طباعة

مآلات الأحداث من وحي: «الجمهورية بين السلطنة والقبيلة» للدكتور أبوبكر السقاف مميز

الأربعاء, 12 آب/أغسطس 2015 21:00 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

كثيرة هي الأسئلة التي تجول فـي أذهان الكثيرين من مختلف الفئات الاجتماعية، سواء أكانت نخباً مثقفة أو على مستوى معين من الثقافة والوعي، أو من الطيبين الحالمين بدولة النظام والقانون، أو ممن كانوا يؤملون بواقع مختلف، تتحسن فيه على الأقل شروط الحد الأدنى للحياة والعيش الكريم، فإذا بهم يفاجؤون وبشكل لم يتوقعونه ولم يكونوا يتصورنه للحظة أن تنقلب الأمور وينقلب الواقع ويعود بنا القهقرى إلى الوراء سنوات وسنوات. ربما إلى النقطة التي بدأ اليمنيون يتطلعون إلى التحرر من واقع الإمامة المرير الذي حبس اليمنيين وأحكم عزلتهم عن العالم من حولهم، فـي حياة رتيبة ومملة وراكدة، وحرمهم من اللحاق بركب العالم والحياة في ظل الحضارة الإنسانية العصرية الجديدة، ومن الاستفادة من منجزاتها فـي شتى مجالات الحياة.

لا شك أن المجتمع بمختلف مكوناته وقواه الاجتماعية يعيش في حالة صدمة كبيرة جراء ما آلت إليه الأحداث وما وصل إليه واقع الحال. حالة من النكوص، والتراجع، وبشكل غير مسبوق، وغير متوقع. لقد كان المجتمع في حالة من الاسترخاء والركون، وواقعاً تحت تأثير ثقافة الحتمية التاريخية التي تقول وتفسر إن التاريخ يسير بخط مستقيم، وإن التطور والتقدم، آت لا محالة، وأن القديم ذاهب إلى زوال. والجديد سيحل محله إن آجلاً أو عاجلاً. وبحسب هذه النظرية – حتمية التاريخ – والتي في بعض من جوانبها وفرضياتها العلمية هي لا شك صحيحة، لكنها تصح وفقاً لفاعلية الإنسان في الواقع ومع حركة التاريخ في الزمن. فلن ينتصر الجديد وتتوطد أركانه إلا عبر حركة التاريخ وبأناس يتمثلون هذا الجديد معبرين عنه وينظمونه بقوى اجتماعية تكون نقيضة لقوى الماضي، الكابحة لحركة التاريخ والمعيقة لتطور المجتمع، وعبر الصراع المحتدم وبآليات وأدوات كل منهما، تظفر إحداهما بالنصر، فإن انتصرت القوى الجديدة، فذلك انتصار طبيعي وفقاً لحركة التاريخ ومساره الطبيعي ناجم عن جهد مبذول داخل حركة التاريخ، وان انتصر القديم، عُد ذلك نكوصاً ناجماً عن قلة خبرة وسوء تقدير وقصر نظر، وحالة النكوص هذه هي في كل الأحوال ليست نهاية المطاف، ولا تعبر عن الهزيمة الساحقة والماحقة لقوى الجديد، ولا تعد الانتصار النهائي لقوى القديم، إنما هي جولة من جولات الصراع ومعركة من معارك كثيرة في الحرب وان «تخسر في معركة لا يعني أنك قد خسرت الحرب».

حقاً وكما قيل: «إن العالم القديم لا يموت بهدوء».

لقد آلت الأحداث إلى ما آلت إليه، بانزلاق اليمن إلى الحرب الأهلية الداخلية والتدخل الخارجي بالتحالف العربي الذي تقوده السعودية، وإعلان الحرب وإشعال فتيلها من قبل الحوثيين وحليفهم علي عبدالله صالح، الرئيس السابق، وبعد ان استكملوا حلقات مخططهم بالانقلاب على الإجماع الوطني، المتمثل بمخرجات الحوار، وشرعية الرئيس التوافقي عبدربه منصور هادي، الذي وجد نفسه تحت الإقامة الجبرية، وتمكن من الإفلات من قبضتهم نازحاً إلى عدن، وهذا على ما يبدو ما خططوا له بإحكام حتى تكتمل الأسباب والمبررات، وتضاف هذه الذريعة إلى جانب غيرها من الذرائع الأخرى والتي تذرع الحوثيون بها الواحدة تلو الأخرى وهم ينفذون السيناريو الذي رسموه وخططوا له مع عدو الأمس حليفهم اليوم.

وما إعلان التعبئة العامة ودق طبول الحرب وإعلان الجهاد والاتجاه جنوباً صوب عدن وتعز لإخضاعهما، ما هو إلا الحلقة الأخيرة للسيطرة على الحكم واستعادة السلطة بالقوة ومصادرة الإرادة الشعبية.

وحين تصاب المجتمعات بحالة من النكوص والارتداد فإنه من الأهمية العودة إلى تاريخها القريب والبعيد، وتفتش في ماضيها عن مسارات الأحداث وطبيعة الصراعات فيه علها تجد تفسيرات لما تتعرض له في حاضرها، فقد يكون الماضي ما يزال يلقي بأثقاله عليه، من أجل الوصول إلى استنتاجات واستخلاصات تلهمها لصياغة رؤيتها للمستقبل وهناك الكثير من المراجع التاريخية، والكتب الصادرة في فترات ومراحل مختلفة تناولت بالدراسة والتحليل مسيرة كفاح الشعب اليمني في مراحله وعهوده المختلفة، وفي محاولاته المستمرة والدؤوبة للتحرر من عهود الاستبداد والظلم والتخلف.

ويعد كتاب «الجمهورية بين السلطنة والقبيلة» من الكتب الهامة التي تناولت حقبة هامة من تاريخ الشعب اليمني منذ إمامة الإمام يحيى وحتى جمهورية سبتمبر، والكتاب صدر في نهاية العام 88م من القرن الماضي للدكتور أبوبكر السقاف، وقد صدر حينها باسم مستعار باسم الدكتور محمد عبدالسلام لظروف تلك الفترة المتسمة بمصادرة الحريات والقيود المفروضة على حرية الرأي. وتأتي أهمية قراءة الكتاب اليوم من حيث أنه يجيب عن تساؤلات وتفسيرات عن ما هو غامض أو ما يبدو أنه يستعصي على الفهم، لمسارات الأحداث الراهنة، وإلى ما آلت إليه الأمور اليوم.

والكتاب وكما جاء في مقدمته «محاولة لتحليل مؤثرات التطور ومؤشراته وعوامله الفاعلة في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في اليمن الشمالي منذ سبتمبر 1962».

كما يجيب الكتاب عن «أسئلة محورية عديدة ظلت منذ أمد دون معالجة، من بينها سؤال: لماذا لم يستقر مفهوم المواطنة بدلاً عن مفهوم الانتماء القبلي على الرغم من سقوط الإمامة وإعلان الجمهورية منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً؟.» وهي الفترة منذ قيام ثورة سبتمبر إلى العام الذي صدر فيه الكتاب.

وكان يأمل مؤلف الكتاب وكما أشار في مقدمته (أن يسهم كتابه هذا في «تبديد الكثير من الأساطير والأوهام والمفاهيم المغلوطة عن اليمن ومسار تطوره، فضلاً عن تعرية واقع قوى مذهبية وطائفية وقبلية حاولت وما تزال تسخير الدولة الحديثة نسبياً لاستمرار القديم في شكل سلطنة جديدة»).

وفي حقيقة الأمر فإنه ومنذ ذلك التاريخ -تاريخ تأليف الكتاب- والذي استعرض في فصوله الأربعة بالتحليل العلمي المنهجي الرصين واقع جمهورية سبتمبر وما انتهت وصارت إليه من سيطرة القوى الطائفية القبلية التي تربعت على مقاليد الحكم واستمرت في تسخير الدولة وحرصت كل الحرص على استمرار القديم بشتى الطرق والوسائل التي توافرت لديها، حتى بعد قيام دولة الوحدة في العام 90م والتي قوضتها وهدمت أركانها بحرب 94م وأقصت الجنوب وعطلت شراكته في دولة الوحدة وحالت دون تأثير تجربته الفتية في بناء الدولة الوطنية الحديثة بمضامينها المدنية التي كانت قد أرست دعائمها في دولة الجنوب. واستمرت في إنتاج القديم وجعلت من الماضي بكل أثقاله جاثماً ومهيمناً على الحاضر، حتى اندلاع الحركة الاحتجاجية الشعبية في العام 2011 الحادي عشر من فبراير. والتي هدفت بشكل رئيس إلى إسقاط نظام أعاق بناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة.

وعلى الرغم من أن الكتاب -كما أشرنا سابقاً- يحلل العوامل الفاعلة في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، في اليمن الشمالي فإن أهميته تكمن من حيث ان القوى التقليدية ذاتها وبتحالفاتها في اليمن الشمالي هي من آلت إليها مقاليد الحكم والهيمنة بالقوة والغلبة على مستوى اليمن ككل بعد حرب 94م وظلت تنتج عوامل استمرار وجودها من خلال إحكام قبضتها على أهم مفاصل السلطة، وهيمنتها الكاملة على الدولة، منتهجة سياسات اقتصادية واجتماعية وظفتها لأجل تأبيد سيطرتها وضمان بقائها في الحكم.

وما أحداث اليوم، والخراب والفوضى التي تعم كل أرجاء اليمن ما هو إلا التعبير الصارخ والفاضح عن أزمة هذه (السلطنة) التي حلت بديلاً عن الجمهورية منذ العام 1962 وحتى الحادي عشر من فبراير 2011. وما النتائج التي نراها ماثلة أمام أعيينا اليوم، ليست سوى نتائجها التي ترتبت عن سياساتها التي اتبعتها خلال سنوات حكمها الماضي. إنها مخرجات حكمها التي وظفتها لهدم بنيان الدولة اليمنية وإشاعة الفوضى، وتدشين الحرب الأهلية بعد انقلابها على الشرعية، وبعد ان شعرت ان الارض تمور وتتزلزل من تحت أقدامها، وان نهايتها باتت وشيكة لا محالة، وان عهداً جديداً وقوى جديدة ستحل بديلاً عنها، فما كان منها إلا أن أعادت ترتيب أوراقها وإعادة رسم خارطة تحالفاتها، فوظفت كل عوامل البيئة الجغرافية وقوة حضور الجماعة الحوثية الصاعدة كقوى مذهبية تتخذ من المذهب الزيدي ايديولوجيا لها لحشد أتباعها وتعبئتهم بشعارات جهادية لترسلهم إلى مناطق اليمن كافة لإسقاطها وإخضاعها في حروب شبيهة بحروب الإمام يحيى التي أطلق عليها حين ذاك - بحروب التوحيد.

إن ما يحدث اليوم له جذوره في التاريخ، منذ إمامة يحيى وحتى التاريخ الذي بدأ نسج أحداثه مع بداية ثورة سبتمبر 1962 وحتى العام 2011.

وبالعودة إلى كتاب الدكتور السقاف وفي ضوء ما يشهده المجتمع من انقسامات حادة إثر صعود الحركة الحوثية للسلطة، وما قامت به من إجراءات وما نجم عنها من تداعيات جراء الطريقة التي أدارت بها شؤون الدولة التي أفضت إلى الغياب الكلي لمظاهر الدولة، وتفاقم الأزمات، واختفاء الخدمات واشتداد معاناة المواطنين، هذه الممارسات لا تصدر إلا من ذهنية غارقة في الماضي لا تشبه سوى ذهنية الإمام يحيى ذاته.

إن «العقلية التي اتسمت بها تصورات الإمام يحيى للتاريخ والحكم دخل المذهب الزيدي كان لها أبلغ الأثر في تقسيم المجتمع في اليمن الشمالي».

وكما هو جهاد الحوثيين اليوم فإنه يشبه الطريقة ذاتها لجهاد الإمام يحيى.

«فكان الجهاد باسم الشريعة أبعد ما يكون عن فكرة الوطني والوطنية الحديثة، وكانت دعوة الجهاد موجهة إلى أتباعه من الزيود تحديدا»(ص10).

«فقد رافق بسط نفوذه على المناطق الزيدية والشافعية شعارات مختلفة، ففي المناطق الزيدية نادى بسقوط الطاغوت لإسقاط حكم العرف القبلي وفرض الشريعة. فأخمد أكثر من تمرد في بكيل وحاشد وتخلص من حلفاء الأمس ليوطد سلطته. أما في المناطق الشافعية فكان جنوده مجاهدين في سبيل الله، فمناطق تعز والبيضاء يسكنها كفار تأويل، كما كان يوحي بذلك إلى الأتباع والجنود»(ص11).

وما أشبه الليلة بالبارحة، فمن كفار التأويل، إلى الدواعش. إنها الشعارات ذاتها، وان اختلفت الصياغة اللغوية التي تقتضيها لغة اليوم، فالشعار يحقق الهدف ذاته وهو إخضاع هذه المناطق لحكم المذهب.

وباستيلاء الحوثيين ومن خلفهم علي صالح – على السلطة وبالقوة، وتقويض بنيان الدولة وهدم أركانها بانقلابهم على الشرعية التوافقية وفرض سيطرتهم وهيمنتهم وإصرارهم على حكم اليمنيين بالإكراه وما ترتب على ذلك من مخاطر يهدد الوجود الاجتماعي لليمنيين، ويضع حياتهم ومستقبلهم في مواجهة المجهول.

وحين يصل المجتمع إلى هذه الدرجة من السوء، لا يكون أمامه من خيار غير ابتداع أشكال من المقاومة من منطلق غريزة حب البقاء، ومقاومة الفناء.

قد تتخذ المقاومة شكلاً من أشكال المقاومة المسلحة، لدرء الخطر الداهم وإيقاف جائحة جماعة معتدية مستعلية، بهدف وضع حد لما قد تلحقه من دمار للمجتمع، وإعادتها إلى جادة الصواب، وتحكيم العقل.

ويترافق إلى جانب المقاومة المسلحة، أشكال أخرى ليست أقل قيمة وفائدة، هي المقاومة المعرفية والثقافية والعلمية. بالعودة إلى قراءة التاريخ والاستفادة من دروسه وعبره. وقد تكون العودة للتاريخ ما يساعد على معرفة ما يحدث اليوم وامتلاك القدرة على تفسيره وتوصيفه، ومن ثم تقدير حجم خطره وآثاره والعوامل والأسباب التي أدت إليه ومن ثم سبل عملية في مقاومته، وتجاوز الآثار التي أحدثه.

«إن التاريخ ما يحتاج الناس إلى تذكره من أحداث الماضي، فإنه يصح بدلالة الاتصال والانفصال في حركته، فكل واقع ينطوي على نقاط مساره نجدها حاضرة في كيانه، ومن هذا المنطلق لا تكون الصلة بالماضي عدمية فيتعذر فهم بعض ملامح الحاضر وتعقيداته البنائية.

كما انها لا تكون تماثلاً واستمراراً جوهرياً له في الزمان، فيستحيل فهم الجديد الذي تراكم وتبلور عبر الزمن.

وكلما قلت ديناميكية مجتمع ما، كان نصيب الماضي ورواسبه فيه قوياً»(ص5).

بهذه العبارة يبدأ الدكتور أبوبكر السقاف أول فصول الكتاب.. وبها يحدد طبيعة منهجه العلمي الذي سيقرأ به الأحداث، وسيحلل وفقاً له مساراته منذ العام 1962 في اليمن الشمالي الذي تربعت على رأسه السلطنة الجديدة وورثت تقاليد الإمامة وواقعها، وظلت تحافظ على القديم وتعيد إنتاج الماضي حتى اليوم.

قراءة 2433 مرات

من أحدث عارف الشيباني