طباعة

الوحدة العربية شرطٌ لتحقيق النهوض الحضاري العربي الشامل

الخميس, 05 نيسان/أبريل 2018 18:03 كتبه 
قيم الموضوع
(2 أصوات)

 

محاضرة أفتُتِح بها الموسم الثقافي السنوي، للتجمع الوحدوي الشعبي الناصري،

في تاريخ 31 مارس 2018م

 

مقدمة:

تراجعت قضية الوحدة العربية، في العقود القليلة الماضية، تراجعاً ملفتاً للنظر، وأضحى الحديث عنها، بين الحين والآخر، يكاد يقتصر على بقايا الحالمين، من مناضلي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم (القرن العشرين)، الذين ينظر إليهم بعض المثقفين من الأجيال اللاحقة، على أنهم كائنات طوباوية، غير واقعية، غريبة عن العصر وهمومه الحقيقية، المتمثلة بالعولمة والخصخصة واقتصاد السوق والشرق أوسطية، وغيرها من العناوين المثيرة، التي تخطف الأبصار، فإذا ما اقترب المرء منها وجدها السمَّ الزعاف.

ولاشك عندي في أن كل مثقف عربي نزيه، من الأجيال الشابة، لو رجع إلى ذاته وغاص في أعماق نفسه، وتمعن في الواقع العربي، الذي يعيش فيه، لاكتشف أن هذه القضية، أي قضية الوحدة العربية، تشكل قدره الحقيقي وإطاره، الذي يجب أن يتحرك فيه، بل والإطار الذي يجب أن تتحرك فيه وتتعامل من خلاله كل النشاطات السياسية والإقتصادية والفكرية في الوطن العربي. وهو الإطار الذي تستهدفه المخططات الأجنبية المعادية، حتى دون أن تشير إليه. لأن مجرد الإشارة إليه، كفيل بنفض الغبار عنه وإزاحة الرماد من فوقه. ولذا فهي تتجاهله عمداً، لكي ينساه العرب، ولا سيما الشباب منهم، الذين لم يعيشوا زمن الحلم العربي الرائع.

ولأننا من جيل نشأ في زمن الحلم، وعاش مرحلة التحرر الوطني والصعود القومي، وتفتحت مداركه على ثقافة وحدوية، ينهل منها الإنسان العربي على امتداد الوطني العربي كله، فإننا لابد أن نولي قضية الوحدة العربية، التي تكاد أن تنسى، لا بد أن نوليها جل اهتمامنا، لنبقيها قضية حية، في وجداننا ومشاعرنا ونشاطاتنا السياسية وإنتاجنا الفكري. ويأتي حديثنا اليوم، ضمن هذا السياق. فقد اخترنا قضية الوحدة العربية، لتكون موضوع حديثنا، مدفوعين بجملة من الإعتبارات، منها:  

أولاً: إن فكرة الوحدة العربية قد استُهدفت، كما لم تُستهدف أي فكرة أخرى. وبذلت بعض الجهات الخارجية والداخلية، ذات المصالح في بقاء التجزئة وترسيخ التخلف والضعف، بذلت جهودها وسخرت أجهزة إعلامها واستخباراتها، واستخدمت مختلف الأساليب والوسائل، المادية والفكرية والنفسية، لزعزعة الإيمان بالوحدة العربية والتشكيك بضروراتها والتيئيس من إمكانية تحقيقها.

وثانياً: إن التعامل في الحياة العملية، مع القضايا العربية الأخرى، سيبقى متسماً بالضعف والتردد ومحكوماً بالعجز والإخفاق، ما لم يرتكز على إيمان راسخ بوحدة الأمة، وما لم يستند إلى فعل يرقى إلى مستوى هذا الإيمان.

وثالثاً: إن تحقيق النهضة العربية، بكل جوانبها، الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والعلمية وبناء القدرة العسكرية والإرتفاع إلى مستوى الندية في التعامل مع القوى الكبرى في العالم، مرهون بتحقيق الوحدة العربية الشاملة وإقامة الدولة العربية الواحدة، القوية والمهابة في العالم كله.

ورابعاً: إننا أمة واحدة[1]، لغة وتاريخاً وتراثاً وديناً وشعوراً ومصيراً. ووطننا العربي وطن واحد، ممتد جغرافياً دون انقطاع، من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي. وشعبنا العربي شعب واحد، ترجع أصوله، في معظمها، إلى  شبه الجزيرة العربية، ولا سيما إلى اليمن. مما يجعلنا، نحن اليمنيين خاصة، معنيين بإبقاء قضية الوحدة العربية حية في الوجدان العربي، نسلط الضوء عليها باستمرار، ونقف في طليعة الداعين إليها والمناضلين من أجل تحقيقها.    

وسوف أحاول في الفقرات التالية أن أبرز أهم النقاط، ذات الصلة بقضية الوحدة العربية، دون تفصيل، مكتفياً بملامستها، بما يشبه الخطوط العريضة والعناوين العامة، بقدر ما يسمح به الوقت المتاح لهذا الحديث. مبتدءاً بعناوين سريعة لأهم المحاولات والمشاريع الوحدوية في التاريخ الحديث والمعاصر، ثم الضرورات، التي تجعل من الوحدة العربية، قضية وجود، وتدفعنا، وأجيالنا القادمة من بعدنا، إلى النضال من أجل تحقيقها. منتقلاً بعد ذلك إلى محاولة الإجابة عن ثلاثة أسئلة محورية، وهي:

1.    لماذا استُهدفت الوحدة العربية، وما أبرز أشكال الإستهداف؟.

2.    كيف يمكن أن نتعامل مع قضية الوحدة العربية مستقبلاً؟.

3.    من هي القوى السياسية المهيأة للنضال من أجل تحقيق الوحدة العربية؟.

ومنهياً حديثي هذا بتنويه سريع إلى موضوع (المؤامرة على الأمة العربية ومسؤوليتنا نحن).

 

 

 

أهم المحاولات والمشاريع الوحدوية العربية في التاريخ الحديث والمعاصر:

الحقائق الموضوعية، الماثلة في الوطن العربي، كوحدة اللغة والأرض والتاريخ والعقيدة الدينية والقيم والعادات والتقاليد والمصالح المشتركة، وغيرها، جعلت العرب يتوقون إلى توحيد أنفسهم في إطار دولة عربية واحدة، ويعاودون المحاولة تلو المحاولة لتحقيق هذا الحلم.

ويُنظر عادة إلى محاولة حاكم مصر الألباني الأصل، محمد علي باشا[2]، في توسيع رقعة حكمه، على أنها أول محاولة وحدوية في الوطن العربي، في التاريخ الحديث. فقد عين محمد علي والياً على مصر، من قبل الدولة العثمانية، في عام 1805م، ودفعته طموحاته وإدراكه لحقائق التاريخ والجغرافيا، إلى محاولة توسيع رقعة حكمه، لتشمل، إضافة إلى مصر والسودان، المشرق العربي (بلاد الشام والعراق) والجزيرة العربية، حتى زاحم الإمبراطورية العثمانية ونازعها، وكاد أن يسقطها. ولما شعرت القوى الغربية بخطورة مشروع محمد علي على مصالحها، تحالفت مع تركيا ودمرت هذا المشروع وأعادت محمد علي في عام 1840م إلى حدود مصر، ومنعته من أن يتجاوزها، مقابل أن يبقى والياً على مصر العثمانية مدى الحياة، وأن يورِّث حكمها لذريته من بعده. وقد انتهى حكم أسرة محمد علي في مصر بثورة يوليو 1952م.

