ثورة 14 أكتوبر.. الكفاح المسلح والتسوية السياسية

الخميس, 15 تشرين1/أكتوير 2020 18:34 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

إن فكرة وقضية الكفاح المسلح والثورة الشعبية المسلحة ضد الاستعمار، بدأت كفكرة، ورؤية سياسية في خطاب حركة القوميين العرب في اليمن، بل أن حركة القوميين العرب (المركزية) في بيروت طرحت بعد إنشائها قضية الكفاح تحت تأثير نكبة فلسطين، وهزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل وفي مواجهتها، مؤكدة أن مهمة التحرير الوطني والقومي ضد الاستعمار والرجعية العربية، هي مهمة الشعوب العربية، وكان ذلك بداية وعيها لضرورة وجود الإرادة العربية الثورية المسلحة.

 "إن أهم ما يميز حركة القوميين العرب في اليمن هو طرحها بعد تكوينها مباشرة لشعار الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني المحتل للشطر الجنوبي من الوطن ( أنظر وثيقة اتحاد الإمارات العربية المزيف التي سبق التطرق إليها في مقالات سابقة ) . وما يثير الانتباه أن حركة القوميين العرب في اليمن كانت ضد موقف "الاتحاد اليمني" الذي كان يكتفي بمكافحة الاستبداد الإمامي في الشمال ويهمل الكفاح ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، وكانت ضد عزل النضال الوطني التحرري عن النضال من أجل تطوير الأوضاع في شماله، وقد لاحظت، بوعي وطني مبكر، أنه من الصعب الإقدام على هذا النمط الرفيع من الكفاح المسلح ضد العدو الأجنبي، مالم يكن شمال الوطن هو القاعدة النضالية التي تسمح للثوار بالانطلاق منها، والاحتماء بها، كما تتيح لهم إمكانيات الإسناد، والتغطية النضالية، وإمكانيات الكر و الفر" (1).

 لقد أدركت واستوعبت، بوعي سياسي واقعي، تاريخي عميق، وحدة، وخصوصية النضال الوطني اليمني ضد النظام الاستبدادي الإمامي، وضد الاستعمار، وأن الإمامة القروسطية ستبقى عائقاً سياسياً وطنياً جديا ً، أمام أي إمكانية لانطلاقة الثورة المسلحة في الجنوب، ومن أن الضرورة السياسية والوطنية، تستدعي إنجاز التغيير أو الثورة من الشمال، وهي الحلقة الرخوة والأضعف في سلسلة النضال الاجتماعي والتحرري.

 بقي هذا المنطق من التفكير السياسي والثوري بخيار الكفاح المسلح يتبلور في وعي وتفكير ووجدان حركة القوميين العرب في اليمن من العام 1959م وحتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م إلى حين قرارها السياسي التاريخي بتشكيل وإعلان قيام "الجبهة القومية"، بعد حوالى عشرة أشهر من قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م.

 آنذاك جاء قرار إعلان قيام الجبهة القومية مرتبطاً ومتوحداً بخيارها في الكفاح المسلح، كما أعلن في " الميثاق القومي" لوثيقة إنشاء وقيام الحركة/ الجبهة والبدء بعدها مباشرة بممارسة طقوس العمل المسلح انطلاقاً من أراضي القاعدة (الخلفية) (تعز/ منطقة التدريب والتأهيل، والعسكرة)، وبدعم سياسي وعسكري من مصر عبدالناصر."

 ومع مسيرة الثورة المسلحة، أيقنت بريطانيا أنها تواجه ثورة مسلحة لها سمة الاستمرار، أما عن نوعية الثوار هذه المرة، فقد كانت مختلفة أيضاً، عن النوعيات التي شاركت في الانتفاضات القبلية السابقة، فمعظمهم من الشباب أقل من الثلاثين عاماً، لا تفرقهم النزعات القبلية السابقة ، أو اختلاف المستويات الفكرية، وقد جاءوا من كل القبائل، والمناطق في اليمن الجنوبي بدرجة أساسية،  ومن شمال البلاد، يجمعهم ولاء واحد للثورة، وللتنظيم القائد، وكانوا من قبل يعملون، بعضهم بالتدريس والبعض عمالاً في مصفاه البترول في عدن، أو جنوداً في قوات الاحتلال والسلاطين ثم هجروا أعمالهم، وبيوتهم إلى طريق الكفاح المسلح (...) بعد أن كانت السلطات البريطانية ترى المنطقة تقسمها النعرات القبلية (...) وقد ساعدتهم الطبيعة الخاصة للأرض في اليمن الجنوبي باستثناء عدن، في تقديم ميزة للمقاتلين بالإضافة إلى حركتهم السريعة" (2).

وبعد مرور أقل من سنة على إعلان قيام قيامها كانت الجبهة قد تمددت سياسياً وجماهيرياً ووطنياً إلى معظم الجغرافيا الوطنية في جنوب البلاد، وانتقلت بالثورة المسلحة إلى قلب المدينة عدن من العام 1964م .

وهنا أدرك الاستعمار البريطاني خطورة هذه الطاقة الثورية التي فتحت عليها أبواب جهنم، ورأت بأم العين أن بشائر التحرير والاستقلال قد هلت، وخاصة بعد وصول عمليات الثورة المسلحة إلى قلب المدينة عدن. وهنا ضاعفت السلطات الاستعمارية من مؤامرتها على ثورة 26/سبتمبر 1962م، بدعم فلول جحافل الإمامة، لحصار وضرب الثورة، ولخنق وقمع بؤر العملية الثورية في الجنوب.

وهنا بدأت الإدارة الاستعمارية البريطانية في محاولة لفك الحصار السياسي والعسكري المسلح الذي بدأ يطوقها من جميع الجهات، بطرح إعطاء الاستقلال، مترافقة مع تحريك مناورات "المؤتمر الدستوري" في لندن، وفي هذا السياق، يشير فيتالي ناؤومكين، محدداً الموقف أنه " بعد أن أصيبت السلطات الاستعمارية بالهلع من اتساع نطاق الثورة الشعبية، أخذت من جهة تشدد عمليات الاضطهاد بُغية خنق نضال التحرر الوطني، وواصلت من جهة ثانية المناورات السياسية الرامية إلى تخليد وجودها في جنوب الجزيرة العربية، من ذلك أن حكومة ويلسون توجهت إلى بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية الوطنية العدنية آملة بإثارة اهتمامها بالسلطة القادمة في الدولة الجنوبية العربية المستقلة"(3).

وفشل المؤتمر الدستوري اللندني الأول 1964م بسبب اختلاف الرؤى، والمصالح بين السلاطين والأمراء والمشايخ والقادة السياسيين العدنيين،، وبعده فشل المؤتمر الدستوري الذي أعلن عنه في 2 آذار (مارس) 1965م "ودعي للاشتراك في هذا المؤتمر ممثلو الأحزاب السياسية غير المشاركة في الكفاح المسلح، وكان بين المدعوين إليه، زعيم حزب الشعب الاشتراكي عبدالله الأصنج والأمين العام لرابطة أبناء الجنوب شيخان الحبشي (4. (...) ووافقت الحكومة الاتحادية على الاشتراك في المؤتمر(...) بعد موافقة على جدول الأعمال... وأثناء عمل الاجتماع أعلن عبد القوي مكاوي أن الشرط الضروري لعقد المؤتمر يجب أن يكون الاعتراف بقرارات منظمة الأمم المتحدة بشأن جنوب الجزيرة العربية، الأمر الذي كان يعني موافقة الإنجليز على تصفية القاعدة الحربية، وتشكيل حكومة مؤقتة عن طريق انتخابات عامة"(4).

 وهو مالم يكن مطروحاً على جدول الأعمال ولا مقبولاً من الجهة الاستعمارية .

 لقد فشلت جميع مؤتمرات المناورة الدستورية البريطانية وآخرها المؤتمر الدستوري الذي عقد في لندن في الأول من ديسمبر1965م، وجميعها في الواقع جاءت لإيجاد فسحة سياسية لها، للحركة وللتغطية على الثورة المسلحة التي عمت جميع مناطق جنوب البلاد. ومع الضغوط السياسية الفاشلة للمؤتمرات الدستورية البريطانية لتحسين وجه الإدارة الاستعمارية البريطانية بوعود منح الاستقلال. برزت وصعدت ضغوطاً من قبل الأجنحة القبلية الجمهورية في شمال البلاد، ومن الأجهزة السياسية والأمنية المصرية المعادية في الجوهر لسياسة عبدالناصر الثورية في مصر نفسها، وكلها باتجاه تحجيم وضبط إيقاع الحركة الثورية المسلحة التي تقودها الجبهة القومية على إيقاع المداولات السياسية، التي تجري بين مصر والسعودية، وفي إطار صراع السلطة الجمهورية بين الجناح الجمهوري الثوري، والجناح الجمهوري القبلي الداعم والمؤيد والمساند لحزب الشعب الاشتراكي، الذي كان يدعى لحضور المؤتمرات القبلية المعارضة الأولى، من مؤتمر(عمران) إلى مؤتمر (خمر). وكان خط اتجاه التسوية للقضية اليمنية في شمال البلاد . قد بدأ مبكراً مع مؤتمر الاسكندرية 14/9/1964م ومع مؤتمر أركويت (السودان) 29/10/1964م واتفاقية جدة 24/8/1965م، والطائف من 31يوليو 1965م إلى 10أغسطس 1965م، وجميعها لقاءات، ومؤتمرات أهدافها السياسية، إنجاز تسوية سياسية للقضية اليمنية، شمالاً وجنوباً: شمالاً باتجاه ما يسمى "السلام"، و"إيقاف الحرب"، و"المصالحة"، والوحدة الوطنية مع الملكيين، وجنوباً باتجاه تسوية سياسية، يقودها طرف سياسي "معتدل" غير الجبهة القومية يقود مفاوضات تسوية تمنح الاستقلال لجنوب البلاد، وخاصة بعد خروج الجبهة القومية عن إيقاع دائرة الرقص الذي حددته، ورسمته الأجهزة المصرية، وتحديداً بعد خروج المؤتمر الأول للجبهة القومية بوثيقة "الميثاق الوطني"، وتأكيد الميثاق على البعد السياسي والأيديولوجي، والطبقي للصراع، وتثبيت الميثاق الوطني لخيار "الاشتراكية العلمية". ويرى في هذا السياق د. محمد جمال باروت "أن الجهاز العربي، لم يستسغ النبرة الماركسية التي أخذت بعض هذه الكوادر" تتبجح بها، كما أقلقه عصيانها على المجلس التنفيذي بعقد مؤتمر غير نظامي في تعز، رغم موافقة المجلس على قبول الدعوة إلى عقد المؤتمر الثاني للجبهة القومية"(5) وهنا يمكننا الإشارة إلى أن قيادة الصف الثاني من الجبهة القومية، وهي من كانت تخوض وتتبنى هذا النزوع الأيديولوجي اليساري الاشتراكي، وكذا النزوع الاستقلالي عن نهج قيادة حركة القوميين العرب في المركز، وخاصة حول الموقف من التجربة الثورية في مصر، حيث كان رأي قيادة الداخل اليمني في فرع حركة القوميين العرب وفي قيادة الجبهة القومية هو السير باتجاه التحالف مع التجربة الناصرية في مصر، وليس (الذوبان) فيها، كما كان يطالب ويدعو جناح في قيادة الحركة في المركز، وهو الأمر الذي لم يرق للأجهزة المصرية . ومن المهم هنا التذكير بأن الأجهزة المصرية قد وقفت وراء تأسيس "منظمة تحرير الجنوب المحتل" بهدف الضغط على الجبهة القومية، " وجاء مؤتمر القمة العربي الثاني في سبتمبر 1964م ليحمل تطوراً جديداً بالنسبة لقضية اليمن الجنوبي. فقد أقر مجلس الملوك، والرؤساء بالمؤتمر، مناهضة الاستعمار البريطاني، وتقديم المعونة لحركة التحرر الوطني في الجنوب المحتل، وعمان، ونادى بضرورة تصفية القواعد العسكرية الاستعمارية، وخاصة قاعدة عدن، وتم التوصل بين الرئيس جمال عبدالناصر والملك فيصل إلى قرار إيقاف إطلاق النار في اليمن في نوفمبر 1964م. أما قرارات القمة الثلاثية عن الجنوب المحتل، فقد جاء اثنان منها، يتفقان مع المناخ العام لمطالب القوى الوطنية، وأولها دعم نضال شعب الجنوب المحتل بشكل فعال، والثاني تأييد قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالجنوب، أما القرار الثالث فكان دعماً لجهود الجامعة في توحيد الصف، ولجهود التجميع الذي وقع ميثاقه في30/7/1964م وهو ضرورة تجميع كل الطاقات الوطنية"(6).

ولم تكن القمة العربية المذكورة سوى محاولة للالتفاف وتضييق الخناق على الجبهة القومية، وهي الجناح الثوري المسلح الوحيد الفاعل في الساحة، وليس تأسيس منظمة تحرير الجنوب المحتل سوى إطار سياسي متنافر يجمع أطرافاً متعارضة في مواقفها من بعضها البعض (حزب الشعب الاشتراكي، رابطة أبناء الجنوب العربي، سلاطين ومشايخ قبائل). تم إيجاد منظمة التحرير باسم تجميع القوى الوطنية، وتوحيد الطاقات، وضرورة الوحدة الوطنية، وكانت الجامعة العربية بقيادة النظامين المصري، والسعودي، وبحكم طبيعة الجامعة وقراراتها التوافقية (بالإجماع) حيث رأى النظامان المصري والسعودي، أن منظمة تحرير الجنوب المحتل هي رمز للوحدة الوطنية، وهي الإطار السياسي الذي عارضته الجبهة القومية، ولم تدخل في إطاره، وبقيت خارجة، لشعورها بأن أهدافه السياسية مناقضة لمحتوى النضال الثوري المسلح الجاري على الأرض، والذي أثبت فعالياته وجدارته وأحقيته بالاستمرار . هذا ناهيك عن أن الأطراف المشكلة لمنظمة التحرير، معروف موقفها السياسي التاريخي الرافض، بل والمعارض لخيار الكفاح المسلح، وإن وافق عليه البعض تكتيكياً فإن هناك أطرافاً من المستحيل أن تقبل به، مثل: السلاطين والمشايخ ورابطة أبناء الجنوب العربي، ولذلك انسحبت منه تدريجياً. وكانت الخطوة الثانية للضغط على الجبهة القومية وتحجيمها باتجاه إلغائها باسم الوحدة الوطنية، هو فرض الدمج أو التوحيد بين الجبهتين القومية، والتحرير في 13 يناير 1966م: وبهذا الصدد يلاحظ السفير/والباحث، احمد عطية المصري  "إن موقف مصر المؤيد والداعم لثورة 14 اكتوبر ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب، سرعان ما تغير بعد بروز العناصر الماركسية في إطار الجبهة القومية، حيث تمكن مستشار الرئيس ناصر والمشرفون على شؤون اليمن، من إعطائه صورة خاطئة عن طبيعة المعركة، وتركيب قوى الثورة الأساسية، وتمكنوا من إقناعه أن مصر يفترض أن تدعم الجبهة الجديدة (جبهة التحرير) باعتبارها تتفق معها أيديولوجياً، وطبقياً"(7).

والأهم أنها تمثل وتعكس الوحدة الوطنية، والمصالحة الوطنية، وليست احتكاراً لجهة واحدة، مختصرة في الجبهة القومية، مع أنه حتى ذلك الحين لم يعلن أي فصيل سياسي تبنيه للكفاح المسلح، وفقط، الجبهة القومية، هي من تمسك بزمام القوة المسلحة على الأرض وكفاحها المسلح هو من صعد أكثر تحريك قضية الجنوب في الإعلام، وفي السياسة العالمية ، ومن أوصل قضية جنوب اليمن إلى الأمم المتحدة -بنبرة أعلى مما كان- وليس لا العمل السياسي السلمي، ولا التسويات السياسية والمفاوضات عبر المؤتمرات الدستورية واللندنية من 64-1965م التي فشلت جميعها، وأعلن فشلها الجميع، بريطانيون، ويمنيون مفاوضون . إن من أوصل قضية الجنوب إلى المحافل الدولية، كما يقول عادل رضا، هو الجبهة القومية، أو الكفاح المسلح هو من نقل قضية الجنوب سريعاً إلى قمة المحافل الدولية دون تجاهل أو إنكار دور الأخرين على هذا الصعيد السياسي، والدبلوماسي." فبعد أن كانت قضية الجنوب محصورة على النطاق الدولي المحدود، استطاعت الجبهة القومية في فترة وجيزة أن تجعل المواطن العربي والأجنبي يعيش هذه القضية يومياً ويتابعها باستمرار، وذلك عن طريق تصعيد العمل العسكري في المدينة عدن مع التحرك السياسي جنباً إلى جنب، بعد أن كان واضحاً أن الاستعمار البريطاني بدأ يتحرك منذ العام 64-1965م إلى إيجاد دولة عميلة بالجنوب، ويسارع بكل محاولاته السياسية لضرب الثورة المسلحة، وبدأت حكومة المحافظين تدعو عام 1965م إلى مؤتمر لندن هادفة من ذلك -كما سبقت الإشارة- إلى احتواء قرارات الأمم المتحدة" (8).

 نؤكد على ذلك، ونؤكد أكثر أن هذا الشكل النضالي ترافق مع ممارسة كل أشكال النضال السياسي والمدني والنقابي: الإضرابات، والتظاهرات، والاحتجاجات، والاعتصامات حتى الأشكال التشريعية، كما حدث في قضية التصويت على دمج عدن في دولة الاتحاد ضمن رؤية استعمارية بريطانية في 24 سبتمبر 1962م، حيث صوت أربعة من أعضاء المجلس التشريعي ضد الدمج، من أصل اثني عشر عضواً. وتحركت التظاهرات، احتجاجاً على هذا الإجراء، وعمت جميع مناطق عدن، جرت على إثرها اعتقالات لرموز سياسية وناشطين، وقيادات عمالية. إذ إن جميع الأشكال النضالية كانت تتظافر، وعلى رأسها جميعاً صوت المقاومة الشعبية المسلحة.

 وعلى إيقاع جميع هذه الأصوات المناضلة(عسكريا/وسياسيا)، وصلت قضية الجنوب إلى قمة المحافل الدولية. وسبق أن" اتخذت الدورة الثامنة عشرة للجمعية العمومية للأمم المتحدة التي عقدت في 13 ديسمبر 1963م قراراً أكدت فيه حق اليمن الجنوبي في تقرير مصيره بنفسه، كما أكدت الدورة العشرون للجمعية العمومية قرارها السابق. وبرغم محاولات بريطانيا تجاهل هذين القرارين، إلا أنها اضطرت في آخر الأمر إلى الاعتراف بهما، وذلك في آب أغسطس 1966- بعد فشل جميع مؤتمرات لندن الدستورية –الباحث– وبعد أن كانت قد أوعزت لحكومة ما تسميه اتحاد الجنوب العربي بتأييد القرارين في أيار (مايو) 1966" (9).

 وحقيقة، كان فشل جميع المؤتمرات الدستورية البريطانية التي دخل في بعضها حزب الشعب الاشتراكي، بقيادة عبدالله الأصنج، والأستاذ عبد القوي مكاوي، بمثابة ضربة سياسية شديدة لمفهوم وخيار الحل السياسي السلمي، والأسلوب السياسي التقليدي " لحل التناقض بين الاستعمار، والحركة الوطنية. وقد ساهمت الجبهة القومية التي قادت الثورة المسلحة، عبر تمسكها بالكفاح المسلح، وتعميقها لمساره، ومهاجمتها المؤتمر وعدم فعاليته، في إفشال أعمال المؤتمر، وذلك لأن الأطراف الوطنية المشتركة فيه كان عليها أن تقف موقفاً صلباً في مواجهة تحفظات بريطانيا والسلاطين، خاصة وأنها كانت مدعومة بقرارات قوية من الأمم المتحدة واحتمال صدور قرارات أقوى في الدورة القريبة المقبلة" (10).

 وهنا بدأ يتصاعد خطاب التسوية السياسية للقضية اليمنية في الشمال والجنوب، مترافقاً مع خطاب يتبنى فيه حزب الشعب نهج الكفاح المسلح، والذي تصاعد بعد فشل الدمج القسري بين الجبهتين، القومية والتحرير في 13 يناير 1966م، والذي استمر أقل من سنة، أعلنت فيه الجبهة القومية خروجها وانسحابها منه. غير أن جبهة التحرير استمرت مدعومة عربياً، من (الأجهزة المصرية والسعودية) والجامعة العربية، سيراً على خط التسوية، والمصالحة الوطنية، والوحدة الوطنية، التي رفعت شعارات سياسية لتمرير نهج التسوية السياسية، في الشمال والجنوب. وانصافاً للحقيقة التاريخية، فإنه وإلى قبل هذا التاريخ، (الدمج وفشله)، لم يقف، سياسياً ومؤازراً للكفاح المسلح، سوى حزب اتحاد الشعب الديمقراطي،بقيادة المفكر والمناضل/عبدالله باذيب، ورفاقه  الذي حول صحيفة "الأمل" الناطقة باسمه إلى منبر سياسي وإعلامي، داعم للجبهة القومية، وناشر لبياناتها وأخبارها، لدرجة دفعت بعض عناصر جبهة التحرير إلى تفجير مقر المطبعة، والاعتداء على منـزل الأستاذ عبدالله باذيب بالسلاح، احتجاجاً على موقف الصحيفة والحزب المنحاز لجانب الجبهة القومية.

 وقد نشرت صحيفة "الأمل" سلسلة مقالات تنتقد خطاب ومفهوم التسوية السياسية، والوحدة الوطنية، والمصالحة الوطنية " الذي ظهر بعد صدور قرارات الأمم المتحدة في نوفمبر 1965م على خلفية أن بريطانيا تواجه ضغطاً عالمياً متزايداً، وأنها بدأت تعد للجلاء عن اليمن الجنوبي. وعلى هذا فإن الحل السياسي قد أصبح متاحاً، وردت صحيفة "الأمل" بأن التصور السليم للموقف هو أولاً: أن قرارات الأمم المتحدة قد صدرت نتيجة لثورة الشعب المسلحة، وتعتبر انتصاراً سياسياً، تم إحرازه بقوة السلاح، وثانياً أن المطلوب لتحقيق أماني الشعب هو حل سياسي سليم، وليس حلاً وسطياً. والحل السياسي السليم هو أن تسلم بريطانيا بمطالب الشعب، ثالثاً: أنه رغم الجهود المشكورة للأمم المتحدة، فإن قراراتها ستظل عاجزة عن تقديم حل جذري وسليم، وعملي للقضية (...)، ورابعاً : أن بريطانيا عندما تسلم بالحل السياسي للقضية، فإنما لتعمل على عقد مؤتمرات دستورية، تمثل فيها العناصر الرجعية والعميلة، والشعب لا يقبل التفاوض من حول المبادئ، والأماني التي استقر رأيه عليها، بل يقبل التفاوض حول التفاصيل المؤدية إلى تصفية الوجود الاستعماري والرجعي" (11).

كان ذلك شكلاً من أشكال المواجهات السياسية والإعلامية والأيديولوجية بين طرفي خطاب التسوية السياسية وخطاب الإنجاز الثوري للعملية السياسية، هذا الأمر ينطبق على واقع حالة التسوية بين الجانبين الشمالي والجنوبي للقضية اليمنية. هذا، بعد أن تعقدت مجريات العملية السياسية داخل قمة القيادة الجمهورية بين الجناحين الجمهوري الثوري، ورموز الجمهورية القبلية، وبين التسوية السياسية في الجنوب عبر خيار التوحيد في 13 يناير 1966م وتحويل دفة القيادة السياسية لطرف آخر غير قيادة الجبهة القومية، رائدة الكفاح المسلح في جنوب البلاد، والطرف الأساسي القائد والمتزعم فعلياً للعملية الثورية المسلحة. دون شك، لعب خطاب التسوية السياسية دوراً سلبياً في إضعاف حركة الجدل النظري والفكري، والسياسي والتنظيمي وحتى الوطني في الموقف النضالي من الاستعمار، داخل أطر الجبهة القومية وفي المجتمع، بعد أن أصبح ثقل النظام السياسي العربي (مصر) و(السعودية) و(الجامعة العربية) ضاغطاً لإتمام وإنجاز نهج التسوية تحت شعار "السلام" وإيقاف الحرب، وحقن الدماء في الشمال الذي تبنته مؤتمرات، عمران وخمر والطائف والجند، و"توافقت" عليه أخيراً مصر والسعودية. وفي الجانب الآخر، جنوباً، التوجه باسم الوحدة الوطنية والمصالحة الوطنية، إلى تجيير القيادة للثورة لطرف مقرب من الأجهزة المصرية، ومن السعودية في صورة قادة حزب الشعب الاشتراكي عبدالله الأصنج، وعبد القوي مكاوي رئيس حكومة عدن قبل استقالته منها، وهو ما رفضته الجبهة القومية، وأبقت، رغم قرار الدمج في 13يناير 1966م، على أوضاعها السياسية والعسكرية والتنظيمية في حالة استقلالية عن جبهة التحرير، وفي 12/12/1966م أصدرت الجبهة القومية بياناً أعلنت فيه عن الانسحاب من جبهة التحرير، وعرضت تصوراتها للمناخ الذي ساد حركة التحرير الوطني اليمنية الجنوبية في الآونة الأخيرة، وضعف إطار جبهة التحرير، وتنشيط قوى الاستعمار والرجعية ووضعها مخططات جديدة (12) ثم جاءت بيانات وخطابات الجبهة القومية اللاحقة لتؤكد أنها لا تعارض قضية التوحيد من حيث المبدأ ولكن على قواعد سياسية وفكرية ووطنية صحيحة. وانعقد المؤتمر العام الثالث للجبهة القومية في نوفمبر 1966م وبشكل متسارع، وكانت أهم "نتائجه هي إقرار شرعية انقلاب 14 أكتوبر وإقرار مواصلة النضال بشكل مستقل عن جبهة التحرير (..). فالمؤتمر الثالث لم يضف أي جديد في الجانب الأيديولوجي(..) وظلت القيادة القديمة هي المسيطرة مع وجود عناصر من القيادة الثانوية" (13).

إن قضية الكفاح المسلح، والتسوية السياسية هي عنوان لمرحلة سياسية صراعية طويلة، بدأت "جنوبياً" تحديداً مع قضية تبني إنشاء منظمة تحرير الجنوب المحتل ولم تتوقف مع إعلان الدمج في 13 يناير 1966م. واستمرت العملية الصراعية في شكل صراع بين رؤيتين، وموقفين لم يتمكن لقاء الإسكندرية (مصر) أغسطس 1966م حول استمرار توحيد الجبهتين من التوفيق بينهما، وإنجاح مسعاه، وكأنه كان بمثابة لقاء رفع عتب لأن قواعد وقيادات الصف الثاني، ومعهم بعض الصف الأول، الممسكة بالتنظيم في الداخل وقيادة العمل الفدائي، وجيش التحرير، كانت قد حسمت أمرها بالخروج من الدمج ،وإنما فقط كانت تناور لتراعي دور مصر وضغوطها في هذا الاتجاه، ولكنها في الواقع كانت تسير وتتحرك على طريق الانسحاب النهائي من جبهة التحرير، وممارسة العمل المسلح بشكل مستقل كجبهة قومية. واستمر صراع هاتين الرؤيتين والموقفين وصولاً للاقتتال الأول والثاني وحتى إنجاز المفاوضات بصورة مستقلة، حيث انتصر خيار الجبهة القومية بالكفاح المسلح على خيار التسوية، تحت شعار الوحدة الوطنية الذي كنا نتمنى أن تنجز وتتحقق، على قواعد وأسس ومبادئ سليمة. ولكن لأن مياه الاختلاف والصراع قد فاضت على كأس الوحدة، وكان ما تم في سيرورة المفاوضات وحتى إنجاز الاستقلال، تحت قيادة الجبهة القومية إلى أن انفردت وحيدة بالحكم بعد أن أقرت أنها هي وحدها القائد للدولة، والمجتمع وهي التنظيم الثوري الوحيد في البلاد.

وهنا كانت البداية السياسية والعملية لممارسة فعل الاقصاء والاستبعاد لجميع المكونات السياسية عن المشاركة في السلطة، وفي بناء الدولة، وهو جذر الشرور السياسية جميعا التي واجهت تجربة بناء الدولة في جنوب البلاد وفي شمالها كذلك .

الهوامش :

1 - د. أحمد عطية المصري كتاب "تجربة اليمن الديمقراطية، 1950م-1972م"، ط1، 1974م، مطبعة المدني / القاهرة، ص282+283+284.

2- فيتالي ناؤومكين، مصدر سابق، ص 109 .

3 - شيخان عبدالله أبوبكر الحبشي : يمني من مواليد جاكرتا /أندونسيا 1920م- 1995م.عاد مع أسرته إلى حضرموت 1931م ، في عودة نهائية للوطن والاستقرار فيه تلقى تعليمه في جاكرتا وفي حضرموت /شبام وفي صنعاء 1931م-1936م في مدرسة الأيتام وكان من رفاقه في الدراسة ، المشير عبدالله السلال الشهيد أحمد حسن الحورش والأستاذ أحمد حسين المروني استكمل تعليمة العالي في بغداد 1936م-1942م على نفقة والده الذي يشتغل بالتجارة ثم غادر إلى كراتشي/باكستان للدراسة ليحصل على معادلة دراسة الحقوق باللغة الإنجليزية أشتغل بالتدريس ، من مؤسسي رابطه أبناء الجنوب العربي 1950م مع محمد علي الجفري ولعب دوراً مهماً في تأسيس مكتب الجنوب العربي في القاهرة ممثلاً للرابطة 1956م-1964م ساهم في عرض قضية الجنوب العربي أمام لجنة تصفية الأستعمار التابعة للأمم المتحدة لعدة مرات حتى صدور قرار تصفية الاستعمار.

4 - فيتالي ناؤومكين، نفس المرجع ص110+111.

5- محمد جمال باروت "حركة القوميين العرب،

 النشأة،التطور .."، مصدر سابق، ص367

6 - د. أحمد عطية المصري " تجربة اليمن الديمقراطية " مصدر سابق، ص 338 .

7- د. أحمد صالح الصياد " السلطة والمعارضة في اليمن المعاصر " ص 379 دار الصداقة، ولمزيد من معرفة الرئيس جمال عبدالناصر بالأوضاع في جنوب اليمن التقى بالأستاذ الفقيد عبدالله بأديب في العام 1965م وسأله عن رأيه فيمن يتصدر المشهد السياسي والوطني الثوري في جنوب اليمن فأجابه : بصرف النظر عن رأينا في الجبهة القومية فإنها هي قائدة وزعيمة العمل الثوري المسلح ، وعلى إثر هذا اللقاء حجزت الأجهزة المصرية جواز سفر عبدالله بأذيب لديها لعدة أيام، ومعلوم أن باذيب وحزبه كانا في اتجاه خط الجبهة القومية سياسياً وكفاحياً .

8 - عادل رضا كتاب " محاولة لفهم الثورة اليمنية "، ط1، 1974، المكتب المصري الحديث القاهرة / مطابع الأهرام التجارية ، ص76.

9- علي الصراف كتاب " اليمن الجنوبي، الحياة السياسية، من الاستعمار إلى الوحدة "، رياض الريس/ بيروت، ط1، 1992م، ص61

10 - د،أحمد عطية المصري  "تجربة اليمن الديمقراطي"، مصدر سابق، ص353.

11- أحمد عطية المصري ، نفس مصدر سابق، ص378.

12- المقصود هنا بانقلاب 14 أكتوبر 1966م هو أن شباباً في القيادة الثانية، أو الصف القيادي الثاني، من قادة الفدائيين، في عدن (سالم ربيع علي،محمد سعيد عبدالله (محسن)،علي صالح عباد،.. إلخ) مع بعض قادة جيش التحرير في الريف، ومساندة الأطر التنظيمية الأخرى للجبهة القومية، أعلنت تمردها على سياسة القيادة، وأقرت مواصلة النضال بصورة مستقلة عن جبهة التحرير، وبداية ترتيب أوضاعها على هذا الأساس، وكان المؤتمر الثاني للجبهة القومية 7-11 يونيو 1966م في مدينة (جبلة) قد طرح حلاً وسطاً، من أن المؤتمر وقيادته لا تعارض قضية التوحيد من حيث المبدأ، ولكن بشرط أن تحصل قيادة الجبهة على مقاعد قيادية تتناسب مع حجمها، ودورها، ومكانتها، كما أنها رفضت دخول القوى المشيخية والسلاطينية ورابطة أبناء الجنوب العربي، ثم يبرز لاحقاً الخلاف حول تشكيل (المجلس الوطني) الذي أعلن محمد سالم باسندوة انعقاده، دون تحديد النسب فيه والذي كان مقرراً أن يعقد في تعز، وفشل، ويرى البعض من قيادة الجبهة القومية أن من تصدر وتزعم في المؤتمر الثالث للجبهة قضية الخروج والانسحاب من عملية التوحيد في جبهة التحرير هم القيادات التالية : علي صالح عباد (مقبل)، عبدالله الخامري، سالم ربيع علي(سالمين) .

13 - د. أحمد صالح الصياد كتاب " السلطة والمعارضة في اليمن المعاصر "مصدر سابق، ص 386.

جروب..القانون ناموس الامم

قراءة 1477 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة