طباعة

الحرب والشذوذ

الجمعة, 21 آب/أغسطس 2015 19:52 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

الحروب بطبيعتها العامة تمثل شذوذاً عما هو إنساني وأخلاقي، لاسيما الحروب الأهلية، التي يقتل الأخ فيها أخاه. إذ يتحول الإنسان فيها إلى آلة قتل، يقتل بالدرجة الأولى مشاعره الإنسانية في داخله ويُضعف عناصر الخير في تكوينه البشري، ويصبح قتل الآخر المواجه له هدفاً وغاية. ولكن للشذوذ في الحروب درجات، تتمايز بقدر التمسك بقواعد الحرب، التي رسختها عبر تاريخ البشر الأعراف والتقاليد والتعاليم الدينية وماتوافق عليه المجتمع البشري في العصر الحديث من قواعد وضوابط تحكم سلوك المتحاربين. فالقتل دون إفراط، يمكن تبريره في حالة الإشتباكات. ولكنه محرم في حالة الأسر، أو في حالة انهزام طرف من أطراف القتال وهروبه أو استسلامه. فالمنهزم الهارب لايجوز قتله، لأن قتله من الخلف جريمة، ولا ينم عن شجاعة القاتل، ولايجوز أن يلاحق إلا  بهدف أسره. أما قتل الأسير أو حتى تعذيبه، فهو شذوذ صارخ عن القيم الأخلاقية والدينية وقواعد وأعراف الحروب.

عندما أُسر وزير الدفاع في لحج، وهو يقاتل على رأس الوحدات العسكرية الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي، خاطب الشاب المكلف بحراسته، بحسب الحوار المنشور حينذاك، متمنياً لو أنه، أي الشاب، قد عجل بوضع رصاصة في رأسه. ربما كان الوزير في تلك اللحظة يتوقع أن يُهان ثم يُقتل. لكن الشاب أجابه: "ماتقولش هكذا يافندم، بايقع خير". هذا الحوار يعكس أخلاقاً أخرى غير ما أصبحنا نشاهده، يعكس أخلاق اليمنيين، التي ترسخت عبر آلاف السنين وأصبحت الآن مهددة بالإندثار. فهل استمرار الحرب هو السببب في تكوُّن أخلاق جديدة، لاعهد لنا بها؟ أم هو تكوين ثقافي ونفسي وأخلاقي خطر، مستورد من بيئات أخرى غير البيئة اليمنية؟

ما حدث مؤخراً في تعز من قتل الأسرى والتمثيل بجثثهم أمر خارج عن المألوف. إنه شيء مرعب ومقزز ولا يمت إلى طبيعة اليمنيين وأخلاقهم بصلة، فما بالك بطبيعة وأخلاق تعز وأهلها، عقل اليمن ومخزن مدنيته الواعدة وموطن نخبته المثقفة، بل وموطن الطبقة الوسطى، التي تمثل في كل المجتمعات البشرية قاعدة التوازن والإعتدال والقيم الأخلاقية والبناء والتعمير والعلم والثقافة والتنوير. إن ما حدث يعكس حالة من التردي الأخلاقي، الذي تغذيه الحرب، والذي نخشى من تأثيراته المستقبلية على تعايش مجتمعنا من جديد، بعد أن تضع الحرب أوزارها وتُطوى بمآسيها وشرورها. إن ما حدث لايمكن التعبير عن بشاعته بالكلمات. وقد عبر الكثير من أبناء تعز ومن كُتَّابها وناشطيها وقادتها السياسيين عن صدمتهم وإدانتهم لهذا السلوك الشاذ.

نعم إن الحرب شذوذ بطبيعتها. ولكن أشدها شذوذاً هو ماشاهدناه، من قتل الأسرى وتعليق جثثهم كالخراف وتقطيع أوصالهم وسحلهم. إنه تعبير صارخ عن هزيمة أخلاقية مني بها اليمنيون جميعهم. ولذا فليس أبناء تعز وحدهم معنيون بالوقوف في وجه هذا الإنحطاط الأخلاقي، بل هي مهمة كل اليمنيين في كل مناطقهم. فما حدث في تعز يمكن أن يحدث في أية منطقة يمنية أخرى. وقد سبق أن شاهدنا نذره في حضرموت، عندما أُحرق بائع متجول وهو حي يصرخ، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. ثم عندما أُنزل بعض المجندين الشباب من حافلة ركاب مدنية، وهم في طريقهم إلى قراهم وأسرهم، بملابسهم المدنية لايحملون سلاحاً، وتم ذبحهم على مرأى ومسمع من بقية الركاب. وشاهدنا بعد ذلك عملية الذبح وقتل الأسرى تتكرر في مناطق أخرى. ولم يشعر معظم اليمنيين بفظاعة الأمر وخطورته، ولم يكترثوا إلا عندما بلغ الشذوذ درجة التعليق والسلخ والسحل في الشوارع.

وهنا لابد من القول بأن على اليمنيين جميعهم، بمختلف اصطفافاتهم أن يبذلوا جهودهم للمحافظة على القيم السوية التي سادت في مجتمعهم وأسبغت عليهم قدراً من التميُّز، عبر عنه الرسول الكريم في حديثه المشهور. فهم أرق أفئدة وأسمى أخلاقاً وأوفى عهوداً وأكثر مراعاة لبعضهم ولسواهم وحتى لأعدائهم. إنهم حضر يتميزون بأخلاق الحضارة ورقيها ورقتها وإنسانيتها. فإذا انتهت الحرب إلى تدميرنا مادياً، فلن يبق لنا مانحرص عليه إلا أخلاقنا وإنسانيتنا. فإن فرطنا بهما، خسرنا كل شيء.

وعلى المقاومين في تعز، وهم المعنيون بهذا الأمر بالدرجة الأولى، عليهم أن يتصدوا لهذا الشذوذ، بدءاً بالتعبير الواضح عن إدانتهم ورفضهم لهذه الأفعال الإجرامية المشينة، وانتهاءً بمحاسبة مرتكبيها، محاسبة علنية. حتى يرتدع سواهم مستقبلاً عن فعل مافعل هؤلاء، وحتى لايتبادر إلى الأذهان بأن ما حدث قد يكون عنواناً لمشروع قادم، يُعد في الخفاء لليمن ولشعبه الطيب. وعلى عقلاء اليمن أن يبذلوا جهودهم الحثيثة لإيقاف الحرب والدفع بالمتحاربين إلى طاولة الحوار للتوافق على كل الترتيبات، الكفيلة بانسحاب جميع المليشيات المتقاتلة من المدن والأرياف وتسليم أسلحتها لجهة محايدة، يتم التوافق عليها، وتطبيع الحياة وتهيئة المناخ الملائم للشروع في بناء الدولة الحامية للجميع، قبل أن تصبح الحرب أكثر وحشية مما رأيناه حتى الآن، ويغدو الشر أكبر مما يمكن للعقلاء تداركه.  

قراءة 2316 مرات

من أحدث د. أحمد قايد الصايدي