القضية الجنوبية وسؤال الهوية (7)

الأحد, 15 حزيران/يونيو 2014 22:13
قيم الموضوع
(0 أصوات)

عاتبني كثير من القراء حول تناول الوضع بعد 1994م في الجنوب وقال البعض منالمعلقين عبر المواقع  الإلكترونية أو عبر بريدي الإلكتروني إنني أحاول تصوير الوضع وكأنه كان نعيما قبل الحرب ليتحول إلى جحيم بعدها، واتهمني البعض بدعم الانفصال من طرف خفي بينما اتهمني آخرون بالعمالة لنظام صنعا والرهان على النظام الحاكم من خلال الرهان على الوحدة  التي "ماتت وشبعت موتا بفعل حرب 1994م"، كما قال أحدهم، ولأنني  لست بصدد الرد على كل ما يقوله المعلقون والمتصلون، فإنني وجدت أنه من المهم التوقف عند بعض الملاحظات الوجيهة والمكتوبة بلغة المنتقد والمحاور ولن نتناول الشتائم والاتهامات والتهكمات فتلك ليست من السياسية والفكر في شيء.

لم يقل أحد أن الوضع في الجنوب قبل حرب 1994م كان ملائكيا فللحكم السابق نواقص كثيرة مثل كل أنظمة الحكم في العالم النامي، لكننا عندما نقول أن التعليم كان مجانيا وإجباريا ونوعيا، وإن الخدمة الطبية كانت مجانية وحق لكل مواطن، وإن مركز الشرطة والمحكمة كانا ملاذا لكل من يتعرض للظلم وإن الماء النقي والكهرباء كانا شبه مجانيين ومتوفرين على مدى الأربع والعشرين الساعة في كل  المدن الجنوبية، وإن هيبة الدولة كانت حاضرة بفعل العدل والنزاهة وإن الرشوة كانت جريمة يحتقرها الإخلاق قبل أن يحاسب عليها القانون وعندما نقول أن عامل النظافة كان يحظى بنفس الحقوق التي يحظى بها أي  قائد أو مسئول أو سياسي وأن أحدا لم يكن يتميز بشيء عن غيره من المواطنين، وعندما نقول أن  كل هذه المزايا التي وحدت الناس وجعلتهم يشعرون بالانتماء إلى هذا لمجتمع قد انهارت بعد حرب 1994م فإننا نقول حقائق لا نأتي بها من وحي الخيال بل من الوقائع المعاشة على الأرض، ومن أراد  أن يبرهن  على العكس فليقل  لنا ما لديه.

أما قضية الموقف من الانفصال أو الرهان على الوحدة "التي شبعت موتا"  فلست بحاجة إلى إعادة ما سبق وإن أكدته عشرات المرات، وهو إن الانفصال الفعلي قد بدأ يوم 7/7/1994م يوم بدأ تقسيم المواطنين        اليمنيين إلى منتصرين ومهزومين، ومن ثم إلى سالبين ومسلوبين وناهبين ومنهوبين، أما ما تلا ذلك فليس سوى تداعيات لهذا الانفصال وهو يعني ما أكدناه عشرات المرات أن وحدة 7/7 ليست سوى وحدة المنتصرين الذين هم السالبين والناهبين والمغتصبين، ولأن الشعب الجنوبي كله كان الطرف المهزوم في هذه الحرب العبثية، وهو تبعا لذلك المسلوب والمنهوب، فإنه ليس طرفا في هذه الوحدة، وإذا كان لابد من مساءلة أحد ما وتحميله المسئولية فإن المساءلة والمسئولية تقعان على من دمر الوحدة وحولها إلى مظلة لكل جرائمه التي ارتكبها وما يزال يرتكبها على مدى ربع قرن من الزمان بحق الجنوب والجنوبيين حتى أصبح كل جنوبي يشعر بأنه لا ينتمي إلى هذا البلد إلا بوجوده الحسي على الأرض فقط، .   . .  الأرض التي لا يتوفر له عليها أي  شرط من شروط الحياة إلا الفتات مما يفيض عن حاجة اللصوص وأبطال السلب  والنهب، بينما ينفصل عنها في كل شيء.

وبالعودة إلى بعث وإحياء العلاقات القبلية والمناطقية في الجنوب بعد  1994م يرى بعض المنتقدين أن هذه الظاهرة جاءت بتشجيع ودعم من السلطة لغرض تفكيك الجنوب وتثبيت سطوتها على أبنائه عبر القادة القبليين الذين يرتبطون مباشرة بالجهاز الأمني الذي يتكفل بمخصصاتهم، وهذا القول لا يخلو من الصحة لكن هذا لم يكن ليحصل لو لم يفقد الناس الرابطة الأساسية التي ظلت تربطهم ببعضهم في ظل دولة الاستقلال، فالدولة الجنوبية ما قبل 1990م لم تكن مجرد جهاز لتسيير شئون البلد بل ظلت عبارة عن أداة للتعبير عن المصالح الحيوية والرئيسية للسواد  الأعظم للسكان في الجنوب وفي ظل هذه الدولة غاب التسول وانكمشت مساحة البطالة والفقر ولم يكن بمقدور كائن من كان أن يخالف القانون ويتحجج بتفوقه الاجتماعي أو مكانته المميزة في التراتبية المجتمعية وبرغم شحة الموارد فقد غابت الحاجة والإملاق واختفت الكثير من الأمراض والأوبئة التي عادت إلى الظهور بعد 7/7، وقد شكل غياب هذه الدولة بفعل تدميرها المقصود والمتعمد فراغا كبيرا جاءت الأشكال التقليدية لتحاول أن تملأه، . .ومع ذلك لا يمكن إنكار أن بعث الهويات الصغيرة (المناطقية والقبلية والعشائرية ) قد جاء بتظافر الحاجة الموضوعية التي فرضها انهيار الدولة  في الجنوب وسياسة تغذية هذا النوع من العلاقات وتدعيمها من قبل سلطة 7 يوليو لتكون بديلا ضعيفا ومشوها لدولة الوطن والمواطن التي مثلتها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

هناك مفارقة كبيرة يشهدها الجنوب في السنوات الأخيرة وخصوصا بعد اندلاع الثورة السلمية الجنوبية في العام 2007م تلك هي اشتداد التمسك بالهوية الجنوبية والتباهي بها والدعوة إلى استعادتها بعد أن حاول أبطال حرب 1994م القضاء  عليها وتغييبها، وهذا التمسك والإصرار على استدعاء هذه الهوية يفوق نظيره قبل 1994م، وحتى قبل 1990، وبمعنى آخر إن الحديث عن الهوية الجنوبية لم يكن له ذلك الحضور في خطاب المواطنين والسياسيين الجنوبيين قبل 1990 م كما هو اليوم بينما كانت الهوية كحقيقةٍ قائمةٍ أمرا حاضرا على الأرض أكثر من حضورها في لغة الناس وأذهانهم، ويمكننا القول أن السبب الرئيسي في هذه الحالة هو إن المواطنين والسياسيين الجنوبيين لم يكونوا منشغلين بهذه القضية قبل الانضمام إلى الشمال فالقضية حاضرة ومؤكدة ومثبته في الوعي والقانون والممارسة الحياتية وكما يقال "المؤكد لا يحتاج إلى التأكيد"، لكن المواطنين والقادة السياسيين الجنوبيين لم يلتفتوا إلى هذه القضية  إلا بعد أن افتقدوها، ومن  حيث اعتقد المنتصرون أنهم قد مسحوا هذه الهوية من الوجود فإنهم قد عملوا على بعثها بمحاولتهم طمسها وتغييبها، فجاءت مقاومة الناس لتغييب الهوية لتؤكد تمسك الناس بهويتهم الأصلية ورفضهم التخلي عنها واستحضارها في وعيهم ومشاعرهم حتى وإن غيبت عواملها المادية وبنيتها المؤسسية.

وبمقابل هذا هناك مفارقة ثانية تتمثل في تزامن التمسك بالهوية الجنوبية الجامعة رغم ضعف عواملها المؤسسية والمادية مع حضور غير هين للهويات  الصغرى (القبلية والمناطقية) وهذا أمر مفهوم إذ إن الهويات الفرعية أو الصغرى لها حضورها المادي ولها بنيتها (وإن كانت مشوهة) والتي تفعل فعلها في مصالح الناس رغم فشلها في القيام بوظيفة الهوية الأم نظرا لاعتمادها على النسخة المقلدة الوافدة بعد 7/7 بيد إنه لا يمكن إنكار ما لهذا الحضور من فعل وتأثير على الهوية الجنوبية الجامعة وهو ما يعني إن الهويات الفرعية ستظل زمنا معينا قائمة حتى بعد الحل النهائي للقضية الجنوبية واستعادة الهوية الجنوبية معنويا ومؤسسيا وماديا.

برقيات:

*    لم أكن أتمنى أن تتعرض قناة وصحيفة "اليمن اليوم" لما تعرضت له من اقتحام ومصادرة للأجهزة وأدوات العمل رغم اختلافنا مع نهجها ومع من  يمولونها ويستخدمونها، وكم تمنيت لو أن المقتحمين أحضروا أمرا من النائب العام بتفتيش مقر القناة وإيقاف علمها ليثبتوا أن النظام قد تغير واختلف عما قبل 2011م.

*    لا أرغب في التدخل في شئون حزب البعث العربي الاشتراكي قطر اليمن، لكن قرار فصل كل من الزميلين نايف القانص ومحمد الزبيري يحمل جملة من المدلولات والمعاني: أرجو أن لا يكون من بينها محاسبتهم علة تأييدهم لجبهة حماية  الثورة وتبنيهم خطا معارضا لحكومة الوفاق الوطني لتي تضم عضويتها الأمين العام للحزب د عبد الحافظ نعمان.

*     يقول الشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش:

يا سيّدي السلطانْ

لقد خسرتَ الحربَ مرتينْ

لأنَّ نصفَ شعبنا، ليسَ لهُ لسانْ

لأنَّ نصفَ شعبنا محاصرٌ كالنملِ والجرذانْ

لقد خسرتَ الحربَ مرتينْ

لأنكَ انفصلتَ عن قضيةِ الإنسانْ

 

قراءة 1316 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة