ذكرياتي وحزني على الراحل السفير علي عبدالله السلال (3)

الأحد, 24 كانون2/يناير 2021 20:05 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 
(3)

في المنزل وفي حالة قلق على مصيرنا وخاصة والأخبار التي تصلهم أن قلب الجزائر يحترق بصورة شاملة وتمضى اليوم خمسة أكتوبر 1988م ويأتي المساء وإذا الشوارع كلها والحارات بقبضة المتظاهرين وبدأنا من اليوم الثاني نسمع الأخبار وإذا الجزائر كلها بولاياتها الأربعين ومدنها من تلمسان ووهران غرباً إلى قسنطينة شرقاً كلها في حالة ثورة وانتفاضة عارمة شاملة ونفس الحرائق والتدمير ولا سيما لمؤسسات الدولة من مباني الوزارات والمؤسسات ووسائل المواصلات وإحراق الباصات والقطارات التي تنقل الناس، المهم فوضى شاملة عارمة مفجعة ولم يتحرك الجيش إلا من اليوم الرابع وأعلنت الأحكام العرفية والطوارئ ومنع التجوال وأنزلت القوات المسلحة إلى كل مناطق العاصمة والمدن الجزائرية الأخرى، وفي عصر اليوم التالي من التظاهرات نفاجئ بالمناضل الوطني السبتمبري علي عبدالله السلال أمامنا لوحده مشياً إلى الفندق على الأقدام من موقع منزله في منطقة الابيار والتي تبعد ربما خمسة كيلو عن الفندق، ماذا يا أخ يحيى وصلت مع الكارثة المفجعة، قلت له هكذا وصلت السودان وجاءت الفيضانات العارمة ونقلوني الجزائر هروباً من الأوضاع الصعبة والآن وصلنا الجزائر إلى وجه العاصفة المدمرة، علق علي السلال قائلاً، ما رأيك نرسلك أمريكا ربما تأتي لهم زلازل أو براكين، وضحكنا، قال لي أنهم يبحثون عن بيت وقال أنه لولا العفش الذي معنا لتحركنا على الأقدام إلى منزله، قلت له صعب الأطفال لا يقدرون على المشي ولا نريد ترك عفشنا وإن شاء الله تتحسن الأوضاع ونتحرك بسيارة، طبعاً أعطانا خبز وملوج وذمول كانت هدية ثمينة وعظيمة لا يوجد شيء أعظم منها في ظروفنا على المعلبات والخبز البائت.

السفير الجنوبي (جمهورية اليمن الديمقراطية) قاسم عسكر جبران أرسل من يتفقدنا ويعرض أخذنا إلى منزله وأرسل لنا بالمواد الغذائية، فكان المحاصرون من نزلاء الفندق مساق إلى غرفتنا بصورة متواصلة يطلبون أكل ومياه وهذا خلق بيننا تعاون وتفاهم وخاصة مع وجود عرب من الأردن وسوريا واصبحوا وسيلة تفاهم مع الأجانب المتحدثين بالفرنسية فاكتشفنا فرنسيين يعرفون ما يجري ويقيمون ويحللون ومنهم سمعنا أن الحركة الإسلامية هي من تقود  هذه الثورة او الانتفاضة  وهذا التدمير الممنهج والمبرمج لكل مؤسسات الدولة ووثائقها وأرشيفها وسجلاتها التي كانت مستهدفة بالأساس ويتم إحراقها بعناية فائقة.  وهؤلاء الفرنسيون كانوا يوافونا بالأخبار أولاً بأول وكأنهم في قلب قيادات الأحداث. من اليوم الثالث بدأت الشوارع والميادين والجولات تغطى بالشعارات واللافتات ذات التوجه الإسلامي المتطرف والعنيف وتشتم منها رائحة الوهابية السلفية المتخلفة وأصابع السعودية.

وفي اليوم الثالث وصل السفير علي عبدالله السلال وسائقه  وبمغامرة أذهلتنا كونه قد تعرف على بعض المتظاهرين وأمنوا له الوصول إلينا ونقلنا على وجه السرعة إلى منطقة دالي إبراهيم حيث البيت الذي سيكون بيتنا وقال لي السفير علي السلال أنه لديه معلومات مؤكدة أن الجيش الجزائري على أهبة الاستعداد للانطلاق إلى الشوارع لسحق الفوضى وإعادة الأمن والاستقرار إلى الجزائر، ويخشى أن تصبح قضية نقلنا أصعب من الأيام الماضية بكثير إذا نزل الجيش لأن المتظاهرين يحملون أسلحة ومستعدين للمواجهة، لهذا عجل بنقلنا على وجه السرعة فله كل التقدير والاحترام على مشاعره وإحساسه بالمسؤولية كسفير لليمن مسؤول عن رعايا بلده وموظفي سفارته، وفعلاً وفي اليوم الرابع نزل الجيش الجزائري إلى الشوارع بدباباته ومدافعه ومختلف أسلحته الخفيفة والثقيلة والمتوسطة والطيران المحلق في الأجواء على مدى أربعة وعشرين ساعة وفي غضون أربعة أيام سحق الجيش المظاهرات والانتفاضات وسيطر على العاصمة بقوة الحديد والنار وأعلن عن حصيلة أولية لعدد القتلى بخمسمائة قتيل من الطرفين حسب البيانات الرسمية، إلا أن التقديرات المعارضة تقول بآلاف القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى، وتتواتر الأخبار عن ما يجري داخل مؤسسات الدولة والرئاسة وقادة الجيش ومنها أن ما جرى هو انقلاب عسكري على الرئيس الشاذلي بن جديد وأخبار تقول أن الانقلاب العسكري قد قاده الرئيس بن جديد وأطاح بقادة ورموز جبهة التحرير الجزائرية الحاكمة منذ الاستقلال أي منذ أكثر من ربع قرن، وبعد هذه الفاجعة التي حلت بالجزائر والقمع الوحشي الذي جرى ظلت الجزائر لأسابيع وهي غير قادرة على استعادة أنفاسها وأعمالها ونشاط مؤسساتها وأسواقها المحترقة وصدرت عن الرئيس الجزائري قرارات جمهورية تدعو إلى منح الحريات والديمقراطية والتعددية الحزبية والسياسية وبهذا بدأت الجزائر مرحلة جديدة من نظام الحزب الواحد إلى التعددية والوعود بإجراء انتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية حرة وشفافة.

والحقيقة أن الناس كانوا في حالة ذهول على ما جرى حين تخرج الشارع في قلب العاصمة ولا ترى إلا وسائل المواصلات محترقة ودور الحكومة والمؤسسات وكل مكاتب الوزارات والشرطة والبريد ومحطات وقوف الحافلات مدمرة ومحطات البترول، والتساؤلات تفرض نفسها بقوة ما الذي حدث ولماذا وما هي الدوافع والأسباب التي قادت الجماهير الغاضبة لأن تعمل في البلاد خراباً وتدميراً وكان الدور الأبرز في إحراق وتخريب كل شيء للشباب الجزائري والذين يطلق عليهم شباب الحيطان أي المفصعين على الجدران بدون أعمال ولا رعاية ولا آمال بالحلول، كانت الدولة الجزائرية وأيام الثورة النفطية وفي عهد الرئيس هواري بومدين قد وضعت خطط اقتصادية واجتماعية وثقافية كدولة رفاهية للشعب ضمان التعليم المجاني والإلزامي حتى نهاية الجامعة ومن يريد مواصلة الدراسة العليا في الداخل أو الخارج مجاناً وعلى حساب الدولة. دعم مفرط للمواد الغذائية والطاقة وجعلها رخيصة في متناول كل الناس، ضمان العمل لكل من تخرج من الشباب الجامعي  حسب التخصصات دون أن يتأخر يوماً واحداً وإذا تباطئ استلام العمل فإن الراتب يصرف له فوراً، ومجرد أن يستلم العمل دون تأخير يستلم الخريج شقة جاهزة ومؤثثة، حين يقدم الشباب الخريج على الزواج فتصرف له فوراً تكاليف الزواج والعلاج المجاني لكل مواطن جزائري وإذا هناك تقارير أن العلاج خارج البلاد فعلى حساب الدولة وبدون عرقلة أو تأخير، وفجأة تحدث مستجدات خطيرة حيث تهبط أسعار النفط إلى ما دون تكلفة استخراجه وتبدأ الصناعات في التراجع لانخفاض التموين أو توقفه والزراعة يتراجع إنتاجها بصورة خطيرة  لعدم تصريف منتجاتها وغلاء المحروقات والخريجين يتوافدون على الشارع عام بعد عام لا عمل ولا راتب ولا شقة ولا زواج وهذا منذ السنوات الأولى للثمانينات والتدهور في شتى المجالات بل وصلت الأوضاع في الكثير من المصانع التي كانت تشغل آلاف وعشرات الآلاف من العمال تغلق أبوابها ومؤسسات التعليم والصحة تراجعت خدماتها  واستيعابها بسبب النقص الحاد في التمويل وجزء كبير منها وصل مرحلة التوقف والشوارع تستقبل كل شهر وكل يوم الآلاف من العاطلين عن العمل والذين يتم الاستغناء عنهم وينضمون إلى طوابير المفصعين على الجدران (شباب الجدران).

.................يتبع

قراءة 3312 مرات

من أحدث يحيى منصور أبو اصبع

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة