طباعة

عجائب الصُّدف ووضوح الشمس

الثلاثاء, 07 تموز/يوليو 2015 23:11 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

أسئلة محيِّرة، تكاد لا تنتهي، تربك حتى ذهن من يظن بأن الحقيقة واضحة له وضوح الشمس. من هذه الأسئلة مثلاً: هل الأحداث الداخلية في اليمن، بدءاً بثورة 2011م واحتوائها وإجهاضها، وما تلى ذلك من تعقيدات في المشهد السياسي اليمني وتطوره إلى اقتتال داخلي وعدوان خارجي، هل هذه الأحداث تمثل جزءاً من السيناريو الخارجي الموضوع لليمن، في إطار سيناريو أوسع يشمل الوطن العربي كله، أم هي مجرد مجموعة من الصدف، تتلاقى وتتفاعل، مشكلة الحالة العامة التي نعيشها، والحالة التي نحن قادمون إليها؟

لقد عبر سخط الجماهير العربية على الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي، عبر عن نفسه في ثورات سلمية، رفعت شعار إسقاط هذه الأنظمة، أو لنقل إسقاط بعضها، ونجحت فعلاً، ولكن في إسقاط حكام، ولم تنجح في إسقاط أنظمة. وأدرك الثوار متأخرين أنهم استُغفلوا وخُدعوا وصُودرت أحلامهم واحتُويت ثوراتهم وحُرفت عن مساراتها، لتنتهي إلى فوضى وعدم استقرار واحتراب داخلي، يمهد لا لإعادة إنتاج الأنظمة الحاكمة بوجوه جديدة فحسب، بل ولخلق واقع جديد يتقبل الخارطة الجديدة للمنطقة، المبنية على أسس دينية وطائفية وعرقية. وهي الخارطة التي بشر بها قادة سياسيون وباحثون وإعلاميون غربيون، منذ سنوات طويلة. فهل حدث كل هذا بفعل الصدفة؟

وقبل الثورات العربية السلمية، التي أطلق عليها الغربيون اسم (الربيع العربي) أُعدت دراسات ومحاضرات، من قبل أساتذة وباحثين غربيين، تناولت فلسفة الثورات السلمية، الهادفة إلى إسقاط الحكام، والطرق التي يجب إتباعها والشعارات التي يجب رفعها والحملات الإعلامية وكيفية إدارتها (من ذلك مثلاً دراسات الدكتور جين شارب، الباحث في مؤسسة ألبرت أينشتاين في بوسطن، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة الأمريكية، التي صدرت بالأصل الإنجليزي عام 2002م، بعنوان: من الدكتاتورية إلى الديمقراطية From Dictatorship to Democracy. ثم نُشرت ترجمتها العربية في الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، عام 2009م، بعنوان: المقاومة اللاعنفية، دراسات في النضال بوسائل اللاعنف).

وفي هذا السياق أو بمعزل عنه، نشر موقع ويكيليكس آلاف الوثائق من الأرشيف السري للولايات المتحدة الأمريكية. وكان جزء من تلك الوثائق يتضمن اتصالات وعلاقات خفية لحكام عرب. تم ذلك في وقت كانت دوائر سياسية وأمنية غربية تتحرك لإسقاط بعض صنائعها من الحكام العرب، لاعتبارات خاصة بها. قد يكون منها أن صلاحية أولئك الحكام انتهت وأضحى بقاؤهم غير مفيد لها، بل أصبح ضررهم أكبر من نفعهم. فالرفض الشعبي لهم وانكشاف أدوارهم وارتفاع مستوى فسادهم يجعلهم أقل قدرة وكفاءة في خدمة من وضعهم في سدة الحكم. وهكذا آن الأوان لتغييرهم. ولكن بدلاً من إحداث انقلابات عسكرية أو تدخل عسكري خارجي مباشر، كما حصل في الماضي، رؤي هذه المرة أن يوظَّف السخط الشعبي في إسقاطهم. فيتحقق بذلك هدف تغييرهم، وتتحقق معه حالة من الرضى لدى الشعب، بالتغيير (الوهمي) الذي أُنجز. وهو ما سوف يؤمِّن دعماً شعبياً لهذا التغيير، ولو إلى حين.  

وفي هذه الأيام تعود وثائق ويكيليكس إلى واجهة الإعلام العالمي. وتتناول هذه المرة المملكة العربية السعودية. ومع أن عودة ويكيليكس إلى الواجهة الإعلامية قد تكون مجرد صدفة من الصدف الكثيرة، إلا أنها، وبالنظر إلى مجمل الأوضاع الراهنة، تولد إيحاءً بأن دور المملكة في عملية التغيير ربما يكون قد اقترب. ويصبح التساؤل هنا مبرراً: هل توريط السعودية في حرب ضد جارها اليمني هو جزء من الترتيبات الخفية الممهدة للتغيير السياسي فيها، بمعنى تغيير مظهر النظام السعودي مع الإبقاء على جوهره، أم هو مجرد صدفة أيضاً؟ وهل ستطال التجزئة الجديدة للوطن العربي، وفق خارطة الشرق الأوسط الجديد، هل ستطال المملكة العربية السعودية أيضاً، فيتم إحياء مكوناتها القديمة (نجد والحجاز وملحقاتهما) مثلاً، أم ستخضع لتقسيم جديد؟  

التاريخ يعلمنا أن الوقائع اليومية الصغيرة تتجمع وتتراكم لتخلق أحداثاً كبرى، تغيِّر في كثير من الأحيان مسار التاريخ. فهل نحن في وطننا العربي نعيش هذه الحالة؟ أظن أن هناك فرقاً بين العصور الماضية والعصر الحالي. فالأحداث الراهنة والأحداث القادمة أصبحت تُصنَّع مسبقاً، بوعي وتخطيط مبنيين على العلم. ولم تعد الأمور تُترك للصدف والمفاجآت. وليس هناك في عالم اليوم من يعتمد على الصدفة في تنظيم حياته وإدارة شؤونه العامة إلا نحن العرب. لذا غاب فعلنا المؤثر وأفسح المجال لفعل الآخرين وإرادتهم في تحديد مسار حياتنا ورسم تفاصيل وجودنا. فلننتظر إذاً أن يتوقف الإقتتال الداخلي فيما بيننا بفعل الصدفة، ويكف الخارج عن عدوانه علينا وحصاره لنا وتمويله لحروبنا الداخلية بمحض الصدفة، ولاداعي لأن نتحرك بوعي وتخطيط لإدارة أزماتنا وتجاوز خلافاتنا وإيقاف معاناتنا وبناء دولتنا وتحقيق استقرارنا وأمننا وإقامة علاقات متوازنة مع الخارج. فالصدف كفيلة بهذا كله.  

وفي خضم الجدل حول شرعية العدوان الخارجي وشرعية الشرعيات المزعومة، التي تُرفع راياتها في أكثر من قطر عربي، لتمرر تحت عباءاتها ممارسات وأعمال وترتيبات غير شرعية، في سياق الجدل حول هذه المسألة يردد البعض أحياناً عبارة (هذه حقيقة واضحة وضوح الشمس)، ليحسم بهذه العبارة النقاش ويقيم الحجة على الآخرين. وبالطبع فإن هذه العبارة تعني في ماتعنيه أن الطرف الآخر في النقاش شديد الغباء والعمى، لا يفقه ولايرى. إنها عبارة من عبارات كثيرة نرددها بحكم العادة، دون تفكير في معانيها ودون تدقيق في مدى صحتها. فمن ذا يستطيع أن يرى الشمس بعينيه المجردتين ويجزم بأنها واضحة له كل الوضوح؟ ألسنا لانرى ولا نلمس منها إلا بعض آثارها، كالضوء والحرارة؟ وهي آثار نكتفي بها للدلالة على مصدرها، دون حاجة إلى أن نحملق في مصدرها فتعمى أبصارنا. أفلا تكفينا الكثير من الأحداث التي مر ويمر بها وطننا العربي، للدلالة على مصادرها الخارجية؟ لماذا نرفض هنا توجيه الأنظار إلى العامل الخارجي في محنتنا اليمنية، رغم وضوحه ورغم أن توجيه أنظارنا إليه لن يعمي أبصارنا، بل سيزيدنا وضوحاً في الرؤية ومزيداً من الفهم والإستيعاب لحقيقة مايدور لدينا في الداخل ومايدور حولنا في الخارج؟

هذا مجرد استطراد، ربما يجعلنا أكثر تواضعاً، فنسلم بأن مانعتقده صحيحاً قد يحتمل الخطأ، وما نعتقده خطأً قد يحتمل الصواب، وأن أياً منا لايستطيع الإدعاء بأنه يمتلك الحقيقة (الواضحة وضوح الشمس) وسواه لايمتلك شيئاً منها. لأن هذا الإدعاء يقود إلى التعصب ويرسخ ثقافة الإلغاء والإقصاء الممقوتة. وإذا كانت هناك ثمة حقيقة ماثلة يمكن أن نتحدث عنها فهي المصالح الإقليمية والدولية، التي تتصارع على ساحة وطننا، وتسخرنا لأغراضها وتعبث بأمننا واستقرارنا وحاضرنا ومستقبلنا وتدمر مقومات حياتنا وتفرض حصاراً شاملاً على شعب بكامله. ورغم خطورة هذه المصالح على وجودنا الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، فإننا مانزال نواصل الإقتتال فيما بيننا، ونواصل الإنقسام بين رافض للعدوان الخارجي مقاوم له، وبين مرحب به مطالب باستمراره، بدلاً من توحيد موقفنا جميعاً للدفاع عن مصالحنا الوطنية وعن أمن وسلامة بلادنا وحل خلافاتنا عبر الحوار الهادئ المسؤول. ففي سبيل ماذا ولمصلحة من نصنع هذا بأنفسنا؟ هل يستطيع من يمتلكون الحقيقة الواضحة لهم وضوح الشمس أن يجيبوا عن هذا السؤال البسيط؟ رحم الله الشهيد علي ناصر القردعي، القائل:

كلّن يبا تجزع العوجى على الثاني        وانتو سوا تحت هجّ اعوج تجرونه. 

قراءة 2662 مرات

من أحدث د. أحمد قايد الصايدي