طباعة

لو أن هذا لم يكن

الجمعة, 31 تموز/يوليو 2015 21:24
قيم الموضوع
(0 أصوات)

في سياق حديث للرسول الكريم، وردت هذه العبارة "فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان". ويقول العلماء إن استخدامها في الخير جائز، كقول الرسول: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي". ونحن هنا سنستخدمها في مانراه خيراً، تلمساً للعظة والعبرة في مافات وإشفاقاً على أنفسنا مما نحن فيه ومما نحن سائرون إليه. ولنبدأ من الماضي القريب، الذي ماتزال ذكراه عالقة في أذهاننا:

لو أن الحركة السياسية في الوطن العربي، في مرحلة النهوض التحرري، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لو أنها وحدت جهودها باتجاه تحقيق الوحدة العربية وبناء دولة العرب الواحدة المدنية الديمقراطية العادلة، ووفرت طاقاتها لبناء الإنسان العربي والحياة العربية الكريمة، بدلاً من بعثرة جهودها واستغراق إمكانياتها وإمكانيات شعبها ووطنها في افتعال الخصومات والصراعات العبثية فيما بينها، لينتهي الأمر بها وبنا إلى الحال الذي نحن فيه. لو أنها فعلت ذلك لما خسرت نفسها ولما خسر شعبنا العربي أحلامه وأمنه واستقراره وكرامته.    

لو أن التجربة الناصرية في مصر انتهجت نهجاً ديمقراطياً وسمحت بإنشاء الأحزاب السياسية وبالتنافس الديمقراطي الحر فيما بينها، لحمت نفسها وحافظت على منجزاتها، ولشكلت مصر بذلك مدرسة للممارسة الديمقراطية، التي يتتلمذ عليها كل العرب، ولما تمكن عهدي السادات وخليفته مبارك، بسهولة ويسر، من إهالة التراب على الجوانب المشرقة في تلك التجربة ومن إلغاء دور مصر المحوري في قيادة الأمة العربية وإزاحتها من موقع الصدارة في حركة التحرر العالمية. ففقدنا بذلك مصر، بثقلها ودورها القيادي المؤثر، وخسرنا بفقدها الكثير.

لو أن ثورة الجزائر التحررية حافظت على نقائها وسلامة توجهها وواصلت مسيرتها بعد الإستقلال نحو بناء الجزائر الحديث وتحاشت الوقوع في دائرة الفساد المالي والإداري وسقوط القادة في مستنقع الأنانيات وشهوة السلطة، وبقيت جبهة مناضلة في مرحلة البناء كما كانت في مرحلة الكفاح التحرري من الإستعمار الإستيطاني الفرنسي، لشكلت مصدر إلهام للشعب العربي كله، في نضاله ضد التخلف والجهل والتجزئة، وضد هيمنة المصالح الكبرى في العالم على مقدراته. 

لو أن الرئيسين، صدام حسين وحافظ الأسد، اللذين حكما باسم حزب البعث العربي الإشتراكي قطرين عربيين مهمين ومتجاورين (سورية والعراق)، لو أنهما لم يحوِّلا حزبهما الواحد إلى حزبين متنافرين وإلى جهازين تابعين للسلطتين المتصارعتين، ولم يشغلا السلطتين والبلدين في صراع عبثي بينهما، أهدر طاقاتهما وحال دون توحيد سوريا والعراق في دولة عربية واحدة، قوية بثرواتها وبامتدادها وبكثافتها البشرية، فتسببا بذلك في أن تخسر الأمة العربية كلها فرصة تاريخة، ليس من السهل أن تتكرر مرة أخرى، كانت كفيلة، لو تمت الإستفادة منها لصالح الأمة، بأن تحول دون انحدارنا إلى المستوى الذي انحدرنا إليه.

لو أن الحكومات العربية الثرية وجهت الثروات الفائضة في بلدانها إلى التنمية في الوطن العربي، بدلاً من توجيهها إلى مصارف الغرب الإستعماري، لتصب بالنتيجة في شبكات المصالح الصهيونية، لحققت بذلك أمنها الخاص والأمن القومي العربي، بمفهومه الشامل. ولو أنها، أي الحكومات العربية، لم تبعثر أموالها في تمويل الحروب الداخلية، في أقطار عربية وغير عربية، وفي تجنيد آلاف الشباب العربي، للقتال في بلدانهم وفي غير بلدانهم، واستثمرت تلك الأموال في بناء قاعدة إقتصادية إنتاجية عربية متينة، وفي تعزيز مؤسسات التعليم والبحث العلمي وتوفير الإمكانيات اللازمة لتطويرها وتعظيم دورها في المجتمع العربي وتوجيه الشباب إلى التحصيل العلمي المتطور، وتوفير فرص العمل والحياة الكريمة لهم، لقضت بذلك على كل أسباب العنف والإقتتال بين الإخوة، على امتداد الوطن العربي كله، وحققت الخير لنفسها ولشعبها العربي.

ولو استرسلنا في (لو)، ونحن نستحضر بعض خيباتنا في الماضي، لما اتسع حيز هذا المقال، ولما انتبهنا إلى أننا نحتاج في الحاضر إلى استخدام (لو) المشبعة بالتمني، ربما أكثر من حاجتنا إلى استخدامها ونحن نتذكر الماضي. فنحن اليوم لانكتفي بتكرار أخطاء الماضي، بل ونزيد عليها، وقد ننجح في بلوغ مستوى من الفشل لم يبلغه أحد قبلنا، ونتجه إلى تحقيق هزائم أنكى من الهزائم التي منيت بها أمتنا حتى الآن. فلنعط للحاضر إذاً بعض بركات (لو)، لأننا لو أعطيناه كل بركاتها لولولنا كثيراً. ولنقصر حديثنا على اليمن وما جاوره:

لو أن الرئيس المختار، رئيس الصدفة والضرورة، عبد ربه منصور هادي، أدرك معنى أن تأتي به الظروف، ليكون رئيساً إنتقالياً، في مرحلة دقيقة وشديدة الخطورة، تقتضي أن يتولى عملية نقل اليمن من حالة الإرباك والفوضى والإقتتال، إلى مرحلة طبيعية، تتسم بالإستقرار والهدوء، تدور فيها عجلة التنمية ويسود التعاون، تحت قيادته، بين المكونات السياسية والإجتماعية، على طريق بناء اليمن الجديد. ولو أنه كان يقرأ مايكتبه الخائفون على مستقبل اليمن ويستمع لما يقدمه الناصحون له من نصح، مباشر وغير مباشر، ممن لايبغون على نصائحهم جزاءً منه ولاشكورا. لو أنه فعل ذلك، هل كنا سنصل إلى ماوصلنا إليه اليوم؟  

ولو أن الحركة السياسية اليمنية، بكل مكوناتها، تخلت عن سلوكها المتسم بالتخبط وسوء التقدير، ولم تبتعد عن الشارع اليمني وهمومه الحقيقية، ولم يجنح بعضها إلى العنف المسلح، بتداعياته الخطرة وآثاره المدمرة على اليمنيين جميعهم، مادياً ونفسياً واجتماعياً، لكانت قد لعبت دوراً رائداً في تصحيح مسار الوحدة وإعادة بنائها على أسس متينة وعادلة وتنقية أجهزتها من الفساد، ولساهمت في تلبية مطالب الحراك السلمي في الجنوب، وحالت دون احتواء وإجهاض ثورة الشباب في الشمال، ولاستطاعت أن تمارس ضغطاً قوياً ومؤثراً على الرئيس عبد ربه، لترشيد عمله، أو لإسقاطه بالوسائل الديمقراطية السلمية، بعد أن تتأكد من أنه لاعلاج لعجزه ولا أمل في شفائه.

ولو أن أكبر حزبين مدنيين في اليمن، الحزب الإشتراكي اليمني والتنظيم الوحدوي الناصري، وهما حزبان متقاربا الفكر والتوجه، لو أنهما عملا معاً على تعزيز الثقة بينهما ووضع قواعد شراكة سياسية للحاضر والمستقبل، وبرامج موحدة لحراكهما اليومي، واجتماعات منتظمة، تضم قيادتيهما العليا معاً، ولجان تنسيق قاعدية في المحافظات، تتولى كل منها قيادة النشاطات اليومية المشتركة في محافظتها. لو أنهما عملا ذلك، لرسخا تقاليد العمل السياسي الديمقراطي السلمي، ولشكلا نواة صلبة لقوة سياسية مدنية، تمثل الحامل لطموحات اليمنيين وأهدافهم المستقبلية، ويُحسب لموقفها ألف حساب، ويُسمع صوتها لدى كل القوى المتقاتلة في الداخل اليمني، لاسيما إذا وقفت على مسافة واحدة من هذه القوى، بحيث تتمكن من التعامل معها دون حساسيات وتسهم في إعادتها إلى العمل السياسي السلمي وإلى منهج الحوار البنَّاء وحل الخلافات والتباينات بالتوافق الوطني وبالتنازلات المتبادلة لصالح الوطن. ولو أنهما عملا ذلك، لأضحى صوتهما مسموعاً لدى القوى المتنافسة في الخارج، التي حولت اليمن إلى ميدان مفتوح، لتصفية حساباتها بدمائنا وأجسادنا.  

ولو أن جوارنا العربي بادر، وقد رآنا نعاني من استعصاء في حل مشاكلنا بأنفسنا، لو أنه بادر إلى التدخل الأخوي السلمي وتعاون معنا في وضع خارطة طريق جديدة، تخرجنا مما نحن فيه، ودعَمَها بإمكانياته ونفوذه المالي والسياسي على بعض قيادات الدولة وعلى بعض المكونات السياسية والإجتماعية اليمنية، وبالتفاهم مع القوى الإقليمية الأخرى، المؤثرة في الداخل اليمني، بدلاً من أن يعمد، في سبيل الدفاع عن مصالحه وإضعاف منافسيه الإقليميين، إلى استخدام القصف الجوي والبحري والقضاء على مقومات الحياة اليمنية وتدمير البنية التحية الأشد فقراً في المنطقة، وفرض حصار شامل على اليمن، يتضرر منه المواطن العادي في حياته اليومية، أكثر مما يتضرر منه المتحاربون، لو أنه سلك سبيل العمل الدبلوماسي السلمي الهادئ، لاستطاع أن يأخذ بأيدينا إلى بر الأمان، ولجنبنا مانعيشه اليوم من ترويع وقتل وتدمير وبطالة وجوع وتشرد، ولاستطاع في الوقت نفسه أن يحافظ على مصالحه الإقليمية ويتحاشى التداعيات المستقبلية والتأثيرات السلبية للحرب اليمنية على أوضاعه الداخلية. 

وأخيراً لو أنني لم أكتب ماكتبته، منذ الأسبوع الأول من عمر دولة الوحدة، عام 1990م، عن الفساد المالي والإداري وسبل مكافحته، خوفاً من فتكه بدولة الوحدة، التي تحققت بطريقة مرتجلة، نتجت عنها كوارث لاحقة وارتكاس مؤلم في الوعي الوحدوي. ولو أنني لم أكتب ماكتبته، منذ عام 1993م، عن ضرورة إيجاد إدارة محلية في المحافظات، تتمتع بصلاحيات كاملة في كل ماهو شأن محلي، على رأسها في كل محافظة مجلس تنفيذي، ينتخبه سكان المحافظة، ومحافظ ينتخبه المجلس من بين أعضائه، وذلك للتخلص من هيمنة المركز وتسلطه، ولفتح آفاق المشاركة الواسعة أمام أبناء اليمن جميعهم وفي مختلف مناطقهم، في إدارة بلدهم وفي ترسيخ قواعد دولتهم الواحدة. لو أنني لم أفعل ذلك، لما جرحت مشاعر بعض المراكز العليا في السلطة، التي حرصت على التعبير عن انزعاجها بصور شتى، ولبقيتُ في (السيف سايد) على حد تعبير أحد أصدقائي الطيبين، الذي يواصل نصحي باستمرار، من منطلق الإحساس بأن الكلمة لم تعد تجدي. ولكن ما العمل، وليس أمام من يحبون بلدهم ويحبون كل أبنائه دون تمييز، ويؤمنون بقدرات شعبهم الهائلة، التي أهدرها عبث السلطة واستهتارها بحاضر اليمن ومستقبله، ما العمل وليس أمامهم من سبيل سوى سبيل الكلمة؟ حتى وإن حُشرت كلماتهم في الزاوية السفلى من إحدى الصفحات الداخلية لصحيفة الثوري. فنحن لانملك إلا سلاح الكلمة، نستخدمها حيثما نرى فائدة في استخدامها، على أمل أن تُسهم، ولو بقدر ضئيل، في إيصال الوطن إلى بر الأمان، أو إلى مايسميه صديقي (السيف سايد)، الذي تجعلنا القوى المتقاتلة اليوم نزداد ابتعاداً عنه، كلما احتدم القتال وانعدمت الرؤية.           

قراءة 2198 مرات

من أحدث