طباعة

عالقون بين جحيمين

  • الاشتراكي نت/ خالد عبدالهادي

الجمعة, 24 نيسان/أبريل 2015 18:16
قيم الموضوع
(0 أصوات)

حققت المملكة السعودية أغراضها الأمنية من عملية «عاصفة الحزم» فأعلنت وقفها كما كان متوقعاً, إذ هي غير معنية بتحقيق نصر سياسي كامل للرئيس عبدربه منصور هادي الذي كانت حملته على تعيين نائب له لتدفع به بديلاً مقبولاً لدى الأطراف الرافضة للأول.

وهذا النوع من العلميات العسكرية التي تتوقف عند لحظة تحقيق أهداف القوة الخارجية المتدخلة يقوي عود الأنظمة المستبدة والميليشيات العنيفة ويمنحها مشروعية لمواجهة الداخل بزعم أنها تصدت للعدوان فـي الوقت الذي ظلت فصائل الداخل متفرجة.

أفضل مثال لذلك هي عملية «عاصفة الصحراء» التي شنها التحالف الثلاثيني بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لطرد قوات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين من الكويت عام 1991 وتوقفت عند تحرير الإمارة النفطية, مما منح صدّاماً فرصة لسحق الانتفاضة الشيعية التي اندلعت ضد نظامه عقب توقف الحرب قبل أن يحكم قبضته الحديدية على العراقيين وينشئ جيوشاً بأسماء مختلفة لحماية نظامه.

ولقد كان جلياً أن السعودية شنت «عاصفة الحزم» لحماية أمنها عند حدودها الجنوبية، حيث تنشط قوات الحوثيين, وإزالة التهديدات المستقبلية التي مصدرها صواريخ وقذائف يمكن أن تطال أراضي المملكة.. وقد دمرتها.

إضافة إلى ذلك, تنبئ إشارات وتسريبات متطابقة عن أن تفاهمات ومفاوضات إقليمية غير معلنة قد جرت بالتزامن مع العملية العسكرية قد تفضي إلى صيغة حل سياسي على قاعدة انصياع الرئيس المعزول علي عبدالله صالح وجماعة الحوثيين لمقررات مجلس الأمن وتمكين سلطة متوافق عليها من سلطاتها.

وأوفد صالح مبعوثين من حزبه إلى عواصم عربية ودولية, وأعلنت سلطنة عمان مبادرة سياسية لحل الأزمة لكنها لم تلقَ صدى.

وفي هذا السياق, جاء إخلاء الجماعة الحوثية سبيل وزير الدفاع في حكومة بحاح اللواء محمود الصبيحي وقائد اللواء 119 العميد فيصل رجب اللذين وقعا في قبضة قوات الجماعة في لحج يوم 25 مــارس الماضي.

لعل انتقادات دولية ووقوع السعودية في معضلة أخلاقية أمام القوى العالمية جراء تنامي أعداد القتلى المدنيين بغارات مقاتلاتها أسهما في حمل المملكة على وقف عمليات «عاصفة الحزم» والشروع في عملية أطلقت عليها «إعادة الأمل» لتعنى بشن هجمات يستدعيها الوضع الميداني بدلاً عن ضرب أهداف ثابتة.

أما اليمنيون الذين تغولت الفاشية الحوثية وانتقام صالح الإجرامي على مستقبلهم فالأمر الذي بوسعهم أن يفيدوه من «عاصفة الحزم» هو أنها منحتهم فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم وتحديد غاياتهم المستقبلية بوضوح, حين كبحت سرعة اندفاع تحالف صالح والحوثي نحو هدفه الرامي إلى قهر المجتمعات المحلية والإطباق على المدن ثم الاعتلاء على الحكم بأريحية.

الآن, أعيد قدر من التوازن, لا يمكن إنكاره, مثلما يجب على أمراء الحرب الذين أشعلوها في أكثر من جهة أن يفقهوا دروساً متعددة أولها أنه لم يعد بوسعهم إشعال حروب دون أن يدفعوا ثمنها ولن يعيثوا مجدداً في دماء مواطنيهم وأمنهم دونما محاسبة.

ولعل أوضح جوانب الإخفاق في «عاصفة الحزم» أنها استندت كلية إلى قوة النيران وكثافتها فحسب, مغفلة وضع أهداف سياسية واضحة تتصل بالمسألة اليمنية التي تشن الحرب تحت يافطتها, في مقابل أهداف سياسية وأمنية واضحة تتصل بالجانب السعودي.

فهذه العملية العسكرية الواسعة تبدو الأولى من نوعها التي لا تصاحبها قائمة بمتورطين مطلوب توقيفهم, لمعاقبتهم على ما اقترفوه من سياسات دموية وانقسامية مثلما يواصلون, بلا مبالاة, السير في درب حرب أهلية مدمرة للمجتمع وأواصره.

ومنطقياً, لا يستقيم إلقاء هذا العدد المهول من القنابل على المعسكرات وقتل مئات المدنيين في ضربات خاطئة بهدف إرغام أمراء حرب وزعماء ميليشيات إجرامية على الانتظام في مائدة الحوار الذي كان بودهم لو تلتئم جلساته أصلاً لشرعنة سلطتهم.

لن يعني ذلك أكثر من إعادة إنتاج زعماء الميليشيات المسلحة ووضع قشرة سياسية على سلوكهم الإجرامي كما فعلت مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي مع علي صالح في 2011.

وعدم التجريم القانوني لقيادة الجهة التي تستهدفها أي عملية عسكرية يعني أن العملية هي المجرًمة.

لأول مرة يجد ملايين اليمنيين أنفسهم عالقين بين حربين: حرب داخلية وحرب خارجية فرزتهم إلى ضحايا أو مصابين بلا دواء، أو نازحين في وطنهم أو عالقين يين نارين لا يلاقون أبسط ضروريات العيش.

وتمدد القتال ليعم أوسع رقعة جغرافية منذ بدأ الحوثي وصالح حربهما في الجنوب والوسط, إذ بانتقال المعارك إلى تعز نهاية الأسبوع الماضي غطت الحرب ثماني محافظات.

في موازاة هذا الاشتعال الكبير, انهارت الأوضاع الإنسانية تماماً مع دخول انقطاع التيار الكهربائي أسبوعه الثاني نتيجة الهجمات على خطوط نقل الطاقة من محطة مارب الغازية واشتداد أزمتي الوقود والغذاء ونزوح غالبية سكان المدن التي يدور فيها قتال إلى مناطق الريف, فضلاً عن توقف باقي الخدمات الأساسية.

يكفي لتصوير مأساة المدنيين, مقتل عشرات وإصابة مئات آخرين من قاطني الأحياء السكنية القريبة من منطقة فج عطان بقصف مستودع صخري للصواريخ الباليستية يوم الاثنين الماضي.

فكما لو أن الجحيم اهتاجت في فج عطان على ذلك النحو الذي أمكن مشاهدته في هيئة لجة لهب عظيمة وحمم متطايرة ترشق الأحياء المجاورين بالموت فيما يزلزل انفجارها البنايات ويصعق كل ما هو حي في نطاقه.

أسقطت «عاصفة الحزم» بقيادة السعودية من اهتماماتها أصولاً راسخة في الحروب, تتقيد بها سائر الجيوش المحاربة في العالم لتجنيب المدنيين مخاطر العمليات العسكرية ومنها إنذار السكان القاطنين جوار أهداف عسكرية مرشحة للقصف بإخلاء المكان.

ذلك أن السعودية تخوض حربها الأشد تدميراً في اليمن وعينها على تدمير كل قطعة سلاح يمكن أن تشكل تهديداً لأمنها, أما عينها الأخرى التي ينبغي أن تظل مفتوحة لرؤية المدنيين الذين يسقطون ضحايا لأخطاء ضرباتها فتغلقها بلا اكتراث.

من جهة أخرى, يثير انفجار عطان المريع كيف أن بوابة إلى الجحيم يمكن أن تنفتح في أي لحظة بشرر من تلك الأنفاق الممتدة داخل بطون الجبال المحيطة بالعاصمة حيث تربض داخل تلك الأنفاق صواريخ باليستية, لم تنفع اليمنيين حين الحاجة إليها بل أعيد تصويبها نحوهم.

حين انشق الجيش على نفسه عقب اندلاع ثورة فبراير الشعبية ضد نظام صالح عام 2011, جرى استحضار خطر الجبال الملغومة بالصواريخ حول صنعاء, مخافة أن يتناحر قسما الجيش بما يدفع القسم الممسك بتلك الصواريخ إلى استخدامها, لكن ذلك الخطر تأجل ليتحقق اليوم.

تختزن الجبال المحيطة بالعاصمة من نقم شرقاً حتى مرتفعات عصر غرباً عشرات الصواريخ الباليستية قصيرة المدى, ولا تتوافر تقديرات دقيقة بشأن عددها مع أن المعلومات المتاحة تفيد أن عددها يصل إلى 300 صاروخ متنوعة المدى, لكنها تظل تقديرات غير موثوقة عسكرياً.

وتشير أكثر التقارير واقعية إلى أن أطول مدى لتلك الصواريخ يتراوح بين 300 و500 كليومتراً وأقصر مدى لها 70 كيلومتراً .

ولو أن نظام صالح اقتنى تلك الترسانة الصاروخية لإنشاء منظومة ردع وطنية من أجل حماية الأرض والشعب لكان خزنها أو نشرها في مواقع كفيلة بتحقيق غرض ردع الأعداء المفترضين.

بيد أن تخزين ترسانة من الصواريخ الباليستية داخل أكبر تجمع سكاني حضري لا دلالة له سوى أن صالحاً اتخذها قوة ردع لحماية مركز حكمه من أطراف البلاد التي كانت هي العدو المحتمل في هاجسه, إذ تقتضي فاعلية الردع نشر منظومات الصواريخ الاستراتيجية في المواقع التي تحقق فاعلية ردع قصوى ضد الدول المصنفة وطنياً في خانة الأعداء المحتملين أو التاريخيين.

كذلك تقود الكارثة الناجمة عن قصف عطان إلى إثارة مشكلة عسكرة المدن بوصفها إشكالاً تاريخياً ورثه نظام صالح عن أسلافه ووطده على نحو وثيق وعامد, على الرغم من كل الأصوات ونواقيس الخطر التي تعالت بضرورة إخلاء مدن البلاد من معسكرات الجيش ومستودعات السلاح.

للحزب الاشتراكي اليمني ريادة رفع هذا المطلب الذي كان جزءاً أصيلاً من برنامجه الذي خاض به أول انتخابات نيابية بعد الوحدة في أبريل 1993.

وظل صوت الاشتراكي مرتفعاً بذلك المطلب دوماً, واقتبسته في أوقات متأخرة أحزاب سياسية ومنظمات مدنية حتى أنه شكل واحداً من طموح ثورة فبراير الشعبية عام 2011.

غير بعيد عن كارثة عطان, كان قرابة 50 شخصاً لقوا حتفهم في مدينة عدن أواخر مارس الماضي حين انفجر مستودع للذخيرة في جبل حديد الذي يتوسط المدينة ويضم مخزناً واسعاً للذخيرة.

وفي أكتوبر عام 2012, لقي بضعة مدنيين حتفهم بانفجار قذائف وذخيرة مخزونة في مستودع داخل مقر الفرقة المدرعة الأولى وسط العاصمة, قبل أشهر من حل الفرقة بموجب خطة إصلاح الجيش وتحويلها إلى مقر إداري للمنطقة العسكرية السادسة.

تبين هذه الأمثلة الساطعة للكوارث المترتبة على انفجارات السلاح المخزون داخل المدن كيف أن مدننا تشبه حقول ألغام شاسعة لأن عقليات متصادمة مع مقتضيات المدينية أضافت مخططات لمعسكرات ومستودعات سلاح إلى خارطة كل مدينة.

إذا اقتلع المنعطف الراهن سياسات نظام صالح الذي أصًل لهذا التقليد المرعب فليقتلع التقليد نفسه الذي كان من المفروض أن تضع خطة إصلاح الجيش حلاً له قبل عامين.

وبينما يعلق ملايين المدنيين بين نارين, تعلق اليمن بين نفوذ قوتين إقليميتين تخوضان حرب نفوذ على جغرافيتها, بعدما أسقط ساستها قرارهم في انتظار ما يأتيهم من اللاعبين الخارجيين.

نقلا "عن الثوري"

قراءة 2650 مرات آخر تعديل على الجمعة, 24 نيسان/أبريل 2015 20:06

من أحدث