطتها على محيطها المكتظ بالعصبيات القبلية السابقة عليها..بينما صاغ الفقهاء قاعدتهم في وقت متأخر كانت فيه العصبيات قد سطت على الدولة وحولتها إلى قوة قهرية متعالية على المجتمع.

لكن حتى في حال تعالي الدولة فإنها لا تستطيع أن تتجاهل رهان الاجتماع المدني الذي صاغ نمطها..والفقهاء الذين أخرجوا تلك القاعدة كانوا قد تشكلوا كطبقة وسيطة بين الاجتماع المدني والدولة..وصار لهذه الطبقة دور مزدوج..فهي "الحارسة" لرهان الاجتماع المدني والمعبرة عنه، من ناحية، وهي، من ناحية ثانية، تعمل على ترويض وتكييف ذلك الرهان لصالح تعالي الدولة وجنوحها إلى القهر..وهذا الدور المزدوج يعبر عن علاقة تلازم ضرورية بين نشأة هذه الطبقة وبين تعالي الدولة..فبدون تعالي الثانية يتعذر نشأة الأولى على النحو الذي ظهرت فيه لتؤدي ذلك الدور في تاريخ المسلمين، وفي تاريخ غير المسلمين من الأمم الأخرى..فطبقة رجال الدين ظاهرة لازمت كل الأديان التي التحمت بالدولة في عصر الإيمان وليست قاصرة على دين بعينه.

إن الدولة لا تتعالى إلا عندما تؤول سلطتها العليا إلى حاكم متغلِّب يرى في رهان الاجتماع المدني قيودا تكبله ويحتاج إلى مفاتيح لفك مغاليقها والتحلل منها..وطبقة رجال الدين هي بحكم الاختصاص من يملك هذه المفاتيح..ولهذا لم يكن لهذه الطبقة وجود في عهد الصدِّيق الذي تربى في مدرسة النبوة وصاغت العقيدة عقله وضميره فكان هو نفسه الحاكم والمعبر عن رهان الاجتماع المدني في عصر الإيمان..واجتماع هاتين الصفتين في شخصه هو أساس شرعيته..أما الحاكم المتغلب في تاريخ المسلمين فقد احتاج إلى طبقة متخصصة تضفي عليه الشرعية التي يحتاجها..وهذه الطبقة لا تستطيع أن تنهض بهذا الدور ما لم تكن قد تبوأت المكانة التي يقبل بها الاجتماع المدني في عصر الإيمان، أي ما لم تكن قد تحولت إلى إكليروس..وهذه الطبقة تقابلها في الديمقراطيات الحديثة طبقة المثقفين التي يمحضها الاجتماع المدني كل احترامه لدفاعها عنه في مواجهة أي انحراف للدولة عن العقد الاجتماعي..ونتذكر في هذا السياق الفيلسوف البريطاني برتراند راسل عندما سُئل عما يمكن أن يحدث في حال انقلب الجيش على السلطة المدنية المنتخبة..وكان جوابه بأن هذا لن يحدث أبدا، لكن على افتراض حدوثه، نظريا، فإن قادة الإنقلاب لن يجدوا في بريطانيا كلها مثقفا واحد يكتب لهم البيان الأول.   

إذا عدنا إلى العصور الأربعة سالفة الذكر (الأسطورة + الإيمان + العقل + العلم) سنلاحظ أن الغرب المعاصر عبَرَ العصور الثلاثة الأولى وتجاوزها إلى عصر العلم..ومعنى ذلك أنه عرف أربعة أنماط من الدول آخرها الدولة الحديثة..وهذه الدولة تحديدا هي الدولة المدنية..وهي وحدها، من بين أنماط الدول السابقة عليها، الدولة التي قامت فعلا على المطابقة بينها وبين رهان الاجتماع المدني..ورهان الاجتماع المدني في هذه الدولة أصبح عقدا اجتماعيا مكتوبا في صيغة دستور تعززه وتحميه ثقافة مجتمعية عقلانية.

تأسيسا على ما تقدم يلاحظ أن مدنية الدولة هي "عملية" بدأت فعليا مع عصر العقل ولم تكتمل إلا في عصر العلم..وليس صحيحا الحديث عن دولة مدنية قبل هذين العصرين..ويترتب على ذلك أن العقل والعلم – وليس الدين - هما مرجعية هذه الدولة..والتفكير في الدولة المدنية في ظروف اليمن – والعالم العربي عموما – لن يستقيم ما لم يبدأ من البحث عن إجابات على الأسئلة التالية:

1 - إلى أي عصر ننتمي من بين العصور الأربعة المذكورة (الأسطورة؛ الإيمان؛ العقل؛ العلم)؟. وما هي الدولة المتسقة مع العصر الذي ننتمي إليه؟

2 - ما نوع القرابة التي يقوم عليها اجتماعنا المدني؟ هل هي الأخوة في العقيدة أم هي الأخوة في الوطن؟ هل نحن في نظر الدولة المدنية التي نريدها "مؤمنون" أم "مواطنون"؟

3 - ما هي الرابطة التي تجمعنا في نظر الدولة المدنية التي نريدها؟ هل هي الرابطة الدينية التي تشكل المجال الديني للمؤمنين، أم هي الرابطة الوطنية التي تشكل المجال السياسي للمواطنين؟.وهل الخلط بين هذين المجالين يعطي دولة مدنية؟

4 - على ماذا نراهن من أجل حفظ النوع وضمان التهدئة العامة التي بدونها تتعذر التنمية والانخراط في العمران ؟ هل نراهن على "الإيمان الديني" أم على حرية اعتقاد كل فرد مع خضوع كل الأفراد لقانون عقلاني واحد"؟

5 - ما هو النظام المعرفي الذي يمارس سلطته على عقولنا وطرائق تفكيرها واستدلالاتها ومحاكماتها، هل هو نظام معرفي واحد أم أكثر من نظام؟

6 - هل سجالنا الراهن حول الدولة المدنية هو سجال داخل عصر معرفي واحد، أم هو سجال بين أكثر من عصر؟

         

الجمعة, 15 آب/أغسطس 2014 17:44

ليس دفاعا عن هادي:

 

الأخ العزيز مروان الغفوري المحترم

تعلم مبلغ تقديري لشخصك..والسبب ليس شيئا آخرا غير ما حباك الله من بسطة في العلم وسعة في المعرفة ودماثة في الأخلاق..وكل هذا نتاج سنوات طوال من كدحك واشتغالك على عقلك في زمن اشتغال معظم الناس على كروشهم..وعندما ألفيتك تطلق نداء الطريق الثالث على صفحات الفيسبوك قلت في نفسي: دقت ساعة العمل..لأن نداءك خاطب عندي حلما كنت قد شرعت منذ أشهر في الكتابة من أجله بعدما وصلت إلى ما يشبه اليأس من الأحزاب القائمة..ولهذا أبديت استعدادي لنعمل معا خطوة خطوة وكلي ثقة أن عملنا المشترك سيفضي إلى نتيجة قابلة للحياة..وبينما كانت إحدى عيني قد استقرت عندك كانت العين الثانية ترنو إلى هائل سلام الذي أعتقد أنه لم يكن ولن يكون أبدا خارج أي حراك تتوفر له شروط النجاح المسنود بقيم وطنية وإنسانية نبيلة..وعندما قرأت اعتذاره في صفحة الطريق الثالث عقدت العزم أن أذهب إليه شخصيا؛ لأن الرجل في نظري لم يعتذر، وإنما أبدى محاذير كلها معتبرة ووجيهة، صدرت عن إنسان قرأ وتابع كل المنشورات والتعليقات على صفحة الطريق الثالث..والمرجح أن كثيرا منها كان محل تقديره على نحو جعله يتأنى إحتراما لعقول أصحابها.

وبالأمس وقع ما لم أكن أتوقعه..فقد قرأت منشورك عن الأسرة الأولى والأسرة الثانية..وقرأت أيضا تعليق هائل سلام عليه..ولا أخفي عليك أن مقامه عندي صار هائلا كإسمه وتضاعفت قناعتي بأن أي عمل من هذا القبيل هو بدونه مغامرة غير محسوبة ستكرر تجربة الائتلافات التي تكاثرت كالفطر في ساحات الحرية والتغيير وتبارت في الإمساك بالكشوفات وإعلان الأسماء والأرقام، لكنها سرعان ما تلاشت..والائتلاف الوحيد الذي بقي هو قبور الشهداء الذين ما كانوا يتوقعون أن الثورة التي قضوا من أجلها ستتعثر على هذا النحو الذي نراه بأبصارنا.

أما على مستوى بصائرنا فالظاهر أننا شتى في تفسير هذا التعثر..وقد رأيتك تلقي باللائمة على الرئيس هادي "مؤسس الأسرة الثانية" حسب توصيفك له..ورأيتك تختزل الطريق الثالث في الثورة ضد هذه الأسرة والتي قبلها..وهذه بداية صراعية ألقيتَ بها كحجة مجانية للقائلين بأن حزب الإصلاح يقف وراء هذا "الطريق"..وبما أن هؤلاء ليسوا أقلية، حتى داخل صفحة الطريق الثالث، رأيت أن أبعث إليك بهذه الرسالة عبر الصفحة نفسها وأنا على ثقة أن عقلك يتقبل الصواب ويصوِّب ما قد يراه خطأ.

أولا: الدولة مظهر أساسي للمجتمع في أوسع معانيه..والعملية السياسية لاتسير في فضاء مثالي خاص بها، وإنما داخل عملية إجتماعية تؤثر فيها وتتأثر بها..ولك أن تتصور تعقيدات بيئة العملية السياسية الجارية في اليمن منذ تشكيل حكومة الوفاق وانتخاب الرئيس هادي وحتى يومنا هذا..وهي بيئة عمقها ثلاثة وثلاثون عاما من الدمار والفساد الممنهجين مارسهما تحالف متعدد الأطراف بدونه ما كان بمقدور مؤسس الأسرة الأولى أن يستمر في السلطة بضعة أشهر..ولك أيضا أن تسأل: ما الذي تغير في عهد هادي وما الذي لم يتغير؟ وما هي أسباب السير البطيء على طريق التغيير؟ والإجابة على هذه الأسئلة لا تحتمل التحيز، خاصة عندما تصدر عن أناس يقدمون أنفسهم كأصحاب طريق ثالث متميز.

وفيما أرى أن علي صالح بعد هادي لم يعد هو نفسه قبل هادي بدلالة ما حدث لقناة اليمن اليوم التي غابت بطريقة مهينة ل"الزعيم" وغابت معها صوره عن بيوت اليمنيين..وما تبقى من حضور سياسي سلبي لعلي صالح سببه الغياب السياسي الإيجابي للقوى التي ركبت قطار ثورة الشباب ضد نظامه ، ولم تكن مع الشباب ضد النظام الذي هو نظامها أيضا، وإنما ضد رأس النظام لتحل هي محله..وينطبق هذا أكثر ما ينطبق على التجمع اليمني للإصلاح، ليس كحزب، وإنما كمراكز قوى قبلية وعسكرية ودينية تصادر قرار هذا الحزب لصالحها ضدا على مصالح قواعده وجماهيره، وترى قائد مليشياتها في أرحب أهم من ألف مروان غفوري مثقف.

وما يسري على علي صالح يسري على الجنرال علي محسن الذي أصبح مستشارا بعد أن كان يتربع على رأس الفرقة الأولى مدرع..وليته غادر الحياة العامة وتوارى ليتفرغ لما بقي له من عمره..لكنه لم يفعل، ولن يفعل، مادام ليس كمثله مستشار في الدنيا..فالرجل لا يشير إلا إلى خطوط حمراء ممنوع على هادي أن يقترب منها..ومعظم هذه الخطوط في الجيش والأمن اللذين شكلا مربع الاستقواء على الشعب اليمني طوال عقود مضت..وبسبب الخطوط الحمراء هذه سارت عملية إعادة الهيكلة، وما تزال تسير، بخطى بطئية لم تخرج معها البلاد من دائرة الخطر..والجيش عموما ما يزال غير مؤهل لخوض أي حرب داخلية مقنعة لكل الأطراف بأنها حرب الدولة ومن أجل الدولة..وهذا بسبب تركيبته على مستوى القيادة وعلى مستوى الأفراد..وقد سمعنا وقرأنا الانتقادات التي توالت ضد حربه المقدسة على القاعدة في أبين وشبوة، ونعرف جيدا حقيقة الأطراف التي استاءت من تلك الحرب واعتبرتها حربا إنتقائية، وربما مدنسة..وأثناء الاقتتال بين مليشيات الحوثي ومليشيات حزب الإصلاح في عمران كاد البعض أن يصدق بأن رئيس الجمهورية ووزير الدفاع ينتميان إلى أنصار الله وأنهما خانا الثورة والجمهورية لمجرد أنهما لم يزجا بالجيش في حرب يعلمان أنها حرب مشيخة العصيمات وعلي محسن..وحرب كهذه إذا خاضها الجيش لن تقضي على الحوثي وإنما على هادي..وهذا ما يسعى إليه دعاتها الذين يريدون أن ينتصروا على الحوثي بأدوات الحوثي وليس بمشروع سياسي وطني.

ثانيا: لستُ ممن يبخسون الناس أشياءهم..فالشباب لم يكن رافد الثورة الوحيد، لكنه كان الرافد الرئيس والأصل..ومراكز القوى العسكرية والقبلية والدينية التي عارضت صالح وانشقت عليه كانت رافدا ثانويا وفرعيا..والذي حدث بسبب التسوية أن الفرع أصبح يتصرف وكأنه الأصل ويريد أن يحل محل صالح مع الإبقاء على النظام..وكانت هذه المراكز تعتقد أن هادي مجرد قنطرة لعبور السلطة من صالح إليها، حتى أنها لم تترك له حرية اختيار مدير مكتبه وفرضت عليه من تريد ليفعل لها ما تريد، فأصبح مكتب رئاسة الجمهورية مشكلة لرئيس الجمهورية.

وعندما اكتشفت أن هادي أكبر من أن يقبل بدور القنطرة قررت أن تحول المرحلة الانتقالية إلى مرحلة فشل رئاسي على كل الأصعدة : من صعدة إلى الجنوب، ومن الاقتصاد إلى الأمن، ومن الإدارة والمال إلى الخدمات والطاقة..ومن سوء طالع هادي أن التوافق جاء برئيس وزراء قضى معظم حياته في خدمة علي صالح بالطريقة التي تقررها ثقافة علي صالح وطموحه الشخصي..وعندما خذله هذا الأخير ولم يكافئه على دوره في حرب 1994 حبس غيظه داخله إلى أن لاحت له فرصة المعارضة فركب موجتها التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة ليمارس مهاما فوق طاقته البدنية والنفسية والعقلية والمعرفية..والنتيجة أن الرئيس هادي يقود مرحلة إنتقالية إستثنائية بحكومة محاصصة قررت أن تسمي نفسها حكومة تسيير أعمال، لا لشيء سوى التغطية على ضعفها وعدم أهليتها، مع احترامنا الشديد لقلة قليلة من أعضائها.

ثالثا: لا يوجد رئيس ديمقراطي وإنما توجد مؤسسات وأوضاع تجبر الرئيس على أن يتصرف بطريقة ديمقراطية..وقياسا على ذلك لا يوجد رئيس فاسد وإنما توجد أوضاع فاسدة محيطة به تشمل قوى مستفيدة من الفساد ولها مصلحة في تكريس هذه الأوضاع والدفاع عنها..والرئيس إما أن يجاري هذه الأوضاع ويمارس الفساد، وإما أن يؤثر السلامة ويستقيل، وإما أن يدخل معها في معركة للتخلص منها..ومن بين هذه الخيارات واضح أن الرئيس هادي اختار الخيار الثالث الصعب، ولكن بغير قوى اجتماعية وسياسية ساندة له..أي أنه يخوض معركته في ظروف غير مواتية داخليا ومعظمها ضده..وهذا يفسر لجوئه إلى أهل الثقة الذين تعوز بعضهم الكفاءة..وحتى لا ينبري من يقول إننا نبرر لهادي إحلال الأبينة محل السنحنة، أو إحلال الأسرة الثانية محل الأولى بحسب التوصيف المرواني سوف نسأل: هل تعرض الرئيس هادي لامتحان نزاهته وإرادته الوطنية بطريقة مؤسسية تهتم بالإجراءات القانونية والنظامية، لا بالأشخاص؟..نجزم أن هذا لم يحدث، ولن يحدث..وما حدث هو التشكيك غير المسئول بهذه الإرادة وتخوينها..وأذكر أن أول من شكك بها على مستوى الصحافة قاضٍ من العيار الثقيل.

ولو أن هذا القاضي اقترح على الرئيس هادي إستحداث هيئة وطنية توافقية ذات طابع إنتقالي تمثل فيها كل أطراف الطيف السياسي والاجتماعي وتكون مهمتها فحص سلامة القرار الرئاسي فيما يتعلق بالتعيين والتدوير في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية في ضؤ معايير متوافق عليها، لكان فعلا تصرف كقاض محترف، لا كسياسي مناكف..ولكن لماذا لم يأتِ مثل هذا المقترح من اليدومي والآنسي وعلي محسن؟.سأترك الإجابة لحبيبنا مروان..أما لماذا استثنينا الإرياني وياسين والعتواني فلأن هؤلاء الثلاثة ليسوا من مراكز القوى المعطِّلة، وهم لا يقدمون مقترحات يعلمون أنها ستقابل بالرفض الشديد..ويعلم مروان أن ياسين كان ضد حسم موضوع الأقاليم خارج مؤتمر الحوار الوطني وشرعيته، لكن هادي لم يستجب له، وإنما للنافذين أصحاب أوراق الضغط في حزبي المؤتمر الشعبي وتجمع الإصلاح الذين تجاوزوا عداواتهم ليحصلوا في هذه القضية على ما يريدون.

وللقارئ الآن أن يتصور حجم ونوع وسرعة التغيير الذي كان سيحدث لو أن الهيئة المختصة بفحص سلامة القرار الرئاسي موجودة..أما وهي غير موجودة فستظل أسماء مثل المقدشي والحليلي والصوملي وضبعان والعوبلي والقوسي والجائفي والحاوري ونظائرها من أبين تلاحقنا مثل المقررات المدرسية..وقل مثل ذلك في الخدمة المدنية والسلك الدبلوماسي وفي السلطة المحلية..وغياب هذه الهيئة هو الذي يفسر اكتشاف مروان للحضور الأبيني في مطار صنعاء من القائد إلى الجندي وحتى الحارس والسائق والفرَّاش، كما قال..لكنه ذهب في تفسير اكتشافه مذهبا مختلفا بحديثه عن أسرة ثانية يؤسسها هادي على أنقاض الأسرة الأولى التي أسسها صالح..والحقيقة أن مروان ليس أول من يتحدث عن الأبينة، ولن يكون الأخير..فأثناء الزيارة الخاطفة لهادي إلى السعودية حرصت معظم المواقع الالكترونية المحسوبة على متنفذين أن تبعث برسالة من هذا القبيل، ولكن بطريقة إيحائية بدا معها الوفد المرافق للرئيس سرا خطيرا لم تكشف عنه سوى صحيفة لندنية..ومن بين أربعة شكلوا قوام هذا الوفد كان أحمد عوض بن مبارك الوحيد من خارج أبين.

تحدث مروان عن مشتريات منزل هادي من الأثاث وأفزعته الأرقام التي ذكرها..كما عرج على بعض مظاهر الفساد في المؤسسة الاقتصادية العسكرية..كل هذا ليثبت أن هادي فاسد وكذلك وزير دفاعه..لكن إذا دخلنا هذه المغارة لن نخرج منها ويكفي أن نذكر بأن فواتير استهلاك الكهرباء التي لم يسددها متنفذون معروفون تتجاوز بكثير الأرقام التي ذكرها..أما التهرب الضريبي فأرقامه فلكية..وبحسب معلومات مؤكدة صادرة عن اللجنة المعنية بإعادة هيكلة الجيش يتراوح حجم الفساد في كل لواء عسكري من عشرين إلى أربعين مليون ريال شهريا..ومادمنا قد فتحنا باب الأرقام: هل سيقبل كبار المتنفذين وناهبو المال العام مليون دولار لكل واحد منهم مقابل أن تعود كل ثرواتهم المنقولة والثابتة للدولة؟..عِلماً أنهم جميعاً كانوا حتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي أشباه حفاة وعراة..وبحسبة بسيطة تنتزع مصلحة شئون القبائل من الخزينة العامة سنويا ما يكفي لبناء 216 مدرسة حديثة سعة عشرين فصلا بكلفة 3 ملايين ريال لكل فصل.

خلاصة القول إن هادي يخوض معركة وطنية في بيئة معادية لأي إصلاح..ولأول مرة تقريبا نرى رئيسا مستهدفا حتى من الإعلام الرسمي، إما بالصمت أو بالتناول السطحي للقضايا الجوهرية، وأحيانا صراحة..وكم يشعر المرء بالحزن والأسى عندما تطالعنا بعض الصحف بشراء هادي لقيادات الحراك الجنوبي..مع أن الأمر ليس فيه لا شراء ولا بيع، وكل ما في الأمر أن الحراك أثبت على مدى أكثر من عشرين عاما من المقاومة السلمية أنه القوة الأكثر وطنية والأكثر أخلاقا في هذا البلد..فعندما استشعر أن هناك توجها نحو بناء دولة لكل اليمنيين قرر أن يكون مع هذا التوجه وأعلن عن ذلك من صالة الخيول وسط العاصمة صنعاء..وهذا أمر لا يروق لمراكز القوى التي تريد أن ترى الجنوب ملتهبا في وجه هادي كي تشعل هي اللهيب في الشمال..وهي بحكم ثقافتها المناطقية لا ترى الجنوبي مواطنا سويا، وإنما إنفصالي، إذا قاوم ظلمها ونهبها وعبثها، وبيَّاع مواقف، إذا حاورَ بشرف..وهذا ينطبق على تقييمها لهادي الذي كان ملاكا يمنيا عندما شارك في معركتها ضد الوطن عام 1994، ثم تحول إلى شيطان جنوبي – وغالبا أبيني - عندما بدأ يخوض معركة الوطن من أجل الوطن.

وإذا كان الطريق الثالث سيبدأ من شيطنة هادي فهو طريق معروف ومألوف..والسير فيه كله خَلْفٌ ليس فيه أمام..وبما أن مروان من الناس الذين لا يسيرون إلا إلى الأمام فمن غير المستبعد أن أكون قد ظلمته وتجنيت عليه..وحتى لا أمعن في الظلم والتجني وأخسر إنسانا أراه ثروة وطنية أعلن أنني خارج هذا الطريق.

منقولة من صفحة الكاتب في "الفيسبوك"

الأحد, 13 تموز/يوليو 2014 22:33

ومتى كانت السيادة للدولة في عمران؟

 

         لم يكن يوم الثامن من يوليو الجاري يوم هزيمة وطنية حتى يحشد حزب الإصلاح المسيرات الغاضبة التي شاهدناها على قناة سهيل تردد هتافات التخوين..فعمران لم تسقط في ذلك اليوم بيد إسرائيل، وإنما ظفر بها "أنصار الله" بعد أن كانت قلعة "حزب الإصلاح"..أما الدولة في تلك الأصقاع فلا وجود لها منذ العام 1962 بممانعة قوية من مشيخة العصيمات وبمباركة من صنعاء لم يرفضها إلا إبراهيم الحمدي..ولو قدر للدولة أن توجد لكان المشهد العام في عمران وصعدة مختلفا تماما وخاليا من هذا العنف المتسارع في كل مناطق شمال الشمال تقريبا..وجميعها كانت وما تزال بأمس الحاجة إلى تنمية حقيقية دون أي مساس بزيديتها التي لم تكن ولن تكون عائقا أمام التنمية.

         واللواء 310 لم يكن دليلا على حضور الدولة في عمران، كما يبدو للبعض، وإنما علي غيابها، أو بالأصح تغييبها..وهذا حكم يقرره العقل الباحث في جوهر الأشياء، لا العين المجردة التي لا ترى أبعد من الميري والرتب والنياشين..والقشيبي لم يدخل طرفا في الاقتتال دفاعا عن حضور الدولة وإنما لتكريس تغييبها الذي نشأ فيه واعتاد عليه واستفاد منه وارتقى بفضله..وقد قاتل ضد خصم طارئ يهدد الترتيبات والمصالح التي بنت نفسها على هذا التغييب وتكيفت معه وأصبح بالنسبة لها ثقافة ونمط حياة..ولو أن الدولة هي التي اجتاحت عمران لفرض نفسها هناك على أنقاض المصالح غير المشروعة لقاتلها القشيبي بتوجيهات من حزب القشيبي.

         ونحن عندما نقول هذا لا نبرر سيطرة "أنصار الله" بقوة السلاح على عمران، وإنما نكشف عن حقيقة جرى التستر عليها وهي أن القشيبي تصرف كأمير حرب متمرد على القيادة السياسية ووزارة الدفاع، ولم يكن أبدا بطلا وطنيا كما تصوره صحافة حزب الإصلاح..والرجل لم يرابط هناك على رأس لواء مدرع مصادفة..فعمران قلعة وعاصمة حزبه..واللواء 310 هو الحامية العسكرية لهذه العاصمة من حصة علي محسن الأحمر في الجيش اليمني الذي تتنازعه ولاءات تقاوم إعادة هيكلته على أسس وطنية..ومن البديهي أن يكون على رأسه قائد يغلب ولاءه لحزبه على ولائه للدولة..وهذا القائد لم يسقط شهيدا وإنما انتحر بإرادته..وإذا جاز الحديث عن شهداء فهم أولئك الأبرياء العزل الذين لا ضربوا الطاسة ولا نفخوا في المزمار وسقطوا ظلما برصاص طرفي الاقتتال وهم متشبثون بالحياة.

         وبصرف النظر عن توصيف طرفي الاقتتال لبعضهما البعض وما يقوله كل منهما عن الآخر فالطبيعي أن تقع المواجهة بين مليشيات حزب الإصلاح ومليشيات الحوثي..والطبيعي أيضا أن يقف القشيبي على مسافة واحدة من الطرفين وأن يجبرهما بالقوة على الخضوع المتساوي للقانون..لكن هذا الطبيعي مجرد أماني، وواقع الحال غير ذلك..فالقشيبي لم يكن موجودا هناك بإرادة الدولة وإنما بإرادة حزب الإصلاح من خلال علي محسن..ومعنى ذلك أن تمركز اللواء 310 في عمران وراءه إرادة غير وطنية هي وحدها التي يحترمها ويخلص لها القشيبي..وهذه الإرادة هي التي موضعت اللواء المذكور كطرف في حرب ليست حرب الدولة..وهذه الموضعة هي التي خلطت الأوراق وسهلت لوسائل إعلام حزب الإصلاح تزييف وعي الناس بتصوير الاقتتال على أنه حرب طرفاها الدولة ومليشيات الحوثي..وهذه أكذوبة كبرى ترتبت عليها أكاذيب ومغالطات تندرج في إطار الانحطاط السياسي والأخلاقي بألف ولام التعريف..وهذا نفصله على النحو التالي:

1 – عندما لا تكون الدولة طرفا في الاقتتال يكون الحديث عن إخلاص القشيبي للشرف والقسم العسكري من قبيل تسمية الأشياء بأضدادها..والحقيقة أننا في هذا المقام أمام خيانة للشرف والقسم العسكري، وليس أمام إخلاص.

2 – إن إخلاص القشيبي المزعوم للشرف والقسم العسكري مقدمة بنى عليها حزب الإصلاح نتيجة خطيرة مؤداها أن الرئيس هادي لم يوفر الغطاء السياسي للواء القشيبي، وأن وزير الدفاع لم يقدم له المدد والعون الذي يمكنه من كسب المعركة..وعلى هذا الأساس يجب أن توجه للرئيس هادي ووزير الدفاع تهمة الخيانة العظمى.

         وهذا ما حصل بالفعل عبر وسائل إعلامية منفلتة دعت إلى تحرك شعبي ضد الرئيس ووزير الدفاع حتى لا تباع اليمن بأبخس الأثمان لإيران وأمريكا، كما كتب أحدهم..وانبرى آخر محذرا من الخطر المحدق بالعاصمة ما لم يتم تصفية الخونة في وزارة الدفاع حسب تعبيره..وهناك من قال إننا إزاء مؤامرة نتيجتها المرتقبة: الشمال دولة للحوثي والجنوب دولة لهادي.

3 - إن الدولة لم تعلن نفسها طرفا في هذا الاقتتال المجنون ووقفت على مسافة واحدة من طرفيه..وهذا واضح من دور الوساطة الذي مارسته لفك الاشتباك بينهما..لكن هذا الدور قوبل عبر وسائل إعلام حزب الإصلاح بالتشويه وإيهام الرأي العام بأن القيادة السياسية أهانت وخذلت الدولة المقاتلة وقزمتها بدور الوساطة والجمع بين مقام الخصم ومقام الشاهد.

         وليس لهذا التشويه أي تفسير سوى أن حزب الإصلاح لم يكن يقبل بأقل من الذهاب إلى نهاية الاقتتال..ولضمان هذه النهاية لصالحه أراد أن يزج الجيش في حرب يعلم كل ذي عقل أنها ستؤدي إلى انقسامه وتمزقه لسبب بسيط وهو أن تركيبته الراهنة على مستوى القيادة والأفراد لا تؤهله أن يدخل حربا ليست حربه ويخرج منها متماسكا..ولو أن الدولة تورطت في هذه الحرب لتعذر التحكم بها وبنطاقها المرشح للتوسع ليشمل العاصمة..وهذه حقيقة لا يريد حزب الإصلاح أن يقر بها لأنه يماهي بينه كحزب وبين الدولة..وبسبب هذه المماهاة يرى حربه مع الحوثي على أنها حرب الدولة..وهذا تفكير شمولي خطير ومدمر..ومن حسن طالعنا في هذه المرحلة الحساسة أن هادي يقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع ويتصرف كرئيس لكل اليمنيين، بما في ذلك أنصار الله، ولم ينجر وراء حسابات وتحالفات تهدد المرحلة الانتقالية ونتائج الحوار الوطني.

4 - ليس لتخوين رئيس الدولة أي تفسر سوى أن حزب الإصلاح استمرأ الإمعان في تغييب الدولة الغائبة أصلا..ولم يشفع للرئيس عند هذا الحزب أنه تصرف بحكمة ولم يعلن القشيبي متمردا، بل ووفر له كل فرص الانسحاب الآمن من ساحة الاقتتال..والرئيس بهذا التصرف لم يكن جبانا ولا مداهنا، وإنما هي روح المسئولية في مقام ليس هو بعد مقام قول الحقيقة للشعب، وبخاصة عندما تكون هذه الحقيقة متعلقة بسلوك حزب مسلح لا يجيد إلا التحريض وتتحكم بأقداره وقراره مراكز قوى تهدد مسار العملية الانتقالية من موقع الشراكة فيها.

5 - عندما يصل الأمر إلى حد تخوين رئيس الدولة ووزير الدفاع عبر وسائل الإعلام المحسوبة على حزب الإصلاح فإننا نكون إزاء تمرد صريح وخطير يهدد الوفاق الوطني والمرحلة الانتقالية برمتها..والمتوقع في هذه الحالة أن يتصدى وزير الإعلام لهذا الفلتان بروح المسئولية وفي إطار القانون..لكن الرجل فضل الرقص على مزمار حزبه وحوَّل الفضائية اليمنية المملوكة للدولة إلى قناة إصلاحية تقول عن رئيس الدولة صراحة ما لم تتجرأ قناة سهيل على قوله تورية.

6 - إن افتقار بعض أطراف الوفاق الوطني للحد الأدنى من الحساسية الوطنية يضاعف من مسئولية الرئيس هادي باعتباره صاحب الشرعية الشعبية الوحيد في هذه المرحلة الاستثنائية التي لا تحتمل الفشل..ومن حقه وواجبه في هذه الحالة أن يعلن عن وزارات سيادية تقتضي المصلحة الوطنية العليا أن تكون خارج المحاصة الحزبية..وليس صحيحا أن المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية لا تعطي الرئيس هذا الحق.

         لقد جعلت المبادرة الخليجية القرار الأخير للرئيس في حال تعذر التوافق..وهي بهذا تكون قد أسندت إليه دور مايسترو الفترة الانتقالية، وأصبح من حقه وواجبه أن يلزم كل الأطراف بالعزف على لحن واحد هو اللحن الوطني، وأن لا يدع أحدا يغني على ليلاه..فالتوافق لا يعني التفارق، وإنما التعاون والتشارك والتساند في إطار الرؤية التوافقية..وليس في هذه الرؤية ما يخول طرفا  في التوافق تسخير مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية لحساباته الخاصة.

 

المقصود بالفصل بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية استقلال المجال السياسي عن المجال الديني..ويجري التعبير عن هذا من  خلال مصطلح "العلمانية" باعتبارها توأم الديمقراطية، حيث العلاقة بينهما علاقة ضرورة وتلازم بدونها يتعذر على الدولة الحديثة أن تقف على مسافة واحدة من كل الأفراد والجماعات في المجتمع..فبدون الديمقراطية تتحول العلمانية إلى عقيدة تسعى للحلول محل الدين وتقوم في الغالب على معاداته، ومن ثم تعطي دولة مستبدة..أما العلمانية الملازمة للديمقراطية فليست سوى إجراء قانوني لتسوية العلاقات – لا بين الأديان المختلفة فحسب – بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد..وبدون تسوية هذه العلاقات بواسطة العلمانية لا معنى للديمقراطية في مجتمع متعدد طائفيا، لأن الناخبين لن يصوتوا إلا لممثليهم الطائفيين..ومعنى ذلك أن صناديق الاقتراع ستظل تنتج وتعيد إنتاج أكثرية طائفية ثابتة وأقلية طائفية ثابتة..ولن يتغير هذا الثبات إلا إذا تغير ميزان القوى الديمغرافي في البلاد..وإذا كان الأمر كذلك فإن الأقلية الطائفية لن تكون متحمسة للديمقراطية لأنها تعرف نتيجة الصندوق سلفا، وسيظل المكبوت الطائفي ينتظر من يكشف الغطاء عن مرجله الذي يغلي تحت الرماد.

إن العلمانية مصطلح يعبر عن موقف من الدولة، وليس عن موقف من الدين..وهي بهذا المعنى إجراء قانوني يمنع طغيان السياسية على الدين وطغيان الدين على السياسة، وفي الحالتين هدفها القضاء على القطيعة القائمة بين الدولة والمجتمع وليس إلغاء الدين الذي لا يسري عليه قانون الإلغاء..وبمعنى آخر هدف العلمانية هو تحويل الدولة من دولة متعالية على المجتمع إلى دولة خاضعة له..ووسيلتها إلى ذلك الفصل بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية، بغض النظر عن التعدد أو التجانس الطائفي للمجتمع.

إن الدولة إما أن تكون متعالية على المجتمع وإما أن تكون خاضعة له..والفصل بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية في الدولة الديمقراطية الحديثة هو العلاج القاتل لفيروسات تعالي الدولة على المجتمع..والخطاب الديني الذي يقول بغير ذلك هو من الناحية العملية خطاب سياسي يوظف الدين لا للدفاع عن حق الناس الطبيعي في الإيمان، وإنما للدفاع عن دولة عصر الإيمان القروسطية التي لا يجوز فيها الخروج على الحاكم الظالم ما لم يأتِ بكفر بواح..أما المفردات الحديثة التي أدخلت على هذا الخطاب – كالديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة...إلخ – فهي ليست أصيلة في بنيته وإنما من قبيل استثمار متاحات عصري العقل والعلم لتكريس عصر الإيمان، بدليل أن هذا الخطاب نفسه يتضمن في بنيته أفكارا من قبيل:" الشعوب العربية جرَّبت القوميين والعلمانيين واليساريين والليبراليين وجميعهم فشلوا"..وعلى ما في هذا الكلام من سطحية وتسطيح فإنه من المسلمات العقدية الأكثر تجذرا في الخطاب المذكور والتي يعتمد عليها في التعبئة والتجييش ضد التيارات الفكرية والسياسية التي لم يكن لها وجود في القرون الوسطى.

إن هذا الخطاب لا يقصي فقط القومي واليساري والليبرالي، وكل هؤلاء علمانيون، وإنما يقصي أيضا الآخر المذهبي الذي يشاركه الانتماء إلى البنية الإعتقادية الواحدة قبل تشظيها إلى مذاهب..والمشهد العربي الراهن في العراق ولبنان وسوريا يقدم أمثلة مأساوية على هذا الاستبعاد..وقد انتقل هذا المرض إلى اليمن أيضا حيث الكراهية المتبادلة على أشدها بين أنصار الله والسلفيين، وجميعهم "أنصار الله"..وإذا علمنا أن الدولة الملتحمة بالدين، وليس الدين، هي سبب هذا التشظي المذهبي فإن الحل يكمن في فك الاشتباك بين المجال السياسي والمجال الديني..وهذه هي العلمانية التي تتعرض للتشويه والتحقير على نحو ليس له نظير من قبل أولئك الذين يصرون على اقتحام المجال السياسي بسلاح الدين، لا بسلاح السياسة..وهم بهذا لا ينتصرون للدين، وإنما لسياسة قروسطية تحول بيننا وبين قدرتنا على إنتاج الدولة الوطنية التي بدونها يستحيل علينا أن نتجاوز حالة التخلف المزمن.

ومن مظاهر القدامة القروسطية في الخطاب الديني المسيس القول المكرور:"كلنا مسلمين"..وهذه الجملة كانت الأكثر حضورا في معرض الدفاع عن المرجعية الدينية للدولة في مؤتمر الحوار الوطني..وكأن تاريخ المسلمين خال من حروبهم البينية منذ معركتي الجمل وصفين إلى اليوم..نعم، كلنا مسلمون، ولكن من حيث موقعنا في الخريطة الدينية للمدنيات العالمية، أما من حيث علاقتنا بالدولة المدنية التي نريد فنحن مواطنون..والدولة – التي تختزل مواطنيها في البعد الديني أو تغلب هذا البعد على ما سواه – لم ولن تكون دولة مدنية..والإصرار على اختزال المواطنين في البعد الديني ليس له ما يفسره سوى الإصرار – الواعي أو غير الواعي - على رفض الدولة المدنية..وكأن المواطنين لا يستحقون هذه الدولة إلا إذا خرجوا من الدين..ونحن نعلم أنه قد مرَّ على أوروبا زمن كان لسان حالها يقول:" كلنا مسيحيون"..ولم تغادر حروبها البينية إلا عندما تحولت إلى "كلنا مواطنون"..ومنذ هذه اللحظة تحديدا بدأ المشهد الأوروبي الحديث والموحد.

تقوم الرابطة الوطنية على الأخوة في الوطن بينما تقوم الرابطة الدينية على الأخوة في الإيمان بالله..والرابطة الوطنية لا تنفي الرابطة الدينية، بل تتعزز بها إذا كان المجتمع يدين بعقيدة واحدة وعلى مذهب واحد..وفي المقابل بمقدور الروابط الدينية والمذهبية أن تتعايش بسلام دائم في ظل رابطة وطنية واحدة لشعب متعدد الأديان والمذاهب.

تقوم الرابطة الدينية على الاعتقاد بأن الأصل في المجتمع هو إجماع المؤمنين، ومن شذَّ شذَّ في النار.. بينما تقوم الرابطة الوطنية على التسليم بأن الأصل في المجتمع هو اختلاف المواطنين، حتى وإن كانوا على عقيدة دينية واحدة ومذهب واحد..لذلك تحتاج الرابطة الدينية إلى الوعظ والإرشاد لتعزيز الإجماع..بينما تحتاج الرابطة الوطنية إلى الديمقراطية لتنظيم الاختلاف.

تنتمي الرابطة الوطنية إلى المجال السياسي، بينما تنتمي الرابطة الدينية إلى المجال الديني..وفي عصر الإيمان كان هذان المجالان مجالا واحدا هو المجال الديني..ولذلك كانت الدولة في ذلك العصر دولة دينية بالضرورة، سواء كانت المؤسسة الدينية هي السلطان، كما في الحالة المسيحية، أو كانت فقيه السلطان، كما في الحالة الإسلامية..ففي الحالتين كانت الدولة متعالية على المجتمع وقائمة على الفصل بينها وبينه..ولم يعد الأمر كذلك في عصر العلم الذي أنتج دولة مدنية خاضعة للمجتمع..وهذا الخضوع لم يكن ممكنا إلا من بوابة التمييز بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية واستقلال كل منهما عن الأخرى.

إن التداخل، الذي نراه عندنا، بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية ليس له ما يفسره في عصر العلم سوى أننا مجتمع إنتقالي يعاني من عدم نضج الرابطة الوطنية وعجزها عن إنتاج دولة مدنية تنظم اختلاف المواطنين بواسطة الديمقراطية..وبسبب هذا العجز يتشبث المجال الديني بالمجال السياسي ويعمل على إخضاعه لتتمكن المؤسسة الدينية من التأثير في الشأن العام على النحو الذي يجعل منها مرجعية للدولة باعتبارها الناطقة بلسان الدين..وعندما تصبح المؤسسة الدينية مرجعية الدولة تغدو السيادة الشعبية جملة فارغة من أي معنى وتختزل الديمقراطية في صندوق الاقتراع، ولا يسمح لها أبدا أن تمر عبر صندوق جمجمة الرأس الذي يكون في هذه الحالة محاصرا ومراقبا من قبل المؤسسة الدينية صاحبة الكلمة النهائية في تقرير ما هو صح وما هو خطأ..وفي بيئة كهذه تتشكل عوامل أزمة تطال الخطابين السياسي والديني على حد سواء.

ومن مظاهر أزمة الخطاب السياسي الوطني إنقسامه إلى خطابين مرتبكين: أحدهما ينافق الرابطة الدينية، والآخر يصادمها..في الحالة الأولى يخلط الخطاب بين السياسة والوعظ ولا يكون خطابا واضحا ومستقلا بذاته، ويعجز من ثم عن أن يكون خطابا وطنيا جامعا داخل المجال السياسي..وفي الحالة الثانية يهرب إلى علمانية فجة لا تفرق بين الدين المقدَّس والمؤسسة الدينية غير المقدسة التي تستثمر الدين لتحقيق مكاسب دنيوية تتعالى بها على المجتمع وعلى نخبه..وعدم التفريق بين الدين والمؤسسة الدينية يدفع الثانية إلى المزيد من التشدد في اقتحام المجال السياسي بذريعة الدفاع عن الدين..وفي الحالتين تتعذر رؤية المسار الصحيح إلى الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.

أما خطاب المؤسسة الدينية فهو خطاب هجين السياسة فيه ليست سياسة والدين فيه ليس دينا، وكلاهما خاسر، والمؤسسة الدينية وحدها هي المستفيد..ولهذا نراها مستميتة في تقديسه لما يرتبه لها من مصالح..أما من الناحية المعرفية فجذر هذا الخطاب يعود إلى النظام المعرفي لعصر الإيمان الذي كان فيه مفهوم المؤمن مفهوما محوريا، بينما لم يكن مفهوم "المواطن" موجودا بعد، وكانت العقيدة الدينية فيه هي أساس "المواطنة" بالتعبير المعاصر، أما من يدين بعقيدة مغايرة فهو " ذمي" منقوص "المواطنة"..ولأن عقل المؤسسة الدينية واقع تحت سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان فإنها تختزل مفهوم المواطن في مفهوم المؤمن..وهذا الاختزال يلغي – ذهنيا – الرابطة الوطنية لصالح الرابطة الدينية..وبما أن الأصل في الأولى هو اختلاف المواطنين، والأصل في الثانية هو إجماع المؤمنين فإن ما تسعى إليه المؤسسة الدينية هو تحقيق الإجماع، أي تحويل المواطنين إلى كتائب متجانسة من المؤمنين الذين يصدقون كل ما يقال لهم ويتصرفون كأتباع ومريدين..وبما أن هذا الإجماع غير ممكن من الناحية العملية فإن الفشل هو النتيجة الحتمية..لكن المؤسسة الدينية لا تعترف بفشلها، لأنها منذ البداية تسوق خطابها على أنه خطاب رباني لا يسري عليه ما يسري على الخطابات البشرية..وبما أنها تفكر بهذه الطريقة فإنها لا تبحث عن المشكلة في خطابها القروسطي المتقادم وإنما في المخاطَبين الذين ينقسمون إلى معسكرين: مستجيب وغير مستجيب..والمؤسسة الدينية تصنف الأول على أنه معسكر الإيمان، والآخر معسكر الكفر والضلال..والملاحظ هنا أن أصل التكفير وسببه سياسي، وليس دينيا..فالكافر هو من يرفض السير وراء طبقة رجال الدين التي تمارس السياسة بخطاب ديني..وعندما يقع هذا تكون الرابطة الوطنية في أزمة حقيقية تظافر في إنتاجها خطاب سياسي منقسم إلى منافق أو مصادم، وخطاب ديني مسيس يريد أن يصادر المجال السياسي لصالح طبقة رجال الدين التي تفتي فيما لا تفقه، وهي بمقاييس علوم السياسة والاجتماع وكل علوم العصر طبقة قروسطية جاهلة..والجهل كل الجهل في شعار "القرآن والسنة فوق الدستور وفوق مخرجات الحوار الوطني"..فالقرآن هنا كلمة حق يراد بها باطل..وملخص هذا الباطل:(1) المجال الديني يجب أن يصادر المجال السياسي.(2) هيئة "علماء اليمن" وعلى رأسها الزنداني فوق الدستور وفوق الإجماع الوطني.(3) مناهضة مخرجات الحوار الوطني.(4) الدولة المدنية مرفوضة لأنها تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها وقوانينها لا تفرق بين المواطن المسلح المحارب عبد المجيد الزنداني والمواطنة العزلاء المسالمة أمل الباشا.

 

 

العلاقة بين الدولة المدنية وبين شعار "تطبيق الشريعة الإسلامية" علاقة تناسب عكسي..فعندما تكون الدولة المدنية غائبة على مستوى الواقع  يعمل شعار " تطبيق الشريعة" على تكريس غيابها على مستوى الوعي..وإذا غابت هذه الدولة على مستوى الوعي فإن هذا الشعار يقاوم حضورها على مستوى الواقع..وهذا ليس لأن الدولة المدنية كافرة بالشريعة،وإنما لأن الشريعة ليست من جنس هذه الدولة..وبما أن الشريعة متجذرة في الوجدان الجمعي والدولة المدنية غريبة عليه فإن هذا الوجدان سيتعاطف مع المتجذر ضد الغريب..وأي محاولة للتوفيق أو الجمع بينهما ستفضي عندنا بالضرورة إلى نفي مدنية الدولة..والنتيجة التي ستترتب على ذلك هي تكريس دولة غير مدنية لتجانس الشريعة..وشرط تحقيق هذا التجانس هو انتماء الدولة إلى عصر الشريعة..وهذا العصر ليس إلا عصر الإيمان.

         لكن عصر الإيمان غادر حلبة المسرح على صعيد عالمي منذ القرن السادس عشر الميلادي..وإذا بقي له حضور قوي عندنا فإن عصري العقل والعلم لهما أيضا حضور بفعل العولمة التي تحولت معها الكرة الأرضية إلى قرية كونية صغيرة..والحضور المتزامن لثلاثة عصور في مجتمع واحد يجعل منه مجتمعا إنتقاليا من الأدنى إلى الأعلى، وليس العكس..وإذا كان المجتمع انتقاليا فإن الدولة المعبرة عن نظامه وانتظامه هي الأخرى إنتقالية، ومصيرها أن تصبح دولة مدنية..لكن وتيرة هذا الانتقال يحددها ميزان القوى بين ممثلي العصور المتزامنة..وأصحاب شعار "تطبيق الشريعة" هم من الناحية الذهنية ممثلو عصر الإيمان في المجتمعات العربية..وهذا لأن عقلهم واقع تحت سلطة النظام المعرفي لذلك العصر..وبما أنهم من الناحية الواقعية يعيشون في عصر العلم ويرون مأثرته على صعيد الدولة المدنية في الغرب المعاصر فمن الصعب عليهم أن يستمروا على خطابهم القديم الرافض لهذه الدولة جملة وتفصيلا..لذلك ما أن انتهت الحرب الباردة وتغيرت ملامح النظام الدولي تغير خطابهم..غير أن التغيير اقتصر فقط على الكم دون الكيف وبقي الخطاب محافظا على قدامته بعد تطريزها ببعض مفردات الحداثة السياسية، كالديمقراطية وحقوق الإنسان.

         إن الجمع بين الدولة المدنية والشريعة الإسلامية لا وجود له إلا على مستوى الخطاب السياسي لبعض دعاة " تطبيق الشريعة " الذين يعتقدون أن الدولة المدنية هي تلك التي لا يحكمها العسكر..أما نفي الشريعة للدولة المدنية فمن المتعذر على أي عقل أن يتصوره ما لم يكن مدركا لماهية الشريعة التي لا تقبل المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء – على سبيل المثال -، وماهية الدولة المدنية التي لا تستطيع أن تكون مدنية بغير هذه المساواة..غير أن الأمر أكثر خطورة إذا علمنا أن الدولة المدنية دولة حاضنة للسلطة وراعية لها، بينما السلطة في الدولة غير المدنية تستحوذ على الدولة وتصادرهاوتعاديها..وشعار " تطبيق الشريعة " هو من شعارات السلطة وليس من شعارات الدولة..فالشريعة سلطة جاهزة مذهبية بالضرورة لا تعطي دولة لكل مواطنيها، وإنما تعطي سلطة مصادرة للدولة هي سلطة أصحاب الشعار..والدليل على ذلك أنهم لا يتحدثون عن صلاح الدولة كشرط لإنتاج القوانين وتطبيقها، وإنما يتحدثون عن شريعة جاهزة كشرط لصلاح الدولة..فالدولة الصالحة عندهم هي تلك التي تطبق الشريعة وتحرسها وتحميها..وليس لهذا أي تفسير سوى أن الشريعة هنا تقدم كسلطة جاهزة سابقة على الدولة ومتعالية عليها..والتعالي هنا هو مصادرة مضمرة للدولة.

         إن الشريعة الإسلامية التي يراد لها أن تتعالى على الدولة هي عمليا شريعة المسلمين في عصر الإيمان، وليست شريعة الله في كل العصور..إنها شريعة وضعية ذات مرجعية دينية..وهي شريعة مذهبية دائما..والذي فرض هذه المرجعية على دولة عصر الإيمان هو عصر الإيمان نفسه، وليس الله..والمسلمون في ذلك العصر لم يكونوا بدعة من دون سائر الأمم التي خضعت لشرائعها المستمدة من أديانها.

         إن النص الدستوري على مرجعية الشريعة الإسلامية كمصدر لكل القوانين لا يضمن صلاح الدولة ونظامها السياسي، وإنما العكس هو الصحيح..فصلاح الدولة ونظامها السياسي هو الذي يضمن تطبيق القوانين الصادرة عن البرلمان باعتباره ممثلاً للشعب، وليس ممثلاً لرجال الدين..والتجربة العيانية الملموسة في اليمن شمالا وجنوبا تنهض كأقوى دليل على ذلك..ففي الجنوب كانت الدولة صراحة دولة الحزب الاشتراكي الحاكم..ما يعني أنها لم تكن دولة مدنية بالمعنى الذي نتحدث عنه اليوم، وإنما كانت سلطة مستحوذة على الدولة ومصادرة لها..وكل عيوبها تكمن في هذا الاستحواذ وفي هذه المصادرة، وليس في غياب المرجعية الدينية لقوانينها.

         وفي الشمال حضرت المرجعية الدينية للقوانين، لكن الدولة غابت لتحضر السلطة المستحوذة عليها، سلطة تحالف شيوخ الجيش وشيوخ القبيلة وشيوخ المؤسسة الدينية..وعندما توافق اليمنان على الوحدة وذهبا إليها في 22 مايو 1990 أعاد التحالف الثلاثي توزيع الأدوار بين أطرافه وأشهر شعار "تطبيق الشريعة" في وجه الدولة الوليدة التي لم تكن في بدايتها سوى حاصل جمع ميكانيكي لسلطتي الشمال والجنوب على أمل التحول التدريجي إلى دولة مدنية..وحينها تحول الشعار إلى زوبعة غيَّرت مسار التحول التدريجي نحو الدولة باتجاه حرب 1994 التي أعطتنا دستورا بالمواصفات التي أرادها أطراف التحالف الثلاثي..فماذا كانت النتيجة؟

         لم يعطنا دستور حرب 1994 المؤسلم مذهبيا دولة صالحة ولا نظاما سياسيا ديمقراطيا، وفي ظله شهدت اليمن فسادا لم تشهده من قبل، فضلا عن الترسيم المشبوه والجائر لحدود البلاد، ومشروع توريث الحكم وحروب صعدة، والقضية الجنوبية، والإرهاب، وانتهاكات حقوق الإنسان...الخ..والقول إن طريقة إدارة علي صالح لنتائج الحرب هي سبب كل ما حدث، وإن أصحاب الشعار أبرياء مما حدث، قول لا يصمد أمام أية أسئلة يثيرها طالب مبتدئ في علم السياسة..فالسياسة الحديثة لا تعوِّل على صلاح الحاكم، وإنما على صلاح منظومة مؤسسات الدولة..وفي الدولة الحديثة لا يوجد حاكم صالح وإنما توجد مؤسسات تجبر الحاكم على الصلاح في أقواله وأفعاله وتصرفاته وفي إدارته للشأن العام.

         إن أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" يريدون في عصر العلم دولة عصر الإيمان بصيغتها المذهبية، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا..ونحن لا نقول هذا تجنيا، وإنما عن وعي ومعرفة بما يريدون من الناحية العملية..أما الضمائر فلا يعلمها إلا الله..وبمقدور القارئ اللبيب أن يتعرف فيما يلي على الدولة الإسلامية التي يريدها أصحاب هذا الشعار الكارثي:

1 -  يمكن النظر إلى الدولة من حيث موقعها في الخارطةالدينية للعالم بصرف النظر عن نموذج الحكم وطبيعة الفئة الحاكمة ونوع القوانين المطبقة..وعلى هذا الأساس يصح أن نقول:" فرنسا والمملكة المتحدة دولتان مسيحيتان، وتركيا والسعودية وإيران دول إسلامية، وإسرائيل دولة يهودية، واليابان دولة بوذية "..وباستثناء السعودية وإيران اللتين تطبقان قوانين الشريعة فإن كل هذه الدول علمانية..والمعروف أن أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" لا يريدون دولة إسلامية بهذا المعنى الذي يتسع للعلمانية، كما هو الحال في تركيا..كما لا يوجد بينهم من يجاهر بتبنى النموذج السعودي أو الإيراني للدولة..إذن هم لا يريدون دولة إسلامية بهذا المعنى، سواء طبقت الشريعة أم لم تطبق.

2 -يمكن النظر إلى الدولة من حيث هي نظام في الحكم لا يقبل بالتعددية الحزبية والسياسية، وإنما بالواحدية السياسية..والمقصود هنا سيطرة الحزب السياسي الذي يستمد برنامجه الاجتماعي من الإسلام أو يجعل الإسلام مرجعا وحيدا في القيم العامة التي يستلهمها.

         والمعروف أن أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" لا يجاهرون بأنهم يريدون دولة إسلامية بهذا المعنى..ولا أحد اليوم يقبل بدولة الحزب الواحد، سواء كانت دولة الحزب الإسلامي أو دولة الحزب العلماني، وسواء طبقت قوانين الشريعة الإسلامية أو غيرها من القوانين.

3-  يمكن النظر إلى الدولة من حيث نمطها المشيد وبنيتها الداخلية..أي الدولة التي تمارس السلطة بطريقة معينة تختلف كليا عن النماذج المعروفة في العالم المعاصر، سواء فيما يتعلق بإنتاج السلطة العليا أو توزيعها، أو تكوين السلطة التشريعية، أو تطبيق القوانين..وفي هذه الحالة يمكن القول بأن نموذج الدولة الإسلامية التي يريدها أصحاب شعار "تطبيق الشريعة" يختلف عن غيره من النماذج المعروفة بما يلي:

1 – الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع المدني، بما في ذلك في الميدان السياسي.

2 –الحاكم يتم اختياره بواسطة البيعة المرتبطة بأهل الحل والعقد.

3 – خدمة الإيمان وإعداد المواطنين للآخرة هو أهم وظائف الدولة.

4 – الدولة ترعى المصالح البشرية الدنيوية من وجهة نظر المصالح الأخروية.

5 – تعميم الطابع الإسلامي، الثقافي والديني، على الدولة، أسوة بالمجتمع.

         الواضح أن الشريعة الإسلامية في هذه الدولة ليست مجرد قوانين يراد تطبيقها، وإنما عقيدة سياسية وبرنامج عملي يراد منا جميعا أن نقبل به، بحجة أن الشعب كله مسلم، ما لم فسيف التكفير مسلط على رقابنا.

         إن الدولة بهذا المعنى هي الدولة التي يريدها دعاة "تطبيق الشريعة الإسلامية"..إنهم إذاً لا يسعون إلى المشاركة في الحكم وتداول السلطة سلميا مع غيرهم، كما يزعمون ويتظاهرون في القول..إن ما يسعون إليه هو إعادة بناء الدولة ذاتها والإطاحة بالتوازنات التي تمنعها من استيعاب عقيدتهم السياسية التي يروجون لها تحت شعار "تطبيق الشريعة"..وهذا توجه خطير إذا قالوا به صراحة فهو إعلان حرب..وإذا لم ينكروه صراحة فهو ما يعملون من أجل تحقيقه فعلا ما داموا مصرين على فرض شريعة دولة عصر الإيمان على الدولة في عصري العقل والعلم..لذلك سيظل أصحاب هذا الشعار يثيرون الزوابع في طريق بناء الدولة المدنية..ونقاط الخلاف الأساسية بينهم وبين دعاة الدولة المدنية تكمن فيما يلي:

1 – إنهم يطابقون بين الدين وبين الشريعة..ودعاة الدولة المدنية يرفضون هذه المطابقة، لأن الدين من عند الله والشريعة فقه ناجم عن اجتهاد بشري تاريخي مشروط بزمانه ومكانه.

 2 – إنهم يريدون من الدولة المدنية أن تكون دولة الله ودولة الإسلام..ودعاة الدولة المدنية يعتبرونها دولة المسلمين  باعتبارهم مواطنين بصرف النظر عن حظهم من الإيمان والقبول عند الله في الآخرة..فالله يحاسب الناس على النوايا والسرائر، والدولة المدنية تحاسب مواطنيها على ظواهر أعمالهم.

3 – إنهم يعتبرون السيادة الشعبية مقولة أيديولوجية لنفي سيادة الله على اليمن..ودعاة الدولة المدنية يعتبرون سيادة الله شاملة على الكون كله..أما السيادة الشعبية فهي نظام إجرائي لتحصيل الإجماع في ظروف وممكنات ومتاحات العصر الحديث، والتغلب على الاختلاف في التأويل داخل أبناء العقيدة الواحدة.

4 – إنهم يختزلون مفهوم المواطن في البعد الديني الثابت (كلنا مسلمون) ويعتبرون الأغلبية الشعبية مفهوما ثابتا وقابلا للإحتكار في واقع راكد..ودعاة الدولة المدنية يرفضون اختزال المواطن في البعد الديني الثابت ويعتبرون الأغلبية الشعبية مفهوما متحركا يغير اتجاهاته بشأن القضايا التي يثيرها دائما واقع متجدد (كلنا مواطنون)..لذلك لا توجد أغلبية سياسية دائمة ولا أقلية سياسية دائمة، وإنما توجد أغلبية طائفية دائمة وأقلية طائفية دائمة.

5 – إنهم – من حيث يعلمون أو لا يعلمون - يتصورون الله كائنا سياسيا له أجندة يريد أن يحققها بواسطة الدولة..ولأن الله لن يدير الدولة بنفسه فهم الذين سيتصرفون نيابة عنه (كهنوت)..أما دعاة الدولة المدنية فينزهزن الله ويعتبرونه قوة خالقة للكون ومفارقة له ومتعالية عليه.

6 – إنهم يعتبرون عدم النص على المرجعية الدينية للتشريع كفرا إذا لم يقفوا ضده في الدنيا فسيحاسبهم الله على تخاذلهم يوم القيامة..ودعاة الدولة المدنية عندما يسمعون هذا القول يستحضرون قول فرعون (أنا ربكم الأعلى – لا أريكم إلا ما أرى...)..والفارق أن الفرعون القديم قال قولته في عصر كان فيه الناس عبيدا، بالمعنى الحقيقي للكلمة، وكانت الحرية فوق طاقتهم العقلية والأخلاقية على تخيلها..أما الفرعون الجديد فليس بمقدوره أن يدعي الربوبية لعلمه أن مثل هذا الإدعاء لن يمر بسلام، لذلك تراجع خطوات إلى الخلف وقرر أن يتواضع مدعيا أنه مفوض عن الإله، وليس إلها..ولكن: من أعطاكم هذا التفويض؟.والجواب: "نحن علماء نعلم ما لا تعلمون"..لا لا لا لا..أنتم رجال دين ولستم علماء..أنتم كهنوت يحوز على معرفة..وليس كل معرفة علم..وليس أصحاب كل معرفة هم بالضرورة علماء.

         باختصار شديد: نحن أمام ظاهرة فرعونية تريد أن تستعبدنا في زمن الحرية..ومعيار استحقاقنا للحرية هو قدرتنا الذهنية على رؤية الفراعنة الجدد وإصرارنا على إنزالهم من ألوهيتهم المزعومة وإعادتهم إلى وضعهم الطبيعي كبشر وكمواطنين لا فرق بينهم وبيننا أمام القانون..أما إذا تعذر علينا رؤيتهم ذهنيا فنحن عبيد لا نعلم أننا عبيد..والدولة المدنية لا يصنعها عبيد، وإنما مواطنون أحرار.