الديمقراطية من مدخل العلاقة بين السياسة والدولة

الأربعاء, 30 تشرين2/نوفمبر 2016 17:56 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

         من بين أبرز سمات السياسة أنها ذات طبيعة متحركة ومتنقلة ومتغيرة، وهذا عائد إلى انبثاقها عن المجتمع وليس عن الدولة.فالمجتمع هو الذي يطرح الاحتياجات والمطالب المتعلقة بكافة مناحي حياته، ونخبه تنصت إلى نبضه وتتلقف احتياجاته وتحولها إلى برامج سياسية مطلبية على الدولة أن تضمنها وأن تجعلها متاحة للأفراد والجماعات.ولأن احتياجات المجتمع متجددة لا تتوقف عند مستوى معين فإن السياسة تبعا لذلك لا تعرف الثبات وإنما هي في حالة حركة دائمة.

         وعلى عكس السياسة اتسمت الدولة منذ انبثاقها في التاريخ بنزعة محافظة تتشبث بالثبات وتقاوم التغيير، وهذا بسبب طبيعتها كبنيان يسعى إلى القوة والوحدة، ويشكل القانون والنظام والسلطة خصائصه المميزة، فضلا عن الامتيازات المادية والمعنوية التي يتيحها الاستحواذ على سلطة الدولة في مستوياتها المختلفة.

         والنزعة المحافظة صفة ملازمة أيضا لكل دولة معاصرة لا تعرف الديمقراطية، أو أنها تدعيها ادعاء دون أي تحول حقيقي يدل على مصداقيتها. والملاحظ على هذه الدول أنها ورثت النزعة المحافظة عن الدولة القديمة وتقاليدها، بينما الهياكل التي ترتديها،  كالدستور والبرلمان والأحزاب والانتخابات، منقولة عن الدولة الحديثة في الغرب المعاصر.والموروث في هذا النوع من الدول هو الذي يمثل جوهرها، بينما يمثل المنقول مظهرها الخارجي.ولأن الجوهر والمظهر ليسا من جنس واحد فإن التوتر بين الدولة والسياسة يأخذ شكل التوتر بين الجوهر القديم والمظهر الحديث، حيث ينزع كل منهما إلى شد الآخر إليه وتكييفه لصالحه في عملية صراعية تنتهي بتحديث الجوهر وانتصار الديمقراطية أو بمزيد من القيود على الديمقراطية الشكلية، وربما الإطاحة بها وبهياكلها المنقولة، وهذا يتوقف على عوامل كثيرة أحدها ميزان القوى على المستوى الاجتماعي العام.

         وتاريخ العلاقة بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة كان دائما تاريخا صراعيا يبدأ مستتراً لينتهي ظاهراً، وما الثورات العنيفة إلا من أبرز نتائج هذا الصراع.والثورة إما أن تفشل في الإطاحة بالطبقة الحاكمة وإما أن يحالفها النجاح.في الحالة الأولى يُلاحق الثوار كمجرمين خرجوا على النظام العام وأقلقوا سكينة المجتمع ويُعلق قادتهم على أعواد المشانق. وفي الحالة الثانية تُعلق أقواس النصر احتفاء بالثورة ويعامل الثوار كأبطال وأصحاب شرعية ثورية تمنح قادتهم حق الجلوس على سدة الحكم بسلام آمنين لفترة من الزمن تقصر أو تطول.

         ولأن السياسة ذات طبيعة متغيرة ومتحركة فإن نجاح الثورة في تحقيق بعض المنجزات ليس نهاية التاريخ. فمع الوقت تتجدد حاجات المجتمع وتزداد مطالبه وتظهر نخب جديدة تتبنى هذه المطالب وتصوغها في برامج تقابلها نخبة الحكم بالرفض، الأمر الذي ينتج احتقانات تتراكم تدريجيا لتفضي في نهاية المطاف إلى نشوء مناخ ثوري وقيام ثورة جديدة.

         وهكذا يصبح تاريخ التوتر بين النزعة المحافظة للدولة والطبيعة المتغيرة للسياسة تاريخا للدوران العنيف داخل عجلة مفرغة.والسبب أن الثورة في كل مرة لم تفعل شيئا أكثر من الإطاحة بنخبة الحكم القديمة والإتيان بنخبة جديدة تحل محلها.ودولة هذا هو حالها هي بالضرورة دولة غير تنموية لأن النخب التي تحكم تكرس كل الإمكانيات المتاحة في البلاد للبقاء في الحكم، وتلك التي تعارض تهدر وقتها وجهدها ومالها في التآمر على التي تحكم، وقد تأتي لحظة الصدام العنيف على تدمير ما قد تحقق من منجزات.والحداثة السياسية هي التي عالجت هذه الإشكالية بنجاح وأنهت التوتر القائم بين الدولة والسياسة بإنتاج الدولة الحديثة التي نراها اليوم في الغرب المعاصر واليابان وكثير من البلدان التي طالت الحداثة السياسية دولها.فكيف تم ذلك؟

 أولا: أعادت الحداثة بناء وعي الإنسان بالدولة وقررت بشأنها ما يلي:

1 -  الدولة جهاز لا يعمل بذاته، شأنها شأن أي آلة لا تعمل من تلقاء نفسها وتحتاج إلى من يقوم بتشغيلها، كالسيارة مثلا.

2 – بما أن الدولة لا تعمل بذاتها فهي بالضرورة  محايدة ومستقلة في ذاتها، مثلها مثل أي آلة.

3 - حياد الدولة واستقلالها لا يكون لذاتها وإنما للمجتمع ومن أجله.

4 - مدى تأثير المجتمع على الدولة هو الذي يسلبها حيادها واستقلالها أو يبقي عليهما.

5 – تأثير المجتمع على الدولة يتم من خلال النظام السياسي الذي أنتجه لتشغيلها.

6 – النظام السياسي عندما يقوم بتشغيل الدولة يصبح جزءا منها، تماما مثل السائق عندما يصبح جزءا من السيارة أثناء سياقته لها.

7 – النظام السياسي غير محايد، فهو قد يبقي على حياد الدولة واستقلالها، وقد يصادرها ويصادر معها المجتمع.

ثانيا: اتجهت الحداثة السياسية إلى إنهاء التوتر القائم بين الدولة والسياسة بأن أدخلت تعديلات جوهرية على بنيان الدولة مسَّت على وجه التحديد النظام السياسي الذي خضع لإصلاحات جعلته متسقا مع حياد الدولة واستقلالها، وعندما حدث هذا  أصبحت الدولة مرنة ومنفتحة ومستجيبة دائما لحاجات المجتمع المتجددة.

ثالثا: ذهبت الحداثة السياسية في إصلاح النظام السياسي إلى عقلنة السياسة من خلال المزاوجة التي لا تنفصم بين العلمانية والديمقراطية، إذ لا ديمقراطية بلا علمانية، ولا علمانية بغير ديمقراطية.فبالعلمنة الملتحمة بالديمقراطية أمكن تحويل الدولة من مجال خاص بنخب الحكم والسيطرة إلى مجال عام لكل مواطنيها.وحيث لا تكون الدولة مجالا عاما تكون السياسة غير عقلانية، بينما تتعذر الممارسة الديمقراطية الحقيقية حين تتلاشى الحدود بين المجال العام والمجالات الخاصة وتستحوذ السلطة على الدولة.

         والمجال العام للدولة يمتد في مساحة واسعة تشمل منظومات الجيش والأمن والقضاء والجهاز البيروقراطي للدولة والتعليم المدرسي والجامعي وكل ما يصنف على أنه من أجهزة الدولة ومؤسساتها.وفي مقابل المجال العام هناك مجالات تصنف بالنسبة له كمجالات خاصة تشمل المواطن الفرد والأسرة والعشيرة والقبيلة والأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات المهنية ومنظمات المجتمع المدني وكذلك المؤسسة الدينية ودور العبادة.ومثلما يجب أن يتمتع المجال العام بمنظومة حمائية قوية ضد أي محاولة لاختراقه من قبل هذا المجال الخاص أو ذاك، فإن المجالات الخاصة يجب أن تكون هي الأخرى محمية من تغول الدولة عليها، ومن تدخل بعضها في شئون البعض الآخر.والفصل الدستوري والقانوني بين المجال العام والمجالات الخاصة هو الأساس المادي الذي بدونه يستحيل تشييد بنيان الديمقراطية. ولكن من يدير المجال العام؟ وكيف يدار؟

          سياسيا يدار المجال العام بآليات الديمقراطية التي تؤمِّن التداول السلمي للسلطة، وإداريا يدار بواسطة جهاز بيروقراطي محترف ومحايد سياسيا.وحياد الجهاز البيروقراطي للدولة لا يعني حياد الموظفين العموميين وإنما حياد الوظيفة العامة وضمان عدم تأثرها بتحيزات الموظفين العموميين.وهناك منظومة قضائية نزيهة وفعالة لحماية المجال العام والمجالات الخاصة وتشمل كل أنواع القضاء العادي، والإداري، والدستوري.

         وللديمقراطية أبعاد معرفية تفسر وتبرر آلياتها وهياكلها، وبغير التعرف عليها واستيعابها في الثقافة السياسية لأفراد المجتمع وأحزابه وتنظيماته المختلفة يتعذر انتصار الديمقراطية، وإذا انتصرت تكون هشة وعرضة للنكوص عنها.وفيما يلي عرضا مؤجزا لهذه الأبعاد:

1 -  الإجماع السياسي أمر مستحيل حتى في أكثر المجتمعات تجانسا من النواحي الثقافية والدينية والعرقية والإثنية.وحتى لا يتسبب غياب هذا الإجماع في حدوث العنف يجب التوافق على آلية عادلة وناجعة لإدارة الاختلافات بين مختلف الاتجاهات السياسية في المجتمع الواحد وتحويل أصحابها من فرقاء إلى شركاء.وهذه الآلية هي الديمقراطية التي لا ترى المشكلة في التعدد والتنوع وإنما في إنكار وجوده وعدم الاعتراف به.فالديمقراطية إذن ليست عقيدة وإنما منظومة من الإجراءات الضرورية لإدارة التنوع والتعدد الذي لا يخلو منه أي مجتمع.

2 - حاضر أي مجتمع هو دائما امتداد لماضٍ مضى وبداية لمستقبل آتٍ، وهو لهذا السبب ساحة تماس بين معسكرين كبيرين هما معسكر قوى المحافظة المشدود إلى الماضي، ومعسكر قوى التقدم المشدود إلى المستقبل.ولأن هذين المعسكرين ينتميان إلى شعب واحد في بلد واحد فمن غير الجائز أبدا الفصل بينهما بحدود صارمة وكأنهما أُمَّتان متباينتان يحكمهما قانون التنازع والاستبعاد.والحقيقة أنهما معسكران لأمة واحدة يجب أن يحتكما إلى قانون التعايش والقبول المتبادل القائم على الاعتراف بالمشتركات وتغليبها على التباينات، وذلك لأن معسكر المحافظة المشدود إلى الماضي لا يخلو من تطلعات مستقبلية، ومعسكر قوى التقدم المشدود إلى المستقبل ليس متحررا تماما من تأثيرات الماضي عليه.فالإنشداد في الحالتين هو انشداد نسبي وليس مطلقا، فضلا عن أنه انشداد متفاوت في مستوياته ودرجاته حتى داخل المعسكر الواحد.وبسبب هذا التفاوت جاء فرز قوى المحافظة إلى (يمين، ويمين اليمين، ووسط اليمين، ويسار اليمين)، مثلما تم فرز قوى التقدم إلى (يسار، ويسار اليسار، ووسط اليسار، ويمين اليسار).وعندما تكون الدولة مجالا عاما لكل مواطنيها وغير متغولة على المجالات الخاصة فإن هذا الفرز يعبر عن نفسه تلقائيا متحررا من أي خوف أو نفاق سياسي أو اجتماعي ويمكن التعرف عليه وقياسه بواسطة الاستبيانات واستطلاعات الرأي حول أي قضية خلافية ذات بعد ثقافي واجتماعي.وفي هذه الحالة يمكن ليسار اليمين أن يتقاطع ويتحالف مع يمين اليسار في قضايا معينة ويفترق معه في قضايا أخرى رغم انتماء الأول إلى معسكر المحافظة والثاني إلى معسكر التقدم.

3 - يستحيل على أي مجتمع أن يقلع بجناح واحد، وإنما بجناحين هما جناح المحافظة وجناح التقدم.وتفسير ذلك أنه في حال استبعاد وإقصاء جناح التقدم فإن عجلة التطور ستسير بسرعة بطيئة يصاب معها المجتمع بالجمود. وفي حال استبعاد وإقصاء جناح المحافظة فإن عجلة التطور ستسير بسرعة عالية لا تحتملها طاقة المجتمع الثقافية والاجتماعية والمعرفية.وفي الحالتين ستلجأ السلطات إلى القسر والعنف، ضد من يعارض الجمود في الحالة الأولى، وضد من يحتج على حرق المراحل في الحالة الثانية.والحل من وجهة نظر فلسفة الديمقراطية أن يقلع المجتمع بالجناحين معا بحيث إذا حاول جناح التقدم أن يسير بسرعة فوق طاقة المجتمع فإن جناح المحافظة يقلِّل من هذه السرعة ويضبطها عند المستوى الذي يتقبله المجتمع ويحتمله. وفي الوقت نفسه إذا حاول جناح المحافظة أن يقلع بسرعة بطيئة فإن جناح التقدم يدفعه إلى زيادة سرعته.ومن هنا جاءت فكرة التعايش والقبول بالآخر المختلف كضرورة يحتِّمها ميكانيزم تطور المجتمع وليس مجرد موقف أخلاقي، وآليات الديمقراطية هي التي تضبط هذه العملية.فما هي شروط هذا الضبط؟ وما هي آلياته؟

         تكمن شروط هذا الضبط في المزاوجة بين علمانية الدولة وديمقراطية نظامها السياسي.فبغير العلمانية يستحيل أن تكون الدولة مجالا عاما تقف على مسافة واحدة من معسكر المحافظة ومعسكر التقدم، بل ستقع حتما في محذور المفاضلة بينهما وستتحيز بالضرورة للمعسكر الذي يملك مساحة اختراق أكبر وأخطر داخل المجال العام.وعندما يقع مثل هذا فإن الدولة تكف عن أن تكون دولة مواطنة وتصبح عرضة لعدم الاستقرار.أما بالنسبة للضبط بواسطة الديمقراطية فهناك قائمة بالحد الأدنى من المقاييس التي بدونها، مجتمعة، لا يكون النظام السياسي نظاما ديمقراطيا، وهي كما يلي:

1 – أن يتمتع الشعب بالسلطة المطلقة بواسطة حقوق الإنتخاب للراشدين،على أن يكون لكل مواطن صوت واحد، أي أن يكون الاقتراع اختيارا عقلانيا للمواطن الفرد بعيدا عن أي ضغوط – بما في ذلك الضغوط التي لا يعيها – كأن تؤثر المحمولات الجهوية أو الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية على اختيارات الناخبين وتلغي تمايزاتهم الفردية.

2 – أن يكون هناك حزبان سياسيان كبيران، على أقل تقدير، لإعطاء فرصة لاختيار المرشحين في إنتخابات نزيهة تجري في مواعيد تفصل بينها مدة معقولة لضمان المحافظة على الموافقة الشعبية من خلال السيطرة الدورية للناخبين على من يحكمونهم.

3 - أن يضمن المجتمع الحريات المدنية لكل عضو فيه، وتشمل حرية القول والنشر ومصادقة الآخرين، بالإضافة إلى الحماية ضد الاعتقال والسجن دون محاكمة عادلة.

4 - أن توجه السياسة العامة نحو المصلحة العامة، وأن تسعى إلى خير الجميع إجتماعيا واقتصاديا.

5 - أن ينفذ الحزب أو الائتلاف الحائز على الأغلبية برنامجه الإنتخابي بواسطة جهاز إداري كفؤ ومحايد سياسيا.

6 – أن تقيم الدولة توازنا فعليا بين القيادة الفعلية (الحكم) والانتقاد المسئول (المعارضة).ولهذا يتحتم على الحكام أن يواجهوا دائما معارضيهم في الهيئة التشريعية، كما يجب أن يتمكن جميع المواطنين من اللجوء إلى قضاء مستقل.

7 - أن يكون ممكنا تغيير أي جزء من نظام الحكم بالأساليب السلمية، وبواسطة إجراءات متفق عليها.وهذا يقتضي أن تكون الدولة مجالا عاما حاضنا للسلطة، لا أن تكون السلطة مستحوذة على الدولة ولاغية للمجال العام.

         في ضوء ما سبق نلاحظ أن المجال العام هو الأساس المادي لأي نظام سياسي يعيد للدولة حيادها واستقلالها ويحقق التوازن بين القبول بالتغيير السلمي على مستوى نخب الحكم وتحقيق التحسينات على مستوى المجتمع. وحيث لا يتحقق هذا التوازن يتضارب الجهاز الحكومي مع القوى المولدة في العملية السياسية وينشأ التوتر بين السياسة والدولة، الأمر الذي يفضي إلى قيام ثورة عنيفة.ومن هنا نشأت الحاجة إلى نظام سياسي يزيل هذا التوتر.وهذا النظام هو الديمقراطية.

            والحقيقة البارزة التي تشكل جوهر الديمقراطية يمكن ملاحظتها بسهولة في تاريخ الديمقراطيات الحديثة، حيث انتفت الحاجة إلى الثورات العنيفة في هذه الدول، لأن النظام الدستوري يسمح بتغيير منظم على مستوى النخب وعلى مستوى النظام.وما لم يتسم النظام السياسي بالقابلية للتغيير السلمي المنظم فإنه يكف عن أن يكون ديمقراطيا. وتعود مقدرة الديمقراطية على تأمين التغيير السلمي إلى جذورها الثورية، الأمر الذي وفر دفعا فكريا مستمرا لصالح التغيير والتوفيق.فما هي هذه الجذور؟ وكيف نشأت؟

           تعود الجذور الثورية للديمقراطية إلى متغيرين كبيرين أحدهما إجتماعي والآخر سياسي.وقد تمثل المتغير الاجتماعي في الإطاحة بتقاليد القرون الوسطى الإقطاعية التي كانت تمنح الجماعة وزنا أكبر من الفرد.وبفضل هذا المتغير أصبحت العلاقة بين الدولة والمواطن الفرد علاقة مباشرة لا تحتاج إلى أي شكل من أشكال الوساطة.فقيمة المواطن تكمن في ذاته وفيما يحسنه ويجيده، وليس في الأسرة أو الجماعة التي ينتمي إليها.وهذه القيمة قابلة للقياس الموضوعي الذي يحدد أهميتها للدولة وللمجتمع وللتنمية الشاملة والمستدامة. أما المتغير السياسي فقد تمثل ببروز مبدأ " التمثيل " الذي نقل الفكر الديمقراطي من مفهوم الدولة المدينية عند قدماء الإغريق إلى مفهوم الأمة الحديثة في الغرب المعاصر.وخلف هذين المتغيرين وقفت قيم ومثل فلسفية كبرى داعمة لهما كالحرية والمساوة.وقد تفاعلت كل هذه المعطيات في عملية سياسية أسفرت عن تحول نوعي في تاريخ البشرية إنتقل بها من أزمنة العصور الوسطى إلى العصر الحديث.ومن بين المبادئ الداعمة للديمقراطية نشير إلى ما يلي:

1 – مفهوم مساواة جميع البشر في الكرامة، بصرف النظر عن الجماعة التي ينتمي إليها الفرد.

2 – الإيمان بقيمة النقاش للوصول إلى إتفاق. فالحقيقة نسبية لا يمكن لأي طرف أن يدعي احتكارها وامتلاكها كلها دون غيره.

3 – الإصرار على أن للأفراد حقوقا لا يمكن للحكومة أن تحرمهم منها.

4 – الحكومة تستمد سلطاتها الشرعية من موافقة المواطنين الأحرار.

5 - المصلحة العامة هي التي تحددها الإرادة الشعبية.

         وقد أدى ذلك إلى انبعاث ديمقراطي اتسع معه مفهوم الحرية ورتب للأفراد منظومة متكاملة من الحقوق نذكر منها:

1 -  حق التصويت وحق السعي إلى المناصب الرسمية وحق الحصول على تعويض قانوني عن الأضرار.

2 -  حرية القول والنشر دون رقابة أو قمع حكومي.

3 - حق العبادة على أي مذهب ديني أو عدم العبادة إطلاقا.

4 -  حق التعليم بواسطة الأموال الحكومية.

5 – حق الضمان ضد المرض أو البطالة أو الترمل.

6 – حق الضمان ضد الأمور المحتَّمة كالشيخوخة والموت.

         ومن السهل جدا ملاحظة الصلة القائمة بين هذه الحقوق وبين الحرية السياسية.فهذه الحرية تتضاءل في المجتمع الذي يطلب من جميع الأشخاص العبادة بنفس الطريقة كشرط للمواطنة، كما تتضاءل في المجتمع الذي يحرم بعض المواطنين من التعليم الذي يتيح لهم فهم القضايا المطروحة للنقاش وممارسة حرية إختيار واعية، أو الذي يحد من فرص المشاركة السياسية بإشاعة الفقر والخوف والتمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللغة أو المعتقد.ومعنى هذا أنه لا يمكن إقامة الديمقراطية في النطاق السياسي ما لم تكن متوازية مع المجتمع.

         أخيرا : في سياق عرضنا للتوتر بين السياسة والدولة لاحظنا كيف استطاعت الديمقراطية، من خلال المزاوجة بينها وبين العلمانية، أن تشكل نظاما سياسيا يعيد للدولة حيادها واستقلالها وأن يجعل منها دولة مرنة تستجيب لقانون التطور دون إبداء أي مقاومة.كما لاحظنا أن الديمقراطية تكون هشة ومشوهة ما لم تتجاوز النطاق السياسي إلى النطاق المجتعي.ولمزيد من التعرف على الطبيعة الثورية للديمقراطية سنفترض شعبا ما يعيش في جزيرة ما حيث  60 % من السكان أميون، وأن الشعب كله متجانس عرقيا وثقافيا وعلى دين واحد ومذهب واحد، وأن النخب في هذه الجزيرة توافقت على دولة ذات نظام سياسي ديمقراطي قائم على الفصل بين المجال العام والمجالات الخاصة، وأن النخب السياسية اصطفت في حزبين كبيرين للتنافس على تداول السلطة سلميا هما حزب المحافظين وحزب التقدم، وأن حزب التقدم يسعى إلى المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات وتطبيق نظام التعليم المختلط واعتماد قانون للأسرة يحدد سن الزواج ب 18 عاما ويمنح الزوجة حقوقا مادية ومعنوية تحفظ لها كرامتها الإنسانية كمواطن يعيش في القرن الواحد والعشرين، وأن الحزب المحافظ يعارض كل ذلك مراهنا على ارتفاع منسوب الأمية وعلى الثقافة الذكورية السائدة والنظرة الدونية للمرأة.والسؤال: هل يستطيع حزب التقدم أن ينتصر لبرنامجه ويحققه سلميا؟والجواب: نعم، ولكن بالشروط التالية:

1 – أن يكون الشعب، فعلا وليس قولا، صاحب السلطة ومصدرها.ومعنى ذلك أن الشعب هو القاضي المخوَّل بإصدار الحكم، بينما الحزبان المتنافسان هما الخصمان اللذان سيترافعان أمام القاضي وسيقبلان بحكمه دون قيد أو شرط.وفي هذه الحالة يجب أن يكون القاضي مؤهلا لفهم مرافعات الحزبين ومحمياً من كل الضغوط المادية والمعنوية التي يمكن أن تؤثر على سير العدالة.وهذا يقتضي من حزب التقدم أن ينخرط بقوة وبغير كلل أو ملل في المجهود الوطني الطوعي لمحو الأمية وتعليم الكبار وفقا لبرنامج حكومي ينتمي إلى المجال العام.وبهذه الطريقة سيجد حزب المحافظين نفسه مضطرا للمشاركة في هذا المجهود والتخلي التدريجي عن المراهنة على أمية الناخبين. 

2 – أن تقف الدولة على مسافة واحدة من الحزبين المتنافسين وأن تؤمن لهما فرصا متساوية للوصول إلى القاضي (الهيئة الناخبة) والتخاطب معه وإقناعه.وهذا يقتضي أن تكون الدولة مجالا عاما مؤهلا لإنتاج بيئة انتخابية مُسيَّجة بالعدالة والشفافية والنزاهة.

3 – أن ينظر الحزبان المتنافسان إلى بعضهما البعض على أنهما جناحان لطائر واحد، وأن كل منهما مؤسسة وطنية لا غنى للمجتمع عنها، وأن العلاقة بينهما يجب أن تكون تنافسية تكاملية لا عدائية تناحرية، وأن في قوتهما معا قوة للمجتمع وفي ضعف أحدهما إضعاف له.

4 – أن تكون غاية حزب التقدم من وراء برنامجه هو إصلاح منظومة المجتمع وليس الوصول إلى السلطة. أي أن ينظر هذا الحزب إلى السلطة على أنها أفضل وسيلة لتنفيذ برنامجه، وليست غاية في حد ذاتها.وما لم يفكر حزب التقدم بهذه الطريقة فسوف يقع، بعد أول جولة انتخابية يفشل فيها، في محذور الانتهازية السياسية والتراجع عن برنامجه الذي لم يحظَ بالقبول الشعبي بعد.

5 – أن يكون خطاب الترافع أمام القاضي (الهيئة الناخبة) خطابا عقلانيا خاليا من التسفيه والتحقير والتشهير والتكفير والتخوين.وأن يكون الحزب الذي لا يلتزم بآداب الترافع عرضة للعقاب من القاضي (الهيئة الناخبة) بواسطة التصويت، ومن الدولة بواسطة القضاء.

         وعلى افتراض أن العملية الانتخابية الأولى جرت في ظل هذه الشروط، وأن حزب التقدم حصل على 30 % من أصوات الناخبين، بينما ذهب 70 % من الأصوات لصالح حزب المحافظة.فمعنى ذلك أن حزب التقدم أراد أن يقلع بسرعة لا تتحملها طاقة المجتمع المعرفية والثقافية والاجتماعية، وأن حزب المحافظة أعاق هذه السرعة وحمى المجتمع من التوتر والاستياء الذي كان يمكن أن تحدثه.وفي هذه الحالة على حزب التقدم أن يحترم إرادة الهيئة الناخبة (حكم القاضي)، وأن يستأنف نشاطه لترقية المجتمع ورفع طاقته المعرفية والثقافية والاجتماعية ابتداء من اليوم التالي على ظهور نتائج الاقتراع.وعلى افتراض أنه فعل هذا وحصل في الموسم الانتخابي التالي على 25 % من الأصوات فعليه أن يراجع طرائق اشتغاله مع المجتمع وأن يفتش عن نقاط الضعف في خطابه الإقناعي، دون أن يلقي باللائمة على المجتمع أو على منافسه الحزب المحافظ.وعلى افتراض أنه سار على هذا النحو وحصل في الموسم الانتخابي السادس على 60 % من الأصوات فمعنى ذلك أنه حسَّن طرائق اشتغاله مع المجتمع وطور خطابه الإقناعي واستطاع أن يرفع طاقة المجتمع المعرفية والثقافية والاجتماعية إلى مستوى برنامجه.وفي هذه الحالة على الحزب المحافظ أن يحترم إرادة الهيئة الناخبة (حكم القاضي) وأن يراجع طرائق اشتغاله وخطابه الإقناعي لمضاعفة سرعته.وهكذا يكون ميكانيزم التطور الطبيعي والسلمي في ظل الديمقراطية.

         أما إذا سلك حزب التقدم مسلكا مغايرا عند حصوله على 25 % من الأصوات وقرر أن ينافق المجتمع بالتخلي عن برنامجه الذي بدا حينها أكبر من طاقة المجتمع فإنه في هذه الحالة لن يكون " حزب التقدم" وسيُنظر إليه على أنه حزب انتهازي يتملق المجتمع للوصول إلى السلطة.والتملق هو من سمات أحزاب المحافظة التي تساير تقاليد الماضي وتختار أسهل الطرق للوصول إلى السلطة وتهتم بما يريده المجتمع في لحظة ما وليس بما يحتاجه في تلك اللحظة، والفرق كبير بين هذه وتلك..وخلاصة الخلاصة: الشعب المستنير المدرك لمعنى الديمقراطية وأهميتها هو أول وأهم شروط انتصارها.والنضال الحقيقي من أجل الديمقراطية يبدأ من الاشتغال مع المجتمع.

قناة الاشتراكي نت تليجرام _ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة

https://web.telegram.org/#/im?p=@aleshterakiNet

قراءة 2595 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة