طباعة

اليمن الجديد

الثلاثاء, 08 أيلول/سبتمبر 2015 20:15 كتبه 
قيم الموضوع
(1 تصويت)

على مدى سنوات ونحن نقرأ ونسمع عن خارطة الشرق الأوسط الجديد، التي تفتقت عنها قرائح بعض السياسيين والباحثين والأكاديميين الأمريكيين. وكنا ونحن نشاهد الخرائط المقترحة الملونة، المنشورة في المواقع الإلكترونية، كنا نظن أن مانشاهده ليس سوى أشكال تُرسم على الورق، على سبيل التسلية، وإذا كان من يرسمها جاداً، فهي لا تعدو أن تكون مجرد أوهام يصورها عقلٌ مريض، وأن أمتنا العربية ووطنا العربي غير قابلين لمزيد من التمزيق. لاسيما وأن التقسيم الذي وُضع أثناء الحرب العالمية الأولى، والمعروف بتقسيم سايكس ـ بيكو (نسبة إلى وزيري خارجيتي الدولتين الإستعماريتين العتيدتين، بريطانيا وفرنسا)، قد ترسخ في أرض الواقع على شكل دويلات قطرية هزيلة، أصبح لكل منها كيانها السياسي المتميز بحدوده ونظام حكمه ومصالح  طبقته الحاكمه، رغم بقاء اللغة المشتركة والثقافة العربية الجامعة والحلم المشترك، بأن يتوحد الشعب العربي كله ذات يوم، في دولة عربية اتحادية واحدة، تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي.

ولكن من الواضح أن مابقي من عوامل ثقافية ماتزال تحافظ على الحد الأدنى من الروابط المشتركة بين أبناء الأمة العربية، أصبحت تستفز وتتحدى عقول بعض المفكرين والسياسيين الغربيين، وتسبب قلقاً لمصالح الغرب الإستعماري، من إمكانية توظيف هذه العوامل لتوليد وعي جديد يؤسس لنهضة عربية، تؤثر على هذه المصالح في المنطقة. ولذا لابد من عمل استباقي يضمن بقاء الأمة ممزقة، يصارع بعضها بعضاً، على مدى قرن آخر من الزمن، ويتسابق حكامها ونخبها إلى الغرب، ليقدموا فروض الطاعة له وينشدوا الحماية منه.

ولعل هذا هو الدافع إلى تنشيط مراكز البحوث والجامعات والمفكرين والسياسيين، ومن ورائهم المصالح الإقتصادية الكبرى، وتوجيه جهودهم المشتركة باتجاه وضع التصاميم والخرائط الجديدة للشرق الأوسط الجديد، ودفع المكونات العرقية والدينية المتعايشة في البلاد العربية إلى الإقتتال، في حروب أهلية طاحنة، لترتسم حدود الإنقسام أولاً على الأرض، قبل أن يحين الوقت لإعلان كيانات الدويلات الطائفية والعرقية، التي ستتطابق حدودها مع الحدود التي رسمتها الحروب الأهلية، أو بحسب التعبير الغربي (الفوضى الخلاقة)، التي بدأ تطبيقها في الصومال والسودان والعراق، وليبيا وسوريا وامتدت الآن إلى اليمن. وسيأتي دور البلدان العربية الأخرى، التي يتوهم حكامها بأنهم في مأمن من مكر أصدقائهم الغربيين.  

لقد كنا نحن اليمنيين أيضاً نتوهم مثلما يتوهم هؤلاء الحكام، بأن ما أصاب العراق وليبيا وسوريا وغيرها، من نعمة الفوضى الخلاقة، لن يصلنا. كنا نتوهم مثلهم ولكن لاعتبارات أخرى، لاتقل سذاجة وسطحية عن الإعتبارات، التي يركنون هم إليها. فقد كان لدينا وهمٌ كبير، بأن موقع اليمن الأستراتيجي ومجاورته لبحيرات النفط سيحميانه من الحرب الأهلية، التي هي الأداة المستخدمة في كل الأقطار العربية لتسوية الملعب وإحداث الفرز المناطقي والطائفي والعرقي، تمهيداً للتقسيم القادم، الذي سيُفرض عليها بعد أن تُنضِج الحروب الأهلية الظروف النفسية والإجتماعية والجغرافية اللازمة لنجاحه، فيبدو وكأنه الدواء الشافي والحل الوحيد، الذي يمكن أن ينقذ الجميع من حقد وعدوان الجميع على الجميع. وها نحن اليوم في اليمن نفيق من هذا الوهم ونرى شبابنا يقتتلون فيما بينهم، وبعضهم يردد ماتبثه أجهزة الحرب الإعلامية من سموم طائفية ومناطقية، تشوه الوعي وتعمق الإنقسام وتلهب حماس اليمنيين ليواصلوا قتل بعضهم، حتى يتحقق هدف الغرب الإستعماري في رسم خارطة اليمن الجديد.   

في حديثين منفصلين لكل من الرئيس عبد ربه ومستشاره الرئيس حيدر العطاس، نستشف بعض ملامح اليمن الجديد، الذي تُرسم حدوده عبر الفوضى الخلاقة الدائرة الآن. حديث عبد ربه دار مع مدير مكتبه، الدكتور أحمد عوض بن مبارك، وجاء فيه أن الشمال لن يبقى شمالاً كما كان ولا الجنوب جنوباً كما كان، بل سيكون هناك يمن جديد. أما العطاس فقد بدا في حوار أجرته معه مذيعة سكاي نيوز، السيدة زينة اليازجي في يوم الأحد الموافق 30 أغسطس 2015م، بدا وكأنه يقدم توضيحاً متأخراً لما أشار إليه عبد ربه، قبل هذا التاريخ بحوالي عام ونصف العام تقريباً. فقد وضح العطاس: أن اليمن الجديد سوف يتكون من دولة اتحادية في الشمال، تتكون من أقاليم، ودولة اتحادية في الجنوب، تتكون أيضاً من أقاليم. وستنشأ بين الدولتين وحدة كونفيدرالية. ويمكن بعد ذلك أن تتوسع الوحدة الكونفيدرالية لتضم دول الخليج. ونريد هنا أن ننبه إلى أن الكونفيدرالية لاتُعتبر شكلاً من أشكال الوحدة إلا على سبيل المجاز. فهي بالأحرى عقد سياسي، ينظم المصالح المشتركة بين دول كاملة الإستقلال.  

ولكن هل هذه الصورة التي رسمها العطاس هي صورة اليمن الجديد فعلاً، وأين مكان الأقاليم الستة، التي أعلنها عبد ربه، في هذه الصورة؟ ، نخشى أن يكون هدف الحرب الأهلية الدائرة هو إنضاج فكرة الأقاليم الستة، التي قد تنتهي بانفصال الأقاليم وتفكيك اليمن إلى دويلات هزيلة. فنحن بلد ينتمي تكوينه الإجتماعي إلى ماقبل نشوء الدولة الحديثة، ونزعاته القبلية والمناطقية لم تذب بعد في شعور وطني عام، ومستواه الثقافي لايؤهل حتى بعض مثقفيه من استيعاب معنى الدولة الإتحادية، وحكومته الإتحادية، التي ستنشأ في بيئة كهذه البيئة، لن تكون حكومة قوية، قادرة على ضبط العلاقة بين المركز والأقاليم. فإذا ما أضفنا إلى هذه البيئة الداخلية العوامل الخارجية، المتمثلة بالمصالح الدولية وتوجه الغرب إلى إعادة رسم خارطة المنطقة، أي تفتيتها إلى دويلات إثنية وطائفية هزيلة يمكن التحكم بها، فإن فكرة الأقاليم الستة، التي أعلن عنها عبد ربه، تبدو وكأنها تخدم فكرة الكونفيدرالية، التي وردت على لسان العطاس. ولكنها ستكون كونفيدرالية بين دويلات يمنيه عديدة، وليس بين دولتين اتحاديتين.

فإذا كنا قد فهمنا ما ورد على لساني الرئيسين فهماً صحيحاً، فإننا أمام صيغة كونفيدرالية، تمزق اليمن إلى دويلات صغيرة (ست دويلات على الأقل)، تنشئ فيما بينها، في أحسن الأحوال، علاقات تنسيقية، مع احتفاظ كل منها بكيانها السياسي وشخصيتها الدولية. أما في أسوأ الأحوال، فستنشأ بينها صراعات على الأرض والثروات والنفوذ. وهذا هو الوضع الذي سيحقق أهم أهداف خارطة الشرق الأوسط الجديد، فيكفل حضوراً دائماً للغرب، لفض نزاعات هذه الدويلات وإدارة صراعاتها. وفي الوقت نفسه سيريح هذا الوضع جيراننا ويطمئنهم، وينهي قلقهم من إمكانية قيام دولة يمنية قوية إلى جوارهم. ولكنه بالنسبة لنا نحن اليمنيين سيكون وضعاً كارثياً، لن نتمكن فيه من بناء دولتنا المستقلة الناهضة القوية بإمكانياتها المادية والبشرية. ولعل هذا هو بيت القصيد.

هل ماقلناه من نسج الخيال، أم هو رصد لواقع عشناه ونعيشه على امتداد الوطن العربي كله؟ للإجابة عن هذا السؤال يكفي أن نضع أمامنا تجربة العراق، الذي أصبح جاهزاً، عبر تدمير شامل لبنيته التحتية ونسيجه الإجتماعي ومعالمه التاريخية، أصبح جاهزاً لإنشاء ثلاث دول طائفية عرقية، تحل محل الدولة العراقية الواحدة. فهل ندرك أبعاد المؤامرة، ونعمل جميعنا على إحباطها، وندافع عن وحدة شعبنا ونحافظ على نسيجه الإجتماعي ونبني دولتنا على قاعدة الشراكة الوطنية، دون تدخل أو ضغط يمارسه أحد علينا من الخارج؟ هذا بطبيعة الحال يتطلب قبل كل شيء أن نوقف الحرب فيما بيننا، ونعود إلى طاولة الحوار لنتصالح وننهي خصوماتنا ونصفي خلافاتنا ونضع الترتيبات اللازمة لسحب جميع مليشيات الأطراف المتقاتلة من المدن ومناطق المواجهات، ونتفق على آلية لتسليم أسلحتها الثقيلة والمتوسطة، ونتجه معاً نحو بناء دولتنا المدنية الديمقراطية العادلة، التي يشارك الجميع في بنائها وإدارتها، لتصبح القوة الضامنة لأمننا جميعاً، والمدافعة عن استقلال بلادنا، والكافلة لحرية شعبنا ورعاية مصالحه وتحقيق نهضته. فهل نستطيع أن نرتقي بأنفسنا إلى مستوى هذه المهام الوطنية العظيمة؟   

 

قراءة 2651 مرات

من أحدث د. أحمد قايد الصايدي