طباعة

حرب الراتب

الإثنين, 30 نيسان/أبريل 2018 21:03 كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

 

            بمناسبة عيد العمال العالمي

احتفال .. عام ونصف بدون راتب

إن أمر إيقاف  أو مصادرة راتب ملايين الأسر والأفراد ، أصعب وأقسى ألف مرة من قرار إيقاف الحرب العسكرية ، فطيلة ثلاثة أعوام وأكثر صارت الحرب على بشاعتها ، ووحشيتها  أمراً يمكن فهمه ، و   التعاطي معه سياسياً ، أمر  يمكن للناس تقبله تحت جملة ضغوط  قهرية وحسابات سياسية  خارجة عن  إرادتهم ،  إرادة الناس الذين لا مصلحة لهم من الحرب التي صارت ضاغطة على نفسياتهم الاجتماعية وروحياتهم العامة ،  حرب قلبت معنى وجودهم رأساً على عقب ، وهي الحرب التي لا يستفيد منها  ويستثمرها سوى تجار وأمراء الحروب، بعد  أن صارت تجارة السلاح ، والحرب، أداة، ووسيلة رزق ، وعملية لإنتاج  ومراكمة الثروة ، بل و طريقة  عيش وحياة البعض، بل هي أصبحت ضمن ظروف وشروط معينة طريقة، وشكلاً من      أشكال الدخول للسلطة،  ونهب الثروة وقد قالها بن خلدون "أرزاقهم على أسنة رماحهم "  ، أي أن الحرب  الدائرة في البلاد اليوم ، تحت مسمى (الجهاد) الحاضرة، والهاجعة، في عقل البعض ، هي   النقيض لفكرة العمل، ولقضية الإنتاج، والنقيض الجذري والمباشر، لمعنى السلم الأهلي، وثقافة  العيش المشترك، الحرب التي مع اشتعالها أقصيت الثقافة  والكتابة والكتاب والمجلة والصحيفة من حياة الناس اليومية ، واستبدلت     السياسة ، والحياة الحزبية ، والعمل السياسي السلمي ، بالرصاصة ، والبندقية ،  رمزاً  للعمل  الأعظم  "خير السنام" وهو "الجهاد"  اكتظت معه العاصمة صنعاء ، ومعظم المدن ، بسلاح  "المجاهدين" والمقاتلين  بصورة غير مألوفة ، حرب استنزفت الخزينة العامة للدولة، انتقل بعدها الراتب من   يد الموظف العام، إلى مجرد نفقات "للجهاد"، وإلى رواتب لأيدي "المجاهدين"، أصحاب الشرف الرفيع بالحق "بالراتب" ، وبكل الثروة الوطنية.

فالحرب  في أحد وجوهها مرتبطة بالقتل، والموت، بينما الراتب مرتبط بالعمل والإنتاج ، مرتبط بالحياة، و يشكل  "العمل / الراتب" جذر صيغة الحياة   الاعتيادية الطبيعية  التي تستقيم  وترتكز عليها سيرة حياة ملايين الناس البسطاء  الأشد فقراً ، والمتوسطة ، ومن يعيشون على هامش دورتها المالية الإقتصادية.

إن أمر إيقاف الراتب وتأخر وصوله إلى مستحقيه  ومن يعتاشون به يوماً بيوم ،  "وجبة بوجبة" يعني قرار  إشعال  حرب ثانية ، هي الأبشع والأكثر قسوة ووحشية ، من قرار الحرب العسكرية ذاتها ، فمن استسهل   أمر قرار الحرب ، من أجل السلطة، والملك، قطعاً لا يدرك خطورة وحساسية  قراره بإيقاف راتب الملايين ممن هم أصلاً فقراء، ومتوسطو الدخل، الذين استكمل القرار  بإيقاف الراتب عنهم -تحت أي حجة أو ذريعة-  استكمل تحويلهم  إلى معدمين ، وتحت أدنى خطوط الفقر  الآيلة لما نشاهده من مجاعة عابرة للجغرافيا، ولكل القيم الإنسانية ومدمرة لوحدة التاريخ الوطني، ناهيك عن بقاء ووجود الناس على قارعة الحياة  شبه أحياء . وهذا الحديث مرسل وينطبق على سلطة صنعاء وسلطة عدن ، وعلى سلطة عدن  بصورة أكبر المعنية مباشرة بقضية رواتب موظفي الدولة التي وعدت أكثر من مرة بصرف رواتبهم.

إن صبر الناس على الحرب العسكرية  قد  تبرره ، وتشفعه  تأويلات أيديولوجية ، وسياسية   كثيرة ،  وإن غياب موقف موحد فاعل يساعد عليه واقع انقسامات وتمزقات طالت النسيج الاجتماعي، والثقافي، والوطني، ومست حتى عمق     الأواصر  الاجتماعية والثقافية التاريخية، سيكون لها ، ما لها، على مستقبل الوحدة الوطنية،  ومستقبل وحدة الكيان(شعباً، ودولة)   في ما سيأتي من الأيام، خاصة إذا ما طال أمد الحرب ، وتراكمت تداعياتها ، المأسوية    على واقع حياة الناس.

وفي سياق هذا الحديث الجارح والمتأزم عن الحرب والراتب ، وأقولها بكل وضوح ، أن من أتخذ قرار الحرب ورتب وهندس لإخراج ذلك القرار / والرغبة ، هو من أعطي الحصانة المجانية ، ومن رفض عملياً نقل السلطة ، وهو من كان يمتلك بالفعل مفردات ومعطيات وأدوات الدولة العميقة  ويتحكم بمجرياتها ، ومن قاده حلمه بالتوريث إلى جنون الانتقام والثأر ، من كل العملية السياسية التوافقية ، سعياً منه إلى خلط الأوراق الداخلية والإقليمية والدولية ، لأنه لم يكن يتصور يوماً أن يقف خارج دائرة الجاه والسلطة والملك ، ولذلك ذهب ضحية وهمه بقدرته  على اللعب إلى ما لانهاية "برؤوس الثعابين" ، ولذلك مات  تلاحقه لعنات الجياع والشهداء والجرحى ، مات"دون أن يعذر" ورحم الله "الملك الضليل /أمرؤ القيس" الذي قد نجد له ألف عذر ، على الأقل ، أنه جنى على نفسه ، ولم يضر أحد من بعده كحالنا مع علي عبدالله صالح .

من اتخذ قرار الحرب العسكرية، كان يقف خلفه داعي السلطة، والحكم ، أما من وصل به  الأمر حد التجرؤ على استسهال إيقاف راتب ملايين الأسر ، فهو قطعاً لا يمتلك أدنى حساسية   إنسانية ، ولا ذرة وعي بالمسؤولية تجاه شعبه ، وفاقد للمسؤولية الأخلاقية ، والوطنية ، قبل   المسؤولية  السياسية ، ذلك أن قرار الحرب العسكرية من أجل الملك، (السلطة، والثروة) لا      يعطيه الحق في إعلان الحرب على  الراتب ، الحرب على معظم طبقات وفئات، وشرائح المجتمع ، ممن هم أصلاً يعيشون  بالراتب تحت خط الفقر، وهنا المسؤولية مضاعفة، وكلفتها خطيرة، وفائضة على  الراتب .. الحرب على قدرة الناس     على احتمالها ، وهي صعبة حتى على كل من يريد الاستمرار في الحكم.

إن كلفة مصادرة راتب الناس ، اجتماعياً وحياتينا ، – لأكثر من سنة ونصف- وتبعاتها ،   الأخلاقية ، والإنسانية ،  هو أمر فوق مستوى تصور من ساهم في منع وصول الراتب إلى مستحقيه.

إن اغتيال الراتب هو أبشع أنواع القتل ، وجريمة مع سبق الإصرار ، قتل  يلاحق المواطن / الفقير عديم الحيلة ، يلاحقة بالافقار المنظم ، وبالمرض ، وفقدان القدرة على العلاج ، يلاحقه بتدني مستوى التعليم ، وتوقفه ، يلاحقه بالمجاعات التي تفتك بإطفاله وهو مشلول القدرة على الفعل .  وبهذا المعنى فقرار الحرب والإصرار على استمرارها هو بالنسبة للحرب على الراتب أمر أخف وطأة من قذيفة الحرب التي تقتلك لمرة واحدة وكفى!! أما رصاصات اغتيال الراتب "حرب الراتب" فهي رصاصات لآ يتوقف تسديدها  ، صباح مساء ، إلى أدق خصوصيات حياتك اليومية.

عودة الراتب إلى أصحابه، لمن يدرك ويعلم ، يخدم من يريد أن يحكم بمثل ما يخدم أصحاب     الراتب (متوسطي الدخل، والفقراء) ، فالعلاقة بينهما جدلية، ومترابطة.. فكيف لمن ينشد السلطة، والمال،(الثروة) لنفسه  أن يمنعها عن الشعب ، صاحب السلطة  والثروة ومصدرهما.

الحكم ، (مسؤوليات، وواجبات) ، وهذه أبسط التعريفات الأولية لمعنى الحكم،  والحاكم في كل الأديان والشرائع والقوانين، السماوية، والأرضية.

قرار إعلان الحرب العسكرية، سياسي، وأثره محدود، اجتماعياً، ووطنياً، (على قسوة، وبشاعة الحرب على كل المستويات) ، على أن قرار منع ومصادرة الراتب (المعيشة ، والحياة)  عن الناس ،   هو الخلاصة اللاإنسانية النهائية ، لكل الحروب في التاريخ، وتحديداً في تاريخ الحرب اليمنية الجارية.

أدرك جيداً أن الراتب ومصائره الراهنة هو واحدة من النتائج السيئة للحرب، وليست هي مقدمة للحرب، مثل غيرها من  المظاهر والتجليات البشعة  للعنف في التاريخ، على أن  مصادرة راتب  الملايين مع استمرار الحرب، يعني  عقوبة مركبة  قاسية ومضنية لأغلبية الشعب العامل ، يمكن معها أن تتحول هذه        الملايين ليس فقط إلى مقاتلين  معصوبي الأعين في خضم هذه الحرب ، بل وتحول عشرات الآلاف منهم ، إلى "قاعدة" ، و"دواعش" ، بحق ، وإلى قيادات لجماعات "الجريمة المنظمة" ، وغير المنظمة، ومخزن / مستودع  لقطاع  طرق، وجماعات اغتصاب، وقتل . إنهم  بوعي وبدون عقل منظم يؤسسون للفوضى العامة، بعد أن سدت جميع السبل والآفاق أمامهم للحياة السوية، الطبيعية وفي أدنى الحدود.

من يشتغلون في الفضاء السياسي والحقوقي والإنساني ، إن لم تخصهم وتعنيهم قضية مصادرة الراتب عن حياة الملايين  ولأكثر من سنة ونصف ، لا أعتقد ، بعد ذلك أن هناك هما أخلاقياً ، أو وطنياً يمكنه أن يعنيهم . ومن هنا افتقار بعض الكتابات لملامسة ومتابعة هذا المبحث  الإنساني / الوجودي الذي يطال صلب حياة الناس ومعنى وجودهم . إن الموقف السلبي / اللامبالاة من مصادرة الراتب في عقل وسلوك البعض يعني أننا لم نرتفع لمستوى عقل الدولة ، وهو تجسيد وعنوان لغيابها في وعينا وسلوكنا مهما تشدقنا  بالخطاب الشعاري حول السلام ، والمواطنة المتساوية ، وبناء الدولة.

 إن الحرب الجارية على الراتب منذ أكثر من سنة ونصف هو تعبير عميق عن غياب واحساسنا بالمواطن الفقير ومتوسط الحال الذي تقتله حرب الراتب أكثر من الحرب العسكرية الدائرة.

والمثير للغرابة والدهشة أن العديد من رموز النخبة السياسية والثقافية في أبراجهم العاجية من المهتمين بالشأن السياسي والاجتماعي والوطني ، يتحدثون ويكتبون في تفاصيل وحواشي كل شيء إلاَّ قضية الراتب وحق الناس فيه ، مع أن الحق في الراتب ، يدخل ضمن جميع التفاصيل السياسية والإنسانية فهو : قضية حقوقية من الدرجة الأولى ، وقضية سياسية ، ودستورية وإنسانية.

ويبقى السؤال محيراً وقائماً : إذا كانت سلطة الأمر الواقع في مناطق نفوذها وسيطرتها ترفض مطلب تسليم ايرادات الدولة للبنك المركزي في العاصمة  المؤقتة عدن ، لأنها لا تعترف بذلك البنك ولا بتلك السلطة ، ومشتبكة معها في حرب عسكرية لأكثر من ثلاث سنوات ، فما هو ذنب موظفي الدولة في هذه المناطق في حرمانهم من رواتبهم لأكثر من سنة ونصف؟ فهل المطلوب من الموظفين  المدنيين العزل حمل السلاح للحصول على رواتبهم؟!

وفي الأول والأخير : الحكم  مسؤولية  وواجبات .. هذه مقابل تلك ، فلا يعقل أن تحكم دون   أدنى مسؤولية  عمن يقعون تحت مسؤوليتك، ونطاق حكمك . إن مشقة الحرب ، وصبر الناس عليها كاد أن ينفد مع استمرار وصول الراتب إليهم، فكيف بعد قطعه عنهم، وهو مصدرهم الوحيد للعيش والحياة.

الحرب قائمة ومستمرة في سوريا ، وليبيا ، منذ سبع سنوات مع ذلك يصل الراتب في تلك المناطق المشتعلة إلى جميع مستحقيه.

نقول ذلك قبل أن يسبق السيف العذل  ، وتخرج الأمور عن السيطرة، وتفلت الأمور من    أيدي الجميع ، في أمر إدارة الشأن الخاص، والعام.

قراءة 3307 مرات

من أحدث قادري احمد حيدر