طباعة

كلفـة المقامرة "تقرير"

  • *الاشتراكي نت/ خالد عبدالهادي

الخميس, 02 نيسان/أبريل 2015 16:49
قيم الموضوع
(0 أصوات)

بينما باتت جحافل علي عبدالله صالح وعبدالملك الحوثي على مشارف عدن استعداداً لصباح احتفالي داخل المدينة, قضى الرجلان ليلة حالمة لم يخالا أنها ستنقلب كابوساً عند مطلع الفجر.

ففي الوقت الذي كان صالح والحوثي يحيكان مؤامرتهما الأخيرة لتتويج حروبهما بالإطباق على الجنوب والتخلص من صداع اسمه «شرعية» الرئيس عبدربه هادي, كان التاريخ يحيك مكره الخاص.

الثانية من فجر السادس والعشرين من مارس الماضي, تهتز صنعاء هزة عظيمة ومثلها صعدة, ليبدأ تساقط قنابل الحلفاء العشرة على البنى العسكرية, تطبيقاً للهدف الظاهري بحرمان صالح والحوثي من استخدامها فـي حروبهما.

وبعد دقائق من شروع المقاتلات السعودية فـي ضرب الأهداف العسكرية, يعلن السفير السعودي فـي واشنطن عادل الجبير انطلاق العملية العسكرية التي أطلق عليها التحالف العربي «عاصفة الحزم».

ليس اعتباطاً أن يعلن السعوديون بدء حربهم في اليمن من واشنطن, بل كان ذلك فيما يبدو إخطاراً مباشراً لإيران بأن فرصتها في الرد العسكري منعدمة, لأن الحرب تجري بضوء أخضر من الولايات المتحدة وهي من ستتكفل بحماية أمن السعودية والخليج.

كانت الأحداث تتسارع بوتيرة درامية, إنما لم تتجاوز التوقعات أن تستعيض قوى الإقليم عن وكلائها لتدخل حرباً إقليمية صريحة, ساحتها اليمن.

وسلك علي صالح وعبدالملك الحوثي خلال الأشهر الأخيرة سلوك لاعب قمار بكل ما في لاعب القمار من استخفاف واحتيال وجشع؛ كلما ربح رهاناً طمع في مضاعفته بأقصر وقت وحيلة ممكنين.

فلقد حققا مكاسب ميدانية خيالية في غضون ثمانية أشهر, انتهت بإزاحة الرئيس هادي ثم هاهما يخسران تلك المكاسب ويضحيان معها بالبلاد كلاعب قمار تماماً, يخسر رهاناته بالسرعة والطريقة اللامتوقعتين اللتين كسب بهما.

 لم يدرك الحليفان حين دبرا للاتجاه جنوباً نحو تعز حيث مضيق باب المندب ومدن الجنوب حيث ملتجأ هادي حليف الخليجيين أنهما ينقلان المقامرة إلى صلب السياسة وساح المصالح الدولية التي لا تتسامح مع هذا النوع من المغامرات.

توهم صالح, منتشياً بما أحرزه من تفوق في الصراع مع خصومه, أن التاريخ توقف عند 1994  فحضًر نفسه لنصر جديد, يرسخ به المأساة الجنوبية كي يشفي أحقاده التي لا تنتهي ويوغل في الانتقام من موطن «الرفاق».

وظن عبدالملك الحوثي, مدفوعاً بتسهيلات صالح وإمداداته أن عشر ساعات فقط تفصل بين انطلاق مقاتليه من صعدة ورؤيتهم يجولون في عدن لإشاعة «الثقافة القرآنية» في المدينة التي صاغت وجدان الحركة الوطنية الحديثة.

قفزة عمياء تتجاوز ألف عام, تلك التي قفزها الحوثيون من صعدة إلى عدن, بما تعنيه من أن جيش المجتمع القرآني الذي صاغته الفكرة الحوثية على نمط القرن الرابع الهجري يغزو المجتمع المدني الذي تجسدت في سلوكه وتطلعاته قيم القرن العشرين المدنية.

هكذا.. أمسى صالح والحوثي فارسي حرب وفوضى, وأصبحا متسربلين بعباءة الوطنية مع بدء غارات التحالف العربي, لكنهما خسرا معركة الوطنية الدعائية.

ذلك أنه يستحيل تسويق الوطنية بالممارسات الفاشية وإشاعة الفوضى والحروب الداخلية, إذ للوطنية مُثُل لا تحتمل التزييف في الألفية الثالثة ويسهل الاستدلال عليها بما تطلقه من برامج رفاه وترسيخ للحريات وإشاعة الوفاق الاجتماعي إلى جانب التباري مع الشعوب على تصدر معدلات التنمية والإضافة إلى الحضارة الكونية.

علي صالح هو صنيعة السعودية, بل أسوأ صنائعها طيلة تاريخ نفوذها في اليمن, لكنها قررت وضع حد لتمرده على الوضع الذي رتبته له وخروجه عن النص, حين وضع يده في يد قوة معادية للمملكة.

فالمملكة رعرعت صالحاً وأحاطته بعنايتها طوال عقود حكمه, وحين اندلعت ثورة فبراير الشعبية ضده في 2011, عصمته من أن تجرفه الثورة وهيأت له ختاماً لا يحلم به أي دكتاتور في العالم.

بيد أن الدكتاتور ظل مشدوداً إلى سجيته وطمع في دور أكبر, فرفض العدالة الانتقالية التي لم تكن صيغتها تنشد غير إنصاف ضحاياه, لكنه أبى إلا أن ينتهي به المطاف مجرماً مطارداً, ليؤكد أن تاريخه الإجرامي الفاسد لا تليق به نهاية غير هذه.

ستقال أحاديث وخطب صاخبة, مشبعة بالوطنية بشأن هذه الحرب, فيما يكفي القول لوصف ما يحدث إن أحدث حرب جيوسياسية في العالم قد نشبت على الأراضي اليمنية.

والواقع أنها حرب السعودية في الأساس, فيما انضواء عشر دول بينها السودان وباكستان ومصر ومملكتي المغرب والأردن لا يزيد عن أنه تحلق حول خزائن السعودية بطلب منها لإحاطة حربها بغطاء عربي إسلامي.

لم يعد القفز على الحقائق الجيوسياسية متاحاً, سواء في اليمن أو باقي بلدان العالم. وصار لهذه الحقائق قوة تدنو من الإلزام, لا يمكن للقوى المغامرة أكانت جماعات أو دولاً تخطيها في ظل عالم متشابك المصالح ويتشارك قائمة طويلة من الاهتمامات.

ولقد حسب الحوثيون, متسلحين بجهالة سياسية وخطاب شعبوي, أنهم قادرون على قلب الحقائق الجيوسياسية اليمنية في غضون أشهر لانتزاع اليمن من محيطه الجغرافي وتوجيهه ليدور في فلك معادٍ للإقليم المحيط, غير مدركين أن هذه لعبة كبيرة تفوق طاقتهم وقدرة اليمن حالياً.

شارف العالم على حرب نووية عام 1962 خلال نشوب أزمة الصواريخ الكوبية, حين اكتشفت الولايات المتحدة أن الجزيرة الشيوعية نصبت صواريخ نووية سوفياتية موجهة نحو الأراضي الأميركية, ولم تنته أسوأ أزمة في تاريخ الحرب الباردة إلا بسحب الصواريخ السوفياتية من كوبا وسحب صواريخ أميركية من تركيا.

وفي حسابات السعودية, فإن استقدام إيران إلى حدودها الجنوبية مثل نصب صاروخ نووي نحو الرياض, إذ كلاهما يمثل خطراً وجودياً عليها.

لا تنتقص الحقائق الجيوسياسية من حق البلدان في أن تفعل ما تشاء على أراضيها, غير أن هذا الحق ينصرف لسلطات مسؤولة, تعي مبادئ العلاقات الدولية لا لجماعات عقائدية مجنونة, يشكل السلاح في يدها خطراً على الإنسانية.

ومبدئياً, ليست الفاشيات الصاعدة شأناً داخلياً بل ينبغي أن تثير, دوماً, قلق كل شعوب العالم وإسهامها في إحباط المشاريع الفاشية في التوقيت المناسب قبل أن تحوز القوة وتذيق الشعوب مآسي الحرب والاضطهاد.

لكن الحرب السعودية لا تبتغي إنقاذ اليمنيين من فاشية الحركة الحوثية وانتقام علي صالح الإجرامي, بل يراد منها تمكين استراتيجية لتأمين المملكة من خاصرتها الجنوبية طوال عقود مقبلة. والمملكة لا تريد يمناً قوياً متقدماً في واحدة من أكثر الحقائق التاريخية تماسكا.

لذلك, ركزت غارات المقاتلات في أسبوعها الأول على تدمير الصواريخ الحربية وقواعد الطائرات وأي أسلحة يمكن أن تطال الأراضي السعودية, في حين كان الأشد إلحاحاً أن تشكل الضربات الجوية حماية للمدن الجنوبية التي تهاجمها قوات صالح والحوثي وتعيث في دماء سكانها وسكينتهم.

لا تكمن مخاطر «عاصفة الحزم» الحقيقية في عملياتها الحربية, على الرغم مما تخلفه من أسى وضحايا وتدمير لبنى البلاد واستباحة سيادتها, بل في ما ستفرضه من قواعد قد لا يستطيع اليمنيون تغييرها خلال عقود طويلة.

فغير خافٍ أن العملية الواسعة تركز على تدمير العتاد والبنى العسكرية تماماً, سواء ما يسيطر عليه الحوثيون أو الذي ما زال خارج سيطرتهم, ثمً فرض رقابة صارمة على المنافذ البحرية لمنع إدخال سلاح إلى الداخل اليمني.

يتراءى من ذلك عزم السعودية على تحويل كل العتاد الحالي إلى حطام والاتجاه إلى إعادة بناء جيش يمني بوظائف شبه شرطوية, يتولى بموجبها حفظ الأمن وتأمين المنافذ البحرية والبرية, فيما يضمن الجوار الخليجي المهام المنسوبة للجيش.

قد يبدو هذا المنتهى ضرباً من المبالغة, لكن يجدر التساؤل كيف سيكون بمقدور اليمن بناء جيش بعتاد متطور ومقاتلات حربية وصواريخ باليستية يجري تدميرها الآن فيما هو سيخرج من الحرب محطماً منهاراً.

والمتوقع أن تحشد السعودية, بعدما تضمن تحطيم قوات الحوثيين والسلاح الثقيل, دعماً مالياً ضمن مشروع مارشال خليجي لإعادة إعمار ما دمرته حربها وإنعاش الاقتصاد اليمني. وفي مثل هذه الحالات, تعمل الجيوش التي يجري إعادة تأسيسها وفق شروط من يربح الحرب وتحت سقف محدد من القدرات.

وتتجلى واحدة من مخاطر الحرب الراهنة في إمكانية أن تتمدد إلى المجتمع فتنعكس في قتال أهلي, ذلك أن تحالف صالح والحوثي حين يشعر بالهزيمة سيعمل على نقل الحرب إلى داخل المجتمع.

وقد تعالت, بالفعل, دعوات مخيفة من قياديين حوثيين ومناصرين لصالح وفي الصحافة الصادرة عنهما باعتقال كل من يبدي استحساناً لعمليات التحالف ومحاكمتهم بتهم العمالة والخيانة أو تصفيتهم.

يجب التعامل مع هذه الدعوات بجدية, والتصدي لمفعولها الذي سيلقى استجابة لدى فئات اجتماعية مختلفة ومدججة بالسلاح, ستشكل استجابتها مفتتحاً لحرب أهلية طويلة الأجل.

إضافة إلى ذلك, تبرز واحدة من مخاطر الحرب, في ما إذا فكرت السعودية بإحياء أدوار رجالاتها ومراكزها القبلية والعسكرية والأصولية التي كان الحوثيون قوضوها, في واحدة من إنجازاتهم النادرة.

 يتوسع هذا الخطر, ليشمل صعود قوة الميليشيات القبلية والأصولية في مناطق مختلفة ويُعتقد على نطاق واسع أنها تلقت دعماً تسليحياً من السعودية لمواجهة الحوثيين قبل قرار «عاصفة الحزم» كما في مارب وشبوة والبيضاء.

وإذا لم تضع السلطات المستقبلية بمساعدة التحالف العشري خطة صارمة لنزع سلاح كل الميليشيات بعدما تتوقف الحرب وتبلغ البلاد نقطة معقولة من الاستقرار, فستظل الحروب الداخلية في تناسخ دائم وستحتفظ مراكز النفوذ بالكلمة العليا في رسم المستقبل اليمني.

كذلك, سينهمك تنظيم القاعدة خلال الحرب الدائرة في تخزين السلاح ليستأنف هجماته الوحشية. وما لم تقدم السعودية مساعدات لازمة لشن حرب مماثلة على التنظيم الإرهابي فسيحقق مكاسب قد تنتهي بالسيطرة على السلطة.

سيتعاظم خطر «القاعدة» مستقبلاً جراء ما قد يقع في متناول عناصره من عتاد, ليس مستبعداً أن يأمر علي صالح بتمريره حين يستيقن أن مستقبله قد قضي عليه, خصوصاً وقد أفادت تقارير دولية جادة بتوظيف الرئيس السابق للتنظيم الإرهابي في الحرب على سلطة ما بعد 2011.

 وتثير هذه الحرب إشكالاً جديداً هو وضع الرئيس هادي مستقبلاً! ففي أسوأ الأحوال قد تثير عودته للحكم عقب هذا الصدع الوطني العميق حرباً أهلية, أما إذا سحقت الحرب خصومه فرضخوا لإعادة تنصيبه فسيدير السلطة بنهج استبدادي يتجاوز ما كان بدا منه خلال 2013 و2014.

 لذلك سيكون من المفيد لهادي وللبلاد أن يتخلى عن الرئاسة بعد انقشاع غبار الحرب ويدع للقوى الوطنية فرصة التوافق على صيغة لشغل المؤسسة الرئاسية.

وأوسع من إشكالية هادي, هو مصير الديمقراطية في الوضع الذي يراد للحرب إعادة ترتيبه. فما دامت السعودية هي من يتزعم هذه المهمة, سيكون مصير الديمقراطية محفوفاً بالخطر, مما يلقي على عاتق القوى الوطنية الديمقراطية مهمة النضال لتعزيز المسار الديمقراطي والحؤول دون الانتقاص منه أو تمييع جوهره والإبقاء على صوريته. 

* ينشر بالتزامن مع صحيفة "الثوري"

قراءة 2771 مرات

من أحدث