طباعة

سقوط فاضح للعسكرية اليمنية

  • الاشتراكي نت/ خالد عبدالهادي

الخميس, 16 نيسان/أبريل 2015 19:22
قيم الموضوع
(0 أصوات)

تقدم الحرب السعودية التي أكملت أسبوعها الثالث فـي اليمن استنباطاً بليغاً فـي أن سيرة التاريخ لا تلتزم منحى ثابتاً, مهما تشابهت الظروف والوقائع.

فقبل 80 عاماً خاض الجيش السعودي حرباً ضد أسلاف الحوثيين؛ أمراء المملكة المتوكلية فـي شمال البلاد, قبل أن تعود السعودية لتقف بكل ثقلها خلف فلول الجيش الملكي الذي قاتل سبع سنين للإطاحة بجمهورية سبتمبر.

وفي دورة كاملة للتاريخ, ها إن السعودية تعود في 2015 لتقود حرباً واسعة ضد قوات خليطة من مقاتلي الحركة الحوثية والجيش المحتفظ بولائه للرئيس المعزول علي عبدالله صالح الذي سبق للمملكة أن دعمته أيضاً طيلة ثلاثة عقود, أمضاها في السلطة.

هذا وجه من أوجه «مكر التاريخ» الذي غفل عنه من ظنوا أن القوة المجردة كفيلة بتسخير سائر المتغيرات والتناقضات لخدمة ما تقرره.

وتؤكد عمليات «عاصفة الحزم» ما يتردد منذ عقدين عن طبيعة حروب المستقبل وتأثير العامل التقني في حسمها, مثلما تلقي هذه العملية العسكرية ضوءاً على ما تبتدعه الجماعات المقاتلة من أساليب قتالية للالتفاف على فارق التسلح وتقليل أثر طغيان التكنولوجيا في كسب الحرب.

فمع متوسط يزيد عن 1600 غارة جوية على معسكرات الجيش والحوثيين ومستودعات سلاحهما, إلا أن قوات تحالف صالح والحوثي ما زالت قادرة على التقدم في أرض المعركة وتقاتل بعدوانية في عدن والضالع وشبوة ولحج, مستقبلة مزيداً من الإمدادات مع أن الضربات الجوية باتت تشكل طوقاً حول محيط عدن.

تعكس هذه الاستماتة في وصول قوات صالح والحوثي إلى المدن الجنوبية فعالية الأساليب القتالية التي تبتكرها الميليشيات والجماعات المقاتلة في مواجهة الجيوش النظامية المتفوقة, وكذا استغلالها للجغرافيا وتضاريس مسرح المعركة.

وفي المقابل, مكن التفوق التكنولوجي لسلاح الجو السعودي والإماراتي مقاتلاتهما من السيطرة المطلقة على المجال الجوي اليمني في وقت قياسي, ولم تستطع المدافع المضادة للطائرات والمتخلفة تقنية عملها بفارق نصف قرن عن تقنية مقاتلات السعوديين إصابة مقاتلة واحدة أو طردها من الأجواء على مدى ثلاثة أسابيع.

ولأن الخيال الميليشاوي لم يستوعب سمات الحروب الحديثة وابتكارات عصر الأسلحة الذكية وذاتية الحركة, تتعالى حماسات أتباع الحوثي وصالح مطالبة بالرد عبر شن حرب في الأراضي السعودية, وهي دعوات توقفت عند أن الحرب ما تزال مجرد غارات بدائية يعتمد الانتصار فيها على شجاعة المقاتل الحوثي وجلافته مقابل إحجام الجندي السعودي ورفاهيته.

مثل هذه الأحكام المختلة والانطباعات الفاسدة, فضلاً عن الفساد والعصبوية العشائرية الجهوية حالت دون تأسيس جيش وطني حديث في حقبة علي صالح, قبل أن تأتي الحركة الحوثية لتجهز عليه وتطبعه بطابعها الميليشاوي الذي يتجلى في مدينة عدن حيث يخوض حرباً عدوانية فاجرة, بدل أن يدخر قدراته ونيرانه لمواجهة الحرب الخارجية التي يرفع عقيرته بشكواها.

وكان الرئيس السابق اطمأن إلى رصيد طويل من الخداع وإفراغ التحولات من مضمونها فوقع بطريقة ساذجة في وجه «العاصفة» ولم تسعفه حيله وحذاقاته في خداع حلفائه الخليجيين مرة ثانية بعدما صمموا له قارب النجاة بقيادة السعودية عام 2011.

خلال المفاوضات التي قادت إلى قيام الوحدة في مايو 1990 اشترط الحزب الاشتراكي اليمني اقتران الوحدة بالديمقراطية فقبل الفريق المفاوض عن الجمهورية في الشمال, وتعامل علي صالح مع مقتضيات الديمقراطية بطريقته الخاصة في تصوير نفسه بالديمقراطي الأول في البلاد وراعيها الذي لا يدخر جهداً في انتهاكها سرا.

وفي أعقاب تفجير المدمرة الأميركية يو. إس. إس. كــــول فـــي خليج عــدن عام 2000 انصاع صالح للانخراط في الحرب الأميركية على الإرهاب فحارب ضد تنظيم القاعدة على طريقته الخاصة في توقيف الإرهابيين وتسمينهم داخل مراكز احتجاز, مزودة بخدمة إعادة تعبئتهم لتوجيه جهادهم لحساب الرئيس ضد خصومه السياسيين وابتزاز القوى الدولية.

كذلك, انحنى صالح بطريقة خادعة لأقوى ثورة شعبية في منظومة ثورات الربيع العربي, اندلعت ضد نظامه في 2011 غير أنه لم يعدم طوق النجاة منها فاحتفظ بنصف السلطة وانتزع لنفسه ولرجالاته حصانة فريدة من نوعها في العالم ضد المحاسبة القضائية.

زاد الرجل أن اكتسب ثقة زائدة عن الحد المعقول في قدرته على خداع الجميع حتى النهاية, بعدما أزاح خصومه القبليين والسياسيين والعسكريين في غضون ثمانية أشهر.

ومن فرط ثقته, تحدث يوم التاسع من مارس الماضي بلسان رئيس ما زال يحكم ويدير دفة الشأن العام كما يشاء فأعلن الحرب على الجنوب بصلافة, أعادت التذكير بإعلانه الحرب على الاشتراكي والجنوب يوم 27 ابريل 1994.

تعجل صالح كثيراً تحت تأثير نشوة انتصاراته التي أحرزها خلف واجهة الحوثيين فأقر ضمنياً في خطابه ذاك بدوره المفصلي في إذكاء الاضطراب الأمني والسياسي منذ 2012, الأمر الذي لم يترك له فرصة للتملص وتقديم نفسه كسياسي منفتح على الحلول السياسية كما دأب على تقديم شخصيته.

وإضافة إلى أن الرئيس المعزول أخفق في صرف ضربات «عاصفة الحزم» عن قواته التي تقاتل إلى جانب الحوثيين, فهو كذلك لم يبذل أدنى جهد للنجاة بجيشه الموالي له.

من الطبيعي أن يتصرف صالح على هذا النحو الثأري الذي يقود إلى تبديد كل شيء له صلة بالمستقبل والبقاء, بعدما استيقن أن مستقبله السياسي انتهى ولا تلوح أمامه فرصة للنجاة هذه المرة.

لكن ما يبعث على الصدمة هو ألا يبرز قائد عسكري واحد يضع خطة للنأي بما تبقى من الجيش عن أن يظل هدفاً سهلاً لحرب خارجية تريد محوه وحرب داخلية تحط من شرفه العسكري وتدمغ جبين العسكرية اليمنية بلطخة عار أبدية.

فمثلما خيب قادة الجيش آمال مواطنيهم فيه وزجوا به في حروب عابثة لتحقيق أهداف غير وطنية, منحدرين بمقامه إلى مقام الميليشيات الإجرامية, كذلك تركوه مكشوفاً في قلب «العاصفة» ليفصحوا عن خيبة أخرى في غياب الكفاءة القيادية والتخطيط والمسؤولية الوطنية.

يسلط التدمير الذي يتعرض له الجيش في ظل تواطؤ قادته وانغماسهم أكثر في الحرب الداخلية, الضوء على مدى العجز المهني والتشوه القيمي اللذين لحقا بالجيش بعدما نذر الرئيس السابق نخبة قواته لحماية كرسيه, تاركاً القوات الأقل تأهيلاً لمراكز نفوذ عسكرية وقبلية تنتفع بالنفقات المالية المخصصة لاحتياجات تلك القوات وتحسم بها معاركها الخاصة.

والحقيقة الأشد فداحة أن الجيش الذي كانت مصانع السلاح العالمية تطبع على الأسلحة المخصصة له «الجيش اليمني» تمخض عن طوابير من المقاتلين, مشاعة لأمراء الحروب الداخلية يكترونها متى شاءوا لخوض حروبهم الخاصة, وحين خضع هذا الجيش لامتحان الحرب الخارجية تحلل منهاراً, وتبين أن تأهيله وتجهيزاته ينتميان إلى عهود أخرى لا صلة لها بمتطلبات الحروب العصرية.

يبعث التدمير الماحق الذي ينزل بجيش هي هذه عقيدته العسكرية, على الأسى والشفقة واستحضار ذكريات قاسية عن حروبه الداخلية أكثر مما يبعث على الندم.

أما العتاد الضخم الذي يتحطم فلا حسرة عليه, إذ ما كان متوقعاً له أكثر من التنقل بين مستودعات المنتصرين بعد كل دورة صراع, يكون قد فتك خلال الواحدة منها بأعداد كبيرة من اليمنيين.

لا تشمل هذه الانطباعات تشكيلة الجيش كلها, فثمة استثناءات كثيرة بين أفراده العاديين وقادته من ذوي الرتب المتوسطة, لكن ساعة الحقيقة فاتت هؤلاء الذين كان بوسعهم إعلان الانحياز إلى قيم العسكرية والوطنية في هذا التوقيت الحرج وتأليف نواة لجيش وطني سيكون بمقدوره اجتذاب أعداد متزايدة من العسكريين.

ويجدر خلال هذا العرض استدعاء خطة إصلاح الجيش التي وضعها فريق من الخبراء الأجانب والعرب واليمنيين, وشرع الرئيس هادي في تطبيقها مطلع 2013.

 لكن بدا أن تلك الخطة اقتصرت على هيكلة جوانب الجيش الفنية ولم تلامس عقيدته العسكرية أو إكسابه, كما سائر جيوش العالم, عقيدة جديدة محورها حماية الأمة والوطن وحفظ السلم الأهلي, وتأمين القواعد المنظمة للتعايش ونتائج الممارسة الديمقراطية.

كانت ثورة سبتمبر التي أطلق شرارتها ضباط نظاميون ضد نظام الإمامة في شمال البلاد عام 1962 قبل أن تكتسب طابعاً شعبياً قد أطلقت فرصة ملائمة لتأسيس أول جيش وطني بصبغة مؤسسية تتيح فرصة متساوية لكل طالبي الالتحاق به.

وجاءت معركة السبعين يوماً حول صنعاء لتقدم تعريفاً مثيراً بصف طويل من الضباط الذين أبلوا بلاء مذهلاً في القيادة والمهنية والقتال تحت راية الوطنية اليمنية, متسلحين بأفكار تقدمية ويسارية هي وراء نهاياتهم الحزينة.

لكن تحالفاً جهوياً أصولياً سرعان ما تآمر للقضاء على هؤلاء القادة لتتكلل مؤامرته بتناحر داخلي عام 1968 عُرف بأحداث أغسطس التي فتحت الباب واسعاً لتصفية غالبية الضباط الذين قادوا معارك الدفاع عن الجمهورية الوليدة وزجت بالآخرين في السجون أو ألجأتهم إلى الاختباء في مناطقهم.

إذن.. سحقت القوى التقليدية أول نواة لتشكل جيش وطني ثم تقاسمت عائلات نافذة السيطرة على مواقع القيادة في تشكيلات الجيش المختلفة قبل أن ينتزع الحكم ضابط ذو تجويفين عميقين في وجنتيه يدعى علي عبدالله صالح, وله تاريخ غامض من الخدمة العسكرية في منطقة باب المندب قبل اعتلائه الحكم.

رسخ صالح ما كان سائداً في تركيبة الجيش وأوصل, بوتيرة متدرجة, عشرات من أبناء عشيرته وأقاربه العسكريين إلى قيادة معظم تشكيلات الجيش, وأسس قوات شبه عسكرية (الأمن المركزي) للسيطرة على المدن قبل أن يوجه ضربته القاضية للجيش في أعقاب حرب صيف 1994.

فبعدما انجلى غبار الحرب المدمرة, سرح صالح عشرات الآلاف من ضباط وجنود جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الذين تلقى معظمهم تأهيلاً رفيعاً في أكاديميات دول المنظومة الاشتراكية, في واحدة من أقسى تبعات الحرب على مواطني الجنوب.

وفي خطوة يكمل بها السيطرة على الجيش, انتقى صالح قوات الحرس الجمهوري لتشكل جيشه الخالص فأغدق عليها الدعم, منصباً نجله أحمد قائداً لها في مقابل أنه أشاع باقي القوات لحلفائه العسكريين الذين ثبتوا حكمه في بداياته وقاسموه عبء اجتياح المحافظات الجنوبية.

الآن.. تتجلى علاقة نقيضة بين صالح وقواته على نحو صارخ: هي تتصرف بحس المأمورية الدونية والولاء له حتى النهاية وهو يتصرف بوحي من سجيته الغادرة, دافعاً بها إلى الفناء وغير مكترث لمصيرها.

نقلاً عن الثوري

قراءة 3798 مرات آخر تعديل على الخميس, 16 نيسان/أبريل 2015 19:41

من أحدث

1 تعليق