طباعة

صورة المثقف اليمني الحديث في بواكيره الأولى

الخميس, 27 شباط/فبراير 2020 16:49 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

 

الإهداء: 

إلى الصديق الجميل/ المثقف والباحث الجاد والرصين د/ علي محمد زيد.. "شكراً وعرفانا"ً بجميله علينا جميعا في إصداره الجديد "الثقافة الجمهورية في اليمن" وما أحوجنا لمثل هذا الكتاب الذي يمثل اضاءة معرفية / ثقافية تاريخية لما كان ينقص المكتبة اليمنية.

إن فصول الكتاب المختلفة هي حقا جهد الباحث المذاكر-للتاريخ-لما كان، ولما يجب أن يكون.

فالكتابً إضافة عميقة لمعنى الثقافة الوطنية اليمنية في تاريخيتها، حتى معناها ودلالاتها المعاصرة .

 فيه تأصيل عميق لمفهوم "الثقافة الجمهورية" الذي ما يزال مرتبكا وغير واضحاً في عقول البعض. 

و تحيتي هذه هي شكر وعرفان مستحق له، بقدر ماهي دعوة للجميع لقراءة الكتاب .

 مع عظيم تقديري.

 

يمكنني القول إن ملامح الكيان المادي والذاتي ، والمعنوي للمثقف الحديث، أو المثقف العضوي ، -حسب تعبير جرامشي- بدأت في البروز والظهور في اليمن مع عشرينيات القرن الماضي في جنوب البلاد، وفي منتصف ثلاثينيات القرن العشرين ، في شمال البلاد، في حين أن هذه الولادة أو الصورة الحديثة للمثقف في بعض الأقطار العربية – مصر ،بلاد الشام، العراق المغرب العربي- بدأت بالتشكل والتكون مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وهو الفارق الزمني ، الفارق السياسي والثقافي ، والمادي ، والحضاري بيننا وبعض شعوب ودول العالم العربي ...، على اعتبار أن ما كان يفصلنا عن العالم الأوروبي ، والغربي، في ظل نظام الإمامة لا يمكن قياسه ولا حسابه ، وما تزال هذه الإشكالية –العزلة/ الانغلاق- قائمة وإن بصور ودرجات مختلفة . وظهور المثقف اليمني الحديث ، أو المثقف العضوي هي بداية تراجع واختفاء صورة الفقيه والقاضي ، والعالم، (رجل الفقه)(1)لصالح مفهوم ومضمون المثقف بدلالاته التكوينية المعاصرة.

وفي تقديري أن لحظة تشكل وظهور المثقف الحديث العضوي بمفهومه المعاصر ، هي بدء الوعي العميق بالذات ، وبالواقع ، وبالوطن، والتاريخ ..، هي لحظة خروج الكاتب والمثقف من شرنقته (عزلته)، إلى فضاءات القول والفعل المفتوحين ، فضاءات مشاركة الناس أحلامهم وتطلعاتهم ، والتعبير عنها .. وهي في الوقت نفسه لحظة بدء الوعي بأزمة علاقتنا بأنفسنا (ذواتنا)، وبمعرفتنا بالآخر . وهي اللحظة التي بدأت فيها تزول ظاهرة الاحتكار المطلق للمعرفة ، والفكر ، والثقافة، في نخبة العالم، والفقيه ، والقاضي ، والأمير، لحظة تجسير الفجوة بين الجاهل والمتعلم، لحظة المدرسة والتعليم المدني . الحديث التي بدأه في ثلاثينيات القرن الماضي الأستاذ المعلم والرائد/ أحمد محمد نعمان، وبعده الأستاذ/ عبدالله علي الحكيمي وهي البداية الأولى المبكرة لقرع جرس ضرورة الاصلاح والتغيير، عبر بوابة التعليم .. وهي في تقديري لحظة اقتراب تحول الرعوي إلى مواطن.

 إن لحظة الإحساس والوعي الأولى والمبكر بضرورة المدرسة والتعليم، هي بالتحديد بداية الوعي العميق بالواقع وبالتاريخ.. بداية الوعي بمعنى المواطنة  والحرية ، هي لحظة استكمال أو بداية النهاية لدور ووظيفة ، الفقيه ، والقاضي ، والعالم ،(رجل الدين التقليدي)، الذي يجمع الفهم والعلم من كل اطرافه، لصالح اسم ومضمون ، ودور المثقف العضوي الحديث، وأحمد محمد النعمان، وعبدالله الحكيمي وقبلهما الأستاذان/ محمد علي  لقمان، وعبدالمجيد الأصنج، ومحمد سعيد مسواط  الخ، هم الذين كانوا البدائية الجنينة لصورة ذلك المثقف، وهذا لا يعني أنه لم يوجد قبل هذه المرحلة مثقف عضوي ، ولكن ليس بالدلالة الحديثة، وقد جسد المثقفون الأحرار في شمال البلاد المعزولة عن العالم : النعمان  ، وعبد الله الحكيمي وعلي ناصر العنسي، ومحي الدين العنسي، والحورش، الطليعة المبكرة لصورة ذلك المثقف الحديث حامل بيرق الإصلاح ، والتحديث السياسي ، والتنوير الفكري ، مع ملاحظة أنه من الصعب الحديث عن مشروع معرفي ، فكري ثقافي تنويري واضح ومحدد المعالم عند الأستاذ النعمان ، والحكيمي، وكذلك عند جميع الأحرار الدستوريين ، في المرحلة الإمامية ، ولا كذلك عند رموز الإصلاح الاجتماعي ، والتجديد الأدبي والثقافي في جنوب الوطن ، على أننا نستطيع أن نعثر على اتجاهات أو أوليات للتنوير عندهم ، ونستطيع أكثر أن نقرأ ملامح أو أوليات لمشروع تنوير في الفكر السياسي، وفي الممارسة السياسية عندهم جميعاً.

 لقد مثل وجسد المثقف اليمني في شمال الوطن أو في جنوبه الحاجات الموضوعية ، للتقدم الاجتماعي للناس ، وكانوا أكثر القوى قدرة على التعبير عن أحلام وتطلعات الناس، على اختلاف شروط ومهمات الكفاح الفكري والسياسي ..كانوا العقل الجمعي ،والضمير المعبر عن أنا الشعب المصادرة والمقموعة ، ولم يكونوا مجرد حالة استمرارية للثقافة التقليدية الماضوية ، أو للثقافة السائدة كيفما اتفق بل أساس ومقدمات لمشروع سياسي فكري بديل ، كانوا جميعا منتمون لفكر وقيم ثقافية جديدة تتجاوز المضامين الأيديولوجية الإمامية السائدة في شمال البلاد، وبداية لطرح جديد لمعنى الثقافة الوطنية اليمنية في جنوبه الواقع تحت القبضة الاستعمارية.. . كانوا في الواقع معبرين عن أحلام قوى اجتماعية وسياسية واسعة وإن كانت في طور   التشكل ، لانعدام الشروط الداخلية لاستكمال حضورها وتعبيرها عن نفسها في واقع الممارسة، بسبب حالة التخلف العمومي ، والعزلة التاريخية، وحالة الإستبداد السياسي شبه المطلق في الوضع الإمامي، وحالة الامية والتجهيل المنظم، وواقع الانقسام السياسي والاجتماعي والثقافي، والطائفية السياسية التي اشتغلت عليها الإمامة والاستعمار، وغياب الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية العادية.

كانوا في مشروعهم الفكري السياسي يمثلون مصالح أوسع القوى الاجتماعية في البلاد ، وهم أكثر الفئات قدرة على استشراف آفاق المستقبل. ومن خلال كتاباتهم –المبكرة- ومشروعهم السياسي- الميثاق الوطني المقدس / حتى مطالب الشعب في 1956م"ولماذا تقدم الغرب وتخلفنا"، وغيرها من الكتابات-بداية لطرح صورة مختلفة/ مغايرة، لليمن الجديد والحديث–مع الفارق النسبي بين دور المثقفين في الشمال عنه في جنوب البلاد- كما تصوروه في أحلامهم ، وعقولهم ، وفي سلوكهم العملي؛ حيث توحد السياسي المناضل ، بالمثقف والمفكر، فقد دخلوا جميعا إلى السياسة من باب المعرفة ، والفكر والثقافة ، ومارسوا سياساتهم على قاعدة الإنتاج الفكري، الثقافي ، والأدبي ضمن رؤية ثقافية/ سياسية نجدها تتخلل كل الخطاب العام لهم سواء في الشمال، أو في الجنوب. ولذلك فإنك تجد صعوبة في الفصل بين السياسي، والثقافي في خطاب النعمان الأب،(وحتى النعمان الابن)، وعلي ناصر العنسي، ومحي الدين العنسي، وعبدالله الحكيمي ، و الحورش وهي خاصية لازمت خطاب المثقفين اليمنيين في الجنوب والشمال. وأستطيع القول أن خطاب المثقفين اليمنيين في تلك المرحلة لم يكن دعوة ذات طابع نظري مجرد ، قدر ما كان دعوة للفعل ، والعمل السياسي المنظم ، دعوة للإصلاح والتنوير ، دعوة لمشروع سياسي فكري وطني، وقومي بعد ذلك.

لقد شكل المثقفون اليمنيون منذ منتصف ثلاثينيات القرن العشرين في الشمال، وقبل ذلك بعقد من الزمن في الجنوب، صورة النقلة الأولى لتشكل وظهور بدايات حضور وفعل الإنتلجنسيا اليمنية المعاصرة ، حمل خطابهم دعوة فكرية سياسية وعملية من خلال التنظيم لتحطيم تابوهات القداسة التي صنعها تاريخ طويل من التخلف والاستبداد الديني، والاستعمار السياسي والعسكري، "الانجلو سلاطيني".

قراءة 1384 مرات آخر تعديل على الخميس, 27 شباط/فبراير 2020 17:45

من أحدث قادري احمد حيدر