طباعة

في معنى العلمانية

الخميس, 28 تشرين2/نوفمبر 2019 22:15 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

         العلمانية ليست عقيدة ولا هي أيديولوجيا، وهي بهذا المعنى لا تفتش في ضمائر الناس لا عن إيمانهم ولا عن إلحادهم، وليس لها تحيزات مع الملحد ضد المؤمن ولا مع المؤمن ضد الملحد. وإذا جاز القول بأن فلاناً ملحد وعلاناً مؤمن فمن الخطأ الاستنتاج بأن الأول علماني والثاني غير علماني، ذلك أن الإيمان الديني عقيدة والإلحاد عقيدة مضادة له، بينما العلمانية ليست عقيدة، بل هي أعلى مستويات الحياد العقائدي والأيديولوجي.

         إن العلمانية ليست صفة لصيقة بالأفراد وإنما بالدولة الحديثة في أوروبا المعاصرة، فالدولة هناك علمانية. والدولة العلمانية هي بالضرورة دولة محايدة تجاه الأديان والمذاهب والأيديولوجيات. والمواطن الأوروبي متمسك بعلمانية الدولة التي يعيش في ظلها لا فرق في ذلك بين ملحد وراهب في كنيسة. والذي يجعل المواطن الأوروبي متمسكا بعلمانية دولته الوطنية هو الوعي بماهية الدولة الحديثة كمكسب حضاري ما كان بمقدور الحضارة الأوروبية المعاصرة أن توجد بدونه.

         إن المعجزة الكبرى التي ابتكرتها أوروبا المعاصرة هي الدولة الحديثة، أما الإنجازات التي نراها على صعيد العلم والتكنولوجيا وثورة الاتصال فلم تنشأ إلا على هامش هذه الدولة وبفضلها، ولولاها لكانت أوروبا –مثلنا-غارقة في الحروب، ولكان العالم في ظلام دامس يقتاته الفقر والجهل والأوبئة والأمراض الفتاكة.

         وبما أن العلمانية لصيقة بالدولة الحديثة فمن الصعب على أي منا أن يتصورها ما لم تكن لديه أولا فكرة عن الدولة الحديثة نفسها. وبما أن الأشياء تعرف بأضدادها فمن المتعذر علينا التعرف على الدولة الحديثة ما لم نتعرف أولا على الفروق الجوهرية بينها وبين الدولة القديمة.

          وقبل الذهاب إلى عقد المقارنات بمقدورنا أن نتخيل الدولة منذ أن انبثقت في التاريخ على أنها آلة (ماكينة) ظلت لمئات القرون تعمل بالطريقة نفسها في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة وفي كل الحضارات مع بعض الفروق الناجمة عن اختلاف الثقافات. وعندما بدأت أوروبا تغادر القرون الوسطى وتخطو خطواتها الأولى باتجاه النهضة والأنوار ومن ثم باتجاه العصر الحديث ألقت هذه المتغيرات بظلالها الكثيفة على ماكينة الدولة وأخذت التحسينات تدخل على هذه الماكينة بالتدريج ولكن ليس بغير صراع. وكان من نتائج التحسينات التي توالت على الماكينة-الدولة أن خرجت أوروبا الغربية من عصر الامبراطوريات الدينية إلى عصر الدول القومية. والتحول الجوهري في هذه العملية هو تحول الشعوب من الأخوة في الدين في ظل الدولة القديمة إلى الأخوة في الوطن في ظل الدولة الحديثة التي لم تعد تنظر إلى الشعب على أنه جماعة من المؤمنين وإنما باعتباره تنوعا هائلا لأفراد توحدهم في منظور الدولة الحديثة حقوق وواجبات المواطنة.

         بمقدورنا أن نسرد عشرات الفروق الجوهرية بين الدولة القديمة والدولة الحديثة لكنا هنا سنكتفي فقط ببعض الفروق التي تساعدنا على إدراك ماهية العلمانية. وعلى هذا الأساس فإن أول ما يستوجب لفت الانتباه إليه هو أن الدولة القديمة قامت في كل زمان ومكان على قاعدة الغلبة والاستقواء بينما الدولة الحديثة لا تقوم إلا على قاعدة التوافق الوطني بين كل أطياف المجتمع. ويترتب على ذلك أن معرفتنا بالدولة القديمة لم تنشأ إلا بعد أن رأيناها متجسدة ومتعالية علينا في الجغرافيا بينما يتعذر على الدولة الحديثة أن توجد في الجغرافيا قبل أن تتخلق وتتكون في الوعي أولا، وذلك لأنها نتاج إبداع حضاري وليست نتاج غلبة واستقواء. ومن حيث التسيير تدار الدولة القديمة على قاعدة الاقصاء والاستبعاد والتقريب الانتقائي بينما تدار الدولة الحديثة على قاعدة التنافس الديمقراطي بين مواطنين أحرار. وإذا كانت الدولة القديمة تطبق قانونها انتقائيا على رعاياها وتقاوم تطبيقه على نفسها فإن الدولة الحديثة تخضع هي نفسها للقانون مثلها مثل مواطنيها، ولذلك بمقدور أي مواطن في الدولة الحديثة أن يقاضي أي مؤسسة من مؤسسات الدولة حتى وإن كانت هي مؤسسة الرئاسة. وإلى ذلك يلاحظ على الدولة القديمة أنها دائما دولة متحيزة أيديولوجيا سواء كانت الأيديولوجيا دينية أو دنيوية. وأخيرا الدولة القديمة دولة محافظة تقاوم التغيير بينما الدولة الحديثة دولة مرنة تقبل التغيير، وقد ترتب على مقاومة التغيير أن الدولة القديمة لا تؤسس لاستقرار دائم وسلام مستدام وإنما تجتاحها الثورات والحروب الدورية الأمر الذي يجعل منها دولة غير تنموية، وعلى العكس من ذلك تتسم الدولة الحديثة بالاستقرار الدائم والسلام المستدام الذي يوفر ظروفا مثالية لانخراط المجتمع كله في التنمية الشاملة وصناعة الرفاه والحضارة.

         وبغير العلمانية ومعها الديمقراطية ما كان بمقدور الدولة الحديثة أن تكون على هذا النحو الذي بينًّاه. فكيف تم ذلك؟ بما أن الدولة الحديثة تتخلق أولاً في العقل كإبداع وفتح معرفي فإن الوعي بها قام على وضع حدود صارمة بين مجالين هما المجال العام والمجال الخاص. ويتألف المجال العام من: الجيش؛ الشرطة والأمن؛ القضاء؛ الجهاز البيروقراطي للدولة (الخدمة المدنية)؛ التعليم بكل مكوناته ومستوياته؛ العلاقات الخارجية والسلك الدبلوماسي. أما مكونات المجال الخاص فهي: المواطن الفرد؛ الأسرة؛ النقابة؛ الحزب السياسي؛ ثم الكنيسة، المعبد، الجامع.

         والملاحظ على مكونات المجال العام أنها مما يجب أن يكون مشتركا بين كل مواطني الدولة، ولهذا سمي بالمجال العام ليقف على مسافة واحدة من كل المواطنين دون أي تمييز بينهم على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو محل الميلاد أو الثقافة أو المعتقد أو الطبقة الاجتماعية...الخ. بينما الملاحظ على المجال الخاص أنه ميدان واسع للتنوع والخصوصيات التي لا حصر لها.

         أما الحدود الصارمة بين هذين المجالين فالمراد بها حماية المجال الخاص من تغوُّل المجال العام وحماية المجال العام من أي اختراق يمكن أن يأتي من داخل المجال الخاص. وبطبيعة الحال لم تتكون الحدود الصارمة بين المجالين من أسلاك شائكة وإنما من منظومة حمائية من القوانين والتدابير المؤسسية، فضلا عن الوعي الجمعي الذي يقاوم أي مساس بهذه الحدود. والعلمانية والديمقراطية هما عمادا المنظومة الحمائية التي تمنع المجال العام من التغول على المجال الخاص وتمنع المجال الخاص من اختراق المجال العام، مع ملاحظة أن العلمانية والديمقراطية لا تلتقيان داخل مجال واحد وإنما لكل منهما اختصاصه وحدوده التي لا يتعداها.

         إن العلمانية لا تمارس فاعليتها إلا داخل المجال العام حيث عيناها مفتوحتان على أي اختراق يمكن أن يأتي من داخل المجال الخاص للتأثير على حيادية المجال العام ومنعه من الوقوف على مسافة واحدة من كل المواطنين، وليس للعلمانية أي عمل غير هذا. بينما لا تمارس الديمقراطية فاعليتها إلا في المجال الخاص لحمايته من أي تغول يمكن أن يأتي من داخل المجال العام.

         وتأسيسا على ما سبق يستحيل على الدولة أن تكون حديثة إذا كانت علمانية فقط أو ديمقراطية فقط، وذلك لأن العلاقة بين العلمانية والديمقراطية في الدولة الحديثة علاقة ضرورية كالعلاقة بين أضلاع المثلث وزواياه. فمثلما لا نستطيع أن نتصور مثلثا بزوايا دون أضلاع أو بأضلاع دون زوايا فمن الصعب أيضا أن نتصور دولة حديثة بالعلمانية دون الديمقراطية أو بالديمقراطية دون العلمانية.

         إذا حضرت العلمانية وغابت الديمقراطية فإن العلمانية تتخلى عن طبيعتها كمنظومة تدابير وإجراءات محايدة وتتحول إلى عقيدة استبدادية متحيزة ومتغولة على المجال الخاص الذي يفتقر إلى الحماية، وقد رأينا كيف كانت العلمانية متغولة في تركيا الحديثة قبل أن تأتي إليها الديمقراطية.

         وإذا حضرت الديمقراطية وغابت العلمانية فإن المجال العام يبقى مكشوفا وعاريا من أي حماية، وبالتالي تكون الديمقراطية عبارة عن بقاء دائم في السلطة بالنسبة للحزب الحاكم الذي يستحوذ على المجال العام ويصادره، وتكون عبارة عن بقاء دائم في المعارضة بالنسبة للحزب الذي ليس له أي نصيب في المجال العام.

         الملاحظ أن الكنيسة والمعبد والمسجد جميعها في الدولة الحديثة تقع داخل المجال الخاص وليس مسموحا لأي منها أن تخترق المجال العام. وبالتالي ليس صحيحا القول بأن العلمانية تفصل بين الدين والدولة، والصحيح أنها تفصل بين بين المؤسسة الدينية ومؤسسات الدولة. والمؤسسة الدينية ليست مؤهلة للوقوف على مسافة واحدة من كل المواطنين لأنها إذا كانت مسيحية كاثوليكيه فسوف تتحيز مع الكاثوليك ضد البروتستانت وسوف تتحيز مع البروتستانت ضد الكاثوليك إذا كانت مسيحية بروتستانتية، وقل مثل ذلك عن المسجد الذي سيتحيز ضد أهل التشيع إذا كان سنيا وسيتحيز ضد أهل السنة إذا كان شيعيا. ولذلك ليس مسموحا للمؤسسة الدينية أن تخترق المجال العام.

         إن وقوع المؤسسة الدينية داخل المجال الخاص يعني أنها تتمتع بحماية الديمقراطية التي تضمن حرية المعتقد وحرية العبادة على أي دين مثلما تضمن حرية عدم التعبد بأي دين. لذلك نلاحظ أن المؤمنين في الدولة الحديثة يمارسون طقوسهم وشعائرهم الدينية بدافع القناعات الشخصية المتحررة من أي ضغط عليها، وهذا يجعل تلك الممارسات خالصة من أي شبهة نفاق.

         إن المجال العام المعلمن ينظر إلى كل فرد في المجتمع على أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات ولا يهتم بما هو غير ذلك، وهذا هو الأمر الذي يجعل الدولة الحديثة تقيم علاقة مباشرة مع كل فرد في المجتمع باعتباره مواطنا فحسب ولا تقبل بأي وساطة أو توسط بينها وبين المواطن. فالدولة الحديثة لا تنظر إلا إلى السيرة الذاتية للمواطن (CV) التي على أساسها تقاس معارفه وخبراته ومهاراته وبموجبها تكون المفاضلة بينه وبين غيره من المواطنين، وهي بهذا المعنى لا تهتم أبدا بالمعتقد الديني للمواطن. وعليه ليست العلمانية إذاً موقفا من الدين وإنما هي موقف من الدولة، وهي لا تحمي المجال العام من الأيديولوجية الدينية فقط وإنما من كل الأيديولوجيات التي تسعى لاختراقه تمهيدا لاختطاف الدولة.

         إن القول بأن العلمانية عقيدة هدفها إقصاء الدين من داخل الدولة ومن الحياة عموما هو قول فاسد لا يصمد أمام أي حجاج متسق يقوم على ضبط المفاهيم التي تتعرض لسوء الاستخدام، وفي حدود معارفنا لا يوجد مفهوم تعرض لسوء الاستخدام مثل مفهوم "الدين" الذي يجري الخلط بينه وبين مفهوم "التدين". إن الدين هو الموجود بين دفتي الكتاب (القرآن)، بينما التدين هو الممارسة البشرية للدين. فالدين عندما يغادر حالته المثالية بين دفتي الكتاب إلى مسرح التاريخ فإنه يتأثر بظروف الزمان والمكان ويصبح تدينا مفتقدا لمثالية الدين. وإذا كان الدين ثابتا فإن التدين متغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وهذا يفسر التعدد في المذاهب مثلما يفسر التنوع في التعاطي مع الدين بتنوع الثقافات ولهذا رأينا كيف أن البيئة البدوية القاسية في نجد جاءت بالتدين الوهابي بينما نشأ التدين الصوفي على ضفاف النيل. وإذا كنا نرى جماعات الإسلام السياسي على اختلاف مشاربها تنادي بهيمنة الدين على الدولة فإن هذه المناداة ليست من الدين وإنما من التدين أو قل من الأيديولوجية الدينة التي تبرر لاختطاف الدولة من قبل الإسلام السياسي.

         إن الإسلام السياسي لا يرى الله إلا كائنا سياسيا له أجندة لا يريد أن يحققها إلا عبر الدولة. وبما أن الله لن ينزل من عليائه للهيمنة على الدولة فإن الإسلام السياسي هو الذي يتعالى كي يختطف الدولة نيابة عن الله وباسمه. وأمام ذهنية تفكر بهذه الطريقة تغيب السياسة لتحضر الشعوذة. إن السياسة تدافعٌ سلمي بين أحزاب ديمقراطية جميعها يقف على أرضية بشرية، بينما شعوذة الإسلام السياسي لا تنظر إلى السياسة إلا على أنها منازلة بين ملائكة وشياطين، وبهذا المعنى يؤسس الإسلام السياسي لحروب أهلية يستدعيها من ظلمات القرون الوسطى حين كانت الدولة دينية والشعب هو الجماعة المؤمنة التي توحدها الأخوة في الله. ومعروف أن القضية المركزية لدولة القرون الوسطى هي إعداد الناس من أجل الآخرة وقيادتهم إلى الجنة، بينما الدولة الحديثة لا تهتم إلا بتنظيم شئون الحياة تاركة الآخرة للمواطن الفرد كشأن شخصي يقيم علاقته مع الله مباشرة دون وسطاء.

         في بلد مثل اليمن يصرخ الإسلام السياسي بأعلى صوته: "لماذا نختلف حول تحكيم الشريعة الإسلامية ونحن جميعا مسلمون". وحجاج كهذا ينطلي كثيرا على الأميين وأشباه المتعلمين الذين شكلت عقولهم مناهج مؤدلجة صاغها الإسلام السياسي. صحيح نحن جميعا مسلمون، ولكن من حيث موقعنا في الخريطة الدينية للعالم، نحن مسلمون بالنسبة لأتباع الديانات الأخرى الذين يقاسموننا العيش على كوكب الأرض، أما بالنسبة للدولة التي نريدها فنحن جميعا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات لا فرق في ذلك بين رئيس جامعة الإيمان وعامل النظافة. والدولة التي نريدها لا تفاضل بين الناس بتقسيمهم إلى أصحاب فضيلة متعالين على المجتمع وآخرين بلا فضيلة لا يستقيم إيمانهم إلا إذا باركه "العلماء".

         وفي بلد مثل مصر يصرخ الإسلام السياسي مطالبا بتحكيم شريعة الأغلبية السكانية زاعما أن دين الأغلبية شديد التسامح مع الأقليات. وهذه مغالطة منطقية تكذبها الممارسة البشرية التاريخية للدين حيث يتحول إلى تدين متوحش يقترف جرائمه باسم الدين، والماضي والحاضر طافحان بهذه الجرائم، ويمكننا سرد مئات الوقائع من التاريخ بما في ذلك تاريخ فتوحات المسلمين التي تسمى خطأ ب “فتوحات الإسلام".

          إن جماعات الإسلام السياسي تؤمن فقط بالأخوة في الدين وتكفر بالأخوة في الوطن. ولهذا التفكير مخاطر كبيرة على الوحدة الوطنية وعلى استقرار البلاد. ومن تجليات الكفر بالأخوة في الوطن القول بأن الوحدة اليمنية "فريضة إسلامية" وهو شعار رفع في سياق التحريض على الحرب. والحقيقة أننا لم نتوحد في 22 مايو 1990 لأننا جماعة دينية وإنما لأننا جماعة وطنية، لم نتوحد لأننا مسلمون وإنما لأننا يمنيون بصرف النظر عن معتقدنا الديني. والإسلام ليس قيمة منتجة لليمن الحضاري الثقافي وإنما قيمة مضافة إليه.

         إن الإسلام السياسي الذي يزعم أن الوحدة فريضة إسلامية هو نفسه من كفَّر أولئك كانوا يتعبدون بالوحدة منذ ما قبل ظهور الإسلام السياسي، وهو نفسه  من قال " إن الوحدة لا تجوز بين من كان مؤمنا ومن كان كافرا" وهو نفسه من ظل يقرع طبول حرب 1994 ويحرض "المؤمنين" على القتال الذي يدفع اليمنيون ثمنه إلى الى اليوم. والإسلام السياسي بشقيه الوهابي والزيدوي هو المسئول عن الحرب التي تطحن اليمن واليمنيين منذ خمس سنوات.

قراءة 5470 مرات

من أحدث طاهر شمسان