في حوار مع "خيوط" الدكتور علي محمد زيد يتحدث عن تجربته الأدبية ومواضيعه الفكرية مميز

  • الاشتراكي نت / خيوط

الخميس, 02 نيسان/أبريل 2020 18:33
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

في حوار مع موقع "خيوط" تحدث الدكتور علي محمد زيد عن تجربته الأدبية ومواضيعه الفكرية الإشكالية ومنهجها العلمي الرصين

في الجزء الأول من الحوار المكون من أربعة أجزاء، الذي أجراه معه محمد عبدالوهاب الشيباني تطرق الحوار الى  أحدث إصداراته الثقافية، وهو كتاب “الثقافة الجمهورية في اليمن”، والذي صدر مطلع العام 2020 في القاهرة

وتناول الجزء الثاني  من الحوار تجربته الأدبية والتي “تُختزل” في عمليْن سرديَّيْن منشوريْن؛ هما: “زهرة البن”- 1998 و”تحولات المكان”-2005، ومن مشروعه الفكري الذي بدأ مع كتاب “معتزلة اليمن ودولة الهادي وفكره”، وتعمَّقه في كتاب “تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري”، ويمثلان خلاصةَ الرحلة العلمية له في بيروت 1980 وباريس 1986 بالإضافة الى الكتاب الذي قام بتحريره عن سيرة الأستاذ النعمان، والمعنون بـ”مذكرات أحمد محمد نعمان.. سيرة حياته الثقافية والسياسية.

الجزء الثالث من الحوار تناول معظم ترجماته، والتي تدل القارئ إلى عناوين ربما لم تمر عليه واختتم الجزء الرابع والأخير بالحديث عن تكوينه المعرفي ونشاطه وتحصيله العلمي، ابتداءً من صنعاء ومروراً ببيروت، وصولاً إلى باريس، ومن ثم العودة إلى صنعاء، وانتقاله بعدها من جديدٍ إلى باريس كدبلوماسيٍّ في بعثة اليمن في اليونسكو بُعَيْد الوحدة مباشرةً، وعودته مرة أخرى مع مطلع الألفية إلى صنعاء، قبل أن يعود للمرة الثالثة إلى باريس؛ وهذه المرة كموظفٍ دوليٍّ في اليونيسكو.

الاشتراكي نت يعيد نشر الحوار بأجزائه الأربعة حسب موقع "خيوط"

الجزء الأول

– لماذا الثقافة الجمهورية الآن؟ هل هو الحنين أم القيمة؟

*لأن البحث الثقافي في اليمن ما يزال ضعيفاً للأسف. وقد وجدتُ أن اللحظة الفارقة للتحول الثقافي، من جمود القديم وتقليديته إلى الثقافة الجمهورية، غيرُ مدروسة كما ينبغي. كيف حدث التجديد في الأشكال الثقافية، وفي التقنية الفنية وفي المضامين الفكرية وفي الرؤى؟ وما هي المعالم الصعبة لهذا التحول؟ وما هي المعاناة والعذابات التي كابدها المبدعون الأوائل؟ وما هي الانعطافات الفارقة بين الماضي وما بعد الجمهورية؟ هذا ما كنا نعتقد أنه معلومٌ بداهةً. ولكن بمرور الوقت اكتشفتُ بالتجربة العملية أن الأجيال الجديدة منغمسةٌ في همومها وفي معاناة لحظتها، بما يشغلها عن هَمّ التأصيل لِلَحظةِ التحول ومفرداتها وقضاياها. وكان دافعي لالتقاط لحظة التحول أن تكون درساً في الطموح لإحداث تحولاتٍ أعمقَ وأبعد، الآن وفي المستقبل.

– هل غلَّبْتَ الجانبَ المتسامحَ في تناول بعض النصوص على القيمة الجمالية والفنية، حتى تبرز المنتوج باعتباره تبشيرياً ومعبراً عن حالة التحول؟

* كان هَمّي الأساسيُّ التقاطَ مؤشرات التجديد والإضافة، ورصدَ القيم الإبداعية التي صنعتْ لحظةَ التحول من القديم إلى الجديد. لم يكن همي القيامَ بدراساتٍ فنيةٍ مفصلةٍ لإبداع كلٍّ من القمم الثقافية التي تناولتها. مثلاً، لم أدرس شعر الزبيري في غناه الفني، وإنما تتبعتُ فقط معالم التحول في شعره ونثره، وما أضافه إلى الحركة الثقافية في اليمن، بنقله الشعرَ من الأساليب التقليدية، ومن المدح والهجاء والرثاء والسطحية والافتعال، إلى التوحُّد بين حياة الشاعر وشعره وقضية شعبه، فأبدع في تغيير لغة الشعر ووظيفته.

  بالمثل، بالنسبة للبردوني، لم يكن همي القيام بدراسةٍ فنيةٍ مفصلةٍ لشعره، بل حاولت التقاطَ ما يميّز شعر البردوني من إضافات فارقة، ومن ملامحَ فنيةٍ ميزتْ شعرَه عما سبقه. وبالمثل بالنسبة لريادة الشعر الحر، عند من شاركوا مبكراً في تحوّل الحركة الشعرية العربية، وصولاً إلى بروز عبد العزيز المقالح كمُنظّرٍ للتحول الشعري ومبدعٍ وناقد. وتناولتُ علامات الإضافة النوعية عند لطفي جعفر أمان ومحمد الشرفي.

   وهذا ما حاولتُه، بالنسبة لكتابة المقال والقصة القصيرة والفن التشكيلي والمسرح والمؤثرات الثقافية، وفي مجال التعليم والقيم…. الخ. وهكذا كان الهمُّ الأولُ رصدَ المعالم البارزة للحظة التحول التاريخية الفارقة فقط. لم يكن الكتاب مجردَ بحثٍ تاريخيٍّ ولا دراسةٍ فنيةٍ مفصلة، بل التقاطاً لهذه اللحظة المهمة بقدر الإمكان.

– أظنك أنجزت تأليف الكتاب في باريس، فهل كان الأمر سيختلف لو أنك أنجزته في صنعاء أو أي مدينة يمنية أخرى؟ بمعنى آخر: هل لعبتْ المعاينة من الخارج، إن صح قولُ مثل هذا، مشغلاً فاعلاً في تجويد المحتوى وصفائه؟

* في الواقع، قمتُ بكتابة النص في اليمن وسلّمته للناشر عند مروري بالقاهرة. وتناقشتُ في بعض أفكاره معك ومع زملاء كثيرين. كان الموضوع، كهمٍّ ثقافيٍّ عامٍّ، يشغلني منذ فترة، وجاءت المناقشات التي خضتُها مع بعض الشباب لتستفزني وتدفعني لمباشرة العمل، وتحضّني على تجاوز التردد، وتحديد الموضوعات والتركيز في العمل وبلورة الأفكار. وهكذا تجسّدَ الموضوع في ذهني أولاً، وكانت الأشهر الستة التي قضيتها في المدينة والريف كافيةً لصياغة النص في صورته التي ظهر بها.

– هل كان التمثيل الجغرافي في اختيار المؤلفين وكتبهم ضاغطاً عليك، حتى لا تبدو الجمهورية غارقةً في مفهوم المركزة؟

* لا يوجد في رأيي تمثيلٌ جغرافيٌّ بأيّ حال، وكان هذا آخر ما يخطر على بالي. كان الإبداع والإضافة دافعِي الوحيد لتناول أي عمل إبداعي. فمثلا، في فصل (إصدارات رائدة أثرت في تكويننا الثقافي) من الكتاب، فرضتْ هذه الإصدارات، في تسلسلِ زمن النشر، نفسها عليَّ، وأردتُ إعادة إنتاج اللحظات والانفعالات الثقافية التي تكونتْ في وعينا عند القراءة الأولى لتلك الأعمال في سنِّ مراهقتنا، والفرح بها، وكيف وجدناها فتحاً ثقافياً ممتعاً وتجديداً تجاوز الجدْب الثقافي القديم، وخروجاً من دوامة الفراغ الموروث.

–  الكتاب لم يصل مطبوعاً إلى اليمن؛ لكنْ حين تسرّبَ بمحتواه تقنياً حَظِيَ بمتابعةٍ لافتة.. كيف تفسر الأمر؟ ليس من زاوية أن صاحبه اسمٌ كبيرٌ ومحترمٌ؛ فذلك أمرٌ لا يختلف فيه خصمان..!

* لعل الكتاب يستجيب لحاجة القُراء إلى مادة للقراءة عن واقعهم الثقافي، ويجيب عن بعض تساؤلاتهم؛ وخاصة أن الحرب قد سحقت كل إمكانية لنمو الصناعات الثقافية، وأغلقت الكثيرَ من المطابع، وسَدَّت فرصَ إنشاء دُورِ نشرٍ محلية، وأعاقت نموَّ المؤسسات الثقافية والصحفية، فكانت كارثةً على قطاعِ ثقافةٍ كان ما يزال يواجه صعوباتٍ كبيرةً، ويحتاج إلى الكثير من الجهود لمساعدته على النمو والإنتاج.

– إلى ماذا ترُدّ حالة الانقسام الثقافي في اليمن؟

* لا يوجد انقسامٌ ثقافيٌّ في اليمن حالياً. الحرب أوجدت انقساماً سياسياً واجتماعياً خطيراً، وأعادت بعثَ الكثير من المشاعر البدائية المنحطة، وكشفت الحجابَ عن أقبحِ ما في النفس الإنسانية، وأعادت الاعتبارَ لتغليب النوازع الغريزية، ودمرت قيمَ التضامن بين اليمنيين وأحبطت سعيَهم الإنسانيَّ النبيلَ لبناء مجتمعٍ عادلٍ منصفٍ يستجيب لحاجة البلاد إلى البناء والتنمية ومكافحة الفقر.

– وبماذا تفسر الدعوات لإنشاء كيانات ثقافية ذات طابعٍ تشطيريٍّ، على نحو تأسيس اتحاد أدباء جنوبي؛ ناهيك عن اصطفاف المثقفين أنفسهم مع أطراف الحرب لأسباب مناطقية، وأحياناً مذهبية فجة، وأن مثقفين معروفين يقودون مثل هذا الفعل؟

* هذا جزءٌ من حالة التمزق الاجتماعي والسياسي، وغَلَبة النوازع الغريزية البدائية. اتحاد الأدباء والكتاب نشأ كحلمٍ وكمشروعٍ ثقافيٍّ إنسانيٍّ لتجاوز الركود والانحطاط. وفي كثيرٍ من الحالات، كان الخيمةَ التي نلجأ إليها في أحلك الظروف للدفاع عن الحريات وعن القيم النبيلة؛ وإن تعرَّض أحيانا للضغوط ولمحاولات الاستقطاب. وحتى بعد أن دمرته الحرب، وما أنتجت من تمزقٍ وشتاتٍ، ما يزال مشروعاً مستقبلياً حالماً وحالةً إنسانيةً نبيلةً يعوَّلُ عليها كي تنهض مستقبلاً من رمادها، وتتجاوز مخلفات التمزق ومنتجات الانحطاط الحالي. أفْهمُ أن تنحطّ السياسة الغارقة في العنف والرافعة للبنادق بدلاً من القيم الحضارية والمنتجات الثقافية والفنية؛ ولكني لا أفهم خضوعَ الثقافي للسياسي الحالي.

   ولا قيمة لاتحاد الأدباء والكتاب، ولا لأي منظمةٍ ثقافية، إذا تنازلت عن القيم الإنسانية النبيلة، وعن التضامن بين البشر على أساس إنساني، وإذا لم تتخلص من نوازع الكراهية والتمييز على أساس المناطق والقبائل والأفكار والمواقف والنوع… الخ. الثقافة دعوة لتسامي الإنسان وتضامنه وتجاوز كل ما يدعو للكراهية والاعتداء.

–  ولماذا لم يحصِّن نخبهم إرث النصوصية الجمهورية في مبذولها الثقافي في ستة عقود؟

* موضوع هشاشة النخب الثقافية والسياسية والاجتماعية في اليمن الحديث مُعَقّدٌ ومُحبط، بل وكارثيّ. كنا نعتقد أن لدينا أحزاباً ومؤسساتٍ ثقافيةً واجتماعيةً ومجتمعاً مدنياً يتوطّد ويقوَى، وأن لدينا برامجَ تتنافس ورؤىٍ تتصارع ومشاريعَ سياسيةً تتحاور من أجل الدفع بحركة المجتمع إلى الأمام؛ واكتشفنا أننا كنا نبني على أوهام، وأن البندقية هي الثابت الوحيد.

– وهل سيستمر حال مثل هذا طويلاً؟ وكيف نستطيع الإفلات من هذه الكارثة؟

* لا توجد مؤشرات واقعية في اللحظة الراهنة تسمح بدراسة المستقبل والتوصل إلى نتائجَ تتمتع بقدرٍ معقولٍ من المصداقية. الجميع يدور في دوامة الحرب والخراب، بوعيٍ أو بدون وعيٍ، كفاعلين أو كضحايا. ولكن الضرورة الملحة تطرح على جميع اليمنيين البحثَ عن مخرجٍ عمليٍّ من كارثة الحرب، بما يحقق الحد الأدنى من الاستقرار ويسمح بالتفكير العاقل بالعودة للعمل معاً، في سبيل إعادة البناء ورسم ملامح مجتمعٍ قادمٍ يحافظ على الحدّ الأدنى من التضامن الإنساني بين اليمنيين ومن الحقوق والحريات العامة؛ وعندها فقط يمكن التوقف من جديدٍ لرسم ملامح مستقبلٍ واعدٍ لأبنائنا المحاصرين بمحنة الحرب وما تنتج من خراب يسحق الحاضرَ والمستقبل.

نص الجزء الثاني من الحوار

 

– في 2006، نشرتُ مقالةً أدبيةً عنوانها “الخلاص بعكاكيز هشة” عن تجربتك السردية، وتقوم على قراءة عملية لـ”زهرة البن 1998″ و”تحولات المكان 2005″؛ العملين اللذين يتباعدان في إصدارهما بسبع من السنين، وبفوارقهما الفنية والأسلوبية، وينطلقان في الأصل من التظهيرات الحادة للوعي الجديد الذي يحاول -بتكوينه المعرفي وانحيازه الثقافي- التعبيرَ عن ذاتٍ متخففةٍ من أثقال الماضي وأكلافه.. حدثنا قليلاً عن العملين! وهل ننتظر منك مغامرةً ثالثةً في إصدارٍ روائيٍّ جديد؟ هذا من جهة، ومن ثانية، تبشيرية المنصوص.. هل مهدتْ لكتاب “الثقافة الجمهورية”؟

* رواية “زهرة البن” تُصوِّر شخصيةً قلقةً تعاني من مأزق الوجود في عالَمٍ ظالمٍ لا يبالي بمصائر ضحاياه، ولا يوفر لهم وسائل تحقيق ذواتهم في أيِّ مستوىً من المستويات الاجتماعية والسياسية. شخصيةً تعيش في واقعٍ بائسٍ مسحوقٍ بالظلم والاستبداد والجهل، بدأ الوعي يتسرب إليها عن طريق بذل جهدٍ غيرِ عاديٍّ للتواصل الصعب عن بُعدٍ مع العالَم بمتابعة الراديو والقراءة. لا يفعل الوعيُ سوى زيادة معاناتها وتكثيف شعورها بالانسحاق؛ ينتزعها من سباتها ويقتلعها من واقعها الخانع المستكين، ويُضاعف أزمتها الوجودية، فلا تعود قادرةً على الخضوع لتكون واحداً من القطيع الخانع، المستسلم لقدره، ولا على امتلاك مصيرها وصنع حاضرها ومستقبلها، ولا تجد من وسيلة للمقاومة سوى ذهنٍ متوقدٍ بالرفض وقَدَمَيْن قادريْن على القفز للهرب في أصعب الظروف من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن مشنقةٍ إلى أخرى، دون أن تعثر على بصيصٍ من أملٍ ولا مَنْفذٍ ينقذها من الدوامة التي تلفُّها وتخنقها وتطاردها.

وحين يلوح الزمن الجديد، بقيام الجمهورية، تتوحد هذه الشخصية القلقة بالأمل الجديد، وتُدافع عنه فتقع في أسر أعدائه. وفي الأسْر، تعود إليها من جديدٍ محاولاتُ النجاة بمفردها دون مشروعٍ يجمعها بآخرين، وتحاول التحرر الفرديّ عن طريق الهرب. وتعود إلى مدينةٍ جمهوريةٍ تتجاهلها تماماً وتنكرها وتعجز عن فهمها. وفي النهاية، لا تملك من وسائلِ مقاومةِ أزمتها الوجودية سوى العودة إلى أرض الأمل والحلم.

وفي رواية “تحولات المكان”، يجمع الزمنُ الجمهوريُّ الجديدُ أناساً قادمين من مصائرَ مختلفة، من الريف ومن عدن ومن المهجر. ويسلك الشخصيةُ الرئيسيةُ في الرواية طريق مقاومة الزمن القديم بالتزود بمزيدٍ من المعرفة والوعي والأحلام. وفجأةً تسقط القذائفُ على المدينة ويحيط بها الحصار. ويجد نفسه في مقدمة المقاومين لحصار المدينة والمدافعين عن مشروع التغيير الحلم؛ تحيط به مجموعةٌ من شبابٍ يتقدمهم، رغم صغر سنّه، يشجعون تفوّقه ويدفعونه نحو ذروة المواجهة. وعلى الرغم من الانتصار على حصار المدينة بعد التضحيات الكبيرة والعذاب والمعاناة، يكتشف بمرارةٍ وحزنٍ أنه وصَحْبَهُ لم يكسروا سوى حلقةٍ واحدةٍ من حلقات الحصار المادّي والمعنوي والوجودي الذي يلفُّ البلاد كلها، وأن المكان الذي شهد معاركه وانتصاراته يتحول ويغيِّر جلده، من قَصْرٍ للطغيان إلى فندقٍ يستقبل رُسُلَ الحرية والتفتُّح، إلى مدرسةٍ تنشر المعرفة والوعي بالزمن الجديد، إلى سجنٍ يستقبل الضحايا الجدد.

أما عن مشاريع الكتابة، فقد انتهيتُ من كتابة روايتين تنتظران النشر.

– الأهمية الشديدة التي قدمها كتاب “مذكرات أحمد محمد نعمان.. سيرة حياته الثقافية والسياسية”، التي قمتَ بتحريرها ومراجعتها وصدرت في 2003، تكمن -في الأصل- في إعادة التعريف بواحدٍ من المثقفين السياسيين في تاريخ اليمن المعاصر وأكثرهم إشكالية، والذي تُعِدُّه نموذجاً لعددٍ قليلٍ من الطلائع الأفذاذ الذين يمثلون جسراً بين القديم ومحاولات  التمرد عليه للانتقال إلى العصر الحديث، وأحد الأصوات الباكرة التي تعمقت صِلَتُها بدعوة التحديث والتنوير. ولعل هذا القَدْرَ الأصيلَ من تأثير حركة التنوير العربية ما ابتعد به عن تأثير القوى التقليدية، مثل جماعة الإخوان المسلمين.. سؤالي هنا مُركّب: هل يمكن اعتبار هذا النص وثيقةً سيروِيّةً تامةً عن مرحلةٍ زمنيةٍ في حياة النعمان وتسد فراغاً ما في تجربته، في ظل تضارب الأقاويل عن مذكراته الأصلية وعدم نشرها حتى الآن؟ هذا من جهة، ومن جهة ثانية، إلى أي مدىً استطاعت سِيَرُ الشخصيات السياسية في اليمن أن تكون شاهداً أميناً على تاريخ اليمن المعاصر وحركته الوطنية؟

* حين كنت سنة 2002 مديراً تنفيذياً لمؤسسة العفيف الثقافية (التي كانت ومعها مؤسسة السعيد أهم المؤسسات الثقافية العاملة بنشاطٍ لتحريك الحياة الثقافية اليمنية)، لاحظتُ أن الكثير من الفاعلين السياسيين ومن الرواد، الذين ساهموا في التغيير الجمهوري، قد نشروا مذكراتهم؛ في حين أن الأستاذ أحمد محمد نعمان، بما له من ريادةٍ ومكانةٍ ودورٍ قياديٍّ في تأسيس حركة الأحرار اليمنيين وفي الدعوة إلى التغيير، قد ظل صامتاً، ولم يُنشَر شيءٌ عن حياته ونضاله، على الرغم من مرور السنوات على وفاته، وأن الأجيال الجديدة توشك أن تنساه؛ وهو ما شكّل نقصاً فادحاً في معارفنا عن مرحلة التحول من القديم إلى الجديد، من عصور الظلام إلى العصر الجمهوري، ناهيك عن الوفاء المستحق للآباء الذين بذلوا ما يستطيعون من جهودٍ لمحاولة إخراجنا من ظلام الماضي إلى العصر الحديث.

وكنتُ قد عرفتُ من أحد أساتذتي في الجامعة الأمريكية في بيروت أنه سبق له، في سنة 1969، أن أقنع الأستاذ نعمان بأن تتولى الجامعة تسجيلَ مذكراته بصوته، وأنه قَبِلَ بعد ترددٍ وممانعةٍ؛ بشرط أن تحتفظ مكتبة الجامعة بهذه الأشرطة ولا تسمح بنشرها إلا بعد رحيله. وقد تعاونتُ مع المركز الفرنسي للدراسات اليمنية في صنعاء، وذهبتُ إلى بيروت للاطلاع على هذه المذكرات وإعدادها للنشر، حتى نُشِرت سنة 2003.

لكنّ ما لفت نظري هو أن المكتبة قد حصلتْ من الأستاذ نعمان على صور بالمايكروفيلم لمجموعة الوثائق المهمة التي يحتفظ بها عن المرحلة التي شهدت نضاله. وعرفتُ فيما بعد أن صورةً أخرى من هذه الوثائق قد أُعطِيتْ لإحدى الجامعات في لندن لحفظها. وسمعتُ مؤخراً أن الفرنسيين يعدون مشروعاً لنشر هذه الوثائق، وآمُل أن ترى النور قريباَ.

– في عام 1997، قام المركز الفرنسي للدراسات اليمنية بإصدار كتابك شديد الأهمية “تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري”، بعد أحد عشر عاماً من نيلك درجة الدكتوراه من جامعة باريس الأولى عن ذات الموضوع، والذي يمثل توسعاً وإضافةً مهمةً للكتاب الأول “معتزلة اليمن ودولة الهادي وفكره”؛ إذ ستكون مقاربته لتاريخ وفكر المُطرّفية وأعلامها وعِلْم الكلام، عند منظريها الأوائل، الدراسةَ الأشمل عن هذه الفرقة الزيديّة الهادَوِيّة التي تعرضتْ للاضطهاد والإبادة من قبل الإمام عبد الله بن حمزة، بسبب رأيها في فكرة الإمامة وآرائها الكلامية في مسألة الخلق، والتي أبصر فيها بعضُ الباحثين المعاصرين فكراً علمياً إيمانياً يبحث عن الإيمان في أجلى صوره.. الملاحظ أنك، في دراستك العليا في بيروت وباريس، اخترت هذين الموضوعين الشائكين وشحيحَيْ المصادر، فهل بالإمكان إعطاء القارئ صورةً مكثفةً عن هذين الكتابين اللذين قَدّماك كأحد المجتهدين الكبار في تاريخ المعتزلة والزيدية والفِرَق المتصلة بهما؟ وما الذي تبقى من فكر المعتزلة والزيدية -وحتى الهادوية نفسها- بعد التجريف السياسي الذي طالها؟

* حين بدأتُ التفكيرَ بموضوعٍ لإعداد رسالة الماجستير، كنت أبحث عن موضوعٍ يتناول -من الناحية الفكرية- لحظة التغيير الجمهوري في اليمن. وكنت أقرأ عند بعض المثقفين اليمنيين عما يسمونه مدرسة التحرر الفكري، والبعض يسميه مدرسة التحرر الديني في تاريخ اليمن (ويقصدون التحرر من التعصب لمذهب بعينه). وبدأت البحث في هذا الموضوع، ودارت برأسي -وأنا في بداية الطريق- أسئلة كثيرة؛ من أهمها: إذا كان هناك مدرسةُ تحررٍ فكريٍّ أو دينيٍّ، فمِمَّ تحررت؟

وواصلتُ تتبعَ الجدل الفكري في تاريخ اليمن حتى توقفتُ عند دخول الفكر المعتزلي إلى اليمن عن طريق الزيدية، على يد الإمام الهادي يحيى بن الحسين في نهاية القرن الثالث الهجري. وعندها تحققَ لقاءٌ تاريخيٌّ بين الإمامة الزيدية والقبائل المحاربة، ظَلَّ يسحب نفسه على تاريخ اليمن حتى اليوم. وكان هذا موضوع كتاب “معتزلة اليمن.. دولة الهادي وفكره”، الذي ركز على موضوعين رئيسيين، هما:

أولا: وصول الفكر المعتزلي إلى اليمن، وهو ما أدى إلى الحفاظ على الفكر المعتزلي في مخطوطات اليمن بعد أن انقرض في المناطق الإسلامية الأخرى.

وثانيا: كيف عملت الإمامة الزيدية، منذ الهادي، لتوحيد القبائل المتقاتلة فيما بينها وتوجيه جهودها نحو تأسيس سلطة الإمامة التي نجحت أحياناً وأخفقت في أحيانٍ أخرى؛ وهو ما أثّر على تاريخ اليمن وطَبَعَهُ بالحروب اعتماداً على القبائل المحاربة.

وفي كتاب “تيّارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري”، اكتشفتُ عند قراءة المخطوطات المبعثرة في أماكن مختلفةٍ، وبعضها نادر، فرقةً متميزةً اسمها “المُطرَّفِية”؛ تعدُّ أهمَّ تيارٍ فكريٍّ في تاريخ اليمن الإسلامي، ويكاد إنتاجها الفكري يشكل أهمَّ إضافةٍ يمنيةٍ إلى الفكر العربي الإسلامي.

كانت فرقةً مدهشةً توصلتْ إلى أفكارٍ فلسفيةٍ مبتكرةٍ في أغلبها، مثل قولها بوجود عناصر أربعةٍ يتكون منها العالم، تكاد تشبه العناصر الأربعة في الفلسفة المادية اليونانية قبل سقراط، وتقضي بأن الله خلق هذه العناصر الأربعة وجعل لها فِطَرا أو طبائع (جعل لها قوانين) تتصرف وفقاً لها فتُحِيل وتستحيل، وتؤثر وتتأثر، وتتفاعل فيما بينها، وتختلف وتتفق بحسب تفاعلِها ونِسَبِ تركيب العناصر الموجودة فيها، والمجبورة على ألّا تخرج عن طبائعها. ومن ثم إذا كانت مفيدةً أو ضارةً، فبحسب ما فيها من طبائع، وأن الله لا يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من أطوارِ تحوُّلها وتفاعلاتها؛ وإلا كان مسؤولاً عما تُحدِث من أضرارٍ، وهو منزّهٌ عن ذلك. وبذلك، رأت أن الأمراضَ ناتجةٌ عن موادَّ في الوسط المحيط تسبب المرض، بما لها من طبائع، وأن التداوي يعني التعامل مع هذه المواد الضارة. والقول بعكس ذلك يعني أن الله أراد الضرر للإنسان؛ وهذا يتنافي مع عدله ورحمته.

ومن الآراء العلمية التي توصلتْ إليها، وفقا لهذه النظرية الفلسفية الفريدة، أن الأمطار أبخرةُ البحار والأنهار تحملها الرياح فتنزل مطراً، وأن البَرَد قطراتُ ماءٍ تجمدت في الفضاء.

ومن الناحية الاجتماعية، رأت أن الناس يتمايزون فيما بينهم بأفعالِهم وبعلمِهم، وليس بأنسابهم، وأن الاختلاف في الرزق (في الثروة) يتحقق بالاكتساب أو باغتصاب البعض لأرزاقِ آخرين.

ومن حيث السياسة، رأت أن الإمام أو الحاكم يجب أن يكون أفضلَ الناس علماً وجسماً وأخلاقاً واستقامةً ومناقبَ؛ وإلا سقط حقُّه في الحكم.

وأهم ما أنجزته أنها نشرت التعليم، الذي كان حكراً على بعض الأُسَر، وأتاحته للكثير من الناس العاديين.

ونتيجة لهذه الأفكار غير المعتادة، والمعارِضة لما كان يُعَدُّ التيارَ الرسميَّ في الزيدية، كفَّرها الإمام في بداية القرن السابع الهجري وحكم بقتل البالغين واستعباد النساء والأطفال (قتل المقاتلة وسبي الذراري) ودمّر هِجَرَها، ولم ينْجُ منها إلا من هرب إلى مناطق خارجة عن سلطته. وتعرضتْ للمحو حتى من كتب التاريخ الذي عادةً ما يكتبه المنتصرون من وجهة نظرهم.

وقد ظلَّ مشروعي الأساسي للوصول إلى تناول لحظة التغيير الجمهوري يراودني باستمرار. وحين أنجز برنارد هيكل كتابه المهم باللغة الإنجليزية، عن الفترة التي كان بعض المثقفين اليمنيين يسمونها “مدرسة التحرر الفكري أو الديني”، قمتُ بترجمته إلى اللغة العربية ونُشِر في بيروت سنة 2014 بعنوان “الإصلاح الديني في الإسلام.. تراث محمد الشوكاني”.

وقد شعرتُ بالارتياح بعد صدور كتاب “الثقافة الجمهورية في اليمن”؛ لأنه يكاد يتطابق مع المشروع الفكري الأساسي الذي راودني حين كنتُ ما أزال طالباً جامعياً.

نص الجزء الثالث من الحوار

– ربما أنت والدكتور مسعود عمشوش فقط الوجهان البارزان، خلال ربع قرن، اللذان جعلتما المنتوج الفرنسي الخاص عن اليمن مقروءاً، وفتحتما الطريق واسعاً أمام مترجمين شبان، مثل بشير زندال وجساس أنعم ومصطفى ناجي وحميد عمر، صاحب كتاب “اليمن في الوثائق الفرنسية”. طبعاً، في ذهني الترجمة الرائدة التي قام بها باكراً الأستاذ محسن العيني لكتاب “كنت طبيبة في اليمن” لـ كلودي فايان، أواخر خمسينيات القرن الماضي.. حدثنا عن مشروع الترجمة الخاص بك، وما الذي أضافته التجارب السابقة لك، على نحو ترجمة العيني؟ وما الذي يمكن أن يضيفه المترجمون الشباب الذين أنت على صلة ببعضهم؟

* تنطلق الترجمة من الإنجليزية والفرنسية عندي، في الدرجة الأولى، عن هَمٍّ معرفيٍّ. وكنت -وأنا بعدُ طالبٌ جامعيٌّ- أُترجم أيَّ نصٍّ يعجبني ويوسع معارفي، وأنشر ما أترجم من نصوصٍ في الصحافة اليمنية. وهكذا ترجمتُ الكثير منها قبل وجود الإنترنت وسهولة التوثيق.

أنا لستُ مترجماً محترفاً؛ بل أترجم ما يستهويني ويزيد معارفي، وأنظُر إلى الترجمة باعتبارها نوعاً من القراءة المعمَّقة. فلا يمكن أن تترجم ما لا تفهمه وتحيط به إحاطة تامة. وأنا أنطلق في الترجمة من قواعدَ أوليةٍ لا ينبغي للمترجم تجاوزها:

أولا: لا يكفي إجادة لغةٍ أجنبيةٍ لكي تقوم بالترجمة، بل ينبغي إلى جانب ذلك أن تجيد لغتك العربية إجادةً تامةً؛ لأننا في بعض الحالات نقرأ ترجماتٍ ركيكةً باللغة العربية، تكون فيها الجمل غيرَ سويَّة، والعباراتُ معوَجَّةً، والمعاني غيرَ واضحةٍ، ناهيك عن احترام قواعد اللغة العربية من نحوٍ وصرفٍ. ولذلك، يوجد نقدٌ لبعض النصوص المترجمة، كما يوجد الكثير من الادّعاء في مجال الترجمة. ويوجد مترجمون يمنيون بارزون ترتاح للقراءة لهم، مثل مسعود عمشوش وبشير زندال وحميد العواضي ومصطفى الجبزي وجساس أنعم، وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن.

ثانيا: لا تستطيع أن تترجم ترجمةً محترمةً إلا إلى لغتك الأم، أو إلى لغةٍ أصبحت بمثابة لغتك الأم. لأن لكل لغةٍ شخصيتَها المميزة، وبُنَاها اللغوية والأدبية والثقافية.

ثالثا: ليست الترجمة مجردَ نقل المعنى من لغةٍ إلى أخرى، حتى لو أجَدت اللغة. لا بد من معرفة الثقافتين، الثقافة التي كُتب بها النص الأصلي والثقافة المترجَم إليها.

لكن المشكلة الحقيقية أن جميع ما يترجَم، على المستوى اليمني والعربي، يظل جهوداً فرديةً هامشية. فما تترجمه الأمة العربية كلها، بعدد سكانها القريب من ثلاثمائة مليون نسمة، لا يكاد يتجاوز عشرةً في المائة مما يترجِم بلدٌ مثل المَجَر، عدد سكانه يقرب من عشرة ملايين نسمة. لأن الثقافة العربية -ككل، وليس في اليمن فقط- تفتقر إلى وجود مشاريع للترجمة في كل بلدٍ عربيٍّ، تنتظم جميعها في مشروعٍ مشتركٍ طَموحٍ للترجمة، بهدف تحقيق نهضةٍ علميةٍ تكنولوجيةٍ حضاريةٍ توفر للأمة كلها مقومات البناء والإبداع، والمشاركة في حضارة عصرها. لذلك، ليس من المستغرب أننا منذ بداية محاولات النهضة نتقدم خطوةً ونتراجع خطواتٍ إلى الخلف. نبني حجراً ونهدم جُدراناً، ونظل ندور حول نفسنا كالمخَدّرين.

– قبل أن يتحول صديقنا حبيب سروري للكتابة بالعربية، قمت بترجمة رائعته “الملكة المغدورة”، أواسط التسعينات، بِلُغةٍ عالية. أذكر أن حبيبَ قال لي، في حوار منشور في 2002، إن الرواية “لم تكن ترمي لقارئٍ ينتمي للغةٍ معينةٍ؛ بكل بساطة، كانت الفرنسية حينها الأداة المثلى والوحيدة التي أمتلكها لكتابة تلك الرواية. فعندما بدأت كتابة تلك الرواية، في النصف الأول من التسعينيات، كانت معظم قراءاتي الأدبية بالفرنسية، وكل كتاباتي العلمية بالفرنسية أو بالإنجليزية. كانت مقدرتي بالكتابة بالعربية حينها ضامرةً كثيراً، وبحاجة إلى كثيرٍ من القراءة لإيقاظ الكلمات الضائعة”. الاستنتاج من قول حبيب أن زيداً هو من أعاد إحياء الرواية، بلغة منشئها ووعاء موضوعها، خصوصا وأن هذا العمل هو الذي قدم السروري كساردٍ مميزٍ لم يزل يلتقط أفكاره الساحرة من منجمٍ بِكْرٍ اسمه اليمن الغرائبي.. فماذا يمكن أن تقوله عن هذه الترجمة والعمل؟

* حين قرأت رواية “الملكة المغدورة” للصديق حبيب عبدالرب السروري، عقب صدورها، أعجبتُ بها ودار بذهني أن كتابة الرواية في اليمن كانت ما تزال محدودة، ولم تكن قد احتلّت المكانة التي احتلتها في السنوات الأخيرة. فاستمتعتُ بترجمة هذه الرواية، كعادتي مع كل نصٍّ يستهويني. وهو ما يبدو أنه لفَتَ انتباهَ الزميل حبيب، بما يمتلك من كفاءة ونباهة، إلى أن هواه وثقافته مرتبطان باللغة العربية وبالقارئ العربي؛ عندها باشر كتابة أعمال إبداعية عربية لاقت جمهوراً أوسع.

– في سنوات الألفية الأولى، تعمقت صلتي القرائية بك أكثر؛ إذ قرأت ترجمتك الباذخة لكتاب الإنثروبولوجي الفرنسي المهتم بقضايا الموسيقى المحلية في صنعاء، جان لامبير، المعنون بـ”طب النفوس.. فن الغناء الصنعاني”، الذي يبحث في الإجابة عن السؤال الصعب؛ وهو: هل باستطاعة الموسيقي والغناء الصنعائيين أن يكونا دواءً للروح؟ على اعتبار أن تقاليد المقيل المرتبطة بالموسيقى والطرب تهدف في الأساس رعاية موج النفس “تدفق الروح”، لذلك يمكن المراهنة على أن الموسيقى، عبر هذه العلاقة، تساعد الإنسان على أخذ مكانه في العالم، وتعطي لوجوده معنى، كما جاء في مقدمة الكتاب.. حدثنا قليلاً عن الترجمة والكتاب!

* حين استمتعت بقراءة كتاب “طب النفوس.. فن الغناء الصنعاني”، صممت على ترجمته، لأنه يتناول جانباً من جوانب الإبداع اليمني المجهول خارج اليمن، ويعرِّف القارئ الفرنسي على فنٍّ عريقٍ له مكانةٌ كبيرةٌ في الحياة الثقافية اليمنية، من حيث أن الإبداع الغنائي يشكل جزءاً مهماً من الخصوصية الثقافية اليمنية. وكنت قد قرأت كتاب الدكتور محمد عبده غانم بعنوان “شعر الغناء الصنعاني”، وكتاب الفنان محمد مرشد ناجي بعنوان “الغناء اليمني ومشاهيره”، وكتاب الفنان والناقد الموسيقي جابر علي أحمد بعنوان “حاضر الغناء في اليمن”، قبل أن أوسّع معارفي فيما بعد بقراءة كتابيه “من المشهد الموسيقي اليمني” و”تيارات تجديد الغناء في اليمن”.

ومع أنني لستُ من أنصار القات، فقد أثار كتاب “طب النفوس.. فن الغناء الصنعاني” في نفسي الحنين إلى المقيل الصنعاني بالذات، وما يشهد من طقوسٍ فنيةٍ عايشتُ بعضاً منها؛ وهي جزءٌ من تراثنا العريق. فقمت بترجمة الكتاب وتولّت الهيئةُ العامة للكتاب نشرَه. وعند صدور كتابٍ آخر بعنوان “ثمانمائة سنة من الشعر المُغنَّى في اليمن” باللغة الفرنسية، والذي كان رسالة دكتوراه في جامعة استرسبورج الفرنسية، تواصلتُ مع المؤلف وطلبتُ موافقته على ترجمة كتابه؛ لكنني لاحظتُ أنه موجهٌ للقارئ غير العربي ويقدِّم له الكثير من التفاصيل التي لا يحتاجها القارئ العربي. فاتفقت مع الكاتب أن يعدّ نصاً مختصراً من الكتاب الكبير لترجمته إلى العربية، لكن الحرب قوَّضت هذا المشروع.

– “اليمن المعاصر”، وهو في الأصل ترجمة احترافية عالية لوثائق ندوة هامبورج التي انعقدت تحت شعار “اليمن في شبه الجزيرة العربية” في سبتمبر 1997 ونظّمها المركز الألماني للدراسات الشرقية، بالتعاون مع المركز الفرنسي للدراسات اليمنية، ومركز مارك بلوخ.. بماذا تنبأ الكتاب لليمن وقتها، خصوصاً وأن الندوة تلت بقليلٍ تداعيات حرب صيف 1994؟

جرى التخطيط لندوة “اليمن المعاصر” في هامبورج، في فترة كانت اليمن بعد الوحدة قد حَضَرت بقوة في المجتمع الدولي، ربما لأول مرة بهذا القدر في التاريخ الحديث، وبدأ الباحثون والدارسون، وبدأت الأوساط الاستراتيجية والسياسية تهتم بها وبما ستؤول إليه تجربتها المهمة، بعد أن أوجدت بلداً يستحق الاهتمام، بسكانه العديدين في شبه الجزيرة العربية، وبمصادره الطبيعية، وموقعه الاستراتيجي على البحر العربي والبحر الأحمر، وبطموحاته الكبيرة التي عبّرت الوحدةُ عنها وأطلقتْها. واعتقدنا جميعاً أن بالإمكان بناءَ تجربةٍ مهمةٍ في المنطقة العربية والعالم الثالث، وبدأت التباشير الأولية فيما سمي بالديمقراطية الناشئة والتعددية السياسية والصحفية، وضمان الدستور للحريات وحقوق الإنسان… إلخ.

لكن حرب 1994 صدمت الجميع وثبَّطت كل الآمال، وأصابت المهتمين باليمن والمتعاطفين معها بالإحباط، وأثارت قلقهم لإهدار الفرص التاريخية لبناء بلدٍ كبيرٍ، قادرٍ -إذا وظف جميع موارده البشرية والطبيعية وتكرس للعمل والإنتاج- على البناء ومكافحة الفقر والحضور الدولي والمشاركة في حضارة اليوم. وقد انعكست كلُّ هذه الهموم في البحوث المهمة التي قُدِّمت إلى الندوة، والتي استمتعتُ بترجمتها من اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وصدرت في كتاب عن دار “بيسان” في بيروت.

– وغير الترجمات التي أشرتُ إليها، هناك ترجمات أخرى لم أتمكن من الاطلاع عليها حتى الآن، مثل “توحيد اليمن القديم”  للدكتور محمد عبد القادر بافقيه، و”الدولة والقبائل في تاريخ اليمن المعاصر” للكاتب بول دريش، و”فن الزخرفة الخشبية في صنعاء” للكاتب بول بونانفان، و”المخلاف السليماني” للكاتب ميشيل توشرر.. حدثنا قليلا عنها!

* بدأت قصتي مع كتاب الدكتور محمد عبد القادر بافقيه “توحيد اليمن القديم” حين كنت طالباً، عندما حضرتُ في جامعة السوربون مناقشة رسالته للدكتوراه، وكان في ذلك الوقت سفيراً في باريس. إذ استرعى انتباهي أنه لا يناقش المستشرقين المتخصصين في الآثار -وبخاصة آثار اليمن- كطالب؛ بل يجادلهم ويتعامل معهم ويعاملونه معاملة الند للند، وينتقد بعض قراءات نقوش المسند اليمنية ويعدِّل القراءات وفقاً لما توصل إليه عند إعادة قراءة النقوش. وكانت لجنة المناقشة تستمع إلى مقترحاته باهتمام. ومع أنني حضرت عدداً من مناقشات رسائل الدكتوراه في السوربون، لم أرَ مثل هذا القبول بما يطرح.

عندها استقر رأيي على ترجمة هذا النص، خاصةً وأنه يوثق، استناداً إلى قراءة النقوش، ويتتبَّع حدوثَ أول وحدةٍ في تاريخ اليمن القديم في القرن الثالث الميلادي. وقد أنجزتُ هذه الترجمة فيما بعد، وسلمتها لبافقيه ليتولى نشرها. وقد نشر الكتابُ فيما بعد الترجمة بسنواتٍ، ونفِدَت النسخ المطبوعة، وأرى أن الوقت قد حان لإعادة نشر هذا الكتاب المهم بالنظر إلى الإسفاف السائد حالياً.

أما عن “الدولة والقبائل في تاريخ اليمن الحديث” لبول دريش، فقد استهواني هذا الكتاب لأنه أتاح لي مزيداً من المعرفة والإلمام بالتكوين الاجتماعي والتاريخي لمنطقةٍ كانت مدارَ اهتمامي وكتبتُ عنها ما كتبتُ. فقمتُ بترجمته من اللغة الإنجليزية إلى العربية، لأنه يدرس القبائل المحاربة والآليات الاجتماعية والسياسية التي تحركها، ودورها التاريخي. وهو رسالة دكتوراه أعدها المؤلف بعد بحثٍ ميدانيٍّ في مناطق القبائل، في مرحلةٍ كانت فيها تلك المناطق ما تزال مجهولةً وبعيدةً عن اهتمام الدراسين اليمنيين والعرب. وللأسف، لم ينشر حتى الآن.

أما “فن الزخرفة الخشبية في صنعاء”، فهذا كتاب ترجمته بالتعاون مع المركز الفرنسي للدراسات اليمنية في صنعاء، وسلّمتُ لهم الترجمة في حينه.

وأما كتاب “المخلاف السليماني” فهو عبارة عن بحث كتبه ميشيل توشرر، كمقدمةٍ طويلةٍ لتحقيق مخطوطةٍ عن منطقة تهامة، في مرحلةٍ مهمةٍ من تاريخها، شهدت بعض التحركات التي كانت مقدمة لما عرفتْه المنطقة من حركاتٍ تاريخيةٍ ومن تنافسٍ وصراعاتٍ وتمزقٍ مهّدتْ لحرب 1934 وما أدت إليه من تقسيم المنطقة بين اليمن والسعودية.

الخلاصة: الترجمة عندي، في غياب المشروع الوطني والقومي للنهضة العلمية والحضارية، مجردُ متعةٍ وهوايةٍ مرتبطةٍ بالرغبة في القراءة، ومحاولة إشراك القارئ اليمني والعربي في متعة قراءة النصوص التي استهوتني في لحظةٍ ما، ووسّعت مداركي.

نص الجزء الرابع من الحوار

 

– ماذا لو حدثتنا، وبقليلٍ من التوسع، عن تكوينك الباكر، وتحديداً عن ابن الفلاح الذي درس في أحد كتاتيب قرى الجعفرية، قبل أن ينتقل إلى صنعاء ويدرس في مدارسها النظامية، حين كانت ثورة سبتمبر تعيد صياغة الوعي الجديد؟

* ربما كان من حسن حظي أن خالي، الفقيه النحوي محمد زيد القليصي، كان يقوم بالتدريس متطوعاً في منزله، قبل أن يتولى التدريس في “كُتاب” أو “معلامة” طوّرَها بعد قيام الجمهورية إلى مدرسةٍ سماها مدرسة الفتح، ووزع المبرِّزين من تلاميذها لينشروا التعليم في مناطقَ مختلفةٍ من رَيْمَة بتمويل من الأهالي، قبل سنينَ من افتتاح معاهد المعلمين وكليات التربية وانتشار التعليم الجمهوري. كان شخصاً مطَّلِعاً يتمتع بمَلَكَةِ حفظٍ قوية (أو ما كان يسمى في التراث “حَفَّاظة”)، علَّم نفسه الكثير بنفسه، بالعودة إلى مصادر التراث، وكان يستغل حتى الذهاب إلى السوق للقاء أي فقيهٍ قادمٍ من منطقة أخرى، للنقاش وتبادل المعارف والتعلُّم والحصول على إجابات لأسئلة يُعِدُّها قبل كل لقاء.

 وقد لازمْتُه في طفولتي في واقعٍ تسوده الأمية، وقضيتُ معه أغلب وقتي، وتلقيتُ منه شيئاً من علوم الدين والعربية وحبّ الأدب والفصاحة. وكنتُ أفرح بتشجيعه لي وأمتنع عن اللعب مع أترابي من الأطفال، وأتشبّه به في العبادة والاستقامة والميل إلى القراءة. وبعد قيام الجمهورية بسنة، سافرتُ مع زميلٍ كان قد سبقني قبل نحو سنةٍ في الانتقال إلى صنعاء، وساعدني في الالتحاق بالمدرسة النظامية، وبدأَتْ عند ذاك علاقتي بالتعليم الحديث.

– عن المدرسة في صنعاء، وعن الطالب والمعلم في آنٍ.. حدثنا أيضاً!

* كان التغيير، الذي شهده التعليم بعد قيام الجمهورية، عميقاً وحاسماً وجذرياً. فقد تغيرتْ من الأساس فلسفةُ التعليم. وبعد أن كان التعليم نادراً وهامشياً واهتماماً عرَضِياً ومقصوراً على بعض الأسر، أصبحتْ فلسفةُ التعليم الجمهوري تعطي لكل طفلٍ حق التعليم نظرياً، وتحاول بقدرِ ما تسمح ظروفُها الصعبة توفيرَهُ لكل راغبٍ في التعلُّم ولكل مجتهدٍ ومثابرٍ، حتى لو واجه صعوبات. صحيحٌ أن قدرة الجمهورية على إيصال التعليم في تلك الفترة المبكرة إلى أنحاء الجمهورية كانت ما تزال محدودةً، لكنَّ مَنْ تحمَّلَ مصاعبَ البحث عن التعليم توفرتْ له الفرصُ دون تمييز.

كما أن الانتقال، بمساعدة مصر عبد الناصر، إلى تبنّي نظامٍ تعليميٍّ جمهوريٍّ جديدٍ قد وضع الجمهورية وجهاً لوجهٍ أمام كارثةِ انعدامِ التعليم في طول البلاد وعرضها. فلا إدارةٌ مدرسيةٌ مؤهلةٌ، ولا المعلمون القليلون الموجودون يتمتعون بالكفاءة التي يتطلبها النظام التعليمي الجديد، فاضطرت الجمهورية، منذ البداية، إلى الاستعانة بمصر، لبناء ثلاث مدارسَ إعداديةٍ ثانويةٍ جديدةٍ، بسرعةٍ في المدن الرئيسية الثلاث لسد العجز الخطير في المنشآت التعليمية، وأرسلت مصر لهذه المدارس الإدارة المجربة والمعلمين الأكْفاء. لكنَّ هذا الجهدَ كان قطرةً في بحر الحاجة لتطوير التعليم ولتوفير المعلمين وتدريبهم في مجتمع تسوده الأمية الشاملة. ولم يبقَ من المعلمين اليمنيين في التعليم الجديد سوى معلمي التربية الدينية، وبعض معلمي العربية، ممن استطاعوا أن يكيّفوا أنفسهم ومعارفهم مع الكتاب المدرسي المصري، الذي تم اعتمادُه في البداية، في ظل انعدام الكتاب المدرسي اليمني حتى ذلك الوقت.

وجاء وعدُ مصر بقبول كلِّ من ينال شهادة الثانوية العامة من هذا النظام التعليمي في جامعاتها وعلى نفقتها، ليطلق موجةً من المثابرة والحماسة للدراسة والتحصيل، للفوز بمنحةٍ للدراسة في الخارج، وللخروج من اليمن في سبيل اكتساب العلم والمعرفة واكتساب التجارب؛ وهي فرصةٌ ثمينة وحلمٌ بالنسبة للطالب اليمني الذي كان محاصراً بالفقر وانعدام الفرص. وهذا ما تناولْتُه عند الحديث عن تغيير التعليم في كتاب “الثقافة الجمهورية”.

– هل كانت رواية “تحولات المكان” جزءاً من سيرة تكوين الشاب الباكرة مثلاً؟

* لا شك أن الروائي يستمد المادة الأولية، التي يبني بها نسيجَ رواياته، من تجربته في الحياة، بعد أن يصهرها في عالم خياله وأحلامه، ليشكل خليطاً جميلاً من إبداعٍ نستمتع بقراءته وبالنفاذ إلى عالمه، فيه شذراتٌ من الواقع المتحول والمتداخل بصورٍ وشخصياتٍ يصنعها الخيال.

وهكذا، توجد في رواية “زهرة البن” بعض الانطباعات والمشاعر والانفعالات المستمدّة من تجربة الطفولة، لأن بعض الإحساسات المؤثرة ترتسم في الذاكرة على نحوٍ لا يُنسى، مثل انبساط غطاءٍ أبْيَضَ من أزهار البن في أيام الخصب، يشمل السفح والجبل، ينشر رائحته العطِرة في الآفاق ونستنشق عطرَهُ من بعيد.

وفي “تحولات المكان” شيءٌ من صور التجربة في سن المراهقة أثناء حصار صنعاء، ومن الأزمة الوجودية التي وجدنا أنفسنا نواجهها، وتضطرنا للمبادرة بإيجاد وسائل المقامة.

– حدثنا قليلا عن المقاومة الشعبية لمجابهة حصار صنعاء من القوى الملكية، أواخر 1967، باعتبارك أحد رموز المقاومة في الحركة الطلابية آنذاك!

كان حصارُ صنعاء بالنسبة لي ولأمثالي من الطلبة المراهقين مرحلةَ تحوُّلٍ كبيرةً عصفت بحياتنا وغيرت واقعنا، وحوّلتنا من كائناتٍ بسيطةٍ منْكبّةٍ على الدرس والتحصيل لتحقيق التفوق الدراسي للفوز بمنحةٍ والخروج للدراسة في أي بلد خارج اليمن، وجعلنا نواجه مضطرِّين أسئلةً وجوديةً تتعلق بواقعنا وبمستقبلنا وبالخطر الذي يهدّد وطناً كنا حتى ذلك الوقت نعتقد أنه محميٌّ ومحصنٌ ضد الانكسارات والانتكاسات. وَعَيْنا لأول مرة أن الجمهورية، التي نعيش متشبعين بشعاراتها، مهددةٌ بالسقوط، وأن حياتنا مهددةٌ بالموت، أو على الأقل بالتشريد والضياع. لم نعد قادرين على العودة إلى الريف أو إلى أوضاعنا السابقة. وكان علينا أن نتحرك، وأن نبدأ دون إعدادٍ مسبقٍ المشاركةَ مع الأبطال الذين يدافعون عن المدينة وعن النظام الجمهوري، وحيدين بعد انسحاب القوات المصرية على إثر هزيمة العرب في حرب 1967، مجرّدين من الدعم الكبير الذي كانت مصر عبدالناصر تقدمه لدعم صمود الجمهورية.

كبُرْنا فجأةً وبسرعة. لم نعد مجرد أطفال أو مراهقين نهتف في طابور الصباح المدرسي بحياة الجمهورية، وأثر النوم ما يزال يداعب رموش عيوننا؛ بل أصبحنا مسؤولين وجهاً لوجهٍ عن حياتنا بالمعنى الحرفي للكلمة، وعن حياة الجمهورية وبقائها، وعن صون مشروع التقدم الذي يوشك أن يندثر. وجدنا أنفسنا دون تهيئةٍ نفسيةٍ وماديةٍ نلتحم بقضايا عصْرِنا، قضايا الحرب والسلام، وصراع القديم والجديد، والتخلُّف والتقدُّم… الخ. فالتحمنا بالمدافعين عن المدينة، بما في مشاعر الشباب المراهق من حماسة واندفاع، وأطلقنا لمشاعرنا وأحلامنا العنان دون حساب. ولعلّ بعضَ ظلال هذه المشاعر ترتسم في رواية “تحولات المكان”.

– تلازَمَ التكوينُ الباكر بوعيٍ سياسيٍّ انحاز بوضوح لتيار اليسار.. فهل بإمكانك استرجاع القليل من ذكريات تلك المرحلة؟

* حين وجدنا أنفسنا، ونحن في مقتبل العمر، في مواجهة أسئلة الحياة والموت والحرب والسلام والتخلف والتقدم، تلفّتْنا من حولنا لنرى من يقف معنا ومن يدعم سعْيَنا الحثيث لإثبات وجودنا ومساعدة جمهوريتنا والدفاع عن قضايانا اليمنية والعربية التي تلحُّ علينا وتضغط على أعصابنا وتدعونا للعمل الجاد في سبيل انتصارها. وكنا نسمع من قيادات المقاومة الشعبية، ومن المنابر السياسية والثقافة الناشطة في المدينة، أن جسراً جوياً من السلاح والمساعدات يصل من الدول الاشتراكية للمشاركة في الدفاع عنا، ورأينا أن بعض السفارات في صنعاء قد صمدت معنا؛ مثل السفارة الصينية والسفارة الجزائرية، ولم تغلق أبوابها مثل بقية السفارات، وأن المهندسين الصينيين يواصلون شق الطرقات حتى خلال الحصار، وأن المنجزات القليلة التي تحققت من مدارسَ ومستشفياتٍ ومصانعَ قدمتها دولٌ اشتراكيةٌ، وأن دول عدم الانحياز والدول الاشتراكية تساند صمودنا وتُقدِّم بعض المساعدات الضرورية والمنح الدراسية، كما تساند نضال اليمنيين في عدن والجنوب للتحرر من الاستعمار البريطاني. كل هذا وأمثاله أوجد بيننا وبين حركة اليسار في العالم شيئاً من التعاطف الإنساني والمشاركة الفكرية. وهكذا، كان القرب من مفاهيم اليسار فعلاً من أفعال المقاومة الوطنية. كنا مدفوعين بمشاعرَ وطنيةٍ صادقةٍ، ولم يكن كل ذلك المخاض السياسي مجردَ موضةٍ أو ترفاً فكرياً ساذجاً أو انزلاقاً نحو شيءٍ غريبٍ لا علاقةَ له بحاضرنا، وبالحاجة إلى دعمٍ عالميٍّ لبناء بلادنا ولمكافحة الفقر والتخلف.

 – بعد إنهائك الثانوية، عملتَ لفترة في طيران “اليمنية”، حسبما اعتقد، قبل أن تسافر في منحة إلى الجامعة الأمريكية ساعد الأستاذ الربادي في تذليل صعوبتها كما سمعت منك..!

* حين كنتُ في السنة النهائية من المرحلة الثانوية، وفي سنة خدمة التدريس، كنت أعمل بعد الظهر معلِّماً للحصول على دخلٍ لتحسين ظروف المعيشة، في أول مدرسةٍ خاصةٍ شبهِ مجانيةٍ أقامها في صنعاء أحدُ التربويين من القوميين العرب، العائدين من المهجر، لمساعدة العاملين محدودي الدخل والجنود في تحسين تحصيلهم الدراسي وفتح آفاق المستقبل أمامهم، مقابل رسومٍ متواضعةٍ تُدفع على أقساطٍ، وأحيانا لا تُدفع بسبب فقر الراغبين في التعليم. فكان أغلب تلاميذي أكبرَ سناً مني وأقوى أجساداً، ولكنهم كانوا يعاملونني باحترامٍ كبيرٍ لأنني كنت أعلِّمهم أصعب مادتين عندهم: الرياضيات والنحو، وهما مادتان كان زملائي يتهربون من تعليمهما، وخاصة إذا كان الطلبة في سنوات امتحان الشهادة الابتدائية أو الإعدادية. كما عملتُ لبضعة أشهرٍ في شركة الطيران اليمنية، قبل سفري للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت.

وحين حصلتُ على المنحة، طلبَتْ مني وزارة التربية تقديمَ ضمانةٍ تجاريةٍ، فكان هذا شرطاً يصعب تحقيقُه على أمثالي. والتقيتُ بالصدفة بالأستاذ محمد الربادي، الذي كنت أعرفه كشخصيةٍ عامة. وحين أخبرته، أخذني إلى أحد التجار وأعطاه استمارة الضمانة ووقّع عليها مجاملةً للربادي؛ دون أن يعرف من أنا، مستمتعاً بنُكَت الربادي الساخرة من طلب الضمانة المالية من طالبٍ يريد أن يواصل الدراسة وكأنه سيتسلَّم المسؤولية عن بنك.

– عن بيروت السبعينيات والتحصيل العلمي في الجامعة.. حدثنا قليلاً!

* لبيروت السبعينيات عطرٌ خاصٌّ. كانت مميزةً في المنطقة العربية، وكانت خاصةً وجذابةً ومتفتحةً وواحةَ حريةٍ، وأفقاً للقراءة والاطلاع والحلم. ولن أنسى أنني، وزملائي القادمين من يمنٍ تحاول الإطلال برأسها لترى الدنيا من حولها، حين دخلنا حرم الجامعة الأمريكية، الذي كان قطعةً متلألئةً من أمريكا في العالم الثالث، ذهلنا واندهشنا حين شاهدنا حدائقَهُ وأشجارَهُ المعمّرة، بشهادة ميلادٍ لكل منها منقوشةٍ على لوحةٍ مثبتةٍ على جذعها، وإطلالَهُ على شاطئ البحر الجميل، واطَّلعنا على أفق الحرية الأكاديمية والبحثية في الجامعة… الخ. كل شيءٍ منظّمٌ ومرتبٌ بإتقان.

وقد حاولنا، أنا وبعض الزملاء، أن نستفيد من الانفتاح الثقافي في بيروت بقدر الإمكان؛ مثلا: اشتركتُ في “نادي السينما”، الذي كان يعرض كل أسبوع فيلماً من أهم أفلام السينما العالمية ويأتي بمُخرجٍ أو ناقدٍ سينمائيٍّ متخصصٍ ليناقش الفيلم المعروض مع الجمهور. وكوَّنَّا نادياً للموسيقى الجادة؛ بحيث يشتري كل مشارك أسطوانةً أو أكثرَ، من الموسيقى الكلاسيكية، للاستماع إليها معاً وتوسيع معارفنا وتطوير ذوقنا الموسيقي. ولما كان أغلب الطلبة اليمنيين في الخارج يُنشئون اتحاداتٍ طلابيةً يتصارعون داخلها سياسياً، أردنا أن يعود تنظيمُنا الطلابي علينا بالفائدة معرفياً وأن يكون لائقاً ببيروت المنفتحة ثقافياً، فأنشأنا “النادي الثقافي اليمني”. ولتشجيع زملائنا على القراءة والاطلاع والإبداع، اشترطنا لقبول العضوية توفر النشاط الثقافي؛ مثل كتابة المقال أو الشعر أو القصة أو الرسم أو الرقص أو العزف الموسيقي. وأصدر النادي مجلةً ثقافيةً متواضعةً سمّيناها “الوعي”، تبرع الأعضاء بسخاءٍ لتمويل طبعها، لكنها توقفت بعد صدور أعدادٍ قليلةٍ بسبب صعوبة التمويل. وكان في الشارع المحاذي للجامعة، وقريباً منه، عددٌ من المكتبات التي تجتذبك للقراءة وشراء الكتب. وقد كونْتُ بمرور الأيام مكتبةً احتوت عدداً كبيراً من كتبٍ ثمينةٍ ضاعت خلال عدم الاستقرار والتنقل من منزلٍ إلى آخرَ ومن بلدٍ إلى آخر.

– لماذا اخترتَ دراسة الفلسفة؟ وهل كان لأحدهم تأثيرٌ في ذلك؟

 * كان اهتمامي بالفلسفة مرتبطاً بالنشأة الطامحة ثقافياً لامتلاك القدرة على فهم الواقع اليمني والعربي والعالمي. ولعلّ للسياسة دوراً في بث الطموح للمعرفة وللإحاطة بحقيقة العالم الذي نعيش فيه، واستكشاف طرق النهضة الممكنة في اليمن ومغادرة سجن الماضي والمشاركة في حضارة العصر. وحين جاء وقت اختيار كتابة البحوث الدراسية، ركزتُ على الإجابة على الأسئلة التي تشغلني وتلحُّ عليَّ لمعرفة هذا اليمن الذي نُكثر الحديث عنه ونعجز عن معرفة تعقيداته وإدراك بُناه الاجتماعية والثقافية وتحديد الآليات التي تحكم حركته التاريخية. وكان الأملُ العثورَ على مفاتيح نهضته وتطويره نحو الأفضل. وقد كان هذا جوهرَ مشروعي الثقافي، الذي ما يزال مفتوحاً، وطُمُوحاً لم يكتمل ولا يبدو أنه سيكتمل. فكلما مر الوقت، أدركْنا عجزنا، نحن الذين عوّلنا على المعرفة والتنمية لإخراج اليمن والمنطقة العربية من قوقعتها ومن تخلفها.

– بعد بيروت أكملتَ دراستك العليا في باريس، وواصلتَ البحث في ذات الاتجاه الذي انشغلت  به في بيروت، أقصد دراسة المعتزلة والزيدية وفِرَقِها.. لماذا؟

* كنتُ خلال الدراسة في بيروت قد بدأتُ دراسة اللغة الألمانية في معهد جوته، بهدف مواصلة الدراسات العليا في ألمانيا؛ أخذاً في الاعتبار أن مساهمة الألمان في مجال الفلسفة مميزةٌ، وأن دراستهم المبكرة للتراث العربي الإسلامي لا مثيلَ لها. وحصلتُ من خلال هذا المعهد على منحةٍ للدراسة في جامعة فرايبورج الألمانية. لكنني كنت مغرماً باللغة الفرنسية قبل أن أدرسها. وذهبتُ إلى فرنسا، خلال الإجازة الصيفية، للبدء بدراسة اللغة الفرنسية التي أحببتها؛ في وقتٍ كنتُ فيه قد قدَّمْتُ، من خلال مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء، طلباً للحصول على منحة للدراسة في فرنسا. وفي لحظة الاستعداد للذهاب للدراسة في ألمانيا علمتُ بالموافقة على منحةٍ للدراسات العليا في فرنسا، فتغلَّبَ حبي للغة الفرنسية على اختياري العقلاني للدراسة في ألمانيا، وكان هذا القرار سبباً في تغيير اتجاه حياتي كلها.

أما اختيار دراسة المعتزلة فقد كان مرتبطاً بمتابعتي لمجموعة المخطوطات النادرة في اليمن، وبمحاولة فهم الحركة الثقافية والجدل الفكري في المجتمع اليمني.

– انتُدبتَ للعمل في مفوضية اليمن باليونسكو في التسعينيات، قبل أن تصير ممثلاً لليمن فيها بعد سنوات.. ماذا أضافت إلى مشروعك هذه التجربة؟

* تعينتُ للعمل في وفد اليمن الدائم في اليونسكو عند تحقيق الوحدة اليمنية وانطلاق الآمال الكبار بنهوض يمنٍ كبيرةٍ بمساحتها وبمصادرها الطبيعية، وبإمكانات بناء تجربةٍ ناجحةٍ على أرضها تليق بما حققت الوحدةُ من تضافر للقوى الحية في البلاد. وقد وجدت نفسي أشارك في الدور العالمي الذي بدأَت التجربةُ اليمنية تكتسبه، مع بداية اهتمام المجتمع الدولي بهذه التجربة.

 وكنت نائباً للدكتور أحمد الصياد الذي كان سفيراً لليمن حينها. وحين تم اختياره لتولي منصب المدير العام المساعد لمنظمة اليونسكو -وهو ما كان نوعاً من الاعتراف بهذا الدور لليمن الموحد وبكفاءات أبناء اليمن المؤهلين- توليتُ منصب السفير بالنيابة وأصبحت عضواً في المجلس التنفيذي للمنظمة ورئيساً لإحدى لجان المجلس.

– عدتَ إلى صنعاء مطلع الألفية، وعملت مسيّراً لمجلس الترويج السياحي، ومديراً تنفيذياً لمؤسسة العفيف في سنوات تكوينها الأولى.. حدثنا عن هذه التجربة، وعن موسوعة المؤسسة  وعن رئيسها المتنور أحمد جابر عفيف الذي أهديته كتاب “الثقافة الجمهورية في اليمن”!

* حين انتهى عملي في وفد اليمن الدائم في اليونسكو، سنة 2000، عدتُ إلى اليمن وعملتُ مع الأستاذ أحمد جابر عفيف مديراً تنفيذياً لمؤسسة العفيف الثقافية. وكنتُ قد عملتُ معه، في نهاية الثمانينيات، في الإعداد للمؤسسة وتأسيسها وبدء نشاطها. كما بدأنا الإعداد للطبعة الأولى من الموسوعة اليمنية، وشاركتُ في تصور المواد والتعاقد مع كتابها، وترجمتُ عدداً من المساهمات المقدمة لها باللغتين الإنجليزية والفرنسية.

وقد كان عملي مع الأستاذ أحمد جابر تجربةً مهمةً ودرساً في الجدّيّة وصرامة التفكير والفعالية، التي لا تفصل التصور والتخطيط عن شروط التنفيذ العملي في أقصر وقتٍ وبأقل كُلْفة. وهذه تجربةٌ لا توفرها أيُّ جامعةٍ ولا مدرسةٍ، بل تُستمد من التجربة العملية. وتعرفتُ عن قربٍ على تفكيره، الذي يحاول جعل المؤسسة جزءاً من مشروعٍ تربويٍّ شاملٍ موجهٍ للشباب، ولذلك أراد لها أن تكون منارةً ثقافيةً تفتح الأبواب للشباب كي يطوّروا مواهبهم، ويتجهوا للإنتاج الثقافي ويتجاوزوا الثرثرةَ وإهدارَ الوقت والفرص ويتجهوا نحو العمل والإنتاج والإبداع.

وفي مجال السياحة، تم اختياري خلال فترة لأكون مديراً تنفيذياً لمجلس الترويج السياحي، الذي اقترحه الاتحاد الأوربي وساهم في تمويله مع الحكومة والقطاع الخاص السياحي، لتطوير السياحة؛ كجزء من عملية التنمية، بعد تحقيق الوحدة، بالاستناد إلى المقومات الواقعية للبلاد، وللإسهام في مكافحة الفقر. وقد أتاحت لي هذه التجربة فرصةً ثمينةً لأطّلع عن قربٍ على هذا الجانب المهم من إمكانات تطوير اليمن ومكافحة الفقر فيها. فقد تنبَّهتُ إلى أن كل مدينةٍ وقريةٍ يمنيةٍ تكاد تكون متحفاً مفتوحاً عُمْر البعض آلاف السنين، والبعض الآخر مئات السنين، ووجود مواقع أثرية عديدة، وتنوع في التضاريس، بوجود جبال ووديان وهضاب وصحارى وشواطئ طويلة، وتنوع جغرافي، وتنوع في المعمار ما بين البناء بالحجر أو الطين المحرَّق أو غير المحرَّق، وتنوع في فنون الغناء والموسيقى والرقصات والعادات. كانت تجربةً مهمةً بالنسبة لي أُدركت من خلالها إلى أي مدى تملك اليمن مقومات سياحية كبيرة، إذا تم استغلالها وتطويرها ستكون إحدى قاطرات انطلاق التنمية ومكافحة الفقر.

 وبدأنا نُقِيم معارضَ سياحيةً في العالم. وحرصتُ على أن تشارك في كل معرضٍ سياحيٍّ محافظةٌ مختلفةٌ في تقديم ما لديها من رقصٍ وغناءٍ وموسيقى شعبيةٍ، لتوفير فرص المشاركة أمام الجميع. ونجحنا في بعض الحالات أن نضيف المثقفين اليمنيين إلى اتفاقات التعاون الثقافي؛ مثلما حدثَ في نشاطٍ ثقافيٍّ متنقِّلٍ في المدن الألمانية شارك فيه بعض المثقفين اليمنيين وقرؤوا قصصاً وقصائدَ تُرجمت إلى اللغة الألمانية واستمتع بها جمهور الحضور.

وقد بلغ عددُ السوّاح في بعض السنوات نحو مليوني إنسان، وتوفَّرَ العملُ وفرصُ العيش كلياً أو جزئياً لمئات الآلاف من اليمنيين. وحين بدأت الاختطافات والعمليات الإرهابية، انصرف السواح عن اليمن بسرعة. وجاءت الحرب لتغلق الباب في وجه السياحة ربما لسنواتٍ طويلة.  

– عدتَ إلى باريس من جديدٍ، وهذه المرة خبيراً في اليونسكو حتى تقاعدك قبل سنوات.. فكيف عاينْتَ هذه المنظمة من الداخل؟

* أتيح لي فرصة سنة 2002 للالتحاق بوظيفةٍ دوليةٍ في اليونسكو. فكان العمل فيها امتداداً لتجربتي السابقة في أروقة المنظمة، لكنني انتقلت من العمل كممثل لليمن إلى وظيفةٍ دوليةٍ لا ترتبط بدولةٍ بعينها. وهي تجربةٌ مثيرةٌ أتاحت لي فرصة التعرُّف من الداخل على آلية التعامل مع القيم والمُثُل التي تعلنها المنظمة في وثائقها. وقد بقيتُ فيها لمدة 13 سنةً حتى تركت العمل مؤخراً.


 

قراءة 7189 مرات آخر تعديل على الخميس, 02 نيسان/أبريل 2020 19:54

من أحدث

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة