طباعة

العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد الاستبداد (2-2)

السبت, 30 أيلول/سبتمبر 2017 16:48 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

العلمانية كرؤية ومفهوم :

لقد انعكست سلباً تجربة العلمانية في الممارسة السياسية في تعريف وتأطير مفهوم العلمانية باعتبارها عقيدة وضد الدين/ الأديان، مما أوجد حالة وعيز مشوشة ومضطربة في العقل السياسي الإسلامي –أو لدى قطاع واسع منهم – بعد اختزالها واختصارها في تعريفات  وتلخيصات سياسية سالبة لا صلة حقيقية لها بجوهر مفهوم العلمانية.

إن العلمانية نتاج عملية معرفية فكرية ثقافية ، اقتصادية ، علمية ،إنتاجية حضارية معقدة، متداخلة ومتطورة في السياق التاريخي (تشمل اتجاهات الحياة كلها) وغير دقيق اختزالها في مفهوم أيديولوجي / سياسي محدد: العداء للدين، ومن أنها الحادية ، وإقصاء للدين عن المجتمع والحياة ، العلمانية ، مفهوم أعمق وأشمل من دائرة فصل الدين عن الدولة ، وفصل السياسة عن الدين ، وهي كما تقول التجربة السياسية الملموسة اليوم لا تعني ولا تقول بتحرير الناس من دينهم ، ولا تتدخل بإيمانية المجتمع وعقائده ، قدر ما تعني تحديد مجال عمل مؤسسات الدولة ، عن مؤسسة الدين دون مساس بجوهر الدين واعتقادية الناس . إن مصطلح العلمانية كما يشير د. عبدالوهاب المسيري وهو مفكر إسلامي ليبرالي  في كتابه القيم عن العلمانية ، من أنها مصطلح خلافي جداً ، شأنه شأن مصطلحات أخرى مثل (التحديث ، والتنوير ، والعولمة) وفي تقديري أنه من أكثر المفاهيم التي حملت ما لا تحتمل من الدلالات المحرضة والتنفيرية على المصطلح والمفهوم ، وجعله بؤرة للعداء والصراع ، تجلى وظهر معه المصطلح ، وكأنه عقيدة دينية مقابلة ومضادة للأديان السماوية المقدسة ، مع أنه منتج معرفي فكري ثقافي رأسمالي (برجوازي) في تاريخيته ، لقد استحال مصطلح العلمانية في خطاب حركات الإسلام السياسي وحتى  في الخطاب الرسمي العربي إلى تهمة تعادل الكفر ، والإلحاد ، والإباحية ، والتحريض على الخروج من الأديان ، علماً أن التجربة الواقعية (المعاصرة) لنا كعرب أظهرت حالة من التداخل والتماهي فوق العادة بين الدين والدولة  وبين السياسة والسلطة، والدين ، والحالة اليمنية في مرحلة علي عبدالله صالح نموذج صارخ لذلك في صورة علاقة المؤسسة الدينية والأمنية الرسمية بالتطرف  والإرهاب حتى أن البعض كان يتحدث عن "قاعدة الرئاسة" "وقاعدة النظام" ، والتقارير الدولية تشير إلى ذلك بالجملة وهو ما يعني  أن العلمانية كممارسة وتجربة سياسية اقتصادية اجتماعية  وثقافية وحياتية هي(تنظيم سياسي للإدارة والمجتمع والدولة ) حاضرة بأشكال مختلفة في جميع التجارب السياسية لبناء الدولة ،  والتجربة العملية في منطقتنا العربية (ملكية أو جمهورية) تقول بتعايش العلمانية والدين ، دون تعارض ، فقط الشأن السياسي هو من أنتج ذلك التعارض الحدي فيما بينهما.

العلمانية : وحركات الإسلام السياسي:

في البداية يجب الإشارة والتأكيد إلى أنه لم يكن بالإمكان الإجابة على سؤال المجلة –إجابة جامعةً مانعة- حول فشل المشاريع والتيارات العلمانية أمام الإسلام السياسي والفتاوى والخطب ، وحول مستقبل التيارات والدولة العلمانية في بلداننا التي تعاني المذهبية والطائفية ، خاصة في المرحلة الراهنة التي تمر بها منطقتنا من المحيط إلى الخليج دون ذلكم العرض الموجز، والمركز للخلفية السياسية والفكرية والتاريخية ،  حتى لا نجد أنفسنا وإياكم أمام نتائج راهنة مفصولة عن سياقها الموضوعي التاريخي ، أو بتعبير دقيق بعيداً عن الخلفيات الشارحة والمفسرة لهذه النتائج ، أي العلل والمقدمات ، والأسباب المنتجة لها التي احتواها السؤال المزدوج ، حتى لا نقع في ورطة المصادرة على المطلوب كما يقول الفلاسفة ، ولذلك كانت تلكم الإطلالة السريعة والموجزة والمكثفة ، لنقف على حقيقة الإطار العام للإجابة على سؤال المجلة ، علماً أن جزءاً من الإجابة في إطاره العام قد احتوتها لماماً وضمنياً سطور الخلفية التي عرضنا لها.

حركات الإسلام السياسي :ومفهوم الدولة والوطن والشعب .

إن حركات الإسلام السياسي في نشأتها النظرية  والسياسية العملية التاريخية إنما وجدت كحالة رد فعل لتفكك وسقوط الدولة العثمانية (دولة الخلافة) وجذر نشأتها مناقضاً لفكرة وقضية الدولة الوطنية العربية المعاصرة ولفكرة الجماعة  الوطنية (الشعب) حيث دولة الجماعة ووطنهم هو الامتداد الجغرافي ، والديمغرافي في حدوده (المكانية) الإسلامية  كلها ، دولة خلافة عالمية جديدة في إطار تنظيمي سياسي "الاتحاد الدولي لعلماء المسلمين " دولة أيديولوجية مصغرة" استمرار لدولة الخلافة ولذلك فإن فكرة دولة الخلافة هي عنوان تنظيمي أيديولوجي سياسي محوري في أدبيات جميع تنظيمات وحركات وجماعات الإسلام السياسي بمختلف عناوينهم ، وتسمياتهم ( سنية /شيعية ) (خليفة / إمام معصوم الولي الفقية)حيث الشعب هو كتلة / جماعة افتراضية مفتوحة موحدة لا تنتظمها حدود جغرافية وطنية (قومية) ولا يجمعها انتماء وطني عرقي/قومي(اثني) ، الانتماء والولاء هما حصراً لفكرة وقضية الجماعة الدينية الإسلامية ، وهي أقوى وأعمق من جميع الروابط الوطنية الداخلية ، أممية دينية عالمية مقابلة لجماعات التطرف اليساري الماركسي (الأممية الاشتراكية ) ، وهنا تكمن الأزمة السياسية التاريخية اليوم في علاقة بعض حركات الإسلام السياسي بالدولة، والوطن والشعب ونماذجها الصارخة : القاعدة وأنصار الشريعة وجبهة النصرة، وداعش وتدخل معهم عصائب أهل الحق والنجباء، وفيلق بدر والحشد الشعبي  والحرس الثوري الإيراني وبعض الجماعات السياسية التكفيرية الجهادية، ولم يتحرر من هذا الوعي والخطاب في ما هو كتابة وبيانٌ منشور سوى ما أعلنه حزب النهضة في تونس وبعض الكتابات المحدودة للبعض هنا أو هناك .

العلمانية : والدولة الوطنية العربية المعاصرة .

إن مشكلتنا في المنطقة العربية مع مشروع بناءالدولة الحديثة في إطارها العلماني العام هو تدثيرها للعلمانية بالروح والصيغة الاستبدادية في بداية صعودها ثم بالفساد المعمم في المسار السياسي اللاحق للتجربة ، وهو ما تبدى في معظم تجليات ممارسة بناء الدولة على أسس وقواعد مدنية علمانية عسكرية ولا ديمقراطية، والأمر ذاته – بدرجات متفاوتة – ينطبق على  أشكال الحكم العربية ( جمهورية ، ملكية ) في رؤيتها وموقفها من العلمانية ، فقد ناصبت أشكال الحكم الملكية الفكرة العلمانية العداء في الخطاب باعتبارها عقيدة في واقع الصراع الأيديولوجي العالمي الدائر في قلب الحرب الباردة مع حضور تجليات العلمانية : كقوة مادية ، وإنتاجية وتقنية وصناعية وعلمية وقانونية ، وتنظيمية إدارية ومالية (البورصة) وفي جميع صور وأشكال تعاملها مع مكونات بناء الدولة ، والنظام السياسي في تكويناته المختلفة(البنية التحتية الرأسمالية  والبنية الفوقية بدرجة أقل)،  لقد دمغت ووصمت دولة الاستقلال والدولة الوطنية القطرية العربية الحديثة، السياسة والمجتمع والثقافة ونظام الحكم بالاستبدادين : السياسي والعسكري ، حيث الحزب الواحد الثوري ، (صانع الاستقلال) والجيش ( مجلس قيادة الثورة ) هما رمزا السلطة والسيادة ، فالحزب هو قائد الدولة والمجتمع (جنوب اليمن /سوريا ،العراق والجزائر) وجميعها دون استثناء نماذج ناصبت السياسة الديمقراطية العداء وواجهت الديمقراطية السياسية في أحسن الأحوال بمنجزات الديمقراطية الاجتماعية التي امتصها الفساد وقضى عليها تدريجياً الاستبداد ،وفي هذا المسار الصعب والمناخ الطارد للسياسه المدنية ، تحولت العلمانية في صورة عقيدة الحزب (أيديولوجيته ) إلى طوطم ، وسوط وكتاب مقدس –لا يتسع المقام لبحث ذلك – استحالت معه العلمانية كشكل للتنظيم الاقتصادي والإداري والمالي والثقافي إلى استبداد وفساد بل وحملت  العلمانية في سياقات وأوضاع معينة ما هو فائض عن قدرتها على احتماله بعد تحولها على يد خطاب أيديولوجية الحرب الباردة المصطرعة في منطقتنا إلى كفر وإباحية وعداء للدين.

أن جذر الأزمة في عجز وفشل الفكرة العلمانية سواء على صعيد الأحزاب أو على مستوى بناء الدول هو غياب خطاب نقد الاستبداد وتعميم حالة الفساد ، وعدم الاعتراف بالأخر والقبول بحقه في أن يكون ما يريد لا ما نحن نريده له ، وتحول الفكرة والممارسة العلمانية (المدنية) في تجربة الأحزاب الواحدية (الشمولية) المعارضة أو الواقعة في قمة هرم صحن الحكم (قومية اشتراكية ليبرالية) إلى أحادية محتكرة للسياسة ، وللحقيقة في ذاتها (توليتارية) بعد تحويلها العلمانية إلى استبداد.

لقد علقت أنظمة الحكم الوطنية الاستقلالية (العلمانية)في صيغها الأيديولوجية القومية واليسارية الاشتراكية ، والليبرالية حل المسألة الديمقراطية على مشجب حل المسألة الاجتماعية ، وتحت شعار وغطاء حل المسألة القومية ، ومواجهة الاستعمار والامبريالية خلف شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" و"لا صوت يعلو فوق صوت الحزب الواحد" والنتيجة السياسية والعملية التي تفقأ العين أننا لا أنجزنا حل المسألة الديمقراطية ، ولا خلقنا قواعد راسخة متينه للتنمية على طريق إذابة أو إزالة الفوارق بين الطبقات ، كما رفعتها أدبيات وبيانات هذه الاحزاب والأنظمة /الدول ولا بالمقابل دخلنا المعركة ، وانتصرنا ، بل أننا حولنا بعض انتصاراتنا الجزئية العسكرية إلى هزائم وخسائر سياسية ، فالمسألة القومية (القضية الفلسطينية) ما تزال معلقة ، وتتعقد صور ومداخل حلها بعد أن نخر الاستبداد والفساد الطرائق السياسية والعملية للدخول إلى إنجازها ، وعلائم الفشل والعجز تجاهها جلية وفاضحة في صورة تجليات ما يحصل اليوم وأمس في المسجد الأقصى ، وتهويد القدس ، والاعتداء على المقدسات في كل يوم ، ويبلغ الفشل ذروته في الممارسة الاجتماعية والثقافية والتعليمية (تعليم ماضوي )حيث نشهد اليوم انبعاثاً  للهويات القاتلة - حسب تعبير الروائي أمين معلوف –الهويات ما قبل الوطنية ، وما قبل الدولة : المذهبية والطائفية والقبلية والمناطقية ،  ومحاولات حرف الصراع السياسي من قبل  البعض (ميلشيات/ودول إقليمية) إلى عنوان لصراع مذهبي / طائفي (ديني)(سني شيعي) وحضور الخارج الإقليمي والدولي في داخلنا بسبب ما تركناه من فراغ في السياسة وفي حالة الأمن القومي العربي ، الأمر الذي جعل الفضاء والمدى الجيو/ سياسي القومي لنا منتهكاً ، ومنتهباً حضر بعض أطراف الخارج الإقليمي ليملؤوه بدلاً عنا (إيران /تركيا /إسرائيل) وهو قمة تعبير الفشل عن نفسه لنا كأحزاب وإفكار ودول.

5.-مستقبل الدولة (العلمانية)بعد تجارب الفشل :-

يبدو أننا لم نتعلم من درس هزيمة حزيران /يونيو 1967م –التي نبهنا إليها صادق جلال العظم مبكراً في كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة – ولذلك وجدنا أنفسنا نكرر مآسينا في صورة الأخطاء اللاحقة للهزيمة في شكل هزائم متعاقبة وتجارب فشل متكررة ، أعدنا وما نزال نعيد إنتاجها ، سواء على مستوى المشروع (العلماني والديني) الفكر أو الحزب ، أو على صعيد تجربة بناء النظام السياسي (الدولة الوطنية) في شكليها (الجمهوري /الملكي) وليست صراعات المشاريع الصغيرة سوى تعبير عن ذلك المنحى من الأزمة ، كما ليست التمظهرات المذهبية والطائفية والقبلية والدينية والعرقية (الأثنية) الصارخة في صورة المشهد السياسي والعسكري القائم بدءاً من العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان –والقائمة مقتوحة – سوى تجسيد سياسي واقعي من أننا لم نجب على الأسئلة السياسية الحية والتاريخية ، ومن إعادة طرح الأسئلة القديمة /الجديدة نفسها على جدول أعمالنا مجدداً : أسئلة التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية ، هي أسئلة الاستقلال والوحدة ، أسئلة الديمقراطية وحقوق الإنسان (العيش المشترك) وأسئلة العلاقة بالخارج ، وبالعولمة ، ولذلك نجد أنفسنا نقف أمام أسئلة قديمة /جديدة وإن بصورة أكثر تعقيداً وحدة ، والمطلوب اليوم منا جميعاً علمانيين وإسلاميين قوميين واشتراكيين وليبراليين ، الإجابة عنها وعليها بصورة واقعية ومعاصرة تلبية للاحتياجات الداخلية (الوطنية/والقومية) لدولنا ومستقبل شعوبنا في ضوء المتغيرات الجذرية الدولية والإقليمية ، التي تحاول فرض منطقها الخاص علينا بعيداً عن الحاجات الموضوعية والذاتية لتقدمنا بعد أن أثبتت الأنساق القديمة السياسية والفكرية والاقتصادية والتنظيمية والإدارية والقانونية والقضائية ، تعثرها أو فشلها في العديد من تجاربنا الفكرية السياسية العلمانية وغيرها سواء على مستوى الأحزاب والأفكار أو الأنظمة / الدول ، وهي باختصار أزمة في الفكر والثقافة وفي الواقع ، أي أنها أزمة بنيوية شاملة متجاوزة لحدود أزمة الأنظمة الثقافية والفكرية ، تمتد إلى العمق السياسي في شقية : أزمة المكونات السياسية (الأحزاب) وأزمة أنظمة الحكم ، أزمة يشتبك فيها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعرفي والديني ، أزمة يتوحد  ويتما هي فيها العلمي بالغيبي ، العقلاني بالإيماني ، الميثولوجي /الأسطوري بالواقعي ، وهو ما يستدعي حضورنا الفاعل كذات(أفراد)، ومجتمع وأحزاب ، وأنظمة حكم بدرجة عالية من الوعي المقاوم بحكم حجم التحديات الإقليمية ، والدولية التي غدت تؤثر في الواقع الداخلي لنا على أكثر من مستوى . اليوم سؤال حل الأزمة والانتقال إلى مرحلة جديدة من التفكير والعمل على طريق بناء الدولة واستعادة عافية المجتمع المتشظي بأيدينا ، إن أحسناَّ إدارة الأزمة لصالحنا مع الداخل منا ومع الخارج (الإقليمي والدولي) الذي يحاول أن يتغول علينا ، وبأيدينا أوراق عديدة لتجاوز تجاربنا الفاشلة على صعيد الفكرة العلمانية والممارسة السياسية والدينية أول هذه الأوراق وحدة الصف الوطني والقومي على أسس اقتصادية جديدة (وحدة اقتصادية) ، وثانياً الحركة باتجاه خلق   كتلة سياسية اجتماعية / قومية تاريخية ، وثالثاً التعود على إدارة أزماتنا الداخلية بصورة نقدية ، وديمقراطية وعقلانية . ورابعاً استثمار الموقع الجغرافي الاستراتيجي (المكان) بصورة مثلى ، وبعقل استراتيجي نعيد من خلاله صياغة الحالة الجيو / سياسية لصالحنا كعرب وأقليات وقوميات أخرى خامساً التوجه لإ عادة استثمار الثروة الريعية بصورة تكرس وتوطن العملية الإنتاجية الصناعية والعلمية وتنوع مصادر الثروة على قاعدة إنتاجية صناعية علمية حقيقية .

هل نبدأ؟ هل نفعل لتجاوز تجارب فشلنا الماحقة في السيادة والفكر وفي بناء الدولة؟

قراءة 6006 مرات

من أحدث قادري احمد حيدر