هل الحرب استمرار للسياسة؟؟ مناقشة نقدية لـ "كلاوزفيتز"

الثلاثاء, 19 تموز/يوليو 2022 20:10 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

بات الكثيرون، في الآونة الأخيرة، يستعيدون مقولة الجنرال البروسي كارل كلاوزفيتز "Karl Clausevitz" (1780 – 1831) ومُؤدَّاها: "إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى" في سياق تبرير استمرار الحرب في اليمن ورفض إنهاءها.

هذه الاستعادة الاجترارية لكلاوزفيتز تُهمِل، بوعي أو بدونه، اختلاف السياق التاريخي للمقولة "الكلاوزفيتزية" عن السياق التاريخي الراهن.

فهذه المقولة قِيلت في ظروف استحكام الاحتدام العسكري بين الامبراطوريات الأوروبية في القرن التاسع عشر الميلادي، وهي ظروف تختلف اختلافاً كبيراً ونوعياً عن ظروف عالمنا المعاصر الذي تسوده الثورة التكنولوجية والمعلوماتية ونضج البنية الكونية التي غيّرت الكثير من المفاهيم والأفكار والقناعات.

تحاول هذه المقالة الإجابة على التساؤل الآتي:

هل حقاً تمثّل الحرب استمراراً للسياسة؟ أم إن الحرب تمثّل النقيض الموضوعي للسياسة؟

تقودنا محاولة الإجابة على التساؤل الإشكالي السابق إلى توضيح مفهوم السياسة والتحوّل الذي طرأ عليه.

منظورات مختلفة لمفهوم السياسة:

يعدُّ مفهوم السياسة من أكثر المفهومات التباساً نظراً لما طرأ عليه من تحولات وتوظيفات على صعيدي الفكر والممارسة ماضياً وحاضراً.

فقد أخذ مفهوم السياسة معانٍ ومدلولات متعددة ومختلفة إلى حدّ التضاد. في هذا الصدد يمكننا أن نميّز بين أربع منظورات رئيسية في تفسير السياسة:

أولاً: المنظور اللاهوتي:

يعتبر السياسة اصطفاءً إلهياً لأفراد أو جماعة أو سلالة معينة دوناً عن بقية البشر، فالسياسة من هذا المنظور ليست نشاطاً إنسانياً مكتسباً، أو حقاً عاماً لجميع الأفراد، بقدر ما هي مَلَكات ومواهب "فطرية" "يودعها الله" في بعض من بني خلقه من البشر!

وبموجب هذا الزَّعَم المتوَّهم، يصبح الحاكم مُفوَّضاً من لدن الله، فهو ظِلّه في الأرض، وطاعة الحاكم واجبة فهي من طاعة الله!

الحاكم هنا يستمد حكمه من الله، وليس من رضا الشعب، لذلك فحكمه أبدي لا ينتهي إلا بموته، وهو فوق النقد والتقييم ولا يحق لأحد محاسبته، وأما معارضوه فهم إما كفار وإما زنادقة يستحقون أشدَّ العذاب!

ثانياً: المنظور الميكافيللي:

نسبة إلى نيكولا ميكافيللي "Nicolo Machiavelli" (1469 – 1527) الذي على الرغم من أنه أحدث ثورة في الفكر السياسي، بتحقيق "نزع القداسة عن السياسة"، وإنزالها من سماء الألوهية إلى أرض الممارسة البشرية؛ إلا أنه أعطى للسياسة مضموناً نفعياً محضاً منسلخاً من كل قيمة أخلاقية أو مبدأ إنساني.

من بين أشهر مقولات ميكافيللي: "الغاية تبرر الوسيلة"، وهي مقولة تُلخّص بكثافة وبكفاءة فلسفته السياسية، فليس من المهم أخلاقية أو عدم أخلاقية الوسيلة ما دام أنها تحقق الهدف النهائي أو المصلحة المنشودة!

صحيح أن المصلحة مبدأ جوهري في السياسة، ولكن أيّ مصلحة؟ أهي المصلحة الخاصة بالنخبة الحاكمة؟ أم المصلحة العامة لعموم الشعب؟ وهل يقتضي ذلك إقامة تناقض ماهوي بين المصلحة والأخلاق، أم لابد من بناء علاقة تصالحية منسجمة بينهما؟

إنّ السياسة بالمعنى الميكافيللي لا تعدو أن تكون ضرب من الخداع والاحتيال والكذب. فالحاكم ينبغي عليه أن يتحلى بصفات الثعلب (المكر والدهاء)، وبالقدر ذاته، عليه أيضاً أن يتحلى بصفات الأسد (القوة والغِلظة)، فبهاتين القيمتين يتحقق استباب الحكم وتُساس أمور الناس وفقاً لميكافيللي.

ثانياً: المنظور الفاشي:

ينطلق في رؤيته للسياسة على أنها مجال لعلاقات القوة الخشنة، فالطرف الأقوى هو من يحكم ويسيطر، وما على الآخرين سوى الخضوع، وإن رفضوا فلا سبيل لإخضاعهم سوى استخدام القسر والعنف.

من المعروف أن الفاشية قد تجسدت تاريخياً في ألمانيا إبّان حكم أدولف هتلر "Adolf Hitler" (1889 – 1945)، وفي إيطاليا فترة حكم بينيتو موسوليني "Benito Mussolini" (1883 – 1945)، وفي إسبانيا في عهد حكم فرانثيسكو فرانكو "Francisco Franco" (1892 – 1975)، وفي دول أخرى من العالم.

 السياسة هنا هي المعادل الموضوعي للإرهاب المُنظَّم والعنف الواسع النطاق والسيطرة المطلقة على السلطة والمجتمع والثروة والمعرفة وحتى على الوجدان والعواطف.

يصبح الحاكم مقدساً، كليّ القدرة والجبروت، أما الجماهير ما هي إلا توابع أو تروس في عجلة السلطة!

ثالثاً: المنظور المدني:

ينهض على اعتبار السياسة فعل اجتماعي عقلاني يتغيَّا تحقيق الخير العام على قاعدة المشاركة الواسعة للأفراد والقوى السياسية والجماعات الاجتماعية، وفي مناخ حر ديمقراطي تعددي، وبمقتضيات سيادة القانون وحيادية مؤسسات الدولة وتمثيل الإرادة العامة.

تكتسب السياسة هنا معنىً مغايراً، إنها علم وفن الممكن الذي يترجم الاستراتيجيا؛ والمحكوم بالنظرية العلمية وبالأخلاق المبدئية. وليس صحيحاً البتة أن "السياسة لا أخلاق فيها" كما يفهم الميكافيلليون، فـ"من يفصل السياسة عن الأخلاق لم يفهم أيّ واحدة منهما" كما يقول جان جاك روسو "Jean-Jacques Rousseau" (1712 – 1778).

إذا كان ميكافيللي قد لخّص فهمه للسياسة بالقول: إن "الغاية تبرر الوسيلة"؛ فيمكن تلخيصها هنا بالقول: إن "الغاية النبيلة لا تتحقق إلا بوسائل شريفة" وشتان بين هذا وذاك..!

لقد رأينا فيما سبق أن هناك نماذج فكرية مختلفة تفسّر السياسة، ولكن لا ينبغي أن نتوّهم ولو للحظة أن هناك حدوداً فاصلة ومقفلة بين تلك النماذج إلى درجة التمايز الكليّ، بل ثمة تداخلاً واضحاً بين الثلاث النماذج الأولى، فاللاهوتية والميكافيللية والفاشية على الرغم من اختلافها الظاهري، إلا أنها تتفق من حيث الجوهر على نقطة مركزية مؤداها: تسويغ استخدام العنف وشنّ الحروب بذرائع متباينة.

فالحرب مقدسة، وفق المنظور اللاهوتي، لأنها تُخاض في سبيل الرب والدفاع عن دينه ضد الكفار الأعداء. والمجاهدون هم جند الله الذين يحاربون أعداء الله، لذا يستحقون الغنائم في الدنيا وأن يجازوا بالجنة في الآخرة.

أما الميكافيللية فتعتبر خوض الحرب واجباً وطنياً، وأن على الناس "الدفاع عن الوطن"، بأيّة وسيلة كانت!

وينصح ميكافيللي الحاكم بشنّ حرب استباقية باستمرار لحماية حكمه، لأن تأجيلها سيصب في مصلحة الأعداء.

والحرب، من المنظور الفاشي، تعبير عن إرادة القوة، ووسيلة لتحقيق الفرادة والتفوق الإنساني. "فجوهر الحضور الإنساني هو إرادة القوة لا إرادة الحياة" كما يقول فريدريك نيتشه "Friedrich Nietzsche" (1844 – 1900) على لسان زرادشت.

من المعلوم تاريخياً أن فلسفة نيتشه حول القوة والإنسان الأعلى وأخلاق الأسياد والعبيد قد مثلت المعَين الذي نهل منه الحزب النازي في ألمانيا، ولهذا مثّلت الحرب بالنسبة للنازية القاعدة الأساسية في السياسة، فيما ازدرت السلام واعتبرته نهج الضعفاء والعبيد.

هكذا يُضفى على الحرب معانٍ "أخلاقية" ومسوغات "منطقية"، ولا عجب في هذه الحالة أن تكون الحرب استمرار للسياسة، ولكن أية سياسة؟؟!

إنها السياسة اللاهوتية/ الميكافيللية/ الفاشية، السياسة المُجرَّدة من كل قيمة أخلاقية ومن كل مبدأ إنساني، السياسة التي تُعبِّد الطريق للوصول إلى السلطة بالدموع والدماء والجماجم والمآسي، وتحتكر الفضاء العام لآمادٍ طويلة بالوسائل الخشنة (= الجيش والأمن والمخابرات والمحاكم والسجون...)، وبالوسائل الناعمة (= الأيديولوجيا والصحافة والاعلام والتعليم والثقافة...). 

السياسة التي تختزل العلاقات السياسية والحقوقية والدستورية إلى ثنائيّ "صديق ــ عدو" ليغدو وجود الدولة ذاته قائم على شنّ الحرب باستمرار وفقاً لكارل شميدت "Carl Schmitt" (1888 – 1985) مُنظّر النازية الأبرز.

هكذا تنقلب المعادلة رأساً على عقب، لتصبح السياسة استمراراً للحرب، لا كما اعتقد كلاوزفيتز، بأنّ الحرب استمرار للسياسة.

هذا هو المآل "الطبيعي" للواقع الذي تفرزه الحرب. أيّ حرب في الدنيا لا تقوم إلا على إزاحة السياسة وإلغاءها. فعندما يسود منطق القوة ويتصدَّر العسكر والمحاربون المشهد لا يبقى للسياسيّ مكان إلا من موقع التابع، المتذيّل، المُشرعِن لجريمة الحرب وتجاوزات المحاربين، وهو ما نشاهده عَيَاناً في يمن اليوم!

لتفادي حدوث هذا الخلل الخطير ترى السياسة المدنية، أنّ السياسة في جوهرها شيء والحرب شيء آخر، ولا يمكن الجمع بينهما، وذلك لاعتبارات عدة، أبرزها:

1- تقوم السياسة على آليات الحوار والتوافق والتفاوض، بينما تقوم الحرب على المواجهة الصفرية والعنف المسلح.

2- تعتمد السياسة على المنافسة وتقديم النماذج البناءة؛ في حين تسعى الحرب إلى إرغام الآخر "المنافس" وإخضاعه لإرادة المنتصر كما يفيد كلاوزفيتز.

3- تهدف السياسة إلى بناء قواسم مشتركة بين مختلف الجماعات والأفراد، وتعتبر أن الاختلاف قيمة إيجابية تثري الحياة؛ بينما تقوم الحرب على أساس تصنيف الناس إلى صنفين: حلفاء وأعداء، وبهذا تقوّض دعائم الحياة الإنسانية وإمكاناتها الخلاقة.

4- تقرّ السياسة بحقائق التعدد والتنوع في الحياة البشرية، وتنظر إلى الوجود من موشور ضوئي متعدد الألوان؛ بينما لا ترى الحربُ الوجودَ إلا من خلال موشور ثنائي: إما أسود أو أبيض، إما كل شيء أو لا شيء ولا سبيل لإيجاد خيارات أخرى!

5- السياسةهي الحالة الاجتماعية المدنيةالتي تسود فيها الدولة المستندة إلى العقد الاجتماعي ويتحقق فيها استقرار المجتمع؛ أما الحرب فهي اللامعقولية الاجتماعية أو "الحالة الطبيعية" بلغة توماس هوبز "Thomas Hobbes" (1588 - 1679)، وهي حالة وحشية تعمّها الفوضى ويسود فيها قانون الغاب ومبدأ البقاء للأقوى.

6- السياسة ممارسة إنسانية عقلانية تتوخَّى الخير العام وتقديم الأفضليات؛ بينما الحرب ممارسة غريزية هوجاء مدمِّرة، تدمِّر المكتسبات وتفكّك المجتمع وتخلق الأشرار باستمرار.

7- السياسة هي فضاء رحب مُشْرَع على المستقبل، تبشّر بالجديد وتصنع التغيير؛ فيما الحرب استعادة لأشباح الماضي وبعث لكل النعرات والتناحرات الماضوية من رُقادِها.

8- منذ بداية التاريخ كان ولا يزال هدف السياسة هو تحقيق الحرية إزاء الاستبداد كما تؤكد حنه آرنت ""Hannah Arendt(1906 – 1975)؛ في حين تهدف الحرب إلى الضد من ذلك، أي تثبيت الاستبداد وإلغاء الحريات الفردية والعامة.

9- مبرروجود السياسة هو الحد من الحروب والعنف والنزاعات الدموية؛ فيما تنفخ الحرب في كِير العنف والثارات والتناحرات وتزيدها اضطراماً وأُجِيجَاً.

10- أخيراً السياسة لا تنفي الصراع، فالصراع حقيقة من حقائق الوجود، ولكنها تُأَنْسِنَه فتضع له ضوابط وآليات بناءة لإدارته من خلال الحوار والمساومات والتسويات والتوافقات؛ بينما تحيلُ الحربُ الصراعَ إلى تناحرات وحشية وممارسات ثأرية حيوانية.      

بناءً على ما سبق، سيتعيّن علينا أن نختار أيّ سياسة نحتذيها؟ وبالتالي إلى أي عالمٍ ننتمي؟ أللعالم القديم حيث تمثل الحروب والتناحر والتوحش والهمجية مبدأ في بناء العلاقات السياسية والاجتماعية؟ أم لعالمٍ إنسانيٍّ ينشد إحداث قطيعة تاريخية مع منطق الحروب والعنف؟؟!


 

 

قراءة 1197 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة