طباعة

جار الله عُمر (1-2) مميز

السبت, 28 كانون1/ديسمبر 2019 17:07
قيم الموضوع
(0 أصوات)

عندما ساد العُنف

إنَّه الشهيد الشاهد، والسياسي المُتجدد، والمُفكر المُتعمق، والمُثقف الموسوعي، والمُحاور الحصيف، سيرته سيرة وطن، وكتاباته تاريخ يمن، غاص بدقة في التفاصيل، وتفنن في السرد المُكثف، والطرح المُختزل، والتحليل الموضوعي، والنقد الصادق، وفق منهج عقلاني مُتحرر من هيمنة العاطفة، وإرضاء الأهواء، فكان بحق صوت الحق، وعين الضمير، وصانع التحولات، ورجل التوازنات الذي لا يتكرر.

مُنذ تفتحت مداركه، وبدأت حواسه تستوعب ما يدور حوله، وجد الصبي النحيل نفسه بلا أب، وفي حضن أمٍ تبكي أباه، لم تكن ككل الأمهات، ضحت لأجله ولأجل أخته الوحيدة، وأصرَّت على تعليمه، ومنها تشرَّب معاني الوفاء والتضحية، واستمد القوة والشجاعة، ومضى في طريقه طامحاً شغوفاً بتعلم أبجديات القراءة والكتابة، وأبجديات ترويض الحياة، ولولا تلك البداية القوية، ما كان العظيم جار الله عُمر.

في معلامة قريته «كهال - النادرة» تلقى تعليمه الأول، وتوجه وهو في السادسة عشرة من عمرة إلى ذمار «1958م»، ودرس في مدرستها الشمسية لمدة سنتين، ويمم بعد ذلك خطاه صوب صنعاء، مُلتحقاً بمدرستها العلمية، ونهل على أيادي مُعلميها - كعبدالله البردوني - مبادئ حب الوطن، ومُفردات الوطنية، وحظي برعاية بعض الأساتذة المُنتمين لـ «حركة القوميين العرب»، وهو أمرٌ كان له ما بعده.

شارك في المظاهرة الطلابية التي سبقت قيام الثورة السبتمبرية، وهي المظاهرة التي تجاوزت إطارها المطلبي إلى رفع شعارات سياسية؛ الأمر الذي أثار غضب السلطات الإمامية الغاشمة، ألقت القبض على بعض الطلاب، وأودعتهم في سجونها المُوحشة، فما كان من جار الله عُمر إلا ولى هارباً إلى عدن، في رحلة شاقة استمرت أسبوعاً كاملاً، وحين لم يتوفق في الحصول على منحة دراسية من قبل مُعارضي الإمام، عاد أدراجه إلى صنعاء، عملاً بنصيحة الشيخ محمد بن سالم البيحاني، وما هي إلا أشهر قليلة حتى اندلعت ثورة «26 سبتمبر 1962م».

عاش جار الله عُمر تفاصيل تلك اللحظة الفارقة، وتابع سير المعارك الأولية عن قرب، وعايش انقسام اليمنيين حول ذلك الحدث، وقال أنَّ سكان مناطق تعز، وعدن، والمناطق الوسطى، والمناطق الشرقية أيدوا الثورة، وأنَّ سائر المُواطنين في المناطق الشمالية، وحتى بعض المواطنين في المناطق الوسطى لم يكونوا يؤيدونها تلقائياً، وأنَّ الأمور كانت تتغير تدريجياً، لافتاً أن التأييد في المناطق الأخيرة اقتصر على بعض أبناء المشايخ الذين كانوا قد دخلوا في صدام مع الإمام، بالإضافة إلى بعض الضباط الذين انخرطوا في الجيش، وخلص بالقول: «ولم تكن القبائل تحارب عن عقيدة أو عن اقتناع، لا مع الإمام، ولا مع مُعارضيه طوال التاريخ».

كما انتقد قيام بعض المُتحمسين «الجمهوريين» بإعدامات عشوائية لـ «إماميين» خارج دائرة القانون، وقال في تقيمه لتلك الأحداث أنَّ بعض من تم إعدامهم - من وزراء ومسؤولين - لم يكونوا يستحقوا الإعدام، وأضاف: «الثورة دائماً تكون أشبه بسيل يجرف ما أمامه، واليوم ينظر الإنسان إلى تلك الإعدامات بشيء من الأسف؛ بل وينظر بأسف إلى كل الآثار التي ترتبت على أعمال العنف التي صاحبت الثورة، لكن منهج العنف كان سائداً في اليمن من قبل الثورة، ومن بعدها، سواء من قبل الإمامة، أو من قبل الثوار».

وأردف: «لقد كانت الحرب تؤدي تلقائياً إلى مُمارسة العُنف هنا وهناك، فالصراع بين الملكيين والجمهوريين حصد عشرات الألوف من الضحايا، كما أنَّ الصراع داخل النظام الجمهوري قد أدى إلى سقوط ضحاياً أيضاً، وقد ألحقت هذه الصراعات باليمن ضرراً بالغاً، وأوقفت عملية التنمية، وسخرنا كل جهودنا للصراع السياسي العنيف، ولو لم نفعل ذلك، لكانت حياتنا اليوم أفضل».

أشاد الثوري النبيل بالتواجد المصري، وقال أنَّه لولا ذلك التدخل ما كان لـ «ثورة سبتمبر» أن تستمر، عمل هؤلاء على خلق نواة الإدارة لأول مرة في اليمن، وساهموا في انتشار التعليم الإعدادي والثانوي بمناهجه الحديثة، وكان البديل لتواجدهم - كما أفاد جار الله عُمر - هو تسوية مُبكرة مع السعودية، ومع القبائل المُحيطة بصنعاء، وهذا ما حدث بعد ذلك، وجميعنا يعرف نتائجه.

وانتقد في المُقابل الأخطاء التي مارستها السلطات المصرية في حق مُعارضيها، وتدخلاتها في تفاصيل حياتهم اليومية، ليصل الأمر إلى اعتقال جميع أعضاء الحكومة اليمنية في القاهرة، وهو التصرف الذي أثر سلباً على وحدة الصف الجمهوري، وقال جار الله عُمر عنه: «وكان هذا خطأً سياسياً فادحاً، يخلو من الذكاء السياسي، ومن الفطنة، ولا معنى له».

في عام الثورة الأول، انخرط الشاب الطموح في صفوف أعضاء «حركة القوميين العرب»، التي لم تكن حينها «ماركسية» التوجه، وتعرف على شخصيات قيادية، كمالك الأرياني، وعبد الحافظ قائد، وعبدالله محرم، وكان بارعا ومُحنكا في فن الاستقطاب، لينتقل بعد ذلك إلى تأسيس أول اتحاد طلابي، وصار بذلك شخصيته استثنائية، لها حضور لافت في مسارات العمل الوطني، ودخل - كما أفاد عبدالباري طاهر - مجال العمل الثوري من أوسع أبوابه، ليتولد عبر انخراطه ذاك شعوره بالمُسؤولية، ليس في الدفاع عن الثورة، وإنما بتحقيق الوحدة العربية، وتحرير الأمة العربية من الاحتلال وأذنابه.

وفي العام التالي، والثورة تعيش إرهاصات ولادتها، والمؤمنون بها يدافعون عنها بكل ما أوتوا من عزيمة وقوة، وبتكليف من «حركة القوميين العرب»، التحق جار الله عُمر بكلية الشرطة في دفعتها الأولى، الأمر الذي نمَّى مداركه، وعزز من قدراته الوطنية، وشارك كغيره من الطلاب في حماية شوارع العاصمة ليلاً، ليعمل بعد تخرجه مُدرساً في ذات الكلية، ودخل بسبب مُمارسته للعمل الحزبي في خلافات مع الضباط والمُعلمين المصريين المُعارضين - أصلاً - لأنشطة الحركة، فتم طرده من الكلية.

دخلت الجمهورية الوليدة مسارات مُتعرجة، لتأتي نكسة «يونيو 1967م»، ومُؤتمر القمة العربية بالخرطوم في «أغسطس» من ذات العام، وتزيدان الطين بلة، وهكذا صار خروج القوات المصرية أمراً حتمياً، ليبدأ «الجمهوريون» حينها بالاستعدادات للدفاع عن صنعاء، ولملمة صفوفهم، وإعادة الضباط الموقوفين إلى أعمالهم، كان جار الله عمر أحدهم، آخذين في الاعتبار تحررهم من «العقدة اليزنية»، وأنَّهم سوف يقاتلون هذه المرة بمفردهم، وهو ما كان.   

تجسدت الترجمة العملية لتلك الاستعدادات في أكثر من موقف، وكان أبرزها مظاهرة «13 أكتوبر 1967م»، التي غصت بها شوارع العاصمة احتجاجاً على وصول «اللجنة الثلاثية» المنبثقة عن «مؤتمر الخرطوم»، وبرغم الحوادث المؤسفة التي تخللتها، وبرغم أنَّها ساهمت في إضعاف موقف الرئيس عبدالله السلال، ومهدت للانقلاب عليه، فقد كانت - كما أفاد جار الله عُمر - عملاً جماهيرياً لم يسبق له مثيل في تاريخ العاصمة، فهي لم تُرغم لجنة التدخل العربية على مُغادرة صنعاء خائبة، وتحت حراسة مُشددة فحسب؛ بل كانت قبل كل شيء بروفة للصمود والمقاومة، ومؤشراً حقيقياً إلى أنَّ الانتصار في تلك المعركة المصيرية سيكون من صنع الشعب بأسره.

كانت معارك السبعين عند جار الله عُمر ملحمة مُقدسة، ولأجل تخليدها كتب كتابه القيم «القيمة التاريخية لمعركة حصار السبعين يوماً»، صحيح أنَّه لم يتعمق أكثر في يومياتها، مُكتفياً بذكر ما يعرفه، وما عايشه، تاركاً باقي المهمة لغيره، مُطالباً - في ذات الوقت - المُهتمين بتسجيل وقائع تلك الملحمة بدقائقها، لا من أجل راحة ضمائر صناع مجدها، الذين قضوا في سبيلها، إنما ليقولوا لأجيال ما بعد سبتمبر بكل موضوعية وأمانة علمية: ما الذي حدث بالضبط، وأي ثمن استخلصت تلك الثورة، وما الذي يتعين عليهم أن يفعلوا؟ لا لمجرد الاحتفال عند حلول ذكراها، وإنما من أجل إعادة الروح الثورية إلى مبادئها الستة، كي تنبض بالحياة من جديد، مثلما كانت عند الميلاد الأول.

ما كان لمعارك الشعوب الكبرى أن تظل حية في أفئدة ومشاعر الأجيال التالية، لو لم يوظف مُفكروها طاقاتهم الإبداعية الخلاقة من أجل نقل وقائعها إلى الأجيال، مثلما كانت على أرض الواقع، وهذا ما عمل عليه جار الله عُمر، ناصحاً غيره - كما سبق وأشرنا - بإكمال تلك المهمة، على اعتبار أنَّ دلالات بطولات «ملحمة السبعين يوماً» تتعدى الإشباع العاطفي، ففيها تجسدت ذاتية الشعب اليمني الحقيقية التي تصبو دائماً نحو الحرية والاستقلال، ومُناهضة كل طغيان خارجي كان أو داخلي.

كان جار الله عُمر أحد أبطال تلك الملحمة المرموقين، تصدر وأقرانه الضباط الصغار المشهد، وتحملوا مسؤولية الدفاع عن صنعاء باقتدار، وذلك بعد هروب غالبية الضباط الكبار، وقيامهم برحلة الشتاء إلى «القاهرة، وبيروت، ودمشق، وأسمرة»، تم تكليفه وأقرانه من ضباط وطلاب كلية الشرطة بحماية مطار صنعاء القابع تحت مرمي نيران «الإماميين»، وكانت له وأصحابه أدوار بطولية في تلك الجبهة، ذكرها تفصيلاً في كتابه السالف الذكر.

تحدث جار الله عمر عن أبطال تلك الملحمة بإنصاف، ولم ينجر كغيره للانتقاص من بعضهم، وحتى زيارات الفريق حسن العمري اليومية للجبهات، والتي كانت محل تندر كثيرين، أشاد بها، وقال عنها: «ولقد كانت لزياراته - يقصد الفريق العمري - المفاجئة تلك أثر إيجابي على معنويات المُقاتلين الجمهوريين، مثلما كان يحدث دائماً في زياراته المُختلفة التي دأب على القيام بها، وإن على عجل، وبدون تخطيط، وفي كل مرة كان يرى أنَّ الموقف يستدعي ذلك».

انتهى حصار صنعاء «8 فبراير 1968م»، واستعرت الخلافات المؤجلة بين رفاق السلاح، فيما انشغلت النخبة الحاكمة بالتمهيد للمصالحة الوطنية، أرسلت الوسطاء لذات الغرض، واستقبلت الملكيين «العائدين»، والضباط الكبار «الهاربين»، ليتجرأ هؤلاء ويطالبوا بالعودة إلى مناصبهم التي سبق وأن تركوها شاغرة، وصارت من مهام الضباط الصغار، أبطال فك الحصار.

دخل «الجمهوريون» - بفعل ذلك - معمعة صراع مناطقي أكثر مما هو حزبي، كان الضباط الصغار - كما أفاد جار الله عُمر - أكثر حماساً، سريعوا العاطفة، أقل صبراً، وأكثر طموحاً، وفي المُقابل كان الضباط الكبار لا يطيقون ذلك النزق، ويتوجسون خيفة من اندفاعاتهم، راقبوا تحركاتهم، درسوها، وأعدو الخطة للتخلص منهم جيداً، وهو ما حدث في أحداث «أغسطس» الدموية من ذات العام.

العنف عندما يسود يتحول إلى قانون يستخدمه كل فريق، ثم يستخدمه المُنتصرون ضد بعضهم البعض، هكذا لخص الشهيد جار الله عمر ذلك المشهد، وأضاف: «وأحداث أغسطس ذات دلالة على عدم النُضج السياسي، وسيادة العاطفة، والرغبة الثورية المتأججة في تحقيق الانتصار بالقوة، كما أنَّها صراع على السلطة أيضاً»، ثم عاد واستدرك: «ويمكن القول إن التفكير بالتصالح، والسماح للملكيين بالعودة، كانت فكرة صحيحة، لأنَّ هؤلاء مواطنون يمنيون، وكان يجب حل القضية سلمياً، لأنَّ الحل العسكري لا يمكن أن يحل أي شيء».

حمل جار الله عُمر الجميع المسؤولية، وقال في لحظة مصارحة صادقة: «القوى الجديدة كانت تريد الدفاع عن مواقعها على اعتبار أنَّها لعبت دوراً رئيساً في فك الحصار، وأنَّ من حقها المُشاركة في القرار السياسي، فيما القوى الأخرى كانت ترى أنَّ هؤلاء شباب مُتطرفون، وأنَّ دورهم بعد الآن سيكون ضاراً، ولا بد من تصفيتهم»، واعترف أنَّهم - أي الشباب - كانوا يفتقرون إلى القدر الكافي من التجربة، والحنكة، والصبر، وأنَّ الخلاف بين حركة القوميين العرب، وحزب البعث، ساهم في تأجيج ذلك الصراع.

وخلص بالقول أنَّ هؤلاء المُتصارعين لم يكونوا يستحقون النظام الجمهوري؛ كونهم ليسوا على قدر من الرؤية والبعد الاستراتيجي، وبدلاً من أن يعملوا على تضميد الجراح، وتعزيز حضور الجمهورية، وهيبة الدولة، وكل القيم الإنسانية النبيلة، انجروا إلى صراعات عبثية كان اليمن فيها هو الخاسر الأكبر.

صار المُنتصرون - المدعومين من قبل السعودية - متحكمون في كل شيء، ليساهم انفرادهم بالحكم في إفراغ النظام الجمهوري من محتواه، الأمر جعل ديفيد سمايلي - أحد أشهر المرتزقة الأجانب الذين قادوا حصار صنعاء - يُعلن أنَّ جهوده وزميله بيلي ماكلين لم تذهب أدراج الرياح.

وفي المُقابل تعرض أبطال حصار صنعاء الحقيقيين للتصفية، والتشريد، والاعتقال، وكان مصير جار الله عُمر السجن لثلاث سنوات، وليت حكام صنعاء الجدد اكتفوا بذلك؛ بل أرسلوا حملة عسكرية صوب منطقتي «الحجرية، والمواسط، والأعبوس» بمحافظة تعز، قامت بنسف منازل المتهمين بـ «الشيوعية»، واعتقال عدد منهم؛ فكانت تلك الأحداث الذريعة الرئيسية لتبني خيار الكفاح المسلح.

عقد «الحزب الديمقراطي الثوري» مؤتمره الأول في محافظة أبين «1970م»، وبغياب جار الله عُمر عضو اللجنة المركزية فيه، وأحد أبرز مؤسسيه، وأكد - أي الحزب - على نهجه في خوض حرب التحرير الشعبية، الأمر الذي دفع قيادته للقيام بعمليات مُسلحة، لتضع أعضاء الحزب أمام الأمر الواقع، رغم عدم توفر الموضوعية لذلك الخيار، كما أفاد سعيد الجناحي، لتبدأ بذلك مرحلة قاتمة لصراع أكثر دموية.

قراءة 1864 مرات آخر تعديل على الأحد, 29 كانون1/ديسمبر 2019 16:55

من أحدث