الخذلان الكبير

  • الاشتراكي نت/ الثوري - خالد عبدالهادي

الخميس, 10 كانون1/ديسمبر 2015 17:52
قيم الموضوع
(0 أصوات)

وحدهم من يقاومون مشروع الاستبداد السياسي والديني على الأرض يجترحون شيئاً ذا وزن وبال, أما الحركة السياسية فلم تكن مفككة وواهنة كما هي اليوم.

وعلاوة على أن الحركة السياسية التي كان خليقاً بها قيادة المشروع السياسي للمقاومة العسكرية واهنة فهي أيضاً منقسمة ومتنافرة.

قسم يرى أن الصراع الراهن لا يعنيه لأنه يدور بين طرفين متشابهين في السمات ومتناقضين في المصالح فحسب, وقسم التحق بالرئيس عبدربه منصور هادي ومطامحه متناهية في الصغر, لا تكاد تتجاوز الظفر بحقيبة وزارية في حكومة افتراضية ما تزال معلقة في الهواء.

في الواقع, هذا ضرب من عقاب التاريخ الذي ظل ينزله بالحركة السياسية اليمنية كلما تعالت على حاجات مجتمعها ولم ترَ فيها سوى أحلام غير واقعية.

وما فتأت الأحداث تظهر كيف أن أفراد المجتمع العاديين كانوا يسبقون السياسة إلى مضمار الفعل كلما أدارت ظهرها لهم وسخًفت مبادراتهم فتلهث هي وراءهم, لكن بعد أن تكون الأمور قد خرجت عن سيطرتها وتكشًف عجزها.

 ولقد تلقت السياسة هذا النوع من الانكشاف مراراً, غير أنها لم تستوعب الدرس.

في 2007 اندفع المواطنون في المحافظات الجنوبية إلى الساحات العامة والشوارع رفضاً للسياسات النظامية التمييزية بحقهم بعد 14 عاماً من اجتياح الجنوب وإخضاعه بالقوة وانحياز القوى السياسية إلى صف النظام أو التزامها الصمت, باستثناء الحزب الاشتراكي اليمني الذي استهدفته حرب 1994 بقدر ما استهدفت الجنوب, فاتخذ القضية الجنوبية مرتكزاً لسياساته وقطباً لها.

وفي 2011 أرادت القوى السياسية إصلاحاً سياسياً يجعل من المشاركة السياسية أمراً ممكناً وأراد الشعب إسقاط النظام بثورة سلمية, مسلتهماً المثال التونسي الذي اختط تجربة الربيع العربي.

ولما غصت الساحات بملايين المحتجين المصممين على إسقاط نظام علي صالح, أخذ الساسة ذوو الرؤوس البيضاء والشوارب الكثة يهتدون بخطى فتيان المدارس وشبان الجامعات وفلاحي الريف كي يوثقوا انتماءهم إلى عصر الساحات أو يحظوا بفرصة لإلقاء خطاب من على منابرها.

كانت المناسبة الثالثة هي الأشد امتحاناً لقوى السياسة, ففي سبتمبر 2014 ستطوق جحافل الثورة المضادة العاصمة صنعاء وتسقطها قبل أن تكمل استيلاءها على السلطة وترتد بالبلاد إلى حقبة قاتمة.

حيال ذلك, لم يزد رد الفعل السياسي عن أن قواه تسمرت في محطة الانتظار, تترقب انقشاع آثار تلك الصاعقة حتى تستأنف نشاطها السياسي الاعتيادي كما لو أنها لم تستوعب حجم هذا التحول وعواقبه.

وليست مباغتة تلك الأحداث للحركة السياسية هي ما أثبتت انكشاف الأخيرة وعدم جاهزيتها, إذ ستبرهن على غيبوبتها وعجزها حتى حينما أتاحت لها هذه المناسبات الثلاث الكبيرة فرصة لاستعادة عافيتها وإثبات صلتها بالحركة الشعبية في مواجهة مراكز نفوذ ونظام متسلط.

فقد تصرفت القوى السياسية في كل مرة, كأن الأمر أُسقط في يدها فلزم أقربها إلى الحراك الجنوبي مقعد المراقب من الانتفاضة الجنوبية وراح بعضها يستثمر في الانتفاضة أو يزايد عليها. 

وفاوضت الأحزاب السياسية باسم الساحات المنتفضة في 2011, متعهدة بحل سياسي يحقق التغيير الذي خرج ملايين المحتجين من أجله. ومع أن حصيلة التغيير العائدة من الحل السياسي كانت ضئيلة وأقل من المأمول, إلا أن ذلك القدر أيضاً أتت عليه الثورة المضادة بعدما دب الشقاق في صف الأحزاب التي كان عليها السهر على ما أحرزته الثورة الشعبية وحمايته.

علاوة على أن الأحزاب أهدرت تلك الفرص الثمينة لتمتين صلاتها بطبقات الشعب وجماهيره فقد تلقت عقاباً من صنف ما بدر منها, إذ صبً عليها الحراك الجنوبي نقمة أشد مما صب على النظام وعدها متآمرة على الجنوب, داعياً أعضاءها إلى تقديم استقالاتهم منها والعمل من خارج أطرها إذا رغبوا الاشتراك في الانتفاضة الجنوبية.

وبقدر ما في رد فعل الحراك من نزعة شمولية وإقصائية, بيد أنه تعبير عن مدى خيبة المنضوين في فصائله من أداء الأحزاب السياسية وتخليها عن تمثيل الأفراد والمجتمعات المحلية التي هجرت روابطها العشائرية والقبلية والجغرافية وعولت على السياسة التي وجدت فيها بديلاً حضارياً عن الروابط القديمة.

كذلك كانت نغمة المناهضة للأحزاب السياسية قد علت لدى انطلاق ثورة فبراير في 2011 قبل أن تخفت ويحتويها فضاء الساحات التي استوعبت أعضاء الأحزاب نفسها.

واليوم, يجد الأفراد الذين فككوا روابطهم القديمة ما قبل السياسية واعتصموا بالرابط السياسي أنفسهم مكشوفين بلا حماية, سواء في أمنهم الخاص أو في مشروعهم السياسي في مقابل أن الأفراد الذين تمسكوا بروابطهم القبلية والعشائرية يشهدون مشروعهم في موقع الهجوم على المشاريع الأخرى.

ما تبدو عليه القوى القديمة من تنظيم وتماسك ومبادرة إلى موقع الهجوم على القوى الجديدة التي تبدو ممزقة وتاهت نخبتها عن موقعها الجدير بها في الصراع الحالي لا يشكل هزيمة آنية أو عسكرية بل هي هزيمة استراتيجية وتفريط بنضالات أكثر من نصف قرن في سبيل التحديث والحرية.

ذلك لأن تداعيات هذا الصراع وتبعاته مرتبطة بالمستقبل, فالروابط القديمة أفادت منه لتكمل مشروعها في إزاحة الروابط الجديدة وبهجمتها المسعورة في الوقت الحالي, تتبجح علاقات المشروع القديم قائلة بلسان حالها لأنصار المشروع السياسي الجديد إن مشروعهم كان أمنية متطاولة فقط.

أما القوى الجديدة التي كان جديراً بها الإفادة القصوى من الصراع في حشد طبقات الشعب وقواه للقضاء على المشروع القديم, مستفيدة من البراهين العملية التي أدان بها نفسه بوصفه مشروعاً للعنف والفقر والتخلف, فقد أهدرت هذه الفرصة التاريخية حتى الآن.

ويمكن استشراف ملامح هزيمة الروابط السياسية في طريقة التفكير التي غدت مهيأة لأن تسيطر على التجمعات التي كانت هجرت السلاح, أملاً في أن تحتكر الحكومة استخدامه أو على أفرادها الذين كانوا قد انفتحوا على فهم القضايا بآفاق وطنية أو قومية أو إنسانية.

تلك التجمعات ستعود لاقتناء السلاح للدفاع عن نفسها وهؤلاء الأفراد سيتقهقرون لمقاربة تلك القضايا بآفاق قروية ومناطقية أو طائفية.

ولم يكن ذلك التطور الجزئي الذي انتقل في إطاره أفراد ومجتمعات إلى العمل السياسي والكفاح السلمي من أجل إحلال التحديث والديمقراطية بالأمر السهل, بل يمكن اقتطاف لمحة عن ثمنه الباهظ في ذلك الكفاح المرير الذي طال عقوداً وذلك العدد الكبير من الرجال الذين اختفوا قسراً أو قضوا سنوات في غياهب المعتقلات, ذاقوا خلالها صنوف الأهوال والتعذيب, ثم في أولئك الذين تشردوا أو بذلوا مهجهم دونما من.

وإخفاق الساسة المتأخرين في إيصال المشروع الذي بذل أسلافهم لأجله كل ذلك, إلى موقع الفعل أو حتى حماية ما كانوا قد أنجزوه لا يعني سوى هدر تلك التضحيات.

ولئن أبانت الأحداث عن تلك الحال المزرية التي تعيشها الحركة السياسية مقابل جاهزية القوى التقليدية وانسجامها, فالمؤشرات الراهنة تنبئ عن أن حال الحركة السياسية في المستقبل سيكون أشد اعتلالاً وانسحاقاً تحت عجلات قطار التحولات التي تمضي قدماً وتفرض قوانينها دون انتظار للمترددين والعاجزين.

فنتيجة الصراع الدائر لن تخرج عن ثلاثة مآلات, جميعها لا مكان معها للقوى السياسية الحديثة ما لم توحد جهدها وتنتظم خلف مشروع واحد, تعمل على تحقيقه بآليات تلبي شروط الواقع الوطني وظروفه.

فإما أن تضع السعودية إمكاناتها العسكرية والمالية خلف الرئيس هادي مع ضوء أخضر من القوى العالمية حتى تمكينه من حسم الصراع وبسط سلطته, أو أن حلف صالح والحوثي يحسم الصراع لمصلحته بطريقة ما ويرتهن للسعودية مجدداً مقابل رضاها عن استمرار سلطته.

وفي المصير الثالث, قد يتقاسم هادي ورجالاته السلطة مع صالح والحوثي وفق تسوية سياسية, تشرف عليها الدول الكبرى وتقر بالمخاوف السعودية عند حدودها الجنوبية.

في المآلات الثلاثة, ستجد قوى السياسة الحديثة نفسها خارج اللعبة؛ فهادي سيتعامل مع كثير منها بدافع ثارات قديمة وجديدة, وقبل ذلك له أفقه المحدود الذي يحيله في كل مرة على أدوات ورجالات تشبهه هو فقط وتدور حول مشروعه.

الأفق والثارات تلك لدى الرئيس ستحول دون انفتاحه على القوى السياسية التي لها مشروعها المستقل, ولن تستطيع العمل داخل حدود تصوراته للقضايا الوطنية.

أما صالح والحوثي فمشروعهما نقيض مبدئي وخصم تاريخي لمشروع التحديث وحرية الشعب وتقدمه, لذا ففي حال انجلى غبار الحرب عن بقاء الرجلين في السلطة فستستيقن الحركة السياسية حينذاك مدى تعاسة المصير الذي خبأته لنفسها داخل تفاصيل عجزها وتنافرها.

وإذا كانت التسوية السياسية المبرمة في 2011 اقتطعت للقوى الحديثة رقعة هامشية صغيرة من الملعب الذي أبقت عليه للقوى التقليدية لتواصل لعبتها, مع أنها أعقبت ثورة شعبية غير مسبوقة في التاريخ السياسي اليمني الحديث, فأي تسوية قد تفلح في إنهاء الحرب لن تلتفت للقوى السياسية التي تنحت جانباً وتركت لقوى ما قبل السياسة قرار السلم والحرب.

فالتسويات التي ينصب هدفها الأساس على وقف الحرب تركز على لجم فوهات البنادق بما يعني بالضرورة ترتيب مصالح أصحابها والتوفيق بينهم كي يسكتوا بنادقهم, الأمر الذي لا يتطلب عناء للتوقع بأن تلقي التسوية السياسية بالقوى المتفرجة خارج إطارها, فهي تسوية للصراع وأدوار المتصارعين ولا يعنيها أن تتطوع لصناعة أدوار لمن نأوا بأنفسهم عنه.

والحرب التي شنها صالح والحوثي على رأس تحالف رجعي فاشي هي في أحد وجوهها تثبيت لمصالح طبقات هي التي تدفع بأبناء عائلاتها للقتال وتضخ المال وتتعزى بمغانمها من الحرب كما خططت كلما فقدت أعزاء لها.

في المقابل, تُركت طبقات الشعب التي انخرط أفرادها في العمل السياسي وارتبطت مصالحها بالعمل والإنتاج هدفاً مكشوفاً لحرب صالح والحوثي بعدما تخلت عنها الأحزاب, قائلة إن هذا الصراع لا يعنيها.

وهكذا تتجلى جناية الأحزاب على نفسها وعلى جماهيرها.

وإذا كانت جماهير الأحزاب قد عاقبتها في السابق, انطلاقاً من اعتقادها بأنها خذلتها باستسلامها للضعف وتقاعسها عن تشكيل معارضة قوية تستطيع انتزاع الحقوق للناس من النظام الحاكم فالمتوقع أن يجيء عقابها على نحو أقسى في المستقبل رداً على خذلانها في توقيت حرج.

على أن ما يُدعى هنا عقاباً هو في الأصل تعبير عفوي عن يأس الناس وإحباطهم من جدوى العمل السياسي ومن ثمً عزوفهم عن المشاركة السياسية.

وكلما عزف الأفراد عن العمل السياسي, تدبروا لأنفسهم مواقع داخل بنى تعمل بالروابط والعلاقات ما قبل السياسية التي كانوا قد غادروها, مما يجهض التطور السياسي ويعيد توجيه مساره إلى الوراء.

قراءة 4469 مرات آخر تعديل على السبت, 12 كانون1/ديسمبر 2015 18:39

من أحدث

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة