طباعة

العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد الاستبداد (2-1)

الثلاثاء, 26 أيلول/سبتمبر 2017 18:00 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

صدر العدد الجديد من مجلة (الفيصل) 31 اغسطس 2017م يحتوي ملفا عن العلمانية شارك فيه نخبة من المفكرين والباحثين العرب من بينهم:د. حسن حنفي  د. جليبير الاشقر د. موسى براهمه ، واسماء اخرى ،وجاءت  مساهمة الاستاذ قادري في العدد/الملف حاملة العنوان التالي: العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد الاستبداد ننشره على حلقتين.

مفتتح:

جواب - سؤال المداخلة / المجلة ينطوي على شقين : الأول هو فشل التيارات والفكر العلماني في سياق التجربة (الممارسة /النظرية) ، وأما الشق الثاني فهو إمكانية أو ضرورة معاودة الشغل لاستعادة فعل الإصلاح والتنوير في واقع اجتماعي سياسي يزداد انكشافا على حالة : مذهبية ، طائفية ، قبلية ، ، ، وجواب السؤال ذي الشقين محتواهما يعكسان محنة العقلانية والتنوير ، بقدر ما يعكسان أزمة بناء الدولة وتطور المجتمع في منطقتنا من أواخر الأربعينيات ، وبداية الخمسينيات والستينيات حتى اليوم ، جوابا سؤالٍ يتعلقان بأزمة الفكر (الأيديولوجية) وأزمة النظام /الدولة ، ازمة مركبة ، والعلاقة فيما بينهما دالة على وحدتهما ، وتكاملهما في سياق الممارسة الواقعية ، كل منهما يشير إلى الآخر ويقود إليه ، ويكمل تعريفه ، ولذلك أعتبر سؤال المجلة دعوة للحوار العقلاني المفتوح .

إشكالية نشأة وبناء الدولة العربية المعاصرة :

يمكننا القول إن نشأة الدولة والنظام السياسي العربي الحديث والمعاصر ، إنما كان مع بداية انتهاء الحرب العالمية الأولى ، وسقوط دولة الخلافة العثمانية -والتي سبقها إعلان اتفاقية سايكس / بيكو- حيث إن انتهاء الحرب العالمية الأولى كان إيذاناً ومؤشراً إلى ذلك التفكك والسقوط ، على قاعدة صعود القومية التركية "العسكرية"، التي بدأت بوادرها مع حركة التنظيمات والإصلاحات في قلب دولة الخلافة ، ومن ثم تقاسم تركة الرجل المريض ، والتي رافقها انهيار النظام الاستعماري الإمبريالي (الغربي) ، والأمر الآخر الهام في هذا السياق هو صعود مد ونضالات حركة التحرر الوطني والقومي والعالمي للتخلص من الاستبداد والاستعمار . ومن هذه المقدمات ، والمناخ نشأت وولدت الدولة الوطنية العربية المعاصرة في كل المنطقة العربية –بدرجات متفاوتة - بما فيها دولة الإمامة الحميدية في اليمن 1918م ، والدولة السعودية 1932م ، وغيرهما من الدول العربية الكبرى (مصر ، سوريا ، العراق) ومنها دول جديدة نشأت وتكونت بعد ذلك (الخليج)  وجميعها دول ، وأنظمة ولدت حاملة إرث الدولة السلطانية التي خرجت من عباءتها (نظرياً وسياسياً، وعملياً) الدولة التقليدية السلطانية ، بعصبياتها ، القبلية والعشائرية ، والجهوية ، والمذهبية والدينية (الطائفية) ، بقدر ما حملت في داخلها أفق وإمكانات مشروعها السياسي الوطني الجديد (الدولة الوطنية) وهي الثنائية التي رافقت وما تزال تكوينات الدولة ، والنظام –بل والفكر-في كل المنطقة العربية –بهذه الدرجة أو تلك- حيث وجودها وكيانها السياسي والمادي / الاجتماعي  وُجد، وتشكل حاملاً إرث السلطنة ، جامعاً بين شكلي العصبية التقليدية (السلطانية) وبين مضمون الوطنية الحديثة ، دولة ومجتمع يتنازعهما هذان الملمحان أو البعدان ، وهي واحدة من إشكاليات تطورها الموضوعي التاريخي (ملكي / جمهوري) . إن مصطلح ومفهوم الدولة الحديثة المعاصرة هما أفكار ومفاهيم سياسية جديدة لم يعرفهما الفكر السياسي العربي إلاَّ في مرحلة متأخرة ، وبالعودة للذاكرة السياسية التاريخية لمعنى ومفهوم الدولة في العقل السياسي العربي ، وتحديداً في اليمن ، والخليج وغيرها نجده يتمحور ويتحرك في إطار المفهوم الواقعي التاريخي التقليدي للدولة : دولة الوحي والنبوة (الرسالة) ، أو في دولة الخلافة الراشدة التي لم تعمر طويلاً ، أو في شكل الدولة الأموية ، العباسية ، والعثمانية ، والفاطمية والوهابية ، والرسولية والصليحية كما هو في حالنا في اليمن ، ودولة الموحدين  والمرابطين وبني عباد في دول المغرب العربي دويلات الطوائف في العصر الأندلسي، وما نراه اليوم متجسداً في شكل صراعات عنيفة ودامية ، صراعات ما قبل وطنية ، وما قبل الدولة ، بدءاً من العراق ، وسوريا ، واليمن ، وليبيا ، ولبنان والقائمة مفتوحة ، سوى نتيجة للتعاطي السلبي مع قضايا السياسة ، والاجتماع ، والتنمية ، والموقف من الآخر ، وجميعها عائدة إلى ذلك الإرث السلطاني : الأوتوقراطي ، والثيوقراطي ، سواء على مستوى الفكر العلماني ، أو في اتجاهه الديني ، أو على مستوى إدارة السلطة والدولة . فشل في الايديولوجية في تعبيراتها المختلفة ، وفشل وعجز في تجربة بناء الدولة ، ولعب غرس الكيان الصهيوني الاستعماري في قلب المنطقة دوراً محورياً إلى جانب ما سبق في استكمال صورة المعوقات التي تعيشها منطقتنا حتى اللحظة.

العلمانية في الممارسة السياسية:

العلمانية في الممارسة السياسية نجد لها بذوراً أولية مادية ، حاضرة وقائمة في العديد من تجارب الدول السياسية التاريخية الدينية –وغيرها (اليهودية والمسيحية والإسلام) أي العلمانية كمجال للنشاط الاقتصادي والإنتاجي ، والعلمي ، والتنظيمي والإداري والمالي ، قبل أن تتخذ العلمانية تجلياتها المفهومية الاصطلاحية السائدة اليوم ، وهو ما يمكننا تسميته اتفاقاً مع د. عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية.

كانت الثورة الفرنسية 1789م هي النموذج السياسي الصارخ والعنيف في تعيير العلمانية السياسية كثورة عنيفة عن نفسها في مواجهة سلطة الكنيسة التي اشتبكت مع الثورة ، حين دخلت طرفاً فاعلاً وقوياً في الصراع لمواجهة قوى الثورة الفرنسية وضدها ، وهو ما وسم التحول السياسي والاجتماعي للثورة بطابع ، الصراع الدموي والعنيف ضد بعضهما البعض ، ومن هنا تجلى الطابع المعادي للكنيسة ورموزها الدينية (الكهان والقساوسة) وحتى ضد الطقوس الدينية (الدين) في صورة عداء للمسيحية ، بعد أن حمل رجال الدين السلاح مباشرة في الصراع السياسي ضد الثورة ومع الاقطاع والملكية ، بحكم النفوذ السياسي والاقتصادي الذي كانت تتمتع به الكنيسة ورموزها ، ومن هنا الدعوة الصريحة والحادة لفصل السياسة عن الدين ، والدولة عن الدين ، وهو ما ارتد ممارسة سلبية ليس فحسب ضد الكنيسة ، بل ضد الدين نفسه ، وهو ما ارتسم في المخيال الأيديولوجي والسياسي بأنه عداء العلمانية (الدين الجديد) ضد الأديان ، وجرى تعميمه على كل المسار السياسي للتجربة السياسية العلمانية ، مع أن هناك تجارب سياسية للعلمانية في سياق بناء الدولة البرجوازية (الرأسمالية) والتي اعتمدت اشكالاً سلمية للعلاقة بين الدولة ، والدين وفي صدارتها التجربة البريطانية التي تقف المؤسسة الملكية (الملك) على رأس الكنيسة ، ورمزاً لها ، ولم يتجسد فيها البعد الصراعي العنيف في العلاقة بين المشروع السياسي لبناء الدولة والدين ، بل إن مجلس اللوردات فيه مجموعة من القساوسة ، كما هناك التجربة السياسية الأمريكية التي تحمل عملتها الدولار عبارة (نحن نثق بالإله) كرمز للحضور الديني في أدق تفاصيل وجود الدولة ، وفي أهم أشكال رمزيتها تعبيراً عن القوة والسيادة والسلطة (المال) ، وفي التجربة الألمانية نشهد أحزاباً دينية مسيحية تمارس حضورها الشرعي والتشريعي والسياسي ، حتى وصولها إلى قمة السلطة، على قاعدة اعترافها بالدستور والمساواة ، والقيم و المبادئ العليا للدولة.

وفي تقديرنا لم تظهر الحمولة الأيديولوجية والسياسية السلبية في منطقتنا تجاه العلمانية إلا مع سقوط دولة الخلافة العثمانية ، وتحديات الدولة التركية العلمانية القومية  العسكرية لإرث الدولة العثمانية في بعدها الديني  والسلوكي بصورة اجتثاثيه (تصفوية) وفي موقفها العدائي  ضد العروبة (لغة / وقومية) وكان لنشأة وحضور الخطاب السياسي الإسلامي على يد محمد رشيد رضا ، ومن بعده حسن البنا (الإخوان المسلمون) كحركة سياسية 1928م ، دورا مركزي في الشغل على هذا البعد والمعنى ، وخاصة بعد إسقاط محاولة تولية  الملك فؤاد خليفة للمسلمين ، وبعد الحرب العالمية الثانية وصعود الصراع الأيديولوجي كعنوان للحرب الباردة ، تمظهر البعد السياسي للعلمانية باعتبارها شيوعية / وماركسية ، معادية للدين ، حيث جرى تهريب مصطلح العلمانية من حقله الدلالي المعرفي ، والواقعي ليدخل طرفاً في معادلة الصراع السياسي بين الرأسمالية ، والاشتراكية ، وساعدت خطايا التجربة الاشتراكية (الستالينية) في موقفها العدائي من الدين في الترويج لتعميم هذا المعنى والمفهوم السياسي الاستنكاري والسلبي للعلمانية.                  

قراءة 3992 مرات

من أحدث قادري احمد حيدر