طباعة

الهُوية وحفظ الذاكرة الوطنية

الخميس, 31 أيار 2018 22:03 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)


إهداء إلى شاعر الوطن والكرامة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح

لا يستطيع المثقف الفردي أو الجماعي أن يحمل السلاح لإيقاف الحرب التي يسعى فيها المحاربون بالأصالة أو بالوكالة إلى تفكيك الدولة والهُوية الوطنية اليمنية واغتصاب السلطة وتفتيتها إلى كنتونات مشرذمة ممزقة تسهل للطامع الأجنبي السيطرة على دويلات ضعيفة بدون هُوية ولا سيادة ولا كرامة ولا طموح. لكن المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين: الرسامين والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين، يستطيعون مقاومة العدوان على الدولة والمجتمع، واحباط أهداف التفكيك الإيرانية والمشاريع الإقليمية الأخرى التي تلتقي معها أي كان مصدرها، تركيا أو دول مجاورة، والمحاربون بالوكالة عنهما بصورة مباشرة أو تأجيج الحرب بالتحريض الطائفي: السلالي والمذهبي، وذلك بإشاعة ثقافة التسامح والقبول بالاختلاف والتعدد والتنوع وبلورة رأي عام وتوجهات ثقافية وسياسية عابرة للمذاهب والمناطق والطوائف والسلالات وإبراز أهمية العيش المشترك وعوامل القوة والوحدة.

ثمة موقفان يبدوان متعارضان، لكنهما يصبان في مشروع واحد، مشروع تفكيك الدولة والهُوية اليمنية. الموقف الأول: يرفض الاختلاف والتنوع والتعددية داخل الهُوية الجامعة، واعتبار الهُوية، هي العنصر الديني وحده، وهي الوحدة التي لا تقبل التعدد أو الشراكة الوطنية، وترفض التعامل مع عناصر الهُوية الوطنية الأخرى، العنصر القومي العربي والتعدد الثقافي، وهذه هي الجماعات الدينية التي تعمل لصالح الهُويات الأجنبية خاصة الإيرانية والتركية والتي تسعى لإيجاد هُويات غريبة عن اليمن واليمنيين وايديولوجية ماضوية تحتمي به باستجلاب طقوس دينية غريبة عن اليمنيين، وتحديداً من إيران وجنوب العراق وجنوب لبنان، وهو ما تقوم به الجماعة الحوثية. وتلتقي معها في هذا العمل التفكيكي الدعوات المضادة باستعادة الاستعمار التركي-الخلافة الإسلامية، أي العودة إلى المستعمرين السابقين لليمن: إيران وتركيا. أو تفكيك اليمن إلى دويلات دينية مذهبية أو سلالية يسهل تحقيق طموح السيطرة لدول الاقليم الكبيرة والصغيرة منها.

وأصحاب هذا الموقف وذاك المختلف مظهراً والمتفق جوهراً لا يعترفان حتى ببعضهما كقوة دينية تنفي الآخر المختلف وفي إطار الدين الواحد. ناهيك عن الأديان الأخرى.

الموقف الثاني: هو موقف القوى الساعية إلى الخلاص من مخاطر سيطرة قوى دينية معينة تسعى لإقامة دولة التسلط الديني المذهبي أو السلالي. وبفعل الخوف الذي أوجدته القوى الأولى المتمثلة في الجماعة الحوثية وحلفاؤها من النظام القديم والتنظيمات الإرهابية السنية المتعددة كالقاعدة وأخواتها والقوى التي تتفق معها في السر أو العلن، يأتي الموقف الثاني تعبيراً عن هذا الخوف والإحباط والتفكك الذي أصاب المجتمع وفقدان أجزاء منه للشعور بالانتماء لليمن، الأمر الذي يساهم بدوره في التفكيك، بسبب البحث عن هُويات جديدة مصطنعة، لا تستطيع التعبير عن نفسها إلاَّ بالاحتماء بهُويات دول إقليمية يُعتقد خطأ أنها هُويات قوية تقدم لها الدعم بالمال والسلاح، وهو دعم يقدم لها أيضاً من خلال قوى دينية- عسكرية باتجاه التفكيك للهُوية اليمنية والوحدة الترابية. وهذا الموقف تمثله بعض القوى العسكرية المقاومة للانقلاب، والتي صارت تعمل بالوكالة عن القوى الداعمة للشرعية وتقر بولائها للدول الداعمة وليس لشرعية الدولة اليمنية، وهؤلاء وأولئك يتفاخرون بشجاعة اعلان التبعية لإيران وأذرعها العسكرية في عالمنا العربي أو الترويج للتفكيك والدعوة إليه علناً، علاوة على عدم التحرج من إعلان الولاء لدول أجنبية أخرى. وهذا الأمر أوجد حالة من خوف الكل من الكل وحرب الكل ضد الكل.

وهذا السلوك لا يمت بصلة للشجاعة، فالشجاعة هي مواجهة العدوان على شرعية الدولة اليمنية وتفكيكها لإعادة بناء المفكك والمشتت، والدفاع عن الهُوية الجامعة، كونها الأداة الجامعة للإنسان اليمني واستعادة كرامته، وهي أداة توحيد وتوفير شروط وعوامل المشترك العام بين اليمنيين. وهذه المهمة يستطيع المثقف الفردي والجماعي أن يسهم فيها وفي إعادة البناء المعنوي والروحي لليمنيين، وبث الشعور الإيجابي بالكرامة والهُوية. وهناك عدد قليل من المثقفين صار يقوم بهذا الدور، لكن المهمة عظيمة وضخمة تحتاج إلى مشروع مؤسسي للنهوض بها من خلال مؤسسات الدولة والمجتمع.

نحن بحاجة إلى بعث الروح في الهُوية والتجديد والتطوير لها، لكن ذلك لا يعني تفكيك الهُوية الوطنية، وإنما إعطائها مفهوماً حديثاً يجعلها قابلة لاستيعاب التنوع والتعدد والاختلاف في إطار وحدة الهُوية ووضع قطيعة مع الهُويات التمزيقية القبلية أو الجهوية أو الاصوليات الدينية الرافضة للتغيير والتقدم، وأن تكون الدولة راعية للجميع وأن يكون الوطن ملاذاً لكل أبنائه، الذين يستطيعون الافتخار بالولاء للدولة، وبالانتماء إلى الوطن اليمني، وليس للقبيلة أو المنطقة أو للأجنبي. مما يجعل ابن عدن قادراً على أن يتمسك بخصوصيته الثقافية أمام الصنعاني، ويفتخر بيمنيته أمام الإمارتي أو السعودي، وبعروبته أمام الأمريكي أو الألماني. ويكون بمقدور الصنعاني التمسك بخصوصياته الثقافية أمام العدني، ويفتخر بيمنيته أمام القطري، وبعروبته أمام الإيراني أو التركي. والمحيط الجامع للعدني والصنعاني والسقطري والصعدي تاريخياً وعادةً وتقاليداً وطقوساً وحتى الشكل الخارجي للبشر، هي اليمن. وهو المحيط الأقرب من أبوظبي أو الدوحة أو الرياض، ناهيك عن طهران أو إسطنبول. وما من شك أننا كيمنيين نستطيع أن نجد المشترك الأكبر وإمكانية الاعتماد المتبادل على بعضنا في محيطنا الأقرب جغرافياً وتاريخياً وثقافة، بما في ذلك، العادات والتقاليد ونمط العيش وطقوسه ومنظومة القيم الإنسانية والشكل الخارجي للإنسان.

لا تتطلب عملية التفكيك جهداً كبيراً ولا حكمة ولا شجاعة، وإنما تتطلب فقط التحلل من القيم الوطنية، وعدم الاكتراث بالأخلاق الموروثة أو المكتسبة التي تعلي من شأن الوطن والكرامة، وشيء من التشجيع والدعم الخارجي بالمال أو السلاح، والدعم الداخلي بالاستجابة إلى دعوة الانكماش والاحتماء بالمنطقة أو العشيرة أو القبيلة، وإثارة مشاعر الكراهية ضد الآخر. لكن استعادة الوحدة الوطنية ووحدة التراب الوطني تتطلب جهداً كبيراً وتنازلات وتضحيات وقوة معنوية كبيرة. 

لدى المثقف قوة هائلة إن هو استعملها، وهي الهُوية اليمنية، وكون الهُوية كما أكد مفكرون معتبرون تشكل التعبئة السياسية الكبرى، والموروث المشترك يشيد صرح العيش المشترك، وهما ما يستطيع احيائهما المثقف.

بيد أن الحشد لحماية الهُوية أو لاستحضار الموروث المشترك، كما أسلفنا، يحتاج إلى عمل مؤسسي منظم، ومؤسسات متخصصة توصل وقائع التاريخ المشترك والذي كتبه الأوائل والمحدثين، وأخرى تشيع المعرفة بالفولكلور والميراث الثقافي المشترك، والنصب التاريخية، وفي مقدمتها شبام حضرموت، وصهاريج عدن، ومدينة تعز القديمة، وشبام الغراس، وصنعاء القديمة. بالإضافة إلى المناظر الطبيعية الرمزية، بما في ذلك، أبرز النباتات الفريدة أو المميزة في اليمن كشجرة البن، ودم الاخوين وشجرة الغريب. وكذا نشر الابداع الفني والادبي الذي قد تم أو يجب أن يتم، كالشعر والقصة والرواية والموسيقى واللوحات الفنية التي تجسد الوحدة الوطنية وتعلي من شأن الوطن والكرامة، وغير ذلك من مجالات الابداع الفكري والادبي والفني.

إذن تقع على عاتق المثقف اليمني الفردي والجماعي في هذه الظروف الصعبة مهمة وطنية نبيلة لإقامة مشروع يحشد المفكرين والعلماء والأدباء والفنانين لنشر أو انتاج الابداعات لحماية هُويتنا الوطنية وتطويرها وإعادة تشييد صرح العيش المشترك، واستعادة الدولة الوطنية كاملة السيادة والموحدة الإرادة، والقادرة على حماية وحدة الأراضي والتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار.

تبدأ مهمة الأحزاب في الدفاع عن الهُوية الوطنية، في الدفاع عن الهُوية الوطنية للحزب نفسه، وحماية الوحدة التنظيمية والفكرية مع تطوير بنيته، حلما تتوفر الظروف الملائمة، لاستيعاب التعدد والاختلاف في إطاره وإطار المجتمع، ثم الانطلاق إلى استعادة التضامن فيما بين الأحزاب وإقامة تحالف عابر للطائفية المذهبية أو السلالية أو المناطقية أو القبلية.

غير أنه يمكن أن يطرح سؤال هنا، ما الذي يكون بمقدور المثقف الفردي والجماعي فعله تجاه الأسباب التي أدت إلى البحث عن زمرة داخلية، أو عشيرة، أو قبيلة، أو منطقة، أو عن سلالة، أو عن دولة أو دول خارجية للاحتماء بها بحثاً عن الأمان وهروباً من الخوف الذي أوجدته الحروب الأهلية بدءً من حرب 1994م وانتهاءً بالحرب الدائرة الأن منذ عام 2014؟ وهذا سؤال موضوعي وواقعي. صحيح أن إزالة الأسباب التي أدت إلى التمزق والتفكك تحتاج إلى دولة تمتلك القوة الكافية لحماية وحدة البلاد وسلامة أراضيها، غير أن الصحيح أيضاً أن المثقف يمتلك قوة ناعمة، لكنها قوة فاعلة ومؤثرة، هي قوة المعرفة التي تجعل منه نواة المجتمع الصلبة، وبقوة المعرفة وقوة وحدة الهُوية أو الهُوية الجامعة، يستطيع المثقف استعادة الروح الوطنية والشعور بالكرامة، ولا كرامة بدون وطن كامل السيادة موحد الإرادة ومستقر وآمن. مما يجعل كل مواطن يتحلى بهذا الشعور قادراً على المشاركة باستعادة الدولة والسيادة والوحدة الوطنية، وليبدأ المثقف من اليوم وليس غداً، لأن الغد قد يكون متأخراً. 

وأعتقد أن الانطلاق يجب أن يبدأ من المثقف الحركي، خاصة مؤسسات المجتمع المدني: الأحزاب والمنتمون إليها والمنظمات الإبداعية والمنتمون إليها، بإطلاق نشاطات وفعاليات تصب في مشروع واحد، هو مشروع إحياء الذاكرة الوطنية وحفظها من خلال التاريخ، والجغرافيا، والمقالة، والرواية، والقصة، والمسرح، والسينما، والتصوير، واللوحة التشكيلية، وغيرها من الفنون.

قراءة 3098 مرات آخر تعديل على الجمعة, 01 حزيران/يونيو 2018 23:05

من أحدث أ.د. محمد أحمد علي المخلافي