طباعة

عن وجع لن ينتهي

الأربعاء, 14 كانون2/يناير 2015 21:29
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

كنا في طريق عودتنا من المدرسة نمر بالبيوت الواقعة على الطريق، وحين الظهيرة يكون الجميع قد استكان وهدأ من فورة أعمال النهار الشاقة، كنت طالبة ذات شهرة، وكانت النساء يثقن في رأيي حول كافة المواضيع ما عدا تلك المتعلقة بأمور العمل في الأرض فقد كنت أكسل من أن أكون ضليعة في أمور الأرض.

 المهم، مرة كنت عائدة من المدرسة وكعادتها العجوز الطيبة التي تصنع الفخار تحدثت معي، لكنها طلبت مني أن أنتظرها تحت الشجرة القريبة من منزلها، وجاءت سعيدة تحمل في يدها مظروف، عرفت فورا أنه جواب آخر بعثه إليها ابنها الذي ذهب إلى صنعاء ليلتحق بالشرطة العسكرية أو بالكلية الحربية لا أتذكر بالضبط، وكنت سعيدة مثلها.

لم تفتح الظرف ولم تمسه حملته كما هو، تناولته أنا وفتحته وإذا بها صورة لطلعة بهية: شاب في العشرينات بنظرة فخورة جدا على رأسه تلك القبعة الرائعة كانت الصورة تنطق بالنشيد الجمهوري في مخيلتي تلك اللحظة وأضاء - بشكل لا يمكن نسيانه - وجه الأم وقبلت الصورة ثم اعتذرت كونها لم تكلف نفسها فتح "الجواب" ثم مضيت في طريقها ترتل الدعوات وتدعو جاراتها لمشاهدة الصورة: كان فخرا لم أعد أصادفه قط.

في كل بيت شاهدت صوره كانت دائما في الطليعة صور الفتية الذين دخلوا الجيش، هناك دائما في الغرف الضيقة المليئة بالكراكيب وفي الغرف الأنيقة النظيفة صور لفتية يرتدون الميري ويطلون بتلك النظرة المغرورة الشجاعة، كان في السابق الجميع يخدمون في الجيش، والجميع إذا ما ذهبوا بعثوا تلك الصور  في السنة الأولى وفي السنة الثانية، ثم حين التخرج، والأمهات دون خشية قاذروات الذباب والأتربة يلصقنها هناك أمام الباب حتى تراها كل نساء القرية وحتى يطل هو من علياءه فخورا زاهيا متصنعا الحكمة العميقة، وبالطبع كن الفتيات يقعن في غرامهم: في الأرياف كانت كل علاقة حب تحوي صورة والصورة الأكثر مصداقية وأكثر حبا هي صورته مرتديا الميري وخلفها اسمه و"أحبك!" أما هن فلم يعرفن الكاميرات سابقا.

أعرف فتيانا عملوا في مجال البناء " شقاة " طوال السنة التي تفصل بين الثانوية والجامعة كي يتدبروا أمر النقود التي ستذهب بهم إلى صنعاء ومن صنعاء بداية مشوار الحلم : فتية ليس لديهم من سيصرف عليهم في الجامعة يختارون التأمين على مستقبلهم من خلال الالتحاق بكلية تضمن لهم التدريب والمال مستقبلا، فتية ليس لديهم خيارات أخرى لا مزارع والأراضي ولا مغتربين في السعودية، يعدون ملفاتهم وكيسا فيه ملابس ونقودا قليلة وخوفا من صنعاء الكبيرة ودعوات أمهات لا تنضب ولا تستكين .

خارت قوى سيدة مسنة في الباص نهار التفجير، وانهارت باكية، كنت أيضا بجانب النافذة أبكي بصمت، أما هي فقد رفعت يديها للسماء واستمرت بالنحيب والدعاء، كانت غاضبة وحزينة مثل كل واحد سلبه النبأ ورقم الضحايا لبه ودمعت عيناه متخيلا وجع الثكالى، لكنها أم! وهذا ما لا يقارن به، أم!

 إن كان جثة أو كان نائما في البرد، إن كان أشلاء أو كان جائعا حين الظهيرة، أم لا تعرف وجعها، إنها مسكونة بوجع الآخرين، ظلت ترفع يديها وتلطم رأسها وخديها وكانت هناك وحيدة ليس من مشاركة سوى لعنات من كانوا في الباص للجميع بالاسم: الله يلعنك يا حوثي الله يلعنك يا عبد ربه الله يلعنك يا على عبد الله صالح الله يلعنكم يا عيال الأحمر .... إلخ .

أخبرونا الآن كيف نتعافى من أوجاعنا؟ قلت هذا وأجبت: لن نتعافى قط! لأننا في كل يوم سنجرح من جديد وسنبكي من جديد وسترفع الأمهات أذرعتها عاليا جدا ولن يسمعهن أحد، وسيكف الآخرون عن القول البغيض: العرقنة والصوملة. نحن نتطور بسرعة مدهشة: لم تكن هناك مناطقية ثم صارت، وفجأة أصبحنا نموذج قذر من طائفية الأشقاء في لبنان والعراق، وتطورنا لنجتاح المدن وننهي شكل الدولة في صورة أفظع من تلك التي في الصومال، ثم بذرنا في استخدام السلاح مجاراة لإخوتنا في ليبيا وسنتفوق! نحن نهبنا المعسكرات بعتادها الثقيل، وأخيرا صارت صنعاء بغداد لكن بأكثر بشاعة: مدارس الفتيات والأطفال أيها اليمنيون الأعزاء !

في الأزمنة والتواريخ السابقة، كان هناك الكثير من جملة: ما دخلني! صار: دخلكم بقوة يا ساكني صنعاء، صارت الرهان الآن على أوجاعكم الأشد قوة: أطفالكم وبالذات بناتكم تلكم البريئات الهادئات، أيام كانت المعسكرات تباد كنا نقول معا: ليحمي الجيش نفسه، من غير المعقول أن نعمل العكس! وحين اجتيحت المدن قلنا جميعا: هذا شأن دولة وقتال بين هؤلاء الجامحين من الطرفين حملة السلاح الآتين مما قبل قبل قبل قبل الدولة والمدنية والتعايش والقانون والنظام، لكن اليوم، هؤلاء الآتين مما قبل، الذين إما عيانا بيانا يتجولون في شوارعنا ويصرفون من خزينة دولتنا ومن ضرائبنا ومقدراتنا وإما متخفين يزرعون العبوات الناسفة ويرسلون الانتحاريين ويذبحون الجنود ومن يعرف ماذا يفعلون أيضا، هؤلاء معا يستهدفون حياتنا حرفيا: ليست تفاصيل الحياة إنما الحياة ذاتها، حيث كل دقيقة تتوقع أن تموت أو أن يموت من لن تعيش بعده .

وكنت أتمنى لو كان هؤلاء أعداؤنا فحسب! عدونا الأكبر هؤلاء الذين يحملون أيضا الشرعية، الذين منحناهم نحن ما اكتسبوه وبالذات هذا النذل النائم على كرسيه الخائن لكل قسم ولكل مسئولية، المتنصل حتى من خطاب يكذب فيه أو يتصنع المسئولية، عدونا أيضا كل أطراف العملية السياسية الحقيرة التي تتواطأ مع ما يحدث على الأرض وتسهم في صنعه، ليس من أحد بريء فيهم، حتى لو أصروا على ذلك ..

ليس من بريء سوى نحن، وسوى من قالوا فجرا: الله يستر لو فجروا بنا! ثم تطايرت أشلاؤهم ولم يستر الله، ولم نقل بعد نحن شيئا ن بكينا في الطرقات وفي الباصات وأمام شاشات التلفاز، وسنبكي كثيرا، سنبكي إن اكتفينا بالبكاء ولم نقل لهم: ارحلوا عن شوارعنا ومدارسنا ومساجدنا ومدننا وأفكار أبناءنا .

قراءة 4239 مرات

من أحدث