طباعة

براجماتية "ترمب" تبدد وجاهة وغموض القرار السياسي

الإثنين, 28 أيار 2018 00:13 كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

 

"السياسة اقتصاد مكثف" ، قانون من قوانين الحياة المعاصرة والقديمة .

لا توجد نظرية سياسية أو قرار سياسي على وجه الأرض إلا ويقف الإقتصاد خلفهما ، أو حاملاً لهما، بكل ما يعنيه من مصالح ومنافع مادية وغير مادية ، متصادمة أو متكاملة.

تتحرك السياسة مع الاقتصاد ، حتى وإن بدا أن هناك مساحة يبقيها الاستراتيجيون للمناورة ، لكنها لا تملأ إلا بالأدوات التي يقررها الاقتصاد وهي الأدوات الأمنية والعسكرية والعقابية الاخرى.

الاقتصاد والمال أدوات عقاب سياسية بيد الدول العظمى تماماً مثلما هي مكافئ مبشر بنجاح السياسة لأي بلد من هذه البلدان.

يحاول القادة السياسيون الكبار على صعيد العالم تهذيب هذه الحقيقة في محاولة لإكساب السياسة بعداً منزهاً ،أو بالأصح تجريدياً ، من خلال إخفاء الحمولة الإقتصادية لكل قرار سياسي ، وهي القاعدة التي بدد الرئيس الأمريكي الحالي "ترمب" غموضها ، وأخذ يتجول داخل هذه العلاقة المتداخلة بمهارة رجل الأعمال المتمرس في إدارة الصفقات التجارية وبشكل نفى معه مثالية القرار السياسي ، وجرده من الغموض الذي ظل يمارس على نطاق واسع.

الحالة الكورية اليوم هي صورة تطبيقية لتسويد صفحة السياسة بكل ما يحيط بها من بهاء وعنفوان ، مع التأكيد على أنها مطية الاقتصاد والمال لا أقل ولا أكثر .. وما عدا ذلك مجرد تفاصيل لا تغير من هذه الحقيقة الشيء الكثير.

الارتباك الذي ظهر على مسار هذه العملية كان سببه إقتصادي بحت ، كما عبرت عن ذلك المعلومات التي تسربت عن صفقة السلاح الضخمة التي كانت كوريا الجنوبية على وشك أن تعقدها مع إدارة ترمب ضمن عملية التسليح الهائلة والمتواصلة التي تتولاها أمريكا في مواجهة كوريا الشمالية .. وعندما خفت حدة التوتر بين الكوريتين ، وبدا أن إتفاقاً شاملاً يوشك على التوقيع قوامه تفكيك المشروع النووي الكوري الشمالي .. تساءل المقربون من ترمب عن مصير تسليح كوريا الجنوبية ، وخاصة بعد أن ظهرت تلميحات كورية عن عدم جدوى نشر الصواريخ التي شملتها هذه الصفقة في حالة تفكيك المشروع النووي الشمالي.

وحتى لا يبدو الأمر وكأنه بهذا المستوى من الهزال فقد أخذ معاونو ترمب يلمحون عن خشيتهم من إتفاق كوري - كوري بمباركة صينية وخاصة بعد الزيارة الثانية لزعيم كوريا الشمالية إلى الصين منذ إعلان التقارب الكوري -الكوري ، ولا شك أن هذه المخاوف قد أعطت للخطوة الامريكية بإلغاء اللقاء في سنغفورة بعداً استراتيجياً ، لكنه في كل الاحوال لا يذهب بالمسألة إلى أبعد مما يجعل من السياسة مطية للاقتصاد ، خاصة إذاعرفنا عمق المشكلة الاقتصادية الحالية بين الصين وأمريكا ومعها الدول الصناعية الغربية عموماً بسبب إغراق الانتاج الصيني لهذه الاسواق في سابقة لم تستطع معه الدول الصناعية المتقدمة إخفاء مخاوفها مما تحمله من مخاطر على اقتصادها.

في هذه الأثناء زار رئيس كوريا الجنوبية واشنطن ..وترافقت الزيارة مع الحملة الإعلامية المتبادلة التي لمح فيها الرئيس ترمب بإلغاء اللقاء المقرر عقده مع زعيم كوريا الشمالية في سنغفورة يوم ١٢ يونية القادم.

كان واضحاً أن الرئيس الامريكي يضغط بأدوات تحمل دلالات لا تقبل أي جدل على أن الإقتصاد محرك أساسي في مسار الاحداث ، ويتجاوز كل البوابات الأخرى إلى التاريخ عند زعيم لم يرتق إلى ما وصل إلا من بوابة واحدة : هي التجارة والمال.

ويبدو أن الضغط قد أثمر فور توجيه الرسالة التي ألغى بموجبها اللقاء وترك الباب موارباً لمعرفة رد الفعل والذي جاء على لسان المتحدث الرسمي للرئيس الكوري الجنوبي الذي صرح بعد اعلان الرسالة بالقول" إننا نريد أن نكتشف نوايا الرئيس ترمب والمعنى الحقيقي من وراء رسالته".

هذا ما يستطيع أي مسئول كوري جنوبي أن يقوله في مثل هذه اللحظة الحرجة . غير أن التصريح يحمل معانٍ كبيرة ، وهي أنه عندما تتصدر المشهد المصلحة الامريكية بتعبيراتها الاقتصادية فإن القرار هنا لا بد أن يخدم هذه المصلحة مهما كانت طبيعة العلاقة التي تربط بين الدولتين .وأن الدولة التي تعيش بحماية غيرها لا تستطيع إلا أن تنتظر حتى لا يكون الثمن مضاعفاً.

كان ترمب قد سخر من الذين يبحثون عن بوابة للتاريخ غير بوابة البنوك .. كان هذا في بداية عهده برئاسة دولة عظمى - للتاريخ فيها أكثر من باب . فهل اكتشف الآن بقية الأبواب أم أنه لا يزال متمسكاً بالباب الذي أوصله إلى رئاسة أعظم دولة في العالم ؟

العالم الذي تعود أن يبحث المتغيرات السياسية وسط كومة من الاسباب التي لا تقدم إجابات واضحة في كثير من الأحيان ، جاء ترمب ليبسط المسألة ، ولم يفعل شيئاً إستثنائياً فيما يخص حقيقة أن "السياسة إقتصاد مكثف" سوى أنه أخذ يدير السياسة من فوق الطاولة وعلى المكشوف بعد أن أخرجها من تحت الطاولة.

قراءة 4158 مرات آخر تعديل على الإثنين, 28 أيار 2018 00:25

من أحدث د. ياسين سعيد نعمان