الدولة من مدخل الاجتماع المدني

الأحد, 17 آب/أغسطس 2014 21:07
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

الدولة ظاهرة تاريخية، وتاريخ تطورها منذ انبثاقها هو تاريخ تطور نضجها المدني، وعندما بان عليها هذا النضج وصار سمتها الأكثر بروزا قيل عنها دولة تنموية، ودولة قانونية، ودولة مواطنة، ودولة سياسية، ودولة ديمقراطية، ودولة تضامن مجتمعي، ودولة حريات، ودولة مساواة، ودولة مؤسسات...الخ، في إشارة إلى أن هذه الدولة تحديدا هي الدولة المدنية، وأن كل أنماط الدولة السابقة عليها في التاريخ لم تكن كذلك..ومن ثم من غير الجائز الحديث عن دولة مدنية لم تجتمع فيها هذه السمات.

وبما أن الدولة تعريفا هي التنظيم السياسي للمجتمع فإن نضج مدنيتها هو متغير تابع لنضج مدنية الاجتماع المدني الذي نشأت لتعبر عن نظامه وانتظامه، والحديث عنها، في أي مرحلة من مراحل تطورها، هو ضمنا حديث عن قرابة ورهان الاجتماع المدني في تلك المرحلة..وتاريخ الإنسان لم يعرف سوى ثلاثة أنماط من الاجتماع: عائلي، وعشائري قبلي، ومدني..وبما أن الاجتماع المدني هو مدخلنا للحديث عن الدولة فلابد أن نتعرف أولا على ماهية هذا الاجتماع من خلال المقارنة بينه وبين الاجتماعين العائلي والعشائري القبلي.

الاجتماع العائلي:

العائلة اجتماع قرابي قائم على رابطة الدم..والقرابة بين أفرادها قرابة طبيعية غير مختارة وغير مفكر بها، لأن الإنسان لا يختار أبويه..والعائلة مؤتمنة على أبنائها أخلاقيا وليس قانونيا..وهي لهذا السبب مفهوم أخلاقي وليس مفهوما سياسيا..ولحفظ نوعه وضمان التهدئة بين أفراده كان رهان الاجتماع العائلي دائما رهانا أخلاقيا لا يحتاج إلى تدخل القانون، سواء تعلق الأمر بالتنشئة أو بتوزيع الأدوار..ومن بديهيات الأشياء أن هذا النوع من الاجتماع لا يفضي أبدا إلى نشوء دولة، لأنه لا يحتاج إليها من أجل تنظيم شئونه..فالعائلة وجدت قبل الدولة وعاشت بدونها..لكن عندما ظهرت الدولة كنتاج لتبلور الاجتماع المدني بدأ تدخل القانون تدريجيا في شئون الأسرة..وهذا ليس إلا من تأثيرات الاجتماع المدني عليها بحكم انتمائها إلى فضائه وحاجته إلى تكييفها على النحو الذي يستجيب لقرابته ورهانه.

الاجتماع العشائري القبلي:

الاجتماع العشائري القبلي هو الآخر اجتماع قرابي قائم على رابطة الدم..والقرابة هنا هي أيضا قرابة طبيعية غير مختارة وغير مفكر بها لأن الإنسان لا يختار عشيرته وقبيلته..وهذا النوع من الاجتماع لا ينتج القانون مهما استطال به الزمن، وإنما ينتج الأعراف..ومعنى ذلك أنه لم ولن ينتج السلطة السياسية ولا الدولة وإنما أنتج السلطة الإجتماعية لشيوخ العشائر والقبائل..إنه إذن إجتماع ينتمي إلى ما قبل ظهور الدولة..ومن أجل تنظيم شئونه وحفظ التهدئة بين أفراده وجماعاته راهن الاجتماع العشائري القبلي دائما على أعرافه وعلى السلطة الاجتماعية لشيوخ العشيرة والقبيلة..وهذا أيضا رهان أخلاقي وليس رهانا سياسيا.

والاجتماع العشائري القبلي هو بالضرورة اجتماع عصبوي في مواجهة الاجتماعات العشائرية القبلية المناظرة له..وعندما تنبثق الدولة في بيئة مكتظة بالعصبيات العشائرية القبلية فإنها لا تنبثق عن هذا النوع من الاجتماع وإنما عن اجتماع مدني، تشكَّل كعصبية جديدة نوعيا، غالبا ما يعتريه الضَّعف بمجرد نجاحه في تعميم الدولة وفرض سلطتها على محيطه العشائري القبلي..فالدولة عندما تعم تستوعب العصبيات العشائرية القبلية في كيانها دون أن تقوى على صهرها وإذابتها كليا في العصبية الجديدة..وما يحدث بعد ذلك، في الغالب، هو أن تستأثر عصبية قبلية قوية أو تحالف عصبيات بالدولة..وحينها تتعالى الدولة على المجتمع وتتحول إلى قوة قهرية..وهنا تكمن جذور عدم الاستقرار والحروب الداخلية..وإذا تمكنت عصبية طامحة من الإطاحة بعصبية حاكمة والحلول محلها فإن هذا لا يغير من نمط الدولة المتعالية والقهرية.

وخلاصة القول: إن العصبيات العشائرية القبلية لا تنتج الدولة، لكنها تهيمن عليها عندما توجد وتحولها بالضرورة  من فضاء مساواتي لم تتوفر له موضوعيا شروط الثبات والاستمرار إلى فضاء عصبوي تهيمن فيه السلطة على الدولة وتنفيها..والهيمنة مهما كانت قبضتها فإنها، عاجلا أو آجلا، تستدعي شروط تفكك الدولة الواحدة أو انهيارها..وحدث هذا على نحو خاص في البلدان التي لا يكون فيها التفاعل بين الجغرافيا والتاريخ قويا بما فيه الكفاية.

الاجتماع المدني:

الحديث عن الاجتماع المدني هو حديث عن نوع مختلف من القرابة لا تقوم على رابطة الدم..إنها قرابة نوعية مختارة ومفكر بها تجعل الناس، أفرادا وجماعات، يتجاوزون قراباتهم الطبيعية الموروثة ويندمجون في قرابة جديدة نوعيا في إطار المدن التي نشأت تاريخيا بالتلازم مع نشوء هذا النوع من الاجتماع..ومن المدينة استمد الاجتماع المدني تسميته.

وإذا كانت القرابة في الاجتماعين العائلي والعشائري القبلي ثابتة فإنها في الاجتماع المدني قرابة متغيرة تبعا للتغير في النظام المعرفي الذي يصوغ العقل الجمعي وطرائق تفكيره واستدلالاته ومحاكماته..وإذا كانت التهدئة وحفظ النوع في الاجتماعين العائلي والعشائري القبلي قد قامت وتقوم دائما على رهان أخلاقي ثابت فإن رهانات الاجتماع المدني رهانات متغيرة تبعا للتغير في نوع القرابة..ونمط الدولة متغير تابع لهذا الرهان..فكلما تغير رهان الاجتماع المدني تغير نمط الدولة المعبرة عن نظامه وانتظامه.

رهان الاجتماع المدني:

على ماذا راهنت الاجتماعات المدنية حتى ضمنت لنفسها التهدئة العامة التي حققت لأفرادها وجماعاتها الأمن والسلام والاطمئنان على النوع ومكنتها من الإنخراط في تشييد العمران وإبداع الحضارات القديمة والوسيطة والحديثة؟..سيقول أكثر الناس: راهنت على الدولة باعتبارها التنظيم السياسي للمجتمع..فالدولة هي التي تسن القوانين الملزمة للناس وهي التي تملك أدوات القسر والإكراه التي تضمن "إحترامها" من قبل الأفراد والجماعات..والحقيقة أن الدولة ليست هي الرهان.

إن الحديث عن الرهان ليس حديثا عن الدولة وإنما عن مكوِّن جوهري في الدولة هو الذي يصوغ نمطها وعلاقتها بالاجتماع المدني..فالرهان "عقد اجتماعي" ضمني لم تتوفر شروط كتابته إلا في مرحلة متأخرة من تطور الدولة توفرت فيها فعليا – وليس فقط نظريا - شروط التزامها وإلزامها بهذا العقد كمؤشر على بدايات نضجها المدني..والعلاقة بين الرهان ونمط الدولة علاقة سببية يبرز فيها نمط الدولة كمتغير تابع لمتغير مستقل هو رهان الاجتماع المدني..وكلما تغير مضمون الرهان تغير نمط الدولة وتغيرت قوانينها..فالدولة لا تستطيع أن تسن قوانين مصادمة صراحة لرهان الاجتماع المدني..كما ليس بمقدور رأس الدولة – بما في ذلك الفرعون– أن يأتي بقول أو فعل يصادم صراحة هذا الرهان..والفروق التي نراها بين المصري القديم الذي يقدس "الملك الإله" أو الفرعون، والمسلم الوسيط الذي لا يجيز الخروج على الحاكم الظالم إلا إذا ظهر منه كفر بواح، والأوروبي الحديث الذي يعتبر رئيس الدولة موظفا عموميا ملزما باحترام القوانين مثله مثل أي مواطن، هي فروق بين الرهانات التي قام عليها الاجتماع المدني في مصر القديمة والعالم الإسلامي في العصر الوسيط وأوروبا الحديثة.

إننا هنا أمام ثلاثة أنواع من الاجتماعات المدنية اختلفت في نوع القرابة وفي نوع الرهان المطابق لها..وتبعا لاختلاف الرهان إختلفت العلاقة بين الحاكم والمحكوم..واختلاف هذه العلاقة يعبر عن نشوء فروق جوهرية طرأت على نمط الدولة في الحالات الثلاث..وهذا يعني أن الحديث عن الدولة المدنية هو في المقام الأول حديث عن قرابة ورهان اجتماعها المدني المختلف نوعيا عن قرابات ورهانات الاجتماعات المدنية السابقة عليه..وأبرز ما يميز رهان الاجتماع المدني في ظل الدولة المدنية الحديثة هو أنه لأول مرة في التاريخ يصبح رهانا مكتوبا في صيغة عقد اجتماعي عقلاني ملزم لطرفيه.

الرهان وعلاقته بالنظام المعرفي السائد:

قلنا إن نمط الدولة متغير تابع لمتغير مستقل هو رهان الاجتماع المدني على التهدئة وحفظ النوع..فكلما تغير الرهان تغير نمط الدولة تبعا لذلك..ولمعرفة الكيفية التي تتحقق بها هذه العملية علينا ملاحظة حركة خمسة متغيرات مترابطة سببيا ومرتبة زمنيا ومنطقيا على النحو التالي:

1 -  متغير التحولات في البناء التحتي للمجتمع (الوجود الاجتماعي)

2 -  متغير التحول في النظام المعرفي (الوعي الاجتماعي)

3 - متغير المشترك القرابي الذي يوحِّد الاجتماع المدني.

4 - متغير الرهان الذي تواقع عليه الاجتماع المدني لحفظ النوع وضمان التهدئة العامة.

5 - متغير نمط الدولة "المطابق" لرهان الاجتماع المدني.

وكل متغير هو نتيجة للمتغير السابق عليه وسبب للمتغير اللاحق له..أما المتغير رقم واحد فله أسباب ومحركات تقع في صلب اهتمام التفسير الاقتصادي للتاريخ الذي أكد على أن أسلوب انتاج الخيرات المادية هو العنصر الحاسم في تطور المجتمعات البشرية والتحولات النوعية التي تطرأ على بناها التحتية ووجودها الاجتماعي..وطبقا لهذا التفسير: " كل وجود اجتماعي ينتج وعيه الاجتماعي الخاص به والمطابق له"..ويشير " الوعي الاجتماعي " هنا إلى "النظام المعرفي" الذي يصوغ عقل الإنسان بما هو أداة التفكير والاستدلال والمحاكمات العقلية، أي بما هو فاعلية متحركة ومتغيرة، وليس مجرد وعاء للمعلومات والحقائق والمعارف..والعقل بهذا المعنى متغير تابع لمتغير الثقافة التي يتشكل فيها وبها النظام المعرفي..وتبعا للتحولات التي شهدتها البنى التحتية للمجتمعات البشرية عرف تاريخ الإنسان أربعة أنظمة معرفية تنتمي إلى أربعة عصور توالت في التاريخ على النحو التالي :

1 - النظام المعرفي لعصر الأسطورة..والسيادة فيه للتفكير الأسطوري الإحيائي.

2 - النظام المعرفي لعصر الإيمان..والسيادة فيه للتفكير الديني.

3 - النظام المعرفي لعصر العقل..والسيادة فيه للتفكير الفلسفي التأملي.

4 - النظام المعرفي لعصر العلم..والسيادة فيه للتفكير العلمي.

وسوف نلاحظ أن الاجتماع المدني في كل عصر من هذه العصور قام على قرابة مختلفة أنتجت رهانا مختلفا ونمط دولة "مطابق " للرهان..ومعنى ذلك أننا أمام أربعة أنماط من الدول هي على التوالي:

1 - نمط الدولة العبودية في عصر الأسطورة..والدولة الفرعونية في مصر القديمة أنموذجا لها.

2 - نمط الدولة الإقطاعية في عصر الإيمان..والإمبراطورية الرومانية المقدسة والخلافة الإسلامية أنموذجان.

3 - نمط الدولة البرجوازية في عصر العقل..والدولة القومية في أوروبا الحديثة أنموذجا.

4 - نمط الدولة في عصر العلم..والدولة المدنية الحديثة في الغرب المعاصر أنموذجا.

والملاحظ هنا أننا نفرِّق في الدولة بينها كثابت وبين نمطها كمتغير بتغير العصور..فنمط الدولة في كل عصر يكون بالضرورة "مطابقا" لقرابة ورهان الاجتماع المدني في ذلك العصر..وقد وضعنا كلمة "مطابقا" بين مزدوجين لنعطي هذه المفردة معنى ليس هو بالدقة معناها الدلالي المباطن لها..إن ما نقصده بمطابقة الدولة لرهان الاجتماع المدني هو دخول هذا الرهان كعنصر جوهري في مكوِّنات كيانها يستحيل عليها بدونه أن تكون لها المشروعية التي تحتاجها لإضفاء الشرعية على تصرفاتها..فالرهان هو ما يريده الاجتماع المدني من الدولة وما يتوقعه منها كعقد اجتماعي ضمني في ظل النظام المعرفي الذي يمارس سلطته على العقل الجمعي..لكن هذا لا يعني أن الدولة كانت دائما صارمة في إخلاصها لهذا الرهان..فالغالب عليها هو التحايل عليه مادامت دولة قهرية ومتعالية على المجتمع.

ولمقاربة ذلك نستحضر القاعدة الفقهية الشهيرة عند أهل السُّنة التي تقول ب"عدم جواز الخروج على الحاكم الظالم إلا إذا ظهر منه كفر بواح"..فالكفر البواح هنا هو خروج صريح على رهان الاجتماع المدني الذي قام على إجماع ديني وشيَّد الدين قرابته..وهذا من المستحيل أن يحدث، لأنه يتجاوز "الخيانة العظمى"، حسب التعبير المعاصر، إلى تهديد كيانية المجتمع ومعنى وجوده..وعلى افتراض حدوثه فإن الحاكم لن يفقد شرعيته فقط، وإنما حياته أيضا..ولهذا لم يفعل الفقهاء الذين صاغوا تلك القاعدة شيئا، من الناحية العملية، سوى أنهم كرسوا شطرها الأول (عدم الخروج على الحاكم الظالم)، أما شطرها الثاني (إلا إذا ظهر منه كفر بواح) فليس له أي قيمة عملية غير الاحتيال على الاجتماع المدني لتمرير وتبرير الشطر الأول..إننا مع هذه القاعدة أمام مقايضة قامت على إقناع الاجتماع المدني بالصبر على ظلم الحاكم مقابل أن يظهر الحاكم إلتزامه الشكلي باحترام رهان الاجتماع المدني.

إن القاعدة الفقهية المذكورة هي صياغة متحايلة على رهان الاجتماع المدني، الذي شيَّد قرابته على الاخوة في العقيدة "إنما المؤمنون إخوة"، قياسا إلى القاعدة التي صاغها الخليفة الأول أبو بكر الصديق عندما قال:" أطيعوني ما أطعت الله فيكم"..فالصدِّيق هنا عبَّر عن ضمير الاجتماع المدني، وعن ما يتوقعه هذا الاجتماع من الحاكم..وبما أن الاجتماع المدني قام على إجماع ديني فإن الظلم الواقع من الحاكم هو عمليا خروج على الدين الذي أمر بإقامة العدل وحث عليه..أي أنه خروج على طاعة الله..والخروج على طاعة الله كفرٌ بالله..وهذا ما تضمنته قاعدة الصدِّيق التي اعتبرت الظلم كفرا يجوز معه للمحكومين الخروج على الحاكم.

ولتفسير دوافع التحايل على قاعدة الصدِّيق علينا أن ندرك أنها صدرت عن حاكم كان أثر العقيدة عليه أقوى من أثر الدولة التي كانت في طور تأسيسها المبكر ولم تكن حينها قد انتهت من فرض سلطتها على محيطها المكتظ بالعصبيات القبلية السابقة عليها..بينما صاغ الفقهاء قاعدتهم في وقت متأخر كانت فيه العصبيات قد سطت على الدولة وحولتها إلى قوة قهرية متعالية على المجتمع.

لكن حتى في حال تعالي الدولة فإنها لا تستطيع أن تتجاهل رهان الاجتماع المدني الذي صاغ نمطها..والفقهاء الذين أخرجوا تلك القاعدة كانوا قد تشكلوا كطبقة وسيطة بين الاجتماع المدني والدولة..وصار لهذه الطبقة دور مزدوج..فهي "الحارسة" لرهان الاجتماع المدني والمعبرة عنه، من ناحية، وهي، من ناحية ثانية، تعمل على ترويض وتكييف ذلك الرهان لصالح تعالي الدولة وجنوحها إلى القهر..وهذا الدور المزدوج يعبر عن علاقة تلازم ضرورية بين نشأة هذه الطبقة وبين تعالي الدولة..فبدون تعالي الثانية يتعذر نشأة الأولى على النحو الذي ظهرت فيه لتؤدي ذلك الدور في تاريخ المسلمين، وفي تاريخ غير المسلمين من الأمم الأخرى..فطبقة رجال الدين ظاهرة لازمت كل الأديان التي التحمت بالدولة في عصر الإيمان وليست قاصرة على دين بعينه.

إن الدولة لا تتعالى إلا عندما تؤول سلطتها العليا إلى حاكم متغلِّب يرى في رهان الاجتماع المدني قيودا تكبله ويحتاج إلى مفاتيح لفك مغاليقها والتحلل منها..وطبقة رجال الدين هي بحكم الاختصاص من يملك هذه المفاتيح..ولهذا لم يكن لهذه الطبقة وجود في عهد الصدِّيق الذي تربى في مدرسة النبوة وصاغت العقيدة عقله وضميره فكان هو نفسه الحاكم والمعبر عن رهان الاجتماع المدني في عصر الإيمان..واجتماع هاتين الصفتين في شخصه هو أساس شرعيته..أما الحاكم المتغلب في تاريخ المسلمين فقد احتاج إلى طبقة متخصصة تضفي عليه الشرعية التي يحتاجها..وهذه الطبقة لا تستطيع أن تنهض بهذا الدور ما لم تكن قد تبوأت المكانة التي يقبل بها الاجتماع المدني في عصر الإيمان، أي ما لم تكن قد تحولت إلى إكليروس..وهذه الطبقة تقابلها في الديمقراطيات الحديثة طبقة المثقفين التي يمحضها الاجتماع المدني كل احترامه لدفاعها عنه في مواجهة أي انحراف للدولة عن العقد الاجتماعي..ونتذكر في هذا السياق الفيلسوف البريطاني برتراند راسل عندما سُئل عما يمكن أن يحدث في حال انقلب الجيش على السلطة المدنية المنتخبة..وكان جوابه بأن هذا لن يحدث أبدا، لكن على افتراض حدوثه، نظريا، فإن قادة الإنقلاب لن يجدوا في بريطانيا كلها مثقفا واحد يكتب لهم البيان الأول.   

إذا عدنا إلى العصور الأربعة سالفة الذكر (الأسطورة + الإيمان + العقل + العلم) سنلاحظ أن الغرب المعاصر عبَرَ العصور الثلاثة الأولى وتجاوزها إلى عصر العلم..ومعنى ذلك أنه عرف أربعة أنماط من الدول آخرها الدولة الحديثة..وهذه الدولة تحديدا هي الدولة المدنية..وهي وحدها، من بين أنماط الدول السابقة عليها، الدولة التي قامت فعلا على المطابقة بينها وبين رهان الاجتماع المدني..ورهان الاجتماع المدني في هذه الدولة أصبح عقدا اجتماعيا مكتوبا في صيغة دستور تعززه وتحميه ثقافة مجتمعية عقلانية.

تأسيسا على ما تقدم يلاحظ أن مدنية الدولة هي "عملية" بدأت فعليا مع عصر العقل ولم تكتمل إلا في عصر العلم..وليس صحيحا الحديث عن دولة مدنية قبل هذين العصرين..ويترتب على ذلك أن العقل والعلم – وليس الدين - هما مرجعية هذه الدولة..والتفكير في الدولة المدنية في ظروف اليمن – والعالم العربي عموما – لن يستقيم ما لم يبدأ من البحث عن إجابات على الأسئلة التالية:

1 - إلى أي عصر ننتمي من بين العصور الأربعة المذكورة (الأسطورة؛ الإيمان؛ العقل؛ العلم)؟. وما هي الدولة المتسقة مع العصر الذي ننتمي إليه؟

2 - ما نوع القرابة التي يقوم عليها اجتماعنا المدني؟ هل هي الأخوة في العقيدة أم هي الأخوة في الوطن؟ هل نحن في نظر الدولة المدنية التي نريدها "مؤمنون" أم "مواطنون"؟

3 - ما هي الرابطة التي تجمعنا في نظر الدولة المدنية التي نريدها؟ هل هي الرابطة الدينية التي تشكل المجال الديني للمؤمنين، أم هي الرابطة الوطنية التي تشكل المجال السياسي للمواطنين؟.وهل الخلط بين هذين المجالين يعطي دولة مدنية؟

4 - على ماذا نراهن من أجل حفظ النوع وضمان التهدئة العامة التي بدونها تتعذر التنمية والانخراط في العمران ؟ هل نراهن على "الإيمان الديني" أم على حرية اعتقاد كل فرد مع خضوع كل الأفراد لقانون عقلاني واحد"؟

5 - ما هو النظام المعرفي الذي يمارس سلطته على عقولنا وطرائق تفكيرها واستدلالاتها ومحاكماتها، هل هو نظام معرفي واحد أم أكثر من نظام؟

6 - هل سجالنا الراهن حول الدولة المدنية هو سجال داخل عصر معرفي واحد، أم هو سجال بين أكثر من عصر؟

         

قراءة 1703 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة