طباعة

السلام الآن

السبت, 06 شباط/فبراير 2021 00:42 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

 

لا أميل إلى الاستغراق في الكتابات، التي تبعدنا عن الواقع أكثر مما تقربنا منه، وتثير مزيداً من المشكلات، دون أن تضع حلولاً لها، وتخلق حالة من التشوش في أذهان المتلقين، دون هدف مفيد. مثل هذه الكتابات تتطابق مع ذلك الضرب من التفلسف، الذي استهجنه إمانويل كانت، واعتبره تفلسفاً عبثياً يثير المشكلات، لا بهدف البحث عن حلول لها، بل لإثارتها وتعقيدها، ليس إلا. 

الكتابات من هذا النوع لا تجدينا نفعاً، في ظل حرب تحرق الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس، وترسم خريطة مستقبلية لوطن مفتت ومجتمع مقسم. إن الكتابات المفيدة، هي تلك التي تنطلق من الاعتراف بأننا نعيش كارثة الحرب وإفرازاتها، وأن ما نحتاجه الآن، قبل أي شيء آخر هو السلام، الذي يبدأ بإيقاف هذه الكارثة والتوجه إلى حوار، يؤسس لدولة الشراكة الوطنية والمواطنة المتساوية والتبادل السلمي للسلطة، عبر صناديق الانتخابات. وهذا هو جوهر مشروع دعاة السلام، المعلن منذ بداية الحرب، والذي يستمر بعضنا في تجاهله، ليسهل عليه مواصلة تشويه الدعوة إليه، إما لعدم إيمانه بالسلام، من حيث المبدأ، أو لأنه لا يقبل إلا سلاماً له وحده، وبالصورة التي في مخيلته، وهذا هو الأرجح. وإن كان مثل هذا السلام الانتقائي هو المستحيل بعينه.

وبموازاة عملية تشويه دعوة السلام ومعاداتها، تستمر المراهنة على الحرب والتعلق بوهم الحسم العسكري، رغم كل الحقائق، التي تكشفت في الميدان، عبر سنوات ست من الكارثة، التي لم تستطع فظائعها أن تغير موقف المراهنين، ولم تمنعهم من أن يواصلوا تشويه دعوة السلام ومهاجمتها دون كلل. والغريب أن من يهاجمون دعوة السلام، لم يهاجموا الحرب وفظائعها، ولو سهواً. رغم أن الدمار قد لحق بالمواطنين المسالمين، أكثر مما لحق بالأطراف المتقاتلة، ورغم أن الأهداف الحقيقية للحرب أضحت مكشوفة، حتى لمن لم يدركها في بداية الحرب، وهي تقسيم اليمن وإحكام قبضة بعض القوى الإقليمية والدولية عليه، موقعاً وبشراً وثروات. ومع استمرار المراهنة على الحرب وعلى الحسم العسكري، واستمرار معاداة دعوة السلام وتشويهها، لا مانع عند هؤلاء من التأكيد على أن السلام أمر مطلوب، ولكن ليس السلام الآن، بل السلام المؤجل، إلى ما بعد بناء الدولة، التي ستنتج السلام. ولا نعرف كيف سيتم بناء هذه الدولة، إذا لم توقف الحرب ويحل السلام.  

إن وضعنا للعربة أمام الحصان، هو ضرب من العبث. فالقول بتأجيل السلام إلى ما بعد إيجاد الدولة، التي ستنتج السلام، لا يعدو كونه جدلاً لفظياً، لا معنى له، حتى وإن غُلف بعبارات منمقة. فالسلام المطلوب يبدأ الآن، بإيقاف الحرب والتوجه إلى بناء الدولة، عبر الحوار الجاد الصادق. والدولة، التي يفترض أن تنتج السلام مستقبلاً، لا يمكن أن تُبنى في ظل الحرب، ولا يمكن أن نتقدم خطوة واحدة نحوها، قبل أن يجنح الجميع إلى السلام ويسارعوا إلى إيقاف الحرب، دون تأخير. لأن استمرار الحرب، لا يعني إلا انضاج شروط تقسيم اليمن. وعندها لن تكون هناك إمكانية لبناء دولة عادلة تنتج السلام. 

كيف يمكن أن نرفض إحلال السلام الآن، بدعوى أن الدولة هي التي ستنتجه؟ أليس هذا من قبيل وضع العربة أمام الحصان، كما قلنا. ففي واقع الحال ليس لدينا دولة تنتج السلام، بل جماعات متقاتلة، تبسط كل جماعة منها سيطرتها على جزء من اليمن، وترى أنها هي وحدها الدولة، والآخرون أعداء الدولة. فكيف ستنتج الدولة السلام، قبل أن تكون هي نفسها قد وُجِدت؟ وكيف يمكن إيجاد الدولة قبل أن يجنح جميع اليمنيين إلى السلام، فيعملوا على إيقاف الحرب والتوافق على بناء دولتهم؟ وكيف يمكن أن يتوافق اليمنيون على بناء دولتهم، دون أن يتحاوروا؟ فإذا رفضنا الجنوح إلى السلام وإيقاف الحرب، ورفضنا فكرة الحوار من أساسها، فكيف سنبني الدولة؟ وكيف سيتحقق السلام، الذي ستنتجه الدولة، التي ليس لها وجود؟. 

إننا لا نستطيع أن نساير هذا النهج في التفكير، المعادي لدعوة السلام، والرافض للحوار والمراهن على الحرب وعلى الحسم العسكري والمؤيد للحصار المطبق، الذي يتضرر منه المواطن اليمني، أكثر مما يتضرر منه المتقاتلون. ولا نستطيع أن نفهم استمرار الهجوم على دعوة السلام، بمناسبة وبدون مناسبة، رغم سقوط أوهام الحسم العسكري. ولا نستطيع أن نفهم كيف نحلم بالدولة العادلة، التي ستنتج السلام، دون أن ننتصر لدعوة السلام الآن، بمعنى إيقاف الحرب وتوجه كل القوى اليمنية الفاعلة إلى طاولة الحوار، لوضع أسس بناء الدولة. كل هذا لا نستطيع أن نفهمه. فهل عدم قدرتنا على فهم هذا النهج في التفكير ناتج عن ضعف في قدراتنا العقلية، بفعل أجواء الحرب وتأثيراتها؟ ربما. 

لقد أضحت دعوة السلام دعوة عامة، وبرزت على أيدي كثير من المنظمات والتجمعات الشعبية في عموم الساحة اليمنية، ولم تعد محصورة في (جماعة نداء السلام)، ولم يعد يجدي في مواجهتها أن نعمل بالمثل الياباني (إذا وجدت مسماراً بارزاً، دقه بمطرقة)، فقد كثرت وتتكاثر المسامير البارزة، أو بالأصح الشموع البارزة، وسنتعب إذا شغلنا أنفسنا وبددنا وقتنا وجهدنا وتفكيرنا في مواصلة دقها، لأنها أضحت ضرورة وطنية وإرادة شعبية عامة.

هذه كلمات قليلة مقتضبة، وجدتها ضرورية، بعد أن طال الهجوم على دعوة السلام، وتشويهها، على مدى سنوات الحرب الست المنصرمة. وكأن قلقنا من دعوة السلام ورغبتنا في تشويهها، لتبرير هجومنا المستمر عليها، لعل هذا ينطلق من روح الرفض لكل ما يغاير قناعاتنا، وعدم التسامح تجاه أي دعوة تخالف حساباتنا. وقد يكون هذا الإصرار على الاستمرار في مهاجمة دعوة السلام، ضرباً من ممارسة القمع المعنوي لمن يخالفنا. مع أن دعوة السلام، في شكلها ومضمونها لا تعادي أحداً من اليمنيين، لأنها إن عادت أحداً، فقدت معناها، كدعوة لإحلال السلام والمحبة بينهم جميعاً، وتحقيق الاستقرار والأمن والتعايش في كل ربوع الوطن، وتوفير المناخ الطبيعي لمراجعة الأخطاء وتصحيح المسار وتحديد المسؤوليات عما حصل، قبل الحرب وأثناءها وحتى الآن، ورفض استئثار طرف من الأطراف بالسلطة وإقصاء الآخرين عنها، لما يشكله هذا من تهديد دائم للسلام. 

لقد قررت جماعة نداء السلام، منذ بدء الهجوم عليها وعلى دعوتها السلمية، من قبل أطراف متصارعة، وليس من قبل طرف واحد بعينه، قررت عدم الانجرار إلى معارك كلامية. فرسالة السلام أسمى من أن تمتهن في سجالات لفظية، لا معنى لها ولا جدوى منها. وليس ما أوردته هنا، وما أورده زملاء آخرون من قبل، في مقالات قليلة جداً، إلا من قبيل التوضيح، فحسب، وليس من قبيل الرد والسجال غير المجدي، الذي نجحت جماعة نداء السلام في تحاشيه حتى الآن، رغم محاولات جرها إليه. فيقينها بأن إرادة السلام ستنتصر على إرادة الحرب، لم يهتز ولم يضعف، رغم ما تعرضت له من هجوم وتشويه. وها قد أضحت الآن إرادة السلام، الرافضة للحرب، إرادة عامة، تفرض علينا جميعاً خطاباً معبراً عنها، لا خطاباً معادياً لها.     

لقد كان تفسير جماعة نداء السلام للهجمات الشرسة، التي تعرضت لها دعوة السلام، من قبل أطراف متحاربة، ومن قبل بعض المؤيدين لها، هو أن كل طرف كان يتوهم بأنه سيحسم الحرب لصالحه، خلال وقت قصير، وأن هذه الدعوة من شأنها أن تضعف حماس مقاتليه وتؤثر على معنوياتهم. لذا اعتبرها دعوة خطرة، يجب قمعها، قبل أن تستفحل، ومسماراً يجب طرقه، قبل أن تتكاثر المسامير. في حين كانت دعوة السلام تنطلق، منذ بداية الحرب، من يقين باستحالة الحسم العسكري، وبأن استمرار الحرب، عدا عما تحدثه من دمار وقتل وتشريد وتجويع وتفتيت للنسيج الاجتماعي، سيؤدي إلى تجذر وجود الأطراف المسلحة، وسيطرة كل طرف منها على جزء من الوطن، يستأثر به ويشكل فيه دويلته المستقلة، فيتجزأ اليمن وتتعدد الكيانات السياسية فيه، ويتحقق فيه ما يراد تحقيقه في الوطن العربي كله، ضمن مخطط الشرق الأوسط الجديد، وعبر الفوضى الخلاقة، المتمثلة في الحروب الأهلية، المشتعلة منذ سنين، في أكثر من قطر عربي.

وفي ظل هذا المخطط، الذي لا جدوى من إنكار وجوده، لأن واضعيه أصبحوا يتحدثون عنه علناً، وينفذونه بأيدي أدواتهم في المنطقة، فإن اليمنيين في سباق مع الزمن، فإما أن يتبنوا خطاب السلام ويعملوا على إيقاف الحرب فيما بينهم ويتصالحوا، ويتوافقوا على بناء دولتهم بإرادتهم ولمصلحتهم، ويقدموا التنازلات، بعضهم لبعض، بدلاً من تقديم التنازلات لأعدائهم، وإما أن تستمر الحرب، حتى ترتسم خارطة التقسيم على الأرض، ويجدوا أنفسهم عندها عاجزين عن تجاوزها، لأنها ستصبح محمية بإرادة دولية.

فأي الخيارين سيختار اليمنيون؟ هل سيختارون وضع العربة أمام الحصان، ويواصلون قتل بعضهم، ويواصل كتابهم سجالاتهم غير المجدية، ليثبت كل منهم أنه أقدر من غيره على التنظير، فتضيع العربة ويضيع الحصان معها، وهم مستغرقون في تقاتلهم وفي مجادلاتهم؟ أم سيسارعون إلى خيار السلام الآن، فيوقفون الحرب فيما بينهم ويتوجهون إلى طاولة الحوار، ليتوافقوا على بناء دولتهم ويحافظوا على وحدة مجتمعهم وبلادهم، ويستعيدوا قرارهم السياسي، الذي انتزع منهم؟. 

إن الشعب اليمني بطبيعته يريد السلام ويناهض الحرب. وإذا كانت مناهضته للحرب مناهضة صامتة حتى الآن، فإنها لن تبقى صامتة إلى الأبد. 

صنعاء، 31 يناير 2021م

قراءة 1310 مرات

من أحدث د. أحمد قايد الصايدي