وبعد محاولة محمد علي تلك، بُذلت محاولات ووضعت مشاريع وحدوية، معظمها على الورق، لا نستطيع أن نأتي عليها جميعها، لكثرتها. وكلها محاولات ومشاريع لم يحالفها النجاح، على صعيد الواقع، ما عدا وحدة مصر وسورية واتحاد الدول العربية، بين الجمهورية العربية المتحدة واليمن. وسنشير في ما يلي، مجرد إشارات، إلى أهمها في التاريخ القريب:

§      مشروع الشريف حسين، شريف مكة، الذي وعدته بريطانيا بتحقيقه، إذا أدى دوره المطلوب في الحرب العالمية الأولى، في قطع وتدمير خطوط إمداد الوحدات العسكرية التركية، المنتشرة في نجد والحجاز، ومحاصرة تلك الوحدات. ويتضمن مشروع الشريف هذا توحيد المشرق العربي كله. على أن يتوَّج هو نفسه ملكاً عليه، بمساعدة بريطانيا. وقد تنصلت بريطانيا بعد الحرب من وعودها له، بعد أن استنفدت أغراضها منه، ونفته إلى قبرص، واستبدلت المشرق العربي الموحد، بتقسيم سايكس _ بيكو المشؤوم.

§         مشروع وحدة سورية الكبرى (الأردن وسورية وفلسطين ولبنان) وضعه في عام 1941م ملك الأردن، عبد الله، إبن الشريف حسين، على أن يكون هو، أي عبد الله، ملكاً لدولة الوحدة هذه.  

§         مشروع وحدة الهلال الخصيب (العراق وسورية والأردن وفلسطين ولبنان). وضعه رئيس الوزراء العراقي، نوري السعيد، في عام 1941م.

§         مشروع ناظم القدسي، رئيس وزراء سورية، في عام 1951م، تحت إسم (الدولة العربية المتحدة)، على أن يضم جميع الدول العربية. وكان الدافع إليه مقاومة الخطر الصهيوني.  

§         مشروع الدكتور محمد فاضل الجمالي، رئيس وزراء العراق، في عام 1954م. كان مشابهاً لمشروع ناظم القدسي. وكان دافعه أيضاً مقاومة الخطر الصهيوني.

§         وحدة مصر وسورية، التي تحققت في شهر فبراير، من عام 1958م، ولكنها ضُربت في شهر سبتمبر، من عام 1961م.

§         إتحاد الدول العربية، الذي ضم اليمن والجمهورية العربية المتحدة، وأُعلن بعد أقل من شهر على قيام وحدة مصر وسورية، وانتهى في عام 1961م، إثر فشلها. وكان اتحاداً شكلياً، لم يكن له أي أثر في الواقع.

§         محاولات أخرى كثيرة فاشلة، على شكل مشاريع شكلية، أعلنت ولكنها جميعها لم تتحقق على صعيد الواقع، ومنها: الإتحاد العربي، بين العراق والأردن، أُعلن في عام 1958م، كرد فعل على وحدة مصر وسورية. ومشروع الوحدة الثلاثية، بين مصر وسورية والعراق، أُعلن في عام 1963م، وطوي بعد ثلاثة أشهر من إعلانه. واتحاد الجمهوريات العربية، بين مصر وسورية وليبيا، أُعلن في عام 1971م. والإتحاد العربي الأفريقي، بين ليبيا والمغرب، أُعلن في عام 1984م. ومجلس التعاون العربي، أُعلن في عام 1989م، وضم العراق ومصر والأردن واليمن، ولم يثمر سوى إلغاء تأشيرات الدخول بين الأقطار العربية المذكورة (وحتى هذا المنجز المتواضع، ألغي فيما بعد). واتحاد المغرب العربي، أُعلن في عام1989م، وضم ليبيا والمغرب والجزائر وتونس وموريتانيا.

 

هذه وغيرها، من المحاولات والمشاريع الوحدوية باءت جميعها بالفشل، لأسباب عديدة، على رأسها:

1.      عدم صدق الحكام العرب، رغم تسابقهم إلى إطلاق التصريحات الوحدوية، إرضاءً للمزاج الشعبي العربي، الوحدوي بطبيعته، ورغم تأكيد دساتير أقطارهم جميعها تقريباً على الوحدة العربية، كهدف، وعلى الإنتماء إلى الأمة العربية والوطن العربي الكبير.

2.      تقصير الحركة السياسية العربية الوحدوية، وعجزها عن تشكيل حراك شعبي عربي واسع، يجبر الحكام العرب على التخلي عن أنانياتهم والتنازل عن جزء من مصالحهم، في سبيل تحقيق هذا الحلم العربي.

3.      موقف الدول الإستعمارية، المعادي لوحدة الأمة العربية، لما تشكله الوحدة العربية، في نظرها، من خطر يهدد مصالحها الحيوية وهيمنتها الإستعمارية.

 

 

الضرورات الموجبه لتوحيد الوطن العربي:

لم تعد الوحدة العربية، في الوعي العربي المتقدم، مجرد حلم رومانسي، يرتبط بالتاريخ واللغة والتراث والآمال والأحلام، وغيرها من العوامل المعنوية، فحسب، بل أضحت تمثل قضية حياة ووجود، وترتكز على ضرورات مادية ملحَّة، منها[3]:

 

الضرورات الاستراتيجية:

1.      حماية الأمن القومي بمفهومه العام. لأن الأقطار العربية بوضعها الراهن عاجزة عن ذلك، بل ومخترقة أمنياً ومستباحة إقتصادياً وسياسياً. ويسعى الإستعمار الغربي حالياً إلى إحداث مزيد من التقسيم، وتجزئة كل قطر إلى أجزاء أكثر ضعفاً، كل جزء يصبح كياناً سياسياً هزيلاً، ذا طابع طائفي أو عرقي. ولا يمكن تجنب ذلك إلا بوجود دولة عربية واحدة قوية وقادرة على أن تحمي إستقلالها السياسي والإقتصادي وتدافع عن أمنها القومي وتحافظ على مصالحها الحيوية.

2.       الوحدة هي الضمان لتحقيق الأمن الإقتصادي العربي. فالوطن العربي موحداً، يحتوي على مقومات الأمن الإقتصادي. إذ تتوفر فيه الأراضي الزراعية الخصبة ومياه الأمطار والأنهار والمناخات المتنوعة والأيدي العاملة والثروات المعدنية والثروات الحيوانية.  

3.      العالم يحكمه الأقوياء، ولا اعتبار فيه للمبادئ الإنسانية والقوانين والمواثيق الدولية. ولا يمكن للأمة العربية أن يكون لها مكان بين الأقوياء، وأن تتحرر من هيمنتهم وتبلغ مستوى الندية في التعامل معهم، إلا من خلال دولة عربية واحدة قوية منيعة ومهابة، يُسمع صوتها وتُراعى مصالحها ويحسب الآخرون حساباً لمواقفها.

4.      لأن العالم يحكمه الأقوياء، فإن الدول تسعى إلى إنشاء تكتلات ومنظمات كبيرة، تضمن أمنها وتحافظ على مصالحها. وتدخل في إطار هذه التكتلات والمنظمات دول مخلتفة الأصول واللغات والأديان والتاريخ والثقافات. وهذا يفرض على الشعب العربي كله، وهو شعب متجانس في كل شيء، وأرضه واحدة ممتدة، يفرض عليه أن ينصهر في إطار دولة عربية واحدة، تحمي مصالحه ووجوده المهدد.

5.      يمثل الوطن العربي، بموقعه المتميز، قلب العالم. إذ يربط بين قارات ثلاث، آسيا وأفريقيا وأوربا، ويتحكم بأهم الممرات المائية، ويمتلك ثروات طبيعية مهمة، ويتمتع بامتداد جغرافي واحد. كل هذا يجعل من يسيطر عليه يسيطر على اقتصاد العالم. ومن يسيطر على اقتصاد العالم يتحكم بسياسة العالم أيضاً. هذه الميزات جعلت الوطن العربي مطمعاً للطامعين، من القوى الكبرى. ولا يمكن أن يحمي نفسه ويصون ثرواته ويمتلك إرادته واستقلاله، إلا بتحوله إلى قوة سياسية واقتصادية كبرى. وهذا لن يتحقق إلا بقيام الدولة العربية الواحدة.

6.      تزيد مساحة الوطن العربي على أربعة عشر مليون كيلو متر مربع. أي أنه، إذا ما توحد سيكون ثاني أكبر دولة في العالم، من حيث المساحة، بعد روسيا الإتحادية. فأكبر خمس دول في العالم، من حيث المساحة، هي: روسيا الإتحادية حوالي 17 مليون كيلو متر مربع. ويأتي بعدها الوطن العربي، حوالي 14 مليون كيلو متر مربع، ثم كندا حوالي 10 مليون كيلو متر مربع. والولايات المتحدة الأمريكية حوالي 10 مليون كيلو متر مربع. والصين حوالي تسعة مليون وست مئة كيلو متر مربع. ومن شأن اتساع رقعة الوطن العرب، أن يصبح قادراً على الدفاع عن نفسه عسكرياً بكفاءة عالية. نظراً لعمقه الإستراتيجي وطبيعته الجغرافية. كما أن كثافته السكانيه هي من أعلى الكثافات السكانية لدول العالم الكبرى. وهذا ما سيمكنه، عند الحاجة، من تجنيد ملايين المقاتلين، دون أن تتوقف عجلة الحياة الإقتصادية في المجالات المختلفة، نظراً لتوفر الأيدي العاملة اللازمة لذلك.

7.       لا يمكن إيجاد صناعة عسكرية متقدمة، تؤمن للقوات المسلحة احتياجاتها من السلاح والعتاد، وتحررها من التبعية للمصنِّعين الغربيين والشرقيين، إلا بتحقيق الوحدة العربية. لما تتطلبه هذه الصناعة من موارد مالية كبيرة وخبرات تكنولوجية متقدمة. إن الإعتماد على المصادر الخارجية في التسليح، يبقي العرب تحت رحمة المصنِّع الخارجي وسياساته، التي تضع في حسبانها متطلبات الأمن الإسرائيلي، بالدرجة الأولى.

8.      الوحدة العربية هي السبيل إلى تحرير الأراضي العربية المغتصبة، في فلسطين والأسكندرون والأحواز والجزر العربية في الخليج العربي وسبته ومليلة، وغيرها من الأراضي، التي انتزعت من الأمة العربية، بسبب تمزقها وضعفها.

 

الضرورات الإقتصادية:

1.      الوحدة هي الضمان لتحقيق الأمن الإقتصادي العربي، كما أسلفنا. إذ أن قطراً واحداً فقط من أقطاره، كالسودان مثلاً، يمكنه أن يؤمن أكثر من نصف احتياجات الوطن العربي من الحبوب واللحوم. ومع ذلك يعيش هذا القطر نهباً للمجاعات المتكررة، بسبب نقص الإستثمارات، في مجال الزراعة. في حين تتجه أموال النفط العربي إلى بنوك ومؤسسات ومصانع الدول الإستعمارية.

2.      يعيش الوطن العربي بمجمله معتمداً على استيراد غذائه من الخارج، بما يمثله هذا الإعتماد من تمكين للدول المصدرة في أن تمارس ضغوطها السياسية على الحكومات العربية وتؤثر على القرار السياسي العربي. هذا عدا عما يكلفه الإستيراد من مبالغ مالية طائلة، يمكن في ظل الوحدة العربية، أن توظف في مجالات تنموية مختلفة، داخل الوطن العربي الواحد. إن دولة الوحدة العربية وحدها قادرة، وفق خطة إقتصادية متكاملة، أن تؤمن الإكتفاء الذاتي من الغذا، بل وأن تصبح دولة مصدرة له.

3.      الوحدة العربية ستمكن العرب من استغلال كافة الثروات والأراضي الزراعية والخبرات العربية، استغلالاً سليماً. فهناك، مثلاً، أراضي صالحة للزراعة، تقدر بمئتي مليون هكتار، لا يستغل منها أكثر من 5%. والثروات الطبيعية غير مستغلة أيضاً، ما عدا الثروة النفطية، التي يذهب خيرها لغير العرب، ولشريحة من الحكام الموالين للقوى الخارجية. أما الخبرات العربية، فلا يجد معظمها مكاناً له في الوطن العربي. مما يدفع بالكثيرين، ممن يحملون مؤهلات عالية، إلى الهجرة إلى عالم آخر، عالم يقدر علمهم وخبراتهم ويُحسن استغلالها لصالحه.

4.      التكامل الإقتصادي في الوطن العربي واضح للعيان. فهناك أقطار متخمة بالثروات النفطية، تفتقر إلى الأيدي العاملة. وأقطار فقيرة، تضيق بسكانها. وأقطار مغطاة بالأراضي الخصبة، الصالحة للزراعة، وبالمراعي الفسيحة. وأقطار تمتلك سواحل وبحار ممتدة، مليئة بالثروة السمكية ...إلخ. وهذا التكامل غير مستثمر، بسبب التجزئة وتعدد الحكومات وعداواتها ومنافساتها غير المفيدة، وارتباط كل منها بقوى خارجية تستغلها وتصادر ثرواتها وتتحكم بقرارها السياسي وتفرض عليها سياسات، تبعدها عن الدول العربية الأخرى. ولا سبيل إلى الإستفادة من هذا التكامل الطبيعي إلا بالوحدة العربية.

5.      بالوحدة العربية فقط يمكن تحقيق الإستثمار الأمثل للقوى البشرية العربية والتقليل من الإعتماد على العمالة والمهارات الأجنبية. حيث أصبحت نسبة العاملين والفنيين الأجانب في الدول النفطية، لا سيما في الإمارات العربية وقطر والكويت، تفوق نسبة السكان الأصليين. وهذا من شأنه أن يهدد مستقبلاً الهوية والثقافة العربية في تلك الأقطار، ويحولها إلى مستعمرات للهند والباكستان وغيرهما من الدول المصدرة للعمالة.  

6.      تتميز الحياة الإقتصادية المعاصرة بسمات، أبرزها ضخامة الإنتاج، والكتل الإقتصادية الكبرى، ومن هذه الكتل: الإتحاد الأوربي ( من دوله: المانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا وأسبانيا واليونان). ومنظمة جنوب شرق آسيا، المعروفة بالآسيان (من دولها: أندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفلبين وفيتنام). ومنظمة غرب أفريقيا، المعروفة بإيكواس (من دولها: ساحل العاج ومالي وغينيا بيساو والنيجر وسيراليون وجامبيا وغانا). ومنظمة التعاون الإقتصادي، المعروفة بالإيكو (من دولها: إيران وباكستان وتركيا وأذربيجان وأفغانستان وتركمانستان وطاجاكستان). ومنظمة شنغهاي (من دولها: الصين الشعبية وروسيا الإتحادية والهند وباكستان وكازاخستان وأوزبكستان). ومجموعة التعاون الإقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، المعروفة بالأبيك (من دولها: أستراليا وكندا وتشيلي واليابان وروسيا والصين وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية). فكيف يمكن للدول العربية الهزيلة أن تقف في وجه هذه التكتلات العملاقة وتنافسها في السوق العالمية؟. إن العالم يسير نحو التكتل والتوحد، ليحمي مصالحه، ونحن نتجه مرغمين نحو التفتيت، والتفريط بمصالحنا. أفلا يجب علينا أن نسير مع حركة التاريخ، لا أن نتحرك في عكس اتجاهها؟ وهل هناك سبيل آخر سوى الوحدة العربية، يمكِّننا من دمج قدرات الوطن العربي كله في كيان إقتصادي عملاق، قادر على خوض المنافسة الإقتصادية ومزاحمة الكبار في السوق العالمية بكفاءة وقدرة، تجسد ما تمتلكه الأمة العربية الموحدة من إمكانيات إقتصادية وبشرية؟.

7.      الوحدة العربية كفيلة بتمكين الدول العربية الحالية من الإستفادة من مصادر الثروات المتعددة (زراعة ونفط ومعادن وثروات حيوانية، برية وبحرية)، بدلاً من الإعتماد شبه الكلي على مصدر واحد، وهو النفط، تستأثر به أقطار محدودة ويذهب خيره إلى الدول الإستعمارية.

8.      لا يمكن تحقيق تنمية شاملة إلا في ظل دولة الوحدة العربية. ففي إطارها يمكن إقامة بنى تحتية قوية يرتكز عليها الإقتصاد العربي، بمختلف قطاعاته، الزراعية والصناعية والتجارية. كما يمكن ربط التنمية الإقتصادية بالتنمية العلمية والثقافية والإجتماعية ورفع مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل، وتحرير الإقتصاد والسياسة والإنسان من التبعية للدول الإستعمارية ومن استغلال الرأسمال العالمي الجشع.

9.      الوحدة العربية هي السبيل إلى توحيد السوق الداخلية العربية وازدهار التجارة العربية وتمكين العمالة ورأس المال من الإنتقال، بسهولة ويسهر، من منطقة عربية إلى أخرى داخل الوطن العربي الواحد.

10.  الوحدة العربية ستقنع مودعي الأموال العرب بعدم إيداع أموالهم في البنوك الأجنية، حيث تكون عرضة  لتقلبات صرف العملة والتضخم المالي والتجميد والمصادرة واستفادة أعداء الأمة منها. إذ ستوفر الوحدة لهم فرص الإستثمار الآمن والعالي المردود، داخل الوطن العربي الكبير، في المجالات الإقتصادية المختلفة.

11.  الوحدة العربية ستوفر للعرب مركزاً تفاوضياً قوياً، مع الدول الأخرى، في المجالات السياسية والإقتصادية والتجارية، والحصول على أفضل الشروط الممكنة. وهذا ما لا يتمتع به العرب حالياً. فالدول القطرية الضعيفة، تُعامل باستهانة، ويملي عليها الأقوياء شروطهم، ولا تملك إزاء ذلك إلا الرضوخ والخنوع، والقبول بما تجود به نفوسهم الجشعة.

 

الضرورات الثقافية:

1.      في إطار الوحدة يمكن توحيد مناهج التربية والتعليم في الوطن العربي كله. وبناء الشخصية العربية، ذات التكوين المعرفي والإخلاقي المتميز. وتهيئة الظروف الملائمة لتفتح القدرات الكامنة والمواهب المكبوتة وإطلاق الطاقات الإبداعية، في كل مجالات المعرفة. وهو ما لا يمكن تحقيقه، في ظل التجزئة وتعدد الدول وضعفها وتبعيتها للخارج وأنانية حكامها.

2.      الوحدة كفيلة بتحصين العرب من كل المحاولات الهادفة إلى إضعاف الروح الوطنية والقومية وتشويه الوعي. إذ ستتمكن، بما تتمتع به من قدرات مالية وإمكانيات علمية وطاقات بشرية، من توفير الشروط اللازمة لبناء الإنسان العربي، القادر على التفكير العلمي والإبداع المعرفي، والإسهام في الحضارة الإنسانية، من موقع الندية، لا من موقع التبعية والإحساس بالدونية وعقد النقص.

3.      الوحدة العربية، المجسَّدة في دولة عربية واحدة، ممتدة من الخليج إلى المحيط، سوف تكون قادرة على تهيئة الشروط اللازمة لتحقيق نهضة حضارية عربية شاملة. لا يمكن إنجازها في ظل التجزئية بأي حال من الأحوال.

 

ولنحاول الآن أن نجيب على الأسئلة الثلاثة، التي وضعتها في مقدمة هذا الحديث:

السؤال الأول: لماذا استُهدفت الوحدة العربية، وما أبرز أشكال الإستهداف؟:

الموقع الجغرافي للوطن العربي، في قلب العالم، وسيطرته على أهم الطرق التجارية والممرات، البرية والبحرية، الرابطة بين الشرق والغرب، جعله موضع تنافس بين الإمبراطوريات القديمة، وعلى رأسها إمبراطوريتي الفرس والرومان، كما بين الدول الإستعمارية الغربية الحديثة، وعلى رأسها البرتغال وأسبانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، ثم الإمبراطورية الإستعمارية الكبرى في هذا العصر، الولايات المتحدة الأمريكية، التي تخوض منافسة ناعمة، مع منافسيها الغربيين، ومنافسه تصل حد الصراع، مع منافسيها الشرقيين، وعلى رأسهم روسيا والصين. فالوطن العربي مثَّل ويمثِّل عقدة المواصلات الأهم في العالم، القديم والحديث. ولم يفقد هذا الموقع أهميته منذ كان، في أزمان مغرقة في القدم، طريقاً إجبارياً تنتقل عبره، إلى بلدان الغرب، بهارات الشرق وبخوره وحريره، وغيرها من السلع الشرقية الثمينة. ثم أضحى في العصر الحديث صلة الوصل، ببحاره ومضائقه وأجوائه وبلدانه، أضحى صلة الوصل بين بلدان الغرب الإستعمارية ومستعمراتها الواسعة في الشرق.  

فإذا ما أضفنا إلى هذا الموقع الجغرافي المهم مصادر الطاقة، التي يمتلك الوطن العربي منها ثلثي الإحتياطي العالمي، والتي تشغِّل عجلة الإقتصاد الغربي، وتدخل في جزئيات حياته اليومية، من كهرباء ومياه وتدفئة وتبريد وأجهزة مستشفيات وجامعات ومعاهد ومصانع ومزارع وأجهزة إعلام وتواصل إجتماعي وآليات مدنية وعسكرية ووسائل نقل، برية وبحرية وجوية، ...إلخ، إذا ما أضفنا هذا كله إلى الموقع الجغرافي، أدركنا أن من يتحكم بهذا الموقع وبهذه الثروة، يمكنه أن يتحكم باقتصاد العالم ومواصلاته وسياساته وحياته. وهذه الحقيقة تجعل الإستعمار الغربي يرتعد خوفاً وقلقاً من فكرة نشوء دولة قوية في الوطن العربي، تمتد رقعتها الجغرافية من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، أي تغطي معظم منابع الطاقة في هذه المنطقة وتتحكم بأهم خطوط المواصلات البحرية والجوية في العالم. لأن قيام دولة عربية كهذه، ستكون دون شك قوة عظمى، تمد نفوذها الإقتصادي والسياسي إلى جميع مناطق العالم، وتستمد من تراثها الحضاري، الأقدم في تاريخ البشرية، ومن أرومتها ولغتها الواحدة وعقيدتها الدينية ومصالحها الإقتصادية، عوامل تماسكها وانسجامها وقوتها وتميزها واستمرارها. وهذا أمر يشكل تهديداً كبيراً لمصالح الغرب ونفوذه وهيمنته على العالم.

من هنا نستطيع أن ندرك الأسباب الكامنة وراء استهداف الوحدة العربية. بل ونستطيع أن نتبين أبرز أشكال هذا الإستهداف، ومنها: الجهود التي بذلها الإستعمار الغربي لتهيئة الظروف وتوفير الدعم والمساندة لصنع كيان صهيوني في قلب الوطن العربي، ليكون حاجزاً بين جناحيه، الشرقي والغربي، لا سيما بين بلاد الشام ومصر[4]، وعامل تهديد دائم للوجود العربي. ومنها أيضاً الجهود المتواصلة، الهادفة إلى تفتيت الوطن العربي وإضعافه والحيلولة دون تحقيق أي شكل من أشكال التوحيد أو التعاون الإقتصادي والتنسيق السياسي بين أقطاره، بدءاً بالجهد المتمثل بمعاهدة سايكس _ بيكو، التي صنعت حدوداً قطرية، وأنشأت دولاً عربية هزيلة، لا يمكن لأي منها منفردة أن تنجز نهضة تنموية حقيقية ومشروعاً حضارياً شاملاً، ولا يمكن أن يعيش حكامها إلا تحت حماية الغرب وبالإعتماد الكلي عليه. ووصولاً إلى الدعوات المعلنة اليوم والمخططات والمؤامرات، المخفية منها والمكشوفة، الهادفة إلى إحداث مزيد من التمزيق للكيانات القطرية الهزيلة القائمة، وإنشاء كيانات سياسية جديدة، أصغر حجماً وأشد ضعفاً وهزالاً، ذات طابع طائفي وإثني، لا يسمح مستقبلاً بالتعايش الطبيعي بينها.

إن دعوات التفتيت والتمزيق، التي نسمعها اليوم، ونقف على بعض من خباياها، ليست دعوات مستحدثة، بل هي دعوات قديمة، تبرز الآن بأثواب جديدة، نستطيع، رغم مظهرها الجديد، أن نتبين قدمها بوضوح ودون عناء.

فقد دأبت الحركة الصهيونية، كما يقول أكرم الحوراني، المناضل العربي السوري المعروف، في مذكراته: "دأبت الحركة الصهيونية منذ بداية الحرب العالمية الأولى على العمل لبث روح التفرقة الطائفية والعنصرية والمذهبية في سورية ولبنان خاصة والعالم العربي عامة وكانت وراء الإنتداب الفرنسي في خطوته بتقسيم سورية إلى دويلات طائفية وتشجيع الزعامات القبلية والإقطاعية والطائفية لتلك الدويلات ... ولم يخف المسؤولون الإسرائيليون بعد ذلك استراتيجيتهم وأغراضهم في المنطقة العربية لتحقيق اسرائيل الكبرى، فقبل عدوان حزيران 1967 دعا ابا ايبان وزير خارجية اسرائيل علناً لتبديل خارطة الشرق الأوسط على أساس عنصري وطائفي ومذهبي"[5].

أما الخطوة، التي أشار إليها الحوراني، في النص المقتبس، أو المشروع الذي تبناه الإنتداب الفرنسي، وكانت الحركة الصهيونية وراءه، فقد تضمن تقسيم منطقة الإنتداب (سورية ولبنان) إلى مجموعة دول، وهي: دولة عاصمتها دمشق ودولة عاصمتها حلب ودولة في مناطق الدروز ودولة في مناطق العلويين ودولة عاصمتها بيروت ودولة عاصمتها طرابلس. وقد فشل هذا المشروع، بفضل التحام الشعب السوري، عربه وأكراده، مسلميه ومسيحييه، بمختلف طوائفهم، إلتحامهم جميعاً في ثورة تحررية، ضد الوجود الفرنسي، إنتهت بطرد المستعمر والمحافظة على وحدة الوطن ونسيجه الإجتماعي وتعايش كل مكوناته.

ثم يورد الحوراني جزءاً من الوثيقة الإسرائيلية، التي نشرها الصحفي الهندي كرانجيا، والتي وُجدت ضمن وثائق حلف بغداد، وكُشفت بعد ثورة عام 1958م في العراق. وهو الجزء المتعلق بالأستراتيجية الإسرائيلية المحدَّثة، الهادفة إلى تمزيق الوطن العربي وتحويله إلى دويلات طائفية وعنصرية. وقد ورد في هذا الجزء، ما يلي:

"يجب من أجل تقويض الوحدة العربية بذر الشقاق الديني بين العرب واتخاذ التدابير لإقامة دول جديدة على أراضي البلاد العربية وهي:

1.         دولة درزية تشمل المنطقة الصحراوية وتدمر.

2.         دولة شيعية تشمل قسما من لبنان، منطقة جبل عامل ونواحيها.

3.         دولة مارونية.

4.         دولة علوية تشمل اللاذقية وحتى المنطقة الممتدة الى الحدود التركية.

5.         دولة كردية في شمال العراق.

6.         دولة قبطية في مصر أو مناطق ذات استقلال ذاتي للأقباط.

أما المناطق العربية التالية فستبقى على حالها: دمشق، جنوب العراق، مصر، المنطقة الوسطى والجنوبية من السعودية ... ومن المرغوب فيه إيجاد ممرات واسعة غير عربية عبر هذه المناطق العربية"[6].

من هنا نتبين أن ما روجت له الولايات المتحدة الأمريكية والدوائر الصهيونية، ودعا إليه القادة الأمريكيون علناً، وعلى رأسهم الوزيرة الأمريكية السابقة (كونداليزا رايس) من رسم خارطة جديدة للمنطقة العربية، تحت مسمى (الشرق الأوسط الكبير) أو (الشرق الأوسط الجديد)، إنما هي فكرة قديمة، تنطلق من رغبة صهيونية وغربية في تفتيت الوطن العربي إلى كيانات طائفية وإثنية، تتجاوز التقسيم، الذي وضعه الدبلوماسيان، البريطاني والفرنسي، مارك سايكس وفرانسوا بيكو، والمعروف باسميهما المشؤومين (إتفاقية سايكس _ بيكو). فلم يعد ذلك التقسيم مقبولاً، ما دام بالإمكان تقطيع الجسد العربي المريض إلى أجزاء أصغر وأضعف وأعجز، مما هي عليه الآن.

وقد أخذت مراكز البحوث الأمريكية _ الصهيونية تتبارى في تصدير مشاريع التقسيم الجديد وخرائطه المقترحة، وتعميمها على شبكات الإنترنت، لتروض بذلك العقل العربي، وتهيئه للإستسلام للواقع الجديد، الذي ستُرسم خارطته، دون إذن منه أو مراعاة لخاطره، ودون اعتبار لمصالح الإنسان العربي، حتى في حدودها الدنيا، ستُرسم خارطته على الأرض، كأمر واقع، من خلال (الفوضى الخلاقة)، أي الحروب الأهلية الداخلية، التي ستسفر عن نزوح سكاني ونزوح مقابل، من منطقة إلى أخرى، يأخذ طابعاً إثنياً دينياً طائفياً، يعجل بقيام الكانتونات، أو الدويلات الهزيلة، التي يحمل كل منها طابعه الإثني الديني الطائفي.

 

السؤال الثاني: كيف يمكن أن نتعامل مع قضية الوحدة العربية مستقبلاً؟:

باعتبارنا جزءاً من الشعب العربي الواحد، الذي لم يفقد وعيه بذاته وبهويته الواحدة الجامعة، ولم يتخل عن حلمه في تحقيق وحدته السياسية، لابد أن تكون لدينا رؤية للوحدة العربية، قابلة للحوار والتعديل والإغناء، تحدد أولاً معالم الطريق المفضي إلى الوحدة. وتحدد ثانياً شكل الوحدة ونظامها السياسي.

وفي تقديري أننا لو طرحنا على أنفسنا سؤالاً، عن كيفية تحقيق الوحدة العربية وعن الشكل السياسي المناسب لها، لأعطى كل منا جواباً مختلفاً عن جواب الآخر. والسبب في ذلك أن قضية الوحدة لم تعد تطرح للنقاش، في المؤتمرات والندوات وفي برامج الأحزاب السياسية العربية، بغرض بلورة رؤية واحدة تجاهها. وإذا ما تناولتها بعض الكتابات، فإنها تركز عليها غالباً كقضية، من حيث مشروعيتها ومبرراتها وأهميتها. وكأننا عدنا إلى الخلف قرناً من الزمان تقريباً، أي إلى نهاية العهد العثماني وبدايات الكيانات القطرية، التي رسمت حدودها اتفاقية سايكس _ بيكو. في حين كانت هذه القضية قد أصبحت، في عقود الأربعينيات إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي، من المسلمات، التي لا تحتاج صحتها إلى نقاش ولا مشروعيتها إلى تبرير أو تدليل. لكنها تراجعت بعد ذلك إلى المنطقة الخلفية في وعينا، وبَهَتت وأضحى من يتحدث عنها، كأنما يتحدث عن أمر غير واثق هو نفسه من  سلامته. فيأتي حديثه متردداً وجلاً وعلى استحياء. فهل آن الأوان لنوصل ما انقطع، بعد كل الكوارث التي أحاقت بنا والنكبات التي منينا بها، ونطرح مجدداً قضية الوحدة العربية للنقاش، باعتبارها زورق النجاة، تستحق منا بعض الجهد الفكري، الهادف إلى تلمس الطريق الموصل إليها وتحديد الأشكال الممكنة لها؟.

سوف أحاول هنا أن أضع بعض الإجابات على السؤال المطروح، وهو: كيف يمكن أن نتعامل مع قضية الوحدة العربية مستقبلاً؟ وذلك انطلاقاً من الزاويتين المذكورتين، وهما: الطريق الموصل إليها والأشكال الممكنة لها، مستعيناً بفكرة، كانت قد طُرحت في عقد الستينيات، من القرن الماضي، طرحاً سريعاً، ولم يهتم بها الإعلام العربي، فطواها النسيان. وكان المحفز إلى طرحها هو فشل الوحدة المصرية _ السورية، في عام 1961م. وفحوى تلك الفكرة، أنه يجب مراعاة العامل الجغرافي، عند التفكير في تحقيق الوحدة، بين قطرين عربيين أو أكثر. لأن العامل الجغرافي كان من بين العوامل، التي أدت إلى فشل التجربة الوحدوية الأولى في التاريخ العربي المعاصر. فالبعد الجغرافي بين مصر وسورية، جعل من المتعذر تحقيق تفاعل كامل بينهما، كما جعل من المتعذر الدفاع عن كيان الوحدة، عندما تحركت وحدات عسكرية سورية صغيرة، لا وزن لها، رافعة بعض المطالب الإصلاحية، لينتهى الأمر، عبر الفعل ورد الفعل وتدخل بعض السياسيين ودفع بعض القوى الإقليمية والدولية، لينتهي الأمر إلى فرض الإنفصال، بسهولة ملفتة للنظر. 

وعلى ذلك فإن مشروع الوحدة العربية، لابد أن يضع في اعتباره العامل الجغرافي، كضمان لنجاحه. فالقطر الواحد، عندما تتهيأ فيه الشروط الموضوعية للوحدة مع قطر آخر، لابد أن يسعى إلى تحقيقها أولاً مع قطر مجاور جغرافياً. وهذه هي الخطوة الأولى في طريق الوحدة العربية. أما الخطوة التالية، فتتمثل في السعي لتحقيق وحدة أكثر من قطر عربي، على أن تكون هذه الأقطار متجاورة جغرافياً، لتتحقق بذلك ما يمكن أن نسميها (وحدة الإقليم). فإذا اعتبرنا الجزيرة العربية، مثلاً، إقليماً واحداً، فإن على الوحدويين العرب في الجزيرة العربية، أن يسعوا إلى تحقيق وحدة أقطار الجزيرة العربية أولاً، قبل أن يفكروا في تحقيق الوحدة مع مصر أو المغرب أو الجزائر أو غيرها من الأقطار البعيدة.

ولكن وحدة إقليم الجزيرة العربية لن تتحقق، إلا إذا حدد الوحدويون العرب فيه مسارهم بوضوح، ومارسوا في حياتهم اليومية قيمهم ومثلهم المعلنة، فعملوا على تعزيز الوحدة الوطنية، كل داخل قطره أولاً، وذلك بالتصدي الواعي لعوامل التفتيت الداخلية، من مناطقية وعشائرية وسلالية وطائفية، وغيرها من النعرات الجاهلية والأمراض الإجتماعية، ليشعر كل مواطن بانتمائه أولاً وأخيراً إلى الوطن بكامله. لأن من يعجز عن تحقيق الوحدة الوطنية، داخل قطره، سيكون أكثر عجزاً في النضال من أجل تحقيق الوحدة العربية الشاملة. وسيبقى حديثه عن الوحدة العربية، حديث رياء ونفاق.

فإذا ما تحققت وحدة الجزيرة العربية، وتلاشت كل عوامل الشقاق والصراع، التي تولدها الإعتبارات القطرية. وتحققت على نفس المنوال وحدة العراق وبلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين). ووحدة وادي النيل (مصر والسودان، والصومال وجبوتي)، ووحدة المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا). فإن الوحدة العربية الشاملة ستغدو عند ذلك حقيقة لا حلماً.

ولكي نقطع هذه المراحل، لا بد أن نبدأ الآن بأشكال من العمل المشترك الجاد، الذي من شأنه أن يمهد السبيل إلى الوحدة الشاملة. وهو عمل أو أعمال ترتكز على المصالح المادية المباشرة، الممكنة التحقيق. فنسعى إلى تبادل المنافع والتنسيق والتكامل، في مجالات التجارة والإقتصاد والخدمات، ونعمل على إرساء قواعد ومعايير وبلورة أهداف عربية، للتعليم والتثقيف والإعلام، لينمو الجيل العربي الجديد موحد الوعي والثقافة، مشترك الإحساس بالإنتماء الواحد.

فإذا كان هذا هو ما يمكن أن نطرحه الآن، لإثارة النقاش حول الطريق المؤدي إلى الوحدة ، فماذا يمكن أن نقول عن الشكل السياسي للوحدة العربية؟ هل تبدو الوحدة الإندماجية شكلاً ملائماً ومعبراً عن وحدة الشعب العربي، أم أن شكل الوحدة الإتحادية (الفيدرالية) هو الأنسب، للتقليل من هيمنة المركز ومنح الأقطار العربية هامشاً كافياً للعمل والحركة والإنجاز، ضمن كل قطر؟ وما هو النظام السياسي، الذي ستأخذ به دولة الوحدة (جمهوري، ملكي، ديمقراطي، دكتاتوري، رئاسي، برلماني)؟ وكيف يمكن التعامل مع الأنظمة المختلفة في أسمائها، المتماثلة في جوهرها، من مشيخات وإمارات وسلطنات وملكيات وجمهوريات؟ وما هو نظامها الإداري (إدارة مركزية أو إدارة محلية، محدودة الصلاحيات، واسعة الصلاحيات، كاملة الصلاحيات، في كل ما هو شأن محلي …إلخ)؟. وكيف سيتم التعامل مع فكرة الإنتخابات، التي ترفضها أنظمة حاكمة، رفضاً كلياً، وتقبلها جزئياً أنظمة أخرى، وتأخذ بها بعض الأنظمة، بعد أن تطوعها وتجعل نتائجها محسومة، قبل البدء في إجراءائها؟.

هل أن طرح مثل هذه التساؤلات أمر سابق لأوانه؟ أم أن طرحها الآن ضروري لإثارة الإهتمام بها والنقاش حولها، وتشكيل وعي واضح تجاه الجوانب العملية للوحدة؟.

إنني أعتقد بأن إثارة هذه التساؤلات وتنشيط الحوار حولها، أمر على درجة عالية من الأهمية، لإبقاء قضية الوحدة قضية حية في حياتنا، ولتوجيه الإهتمام نحو القضايا ذات الصلة بها، كقضايا التربية والتعليم، والتثقيف، الهادف إلى تنمية الوعي الوحدوي وإلى تعميق الإحساس بالهوية وإنضاج الفكر السياسي العربي وتوجيه الممارسات النضالية وإدراك المصالح الحيوية للشعب العربي الواحد، التي يجب أن نعمل على إبقائها ماثلة أمامنا باستمرار.

 

السؤال الثالث: من هي القوى السياسية المهيأة للنضال من أجل الوحدة العربية؟:

لا يداخلني الشك أبداً في أن كل قوة من القوى السياسية في الساحة العربية، من قومية وإسلامية ويسارية، هي قوى مهيأة، من حيث الشرط الموضوعي، للنضال من أجل تحقيق الوحدة العربية، ما لم تكن مرتبطة وظيفياً بمصالح القوى المعادية للأمة العربية، وأداة من أدواتها، في تنفيذ مخططاتها المدمرة.

فالوحدة العربية هي هدف القوى القومية المعلن. لأنها تمثل مبرر وجودها ومنطلق فكرها وأساس تشكلاتها التنظيمية.

والوحدة العربية، لابد أن تكون، من الناحية الموضوعية، هدفاً للقوى السياسية الإسلامية. لأن التفكير بقضية الوحدة الإسلامية لا يمكن أن يقفز، عند التدقيق، فوق قضية الوحدة العربية، متجاوزاً لها متغافلاً عن ضروراتها. ولذا ليس من الصعب، حتى في إطار الفكر الداعي إلى الوحدة الإسلامية، أن يُنظر إلى الوحدة العربية كمرحلة حتمية، على طريق الوحدة الإسلامية. وهو نظر أدنى إلى العقل وأقرب إلى المنطق وأيسر تحقيقاً، من الناحية العملية. إذ تتوفر للوحدة العربية كل العوامل الموضوعية المادية والمعنوية لتحقيقها، بما في ذلك العقيدة الدينية والجغرافيا الواحدة. في حين تفتقر الوحدة الإسلامية لتلك العوامل، باستثناء عامل العقيدة الواحدة. وقد أدرك بعض قادة الحركة السياسية الإسلامية، كحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وحامد أبو النصر، المرشد العام للإخوان المسلمين، وغيرهما، أدركوا هذه الحقيقة، ورأوا أن تحقيق الوحدة العربية يمثل مرحلة حتمية، نحو تحقيق الوحدة الإسلامية. وعبروا عن ذلك في كتاباتهم.

والوحدة العربية لابد أن تكون هدفاً للقوى اليسارية، ذات النزعة الأممية، لأن الوطن العربي بكامله، هو الساحة الحقيقية الملائمة لأي عمل، يصدر عن مشروع إنساني عام. إذ لا تستطيع أي حركة سياسية أن تناضل نضالاً حقيقياً مؤثراً، من أجل الإنسانية كلها، إلا في الساحة التي تقف عليها، ومن خلال الجهد النظري والعملي الهادف إلى تحسين ظروفها وأحوالها. أفلن تشكل الوحدة العربية، في حال تحققها، بمحتواها التحرري العادل، دعماً لكل فكر إنساني، يهدف إلى تحرير الإنسان من عوامل القهر والظلم والإستغلال والفقر والجهل؟.

إن الفكر النظري للقوى السياسية العربية، القومية منها والإسلامية واليسارية، سيبقى فكراً مجرداً، منفصلاً عن الواقع ومتعالياً عليه، ما لم تكن الساحة العربية بأكملها ميداناً لتحققه وإطاراً لتفاعله ومصدراً لإغنائه وقاعدة تشده إلى إيقاع الحياة، بامتداداتها، في عمق الماضي ونبض الحاضر وحلم المستقبل.

 

المؤامرة على أمتنا العربية ومسؤوليتنا نحن:

بعد هذا الإستعراض الموجز لقضية القضايا، وهي (الوحدة العربية)، لا يملك المرء إلا أن يستغرب لموقف بعض مثقفينا العرب، الذين يتبارون في إنكار المؤامرة على هذه الأمة وعلى وحدة وطنها العربي، ويسخرون ممن يقولون بوجود المؤامرة، وينسبونهم إلى ما أسموها (نظرية المؤامرة) ويطلقون على المؤمنين بوحدة الأمة العربية، شعباً وأرضاً، صفة (القومجيين) استهزاءً بهم واستصغاراً لشأنهم. إن هؤلاء المثقفين يبدون، وهم يتباهون بأنفسهم ويتفاخرون بثقافاتهم وادعاءاتهم، يبدون وكأنهم قد أضحوا جزءاً من المؤامرة نفسها، أو مظهراً من مظاهرها. إذ نراهم يبذلون جهوداً بائسة، لتبييض صفحة الإستعمار الغربي، من حيث لا يشعرون. فيبرِّؤونه مما ألحقه بهذه الأمة من أذى وما دبره من مؤامرات، لتمزيقها وشرذمة مكوناتها وتجزئة وطنها والحيلولة دون تحقيق وحدتها الإقتصادية والسياسية، حفاظاً على مصالحه، وضماناً للإستمرار في نهب ثرواتها. وكأن المنكرين للمؤامرة، من المثقفين العرب، المستهجنين لفكرة وحدة الأمة العربية، كأنهم لا يقرأون التاريخ، ولا يعرفون أن أمماً مزقت وأوطاناً احتلت وشعوباً استعبدت أو أبيدت، عبر مؤامرات حبكها الإستعمار الغربي، وكان ضحاياها دائماً الشعوب المستضعفة.

ولعل بعض العناوين الدالة، من تاريخنا العربي المعاصر، تكفي لإمعان النظر في هذه المسألة:

1.      إتفاقية سايكس _ بيكو، المتضمنة رسم خارطة للوطن العربي، مازالت متجلية اليوم في الحدود القطرية، التي حالت دون قيام دولة عربية واحدة قوية، قادرة على حماية المصالح العربية والوقوف أمام الأطماع الإستعمارية.     

2.      حلف بغداد والدور الذي أوكل إليه في تكريس فصل الأقطار العربية في مشرق الوطن العربي عن مغربه ودمجها في مشروع سياسي مختلط، مكون من بلدان عربية وبلدان غير عربية، بقصد إهالة التراب على أي طموح وحدوي عربي.

3.      التآمر على وحدة مصر وسوريا. ونجاح المتآمرين في إفشالها. وقد تبين ضلوع بعض الأنظمة العربية المرتبطة بالغرب الإستعماري، في  تلك المؤامرة.

4.      مشروع (الشرق الأوسط الكبير، أو الجديد)، المتضمن إعادة رسم خارطة الوطن العربي، وخلق كيانات سياسية جديدة، تتجاوز سايكس _ بيكو، قوامها الدين والطائفة والعرق. مما يجعل التفكير بوحدة الوطن العربي، بكل مكوناته، ضرباً من المستحيلات. ولتحقيق هذا الهدف عمدت وتعمد الدول الإستعمارية إلى تدمير البنى السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والإخلاقية للبلدان العربية وتعميم (الفوضى الخلاقة)، بالوسائل الإستخباراتية والحروب الأهلية، حيناً، وباستخدام القوة العسكرية المباشرة، حيناً آخر، تمهيداً لإعادة رسم خارطة الوطن العربي وترتيب أوضاعه الجديدة، بما يخدم المصالح الإستعمارية، ويحافظ على الوجود الصهيوني في فلسطين، ويضمن تمدده ويعزز دوره وتأثيره. وفي هذا السياق جاء تدمير العراق، باستخدام القوة العسكرية المباشرة، بعد التمهيد لتدميره بحملة مضللة من الأكاذيب والتزوير واختلاق الوقائع، والتحشيد والتحالفات الواسعة. ثم تدمير سورية وليبيا واليمن، وفق سيناريوهات متشابهة في جوهرها وملامحها العامة، ومختلفة في بعض تفاصيلها، بهذا القدر أو ذاك. واستُخدمت المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، لفرض واقع على الشعب العربي، يتطابق مع المخططات المرسومة سلفاً.

5.      وقبل هذه المؤامرات وبعدها، المؤامرة الكبرى، الماثلة في فلسطين، التي بدأ التخطيط والتمهيد لها منذ القرن التاسع عشر. ونجح الإستعمار والحركة الصهيونية العالمية في استحداث دولة صهيونية في قلب الوطن العربي، تمثل قاعدة متقدمة للإستعمار الغربي، مرتبطة وظيفياً به وبمصالحه، كما تمثل حاجزاً بين مشرق الوطن العربي ومغربة. وفي سبيل استحداثها والتمكين لها تم تدمير الشعب الفلسطيني، تدميراً ممنهجاً، وشردت الغالبية العظمى منه. وما تزال هذه المؤامرة مستمرة والتدمير متواصلاً، يتجلى يومياً بتهديم المساكن وتجريف المزارع وقتل الأبرياء وتشييد المدن الصهيونية في قلب المناطق العربية، المتبقية للفلسطينيين حتى الآن، والتمدد في الضفة الغربية لنهر الإردن، وإعلان بعض السياسين الإسرائيليين قبل أسابيع، ضرورة ضم جميع أراضي الضفة الغربية إلى دولة إسرائيل. هذا عدا عن التمدد إلى أجزاء من أراضي بعض الدول العربية المجاورة، وخاصة سورية ولبنان. 

إذا كانت هذه الأمثلة وغيرها لا تشكل في نظر بعض مثقفينا العرب مؤامرة، فما هي المؤامرة إذاً؟ هل هناك ثمة احتمال في أننا نتحدث عن مسألتين مختلفتين، نظنهما مسألة واحدة؟ فنتحدث نحن عن المؤامرة، المتجسدة في الحالات، التي أوردنا أمثلة عنها. ويتحدثون هم عن مؤامرة من نوع آخر، وبمعاني أخرى لا نفهمها؟ ربما يكون الحال كذلك.

وأياً كان الأمر، فإن يقيننا بأن هذه الأمة قد استهدفتها وتستهدفها مؤامرات الإستعمار الغربي،  لمقاصد وأهداف واضحة، لا يجب أن يحجب عنا الوجه الآخر للموضوع، وهو مسؤوليتنا نحن في نجاح هذه المؤامرات. فلدينا عوامل ضعف وعجز كامنة فينا، سهلت للآخرين أن يمضوا من نجاح إلى نجاح، في تمزيقنا ونهب ثرواتنا والتحكم بقرارنا الإقتصادي والسياسي وتسخير البعض منا، وعلى رأسهم حكامنا وبعض مثقفينا، للسير في ركابهم والتفاني في خدمة مصالحهم.

إن إدراكنا لوجود عوامل الضعف الكامنة فينا، يوجب علينا أن نوجه أنظارنا إليها ونكرس جهودنا لدراستها. لكي نتمكن من إحداث التغيير المطلوب، في أنفسنا وفي واقعنا، في التفكير والوعي وفي النظم الحاكمة، وفي علاقات المكونات الإجتماعية والدينية والسياسية، بعضها بالبعض الآخر، وفي النظرة إلى مظاهر التعدد والتباين، بين المكونات والمناطق والأديان والطوائف والأعراق، كظواهر طبيعية، تتعايش وتتكامل وتتفاعل، في إطار وطن واحد، فتغدو عامل إغناء وإثراء لحياة الأمة وقاعدة لمشروعها الحضاري القادم، لا عوامل صراع وتفتيت وتمزيق. هذا ما يجب علينا فعله، حتى لا يبقى القول بوجود المؤامرة الخارجية، مجرد تبرير لعجزنا وتسويغ لضعفنا وتحللٍ من مسؤوليتنا، في ما بلغه الواقع العربي من سوء. وهي مسؤولية لا ينكرها إلا مكابر أو متهرب من تحمل تبعاتها.

 

خـاتــمـة:

إننا ندرك بأن الهدف الرئيسي والعنوان الأكبر لكل المؤامرات، التي حاكها ويحيكها الإستعمار الغربي، على أمتنا وعلى وطننا العربي، إنما هو خدمة مصالحه والمحافظة عليها، على حساب مصالحنا نحن. وذلك من خلال مشروع كبير، يطوِّع به الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي لمشيئته ويسخرها لخدمة مصالحه، ويسعى فيه إلى إحكام السيطرة على مقدرات الأمة، عبر تمزيقها، أرضاً وشعباً، والقضاء على كل حلم بوحدتها وكل فكر يهيئ لتحقيق هذا الحلم، وكل طموح يهدف إلى قيام دولة العرب الواحدة، على وطنهم الواحد، الممتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي. هذا المشروع الإستعماري الكبير، لا يمكن مواجهته وإسقاطه، إلا بمشروع عربي نهضوي كبير، يتجاوزه في حجمه ومستواه، عنوانه الأبرز (الوحدة العربية الشاملة).     

 

 


[1]تتميز الأمة العربية عن غيرها من الأمم، في أن مفهومها ليس مفهوماً عنصرياً ضيقاً، محصوراً في الأصل الواحد. فقد حدد الرسول الكريم معناها بقوله: "أيها الناس إن الرب واحد والأب واحد، وإن الدين واحد. وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي". والتكلم باللغة العربية لا يقتصر، بطبيعة الحال، على مجرد ترديد الكلمات. فاللغة هي أداة التواصل والتفاهم والتفكير والتخيل، وهي وعاء الثقافة، فمن تكلم اللغة العربية وتمثلها، بهذه المعاني، فهو عربي. وقد انطلق الفكر القومي العربي الحديث من هذا الفهم، غير المتعصب عرقياً. فقد أكد ميشيل عفلق مثلاً، على أن العربي هو من كانت اللغة العربية لغته وعاش في الأرض العربية، أو تطلع إلى العيش فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية.

[2]كان محمد علي باشا والياً على مصر، يتبع نظرياً الدولة العثمانية. ولكنه من الناحية الفعلية أنشأ في مصرية دولة مستقلة، حاول أن يوسع رقعتها على حساب الدولة العثمانية.  

[3]إستفدت في حديثي هنا، عن الضرورات الموجبة لتوحيد الوطن العربي، من بعض ما ورد في الأطروحة، التي قدمها قحطان الحمداني، لنيل درجة الدكتوراة، من جامعة بغداد. 

[4]ما اتحدت مصر وبلاد الشام، إلا وأضحت مصداً قوياً، يدرأ عن الوطن العربي كل عدوان خارجي، وتتحطم عليه كل الغزوات الأجنبية. ويمكن هنا أن نشير إلى الغزو المغولي، ثم الغزو الصليبي من بعده، اللذين تحطما على أيدي القوات المصرية الشامية المتحدة، الأول في معركة عين جالوت، والثاني في معركة حطين (هامش مقتبس من المداخلات والمناقشات، ا لتي أعقبت هذه المحاضرة).

[5]  مذكرات أكرم الحوراني (أربعة مجلدات). أنظر المجلد الثاني، الطبعة الأولى، ص  1229 _ 1230 ، الناشر مكتبة مدبولى، 2000م، القاهرة.

[6]  الحوراني، المصدر نفسه، ص 1230. وقد رجع الحوراني، في المعلومات، التي اقتبسناها منه، رجع إلى كتاب (قراءة في مذكرات شاريت) للكاتب اليهودي ليفيا روكاخ، الذي تحدث فيه عن مشروع بن جوريون، مؤسس الكيان الصهيوني في فلسطين، الخاص بإنشاء وطن مسيحي ماروني في لبنان. كما رجع الحوراني أيضاً إلى المناقشات والرسائل، التي تبودلت بين موشي شاريت وبن جوريون. وموشي شاريت هذا هو وزير خارجية اسرائيلي في عهد بن جوريون. وأما الوثيقة المشار إليها أعلاه، فقد وردت في الصفحة 77 من كتاب الصحفي الهندي، كرانجيا (خنجر إسرائيل)، الذي ترجمه إلى العربية مروان الجابري، وصدر عن المكتب التجاري للطباعة والنشر، دمشق، 1958م.

قراءة 2505 مرات

من أحدث د. أحمد قايد الصايدي