جدل الإمامة، والمشيخة القبلية وقضية بناء الدولة (1-2)

الخميس, 23 نيسان/أبريل 2020 20:34 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

 

الإهداء:

إلى الصديق الأستاذ/ خالد الرويشان .

إليه مثقفاً وطنياً جمهورياً.. أرتبط أسمه بالأدب وبالقصة، والثقافة، كهموم ذاتية إبداعية، وطيلة مسيرته الحياتية لم يكن البعد السياسي/ الحزبي طاغياً على منطق تفكيره وسلوكه وممارساته العامة، حيث كان الهم الثقافي والأدبي والوطني العام  هو من  يشغل ذهنه ويحتل  المرتبة الارفع في تفكبره ووجدانه،  حيث الثقافي  العام يتغلب على السياسي لديه، على أنه ومن  بعد الانقلاب الحوثي/ صالح، بدأ البعد السياسي الوطني يتعملق لديه أكثر فأكثر، وخاصة مع صعود ظاهرة الميليشيات المسلحة التي عمت كل البلاد، وغيبت الدولة وصادرتها لصالح انعاش الهويات الما قبل وطنية، وما قبل الدولة، وهنا كان خالد واحداً من أهم الرموز السياسية والفكرية الجمهورية، حيث تحرك وتصاعد موقفه السياسي الوطني متألقا ومنافحا  عن قيم الحرية والعدالة، والجمهورية والدولة، إلى إدانته للاحتلال الخارجي الذي يتحول مع كل يوم إلى عدوان سافر ووقح على الٱرض والإنسان،والسيادة،وعلى وحدة اليمن، مترافقا مع رفضه للإستعمار الداخلي (الانقلاب)، وكان في كل ما يكتب صادقاً مع نفسه، ومع ضميره الوطني، ومتسقا مع التاريخ السياسي والوطني لمعنى اليمن أولا،  ولمعنى الثورة، والجمهورية، ودولة المواطنة المتساوية للجميع ثانيا .

لم يصمت حين كان الكلام يقابله الاعتقال بل والقتل.. لم يبلع لسانه ولم يهادن ويقف في المنطقة الرمادية، ممسكا العصا من الوسط مثل البعض.. ولذلك استكثر عليه البعض أنه ،  لم يبع عقله، أو يسترخصه في مزاد المكايدات السياسية، رغم المخاطر الأمنية على حياته.

 حتى تجرأت سلطة الأمر الواقع في صنعاء على اعتقاله –عفواً- اختطافه من قبل زوار الفجر-ولو لساعات - کغیره ممن ما یزالون یقبعون  فی السجون لسنوات طویله، بصورة تنم عن استكمال اختطاف الدولة في جب الميليشيات وهو ما نراه صارخا ومنتشراً اليوم في الجنوب والشمال.. وكأن الثورات العربية الشعبية السلمية لم تلهم السلطات القمعية في كل البلدان العربية النظر إلى المستقبل بعيون زرقاء اليمامة، بل جعلها تتوحش وتستكلب أکثرفي الإقامة في الماضي الاستبدادي، ومن هنا اتساع حدقات ابصارهم فی اتجاه تنمية مساحة السجون واقبية المعتقلات،  والمقابر، نحو مزيداً من الاعتقالات لأصحاب الرأي المغاير لهم إلى تجريد المختلفين معهم من صفه الوطنية ووضعهم في خانة العمالة.

نعم للإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين والصحافيين، والمخفيين قسرياً في سجون سلطتي صنعاء، وعدن، و فی سجون دولتي الاحتلال الإماراتي والسعودی  العلنية والسرية.

تحية إلى الصديق والإنسان / خالد الرويشان.

تاريخيا، وتحديداً منذ أواخر القرن الثالث الهجري 284هـ – 897م، شهدت اليمن تحولاً ملحوظاً (انتقالاً سلبياً من الدولة التقليدية إلى حالة اللادولة)مع دخول "الإمام الهادي إلى الحق"، يحيى بن الحسين إلى اليمن/ صعدة، في مرحلتيه الأولى والثانية (1)واستقراره بعدها في صعدة بعد سلسلة حروب متواصلة لم تتوقف إلا لتبدأ على طريق تثبيت ركائز حكمه. ومع بقائه واستقراره النهائي وبداية تأسيس وتكوين مشروع سلطته وحكمه، "دولته الهادوية" والدخول في حروب عنيفة مع الزعماء الأقطاعیين أو شبه الأقطاع، من السلاطين والأمراء والأقيال اليمنيين، ومشايخ القبائل، وحروب صراعه على السلطة داخل منظومة طلاب السلطة، ثم من بعده صراع الأئمة بين طالبي الإمامة ودعاتها من الأطراف المتنافسة المختلفة، القريبة والبعيدة، في سلسلة السلالة (البطنين)، تلاقت أو تقاطعت مصالح الإمامة بالقبيلة (المشيخة القبلية) في صورة حاجتهما المزدوجة لبعضهما البعض، حاجة القبيلة إلى الداعية الديني والمصلح، وحاجة الإمامة أو الحكم (الخارجي) إلى الذراع الحربي من البنية الداخلية، في صورة القبيلة المسلحة حيث تحول النزوع للإمامة / الحكم في عقل وسلوك "الإمام الهادي" إلى غاية وهدف، وهو الحلم بالحكم الذي قدم معه وحمله بين جوانحه، وطامحا إليه ، في رحلة قدومه، أو هروبه (2)من حكم الخلافة الإسلامية (دولة المركز العباسية). من حينه والحلم بالحكم لم يفارق وعيه الأيديولوجي السياسي التاريخي، داعيا إلى الحكم باسم السلالة "البطنين". بعد أن هرب عاجزاً عن تنفيذه في ظل الدولة العباسية، وجد مبتغاه في الجبال اليمنية البعيدة الشاهقة في مرتفعات الهضبة الشمالية، في تركيبها، الجيو/ فيزيقي المعقد (3)، أولاً، نجاةً بنفسه من عقاب دولة الخلافة الإسلامية العباسية المركزية، وثانياً باعتبار ذلك مدخلاً لتأسيس دولته الإمامية الخاصة بعد طول فرار، وجهاد، وحروب (كر،وفر) وادعاءات دينية/سياسية متنافسة. بعدها تمكن من تثبيت ركائز حكمه (إمامته) عبر تحالفه مع رموز البنية القبلية (المشايخ) الطامحين لتعزيز مكانتهم السياسية محلياً، في البيئة الاجتماعية القبلية، في مواجهة القبائل والاتحادات القبلية الأخرى المتصارعة فيما بينها. وقد طبقت "الإمامة الهادوية" ومن جاء بعدها في سلاسل الهادوية سياسة "فرق تسد" بين القبائل لتسهيل انقيادها، وترويضها، وتطويعها، بغية تنفيذ وتكريس مشروع الإمامة في السلطة والحكم. فاتسمت العلاقة تاريخياً بين الإمامة والقبيلة (المشيخة القبلية) بالشد والجذب، الوحدة والصراع. ففي فترات قوة دولة الإمامة (مركزياً)، يتم ترويض القبيلة والمجتمعات القبلية وتطويعها لخدمة دولة المركز الإمامية تحت هذا الاسم ، أو ذاك المسمى، وأما في فترات الضعف والانحدار والانقسام والتجزئة، تتمرد القبائل في مناطقها في انتظار داع جديد للإمامة.

 ومن المعروف تاريخياً أن القبيلة متنافرة ومتناقضة جوهرياً ووجودياً، من حيث بنيتها وتكوينها، مع فكرة وقضية وجود الدولة وقيامها. ولم ترضخ تاريخيا، وتخضع لمشروع الدولة إلا بالقوة (قوة القانون/ قوة الإكراه وعنف الدولة). وذلك هو جدل السياسة والاجتماع في التاريخ السياسي لعلاقة القبيلة (المشيخة القبلية/كرمز لها) بالدولة. فقد ظلت القبيلة ونخبتها المشيخية أداة من أدوات الأئمة في تكريس سلطاتهم(4)في قمع القبائل الأخرى، وفي إضعاف المجتمع وتجهيله، وعسكرته لصالح المشيخة/ الإمامة، وبالنتيجة منع تشكل المجتمع في صورة وحدة مجتمعية واعية، خدمة لاستمرار مركزية دور الإمامة، ودور المشيخة القبلية في السلطة وفي الهيمنة على المجتمع. لقد جسدت الإمامة تاريخياً البعد الأيديولوجي (الديني) (العقائدي) (الإيماني) للقبيلة، في حين مثَّلت القبيلة الذراع الحربي الجهادي والقتالي للإمامة. "ولأن النظام القبلي يقوم على التنازع والشقاق، وجدت طموحات الإمامة ملاذاً لها في مثل هذه البيئة، وأضيف إليها مبدأ الخروج الزيدي الذي يبدو ملائماً للبيئة القبلية" (5) أي أن الإمامة التاريخية، وجدت في البيئة القبلية، والتكوين الجغرافي، في تضاريسه المعقدة المحددة لبنية المنطقة الشمالية (شمال الشمال) مايوائمها، ويتوافق مع أحلامها وتنفيذ تطلعاتها، ما ساعدها تاريخياً على الاستمرار والاستقرار. لقد "ظلت البنية القبلية في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية، منذ القرون الوسطى، وحتى بداية العقد السادس من القرن العشرين دون مساس، كما ظلت الروابط القبلية – العشائرية، متينة إلى حد بعيد. لهذا من الطبيعي أن تقف قضية العلاقة بين الدولة والقبائل، أمام الحكومة اليمنية منذ الأيام الأولى لميلاد ثورة 26 سبتمبر 1962م، حيث كان لطبيعة هذه العلاقات تأثير حاسم على التطور اللاحق للثورة.

وعلى الرغم من أن الروابط القبلية – العشائرية بدأت بعد الثورة، تسير نحو الوهن -مؤقتاً، الباحث- وشرعت الحكومة اليمنية في بناء الدولة المركزية، فإن دور القبائل في الحياة السياسية للبلاد كان، وما يزال حتى الوقت الراهن فعالاً، ومحدِّداً، إلى درجة كبيرة للسياسة الخارجية، والداخلية للدولة اليمنية".(6)، خاصة في شمال البلاد.

والحقيقة أنه لم يتم في الواقع المساس بالمصالح المادية والاقتصادية، الاجتماعية والسياسية، لهذه الكتلة، كقوة اجتماعية وسياسية من خلال إجراءات إصلاحية اقتصادية تمس مصالحها في الريف، في صورة إصلاح زراعي، سواء على النموذج المصري أو السوري. كما لم تشهد البلاد، وبخاصة الريف، عملية تنمية اقتصادية وسياسية تحقق مشاركة الفئات الاجتماعية الواسعة في الريف، والقوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير في قلب قوى الثورة -وهي واحدة من أهم مشكلات الثورة، والنظام الجمهوري- بل إنها ومع الثورة لم تقمع فحسب، بل استبعدت من المشاركة في القرار السياسي، ومن حقها في التعبير السياسي والاجتماعي عن نفسها. لأن ما حدث في الواقع هو تعزيز مكانة القوى السياسية الاجتماعية التقليدية وتكريسها، أكثر فأكثر، ورفع رصيدها وأسهمها السياسية بل والاقتصادية، في قمة السلطة العليا، وفي مختلف مؤسسات الدولة (مجلس الشورى، الجيش، الأمن، الحكومة، الرئاسة)، وهو مالم يكن قائماً حتى في مرحلة الإمامة. فتحولت هذه الفئة، وبخاصة النخبة منها، إلى طبقة مميزة عن جميع فئات المجتمع الأخرى وشرائحه وطبقاته إلى درجة استحداث، بعد الثورة مباشرة، وزارة لشؤون القبائل، "وميزانية شؤون القبائل ضمن موازنة الدولة (7). ويمكننا القول إن حالة ضعف أصابت البنية القبلية، و على وجه التحديد المشيخة القبلية منها فقط، لفترة قصيرة جداً بعد الثورة، لا تتعدى أشهراً محدودة. لكن البنية القبلية المشيخية عادت تتصدر المشهد السياسي في سياق مجرى الثورة والصراع الجمهوري الملكي/ والجمهوري/ الجمهوري، وأصبحت في قيادته (في قمة السلطة الجمهورية). وبعد أن كانت الإمامة لا تسمح للمشيخة القبلية وللقبيلة بالوصول إلى قمة السلطة (كغيرها من فئات المجتمع خارج البطنين) أو بالمشاركة السياسية فيها، أصبحت قوى نافذة بعد الثورة، وخاصة خلال سنوات 63-65 -67 –وحتى 1970م (8) وأصبحت صاحبة القرار في قمة السلطة، وتتولى تحديد حق الآخرين في المشاركة في السلطة، وخاصة بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وإنجازها حالة هيمنة (بالمعنى الغرامشي) على السلطة، ولكن في شروط واقع متخلف، وخاصة بعد اتفاق المصالحة بين رموز الجمهورية القبلية والملكيين والكتلة الثالثة (جماعة الدولة الإسلامية). ولم تجر أي تطورات أو إصلاحات حقيقية في البنية الاقتصادية الاجتماعية، ولا أية عملية إصلاح أوتغيير في الجانب الزراعي والتنموي، وفي حياة المجتمع في ريف البلاد، ولم تنفذ إصلاحات تمس مصالح شبه الإقطاع وكبار المشايخ، بل، وعلى العكس، تعزز نفوذهم وتوسع بصورة كبيرة على حساب عموم فئات الشعب والمجتمع، وبرزت ظاهرة الشيوخ التجار أصحاب الملايين والمليارات في صورة عبدالله بن حسين الأحمر، وأبنه حميد الأحمر، والمئات غيرها، بعد أن ورث زعماء مشايخ القبائل ، وأعوانهم، أراضي وممتلكات الأسرة الإمامية –أو جزءاً هاماً منها – بدون حق قانوني، بل بقوة الغلبة، باعتبارهم ورثة الإمامة الجدد. ولذلك كانت مطالب جميع كبار المشايخ في كل المؤتمرات القبلية، من "عمران" إلى "خمر" إلى "الجند" حتى مؤتمر "حرض"، عدم عودة أسرة آل حميد الدين، مع بقاء منظومة الحكم الإمامي كما هي، باعتبارهم الورثة الشرعيين للنظام الإمامي، أو "الأنصار، وليس الرعية"، حسب تعبير الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته. أي أن المشيخة القبلية يتحدد موقفها من الإمامة ضد الإمام الفرد، وليس ضد منظومة النظام الإمامي كلية ، ضد الإمام الفرد، وليس ضد النظام (البنية السياسية التاريخية). ولذلك تضاعف الدور السياسي للقبيلة في قمة السلطة في صورة رموز المشيخة القبلية، ودور القوى السياسية التقليدية (بقايا الأحرار). وبقيام تحالف سياسي استراتيجي بين كبار مشايخ القبائل مع السعودية، أصبح هؤلاء المشايخ –بالتنسيق مع السعودية- هم من يحدد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء والسفراء، وامتلكوا حق الاعتراض (النقض) (9)على ما يخالف رأيهم، متحالفين مع رجال الدين السياسي، ومع العسكريين الموالين لهم، حتى تم تداول مقولة أوحكمة سياسية خلال فترة حكم علي عبدالله صالح، في علاقته بالشيخ عبدالله بن حسين الأحمر والمشايخ، تقول:"شيخ الرئيس، ورئيس الشيخ"، وهي تجسد الصورة السياسية الواقعية، والتاريخية في جدلية "ثنائية الإمامة والقبيلة، في صورة المشيخة القبلية، أو كما تجلت وبرزت بعد انقلاب 5نوفمبر 1967م في هيئة وشكل: السلطنة الجمهورية،  حسب تعبير د. أبوبكر السقاف، ".

"لقد أسقطت ثورة 26 سبتمبر 1962م، حكم السلالة الأسرية، الحاكمة، باسم الحق إلإلهي (البطنين)، ولكنها لم تسقط حكم دولة المذهب والقبيلة كمنظومة ، ونظام ، لأسباب ذاتية وموضوعية وتاريخية. ولذلك ظل الفضاء السياسي مغلقاً ومحتكراً، ولم يفتح المجال السياسي أمام المشاركة السياسية الحقيقية والفعلية أمام كل اليمنيين، وأمام ديمقراطية وطنية شعبية (دولة / ومواطنة). ولذلك وجد حلفاء الإمامة التاريخيون (الأرستقراطية المشيخية، القبلية المسلحة) في المناطق الشمالية (الهضبة المسلحة المحيطة بالعاصمة صنعاء) أن من حقهم وحدهم امتلاك الجمهورية واحتكارها، باعتبارهم ورثة الإمامة، والأحق بشرعية الحكم تاريخياً، وبالنتيجة فإنهم الأحق بالحكم من الرئيس عبدالله السلال (ابن الحداد حسب تعبير اللواء عبدالله جزيلان) ذي المنشأ الطبقي المتوسط القادم من أبناء الفلاحين والرعية، وهو موروث تشكل تاريخياً في كنف الإمامة". (10) فقد حدث في سنوات الصراع السياسي بين الجناحين الجمهوري الثوري من جهة والجمهوري القبلي من الجهة الأخرى وخلال الحرب الجمهورية الملكية، تكرس أكثر فأكثر الانقسام في الصف الجمهوري  في ظواهر عديدة (11) بحصول زعماء البنية القبلية على جملة هائلة من المصالح المادية والمالية والاقتصادية، ومن النفوذ السياسي، والمكانة الاجتماعية المتميزة، وهو ما أثار استنكار قطاع معين بل وواسع من الطرف الجمهوري الثوري. وهي مقدمات كانت مدروسة سياسياً وأيديولوجياً بهدف تعظيم الدور السياسي القيادي لزعماء القبائل، ولموقع القبيلة، والمشيخة القبلية تحديداً، في العملية السياسية الجارية آنذاك. فقد تم في مطلع أكتوبر 1962م إعلان قيام ما سمي بــ "مجلس الدفاع الأعلى" المكون من مشايخ القبائل (...) لـ"حماية الحدود"، أي الدفاع عن أمن البلاد. وبموجب هذا القرار، تم ترقية جميع أعضاء المجلس، وجميعهم من كبار شيوخ القبائل -الباحث- ، إلى درجة وزير، واعتُمِد لهم مرتب وزير (...). وتثبَّت هذا في المادة 10 من "الإعلان الدستوري" الصادر في 31 أكتوبر 1962م. (....) وجرى التفنن في إيجاد مجالس خاصة بهم، وممثلة لمصالحهم الطبقية المحدودة، وفي إشراكهم في هيئات الدولة المركزية والمحلية (...) بالانصراف عن القوى الجديدة، وعن الجماهير الشعبية، ذات المصلحة في الثورة" وفي التغيير السياسي، والاجتماعي في البلاد.(12)

الهوامش:

1- المرحلة الأولى فاراً من دولة الخلافة العباسية إلى محاولته الدعوة لنفسه محاربا ضد القبائل اليمنية التي ناصبته العداء والمنافسة ، والمرحلة الثانية هي استدعاؤه من بعض القبائل اليمنية، وسنشير إليه في هذا الاستطراد التاريخي الذي نجده ضرورياً لأنه يضئ مساحة من السياسة ومن التفكير التاريخي ملتبسة عند البعض. والإمام الهادي وفقاً للكتاب المصدري "سيرة الهادي إلى الحق يحيي بن الحسين ، رواية علي بن محمد بن عبدالله العباسي العلوي ( ابن عم الهادي وصاحبه) ، تحقيق: د. سهيل زكار ، دار الفكر للطباعة والنشر / بيروت ، ط (2) 14011هــ 1981م، ص15. يشير الراوية (العلوي) هو : "أمير المؤمنين الهادي إلى الحق يحيي بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء إبنة رسول الله . ولا يشير الراوية (العلوي) إلى أسباب خروجه من جبل الرس /الحجاز إلى صعدة والأسباب السياسية لخروجه من صعدة بعد دخوله داعيا إلى نفسه بالإمامة، فقط يشير إلى عدم الطاعة الدينية له ، وإلى استدعائه في المرة الثانية قائلاً : "وأنه كان قد خرج إلى اليمن سنة ثمانين ومائتين حتى بلغ موضعا يقال له "الشرفة" بالقرب من صنعاء واذعن له الناس وأطاعوه فأقام فيهم مدة يسيرة ثم إنهم خذلوه ورجعوا إلى ما يسخط إليه ولم يجد عليهم أعواناً وانصرف منهم حتى صار إلى بلد الحجاز ، وشمل أهل اليمن من بعده البلاء ووقعت بينهم الفتن والجلاء بعد ما كان من تقصيرهم ومعاندتهم للحق وأهله ، عضهم (وتفسيرها في الهامش بــ"غشيهم" البلاء وكتبوا إلى الهادي إلى الحق يسألونه النهوض إليهم ويعلمونه بتوبتهم ورجوعهم إلى الله تعالى من خطاياهم". نفس المصدرص36. ويورد العلوي تفسيراً دينياً موصولاً بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول "كنت قد انثنيت عن الخروج إلى اليمن وعزمت على أن أصرف رسل أهل اليمن للذي كان بدأ لي من شر أهل اليمن وقلة رغبتهم في الحق، فكنت عازماً على التخلف حتى إذا كان قبل خروجي بليلة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول لي : يا يحيي مالك متثاقلاً عن الخروج انهض فمرهم فلينقوا ما على هذه الأرض من الأوساخ. فعلمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك غير المعاصي التي على الأرض من العباد، فضمنت له النهوض فنهضت ". نفس المصدر ص39، أي أنه هنا دعم عودته الثانية بمستند رسولي / ديني ليس بعودته ولكن بأحقيته الدينية الشرعية بالإمامة المعززة هنا بنداء رسولي ، والامام هنا هو "الرجل الذي يقوم مقام محمد عليه وآله السلام" ، نفس المصدر، ص29. والملاحظة الهامة هنا أن جميع الدول / الدويلات التي قامت ووجدت في اليمن لم تفك ارتباطها بمركز الخلافة الإسلامية في بغداد إلاَّ دولة الهادي يحيي بن الحسين وجميع الدول الزيدية الهادوية والدولة الصليحة التي ارتبطت بمركز الدولة الفاطمية في مصر.

2- دخل الأمام الهادي إلى الحق، يحيى بن الحسين إلى اليمن هارباً وتحول إلى محارب / عاش ومات وهو يقاتل (مجاهد) لتأسيس سلطة وللحفاظ عليها في صعدة عاصمة "دولته". فقد قضى الفترة منذ قدومه حتى توفي سنة 298هـ - 911م في سجال حربي متواصل حتى وصلت دولته إلى جنوب صنعاء "أنظر حول ذلك د.علي محمد زيد كتاب "تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري"، ص16، ط أولى، 1997م، الناشر المركز الفرنسي للدراسات اليمنية / صنعاء.

3- المقصود بالتركيب الجيو/فيزيقي هو توحد أو تماهي الإنسان، بالجغرافيا، وبتعبير آخر ملائمة التركيب الجيولوجي / الجغرافي المعقد للمنطقة الشمالية (الهضبة) مع البنية الاجتماعية القبلية الحربية التي تحول فيها السلاح إلى عمل واداة رزق، وهو ما يفسر الطابع السجالي الحربي لهذه المنطقة تاريخياً وحتى اليوم .تكيف الانسان ووحدته بما حوله من تركيب جغرافي معقد وصعب المراس، وهو ما يمكننا تلخيصه في (بيئة مرتفعات جبلية شاهقة ، طوعها الإنسان لإنتاج ظاهرة المدرجات الزراعية لصالح خدمة الإنسان ، بمثل ما وظف الغالبية البيئة القبلية المسلحة "القتالية "لإنتاج حالة سجالية حربية لا تتوقف إلا لتستمر. وهذه تركت أثرها السلبي العميق : أولاً، في منع تراكم المعرفة والخبرة "التجربة" التاريخية، وثانياً، منعت هذه الحالة التطور الطبيعي والتدريجي للمدينة صنعاء ، كعاصمة مدنية حديثة، وثالثاً، شكل هذا الواقع الموضوعي والذاتي التاريخي حالة ممانعة داخلية لميلاد الدولة الوطنية الحديثة، وهي جذر ما أسميه "المشكلة اليمنية"، كظاهرة تاريخية، وتحديداً منذ الاستقلال السياسي عن الاحتلال العثماني 1918م، إلى قيام ثورة 26سبتمبر 1962م ،وحتى اليوم. ومن هنا اختيارنا لهذا الاصطلاح أو المفهوم ، التركيب الجيو/فيزيقي المعقد ،والذي يمكن التعبير عنه بالقول :الجيولوجي / الطبيعي الإنساني.

4- انظر حول ذلك حديث الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته حيث يقول: " وحاشد على ما كانوا عليه أنصاراً لا رعايا، وهذا هو الفرق، فالولاء للإمام موجود، ولكن هناك فرق بأن يكونوا أنصاراً أو رعية وقد كانت حاشد وبعض قبائل بكيل أنصاراً لا سيما حاشد، فهم الذين آووا ونصروا الإمام يحيى والإمام المنصور ومن قبلهما من الأئمة ومناطق انطلاقتهم وحاشد هم من عملوا على حماية الأئمة من كل غازٍ (...) وعندما توفي الإمام المنصور سنه 1322هـ – كما يقول الشيخ عبدالله الأحمر – اجتمع العلماء في (القفلة) وهي منطقة في حاشد، لاختيار إمام جديد وكان هناك أكثر من عالم وشيخ رشح نفسه وينافس الإمام يحيى وبدأ العلماء يناظروا ويوازنوا بين الإمام يحيى ومنافسيه فقالوا : الأمام يحيى مستوفي شروط الإمامة عدا شرطاً واحداً وكان الدور الحاسم لجدي ناصر بقوله : هذا هو الشرط الناقص وأشار بيده إلى عصاه، فتمت مبايعة الإمام يحيى. وهكذا فقد كان جدي ناصر هو المرجح لعملية اختيار الإمام يحيى - مذكرات الشيخ عبدالله بن حسين، قضايا مواقف، مطبعة الآفاق للطباعة والنشر ط أولى، 2007م / صنعاء، ص34-35، وهو ما يشير ويؤكد على حالة ثنائية جدل (الإمامة، والقبيلة) وتحديداً بالمشيخة القبلية، والذي تحدد – لاحقا – بعد ثورة 26 سبتمبر 1963م وخاصة من بعد الانقلاب 5 نوفمبر 1967م، في صورة (ثنائية السلطنة/ والجمهورية)، ومن هنا حديث عبدالله بن حسين الأحمر بأن أبناء قبائل الهضبة الضالاً وليسوا رعية، حيث الرعية هم أبناء جنوب الشمال، وكل جنوب البلاد، وفقاً لذهنيته الأيديولوجية التاريخية التي بقیت مهيمنة على سلوكه ومنطق تفكيره، وهو تقوله وتعلنه بجلاء مذكراته.

5- د. أبوبكر السقاف، كتاب "اليمن المعاصر"، مجموعة مؤلفين غربيين ويمنيين إشراف ريمي لوفر، فرانك مرميه، وهوغوشتانبخ، ترجمة د.علي محمد زيد، ط أولى كانون ثاني، 2008م، مكتبة أبي ذر الغفاري / صنعاء،ص160..

6- جلوبو فسكايا ، مجلة دراسات يمنية الصادرة عن مركز الدراسات والبحوث اليمني / صنعاء عدد فبراير – مارس 1988م رقم (31) ص 125

7- وصلت ميزانية شؤون القبائل في المرحلة الأخيرة –مرحلة علي عبدالله صالح -إلى أكثر من أربعة مليارات ريال، وهي قضية أشار الأستاذ محسن العيني، رئيس الوزراء، إلى رفضها في مرحلة مبكرة، حيث قال: "فرئيس الوزارء، أقل الناس قوة وحرساً ومظهراً، وأصغر شيخ أو ضابط يعتبر نفسه أقوى من رئيس الوزراء، ومن أي وزير. والحكومات تجتمع وتصدر القرارات وتوجه النداءات، فما تيسر تنفيذه نفذ، وما رفض تنفيذه تعطل، إلا إذا استجاب اصحاب القوة - يقصد مشايخ القبائل - لمساعدة الحكومة على تنفيذ أوامرها، وأحياناً يطلب من الحكومة أن تدفع تكاليف عمليات تنفيذ أوامرها، ذخيرة وسلاحاً وطعاماً. وهذا وضع، مثلما يقول العيني، لامثيل له في الكرة الأرضية، لا أمس ولا اليوم ولا غداً.(محسن العيني: خمسون عاماً في الرمال المتحركة ، قصتي مع بناء الدولة الحديثة في اليمن، طبعة الشروق الأولى، يناير 2001م خاصة بمصر، ص188-189).

8- يمكننا القول إن الفترة من 63-1970م هي الفترة التي شهدت فيها الجمهورية الوليدة صراعات عسكرية مسلحة مع القوى الملكية (الإمامية) لإسقاط النظام الجمهوري وهي كذلك السنوات التي انقسم فيها الصف الجمهوري على نفسه بين قسمي أو جناحي: الجمهورية القبلية والجناح الثوري الجمهوري والذي بدأ مع السنوات الأولى لقيام الجمهورية، وفيها برز تيار مشيخي قبلي معاد للوجود المصري اسميا ، لأن هدفها المركزي السلطة، واحتكارها في نطاقه، وحدود مصالح حلفائه في الداخل والخارج، وبدأ بصورة تدريجية وسرية يربط ويوطد علاقاته بجهات عربية/السعودية.. قوى كانت حاضرة في الصراع الحاصل ومرتبطة بجهات في الخارج بصورة غير مباشرة، وتدريجية، من قيام الثورة حتى إعلان المصالحة مع القوى الملكية والسعودية في اتفاق جده مارس 1970م والذي يمكننا معه اعتبار انقلاب 5 نوفمبر 1967م المقدمة السياسية لذلك ولكل ما حصل بعدها من تطورات .

9- وللتأكيد على الحضور السعودي في التأثير القوى على بنية السياسة والسلطة في ج .ع.ي. وللمزيد من المعلومات سنورد أجزاءً كبيرة من وثيقة من الديوان الملكي السعودي توضح ذلك في الأقسام اللاحقة من هذا الباب .

10-قادري أحمد حيدر، الأحزاب القومية، النشأة، التطور، والمصائر، دراسة سوسيو – سياسية، تاريخية، تحليلية، نقدية، ط2، 2013م/ ص 143 + 144

 11-من أولى مظاهر الانقسام في الصف الجمهوري في قمة السلطة انعقاد مؤتمر عمران في 1-9 سبتمبر 1963م وتتويجه بمؤتمر خمر في مايو 1965م وغيرها من المؤتمرات. هذا أولاً. وثانيا، كانت التعديلات والتغييرات المستمرة في هيئات الحكم الرئاسية (قيادة مجلس الثورة، مجلس الرئاسة، وتغيير الحكومات) تأكيداً للانقسام في الصف الجمهوري (القيادة). وثالثاً، بداية الحديث عن خطاب "السلام" باسم "المصالحة والتسوية". ورابعاً، اغتيال محمد محمود الزبيري، ثم استقالة بعض أعضاء المجلس الجمهوري (اللواء حسن العمري، ومحمد علي عثمان). وبلغ التعبير عن الانقسام في قمة السلطة الجمهورية ذروته بالاستقالة الجماعية للأستاذ أحمد محمد النعمان (باعتباره رئيساً لمجلس الشورى) و استقالة القاضي الإرياني والزبيري (اللذين كانا يشغلان مناصب حكومية وزارية": الزبيري نائب رئيس وزراء ، الارياني وزيراً للعدل نائب رئيس وزارء) في 2/12/1964م. وكان ذلك تتويجاً سياسياً علنياً لحالة الإنقسام في قمة الصف الجمهوري.

12- قادري أحمد حيدر: الحضور التاريخي وخصوصيته في اليمن، قضايا سوسيولوجية، سياسية، تاريخية، إشكالية،،1م، مطبعة الآفاق للطباعة والنشر، 2012م،ص86، نقلاً عن د. محمد علي الشهاري "مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمينية منذُ قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م حتى قيام حركة 13 يونيو 1974م"،14 أكتوبر / عدن 1990م، ص63-64.

قراءة 2675 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة