علوان النموذج الوطني المتميز*

السبت, 17 أيلول/سبتمبر 2022 20:42 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

الحاضرون جميعاً، كل باسمه وصفته، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في يوم حزين فارق دنيانا عزيز، يصعب على غيره أن يملأ الفراغ، الذي تركه في حياتنا. وفي هذه اللحظة، وقد طُلب مني أن أتحدث فيها عن الفقيد، نيابة عن أصدقائه، أجدني عاجزاً عن الإحاطة بكل المعاني، التي جسدها الفقيد في حياته. ولذا اعتذر سلفاً منه ومن ذكراه ومنكم ومن كل أهله وأصدقائه ومحبيه، أعتذر عن تقصيري، وعن عجز كلماتي عن أن توفيه بعضاً مما يستحقه. وأكتفي هنا بومضات خاطفة، يفهمها من عرف علوان، وقد يستعصي فهمها على من لم يعرفه.

علوان، نموذج وطني إنساني متميز. ذات يوم سمع الراحل العزيز أن أحد أصدقائه ورفاقه القدامى يرقد في العناية المركزة، في أحد مستشفيات صنعاء. فترك عمله وسارع إلى زيارته ليطمئنَّ عليه. وفي غرفة العناية المركزة رآه مستلقياً على السرير، يتنفس من خلال جهاز الأكسجين، وبعض الأجهزة الطبِّية الأخرى موصولة إلى جسده. وضع كفه على جبينه وأمسك بيده، ثم التفت إلى بعض أقاربه، الملازمين له في المستشفى، واستفسر عن وضعه وعن تطور حالته، وعما إذا كانوا قد فكروا بنقله للعلاج في الخارج. فأخذوا يجيبون على أسئلته، وعن الجهود التي يبذلونها لنقله إلى الخارج، وعن الاتصالات التي أجروها مع رئاسة الجمهورية ومع رئاسة مجلس الوزراء، على مدى شهرين، دونما نتيجة. وكان المريض واحداً من أعلام الحركة الوطنية، وممن تبوأوا ذات يوم مواقع حكومية رفيعة. وبعد أن سمع الفقيد منهم ما سمع، ارتسمت على وجهه أمارات الألم. وبكلماتٍ حاسمة ومقتضبة، وجه كلامه لأقاربِ المريض: اتركوهم.... لا تتعبوا أنفسكم .... جهزوه للسفر..... وستصلكم تذاكر السفر، له ولمرافقه ..... وسأتولى تكاليف علاجه وكافة النفقات اللازمة له وللمرافق، حتى يُشفى بإذن الله.

وكان علوان رحمه الله إذا قال فعل. وغادر المريض مع مرافقه صنعاء، بمجرد الانتهاء من تجهيزه للسفر. وبقيت الالتماسات والتقارير الطبية والمعاملات مهملة في أدراج المسؤولين في رئاستي الدولة ومجلس الوزراء، لم يكترث بها أحد، ولم يسأل أحدهم عن حال المريض وما آل إليه وضعه، رغم انقضاء عقد من الزمن، ورغم أن جميعهم يعرفونه حق المعرفة، وبعضهم كانوا زملاء دراسة أو زملاء عمل.    

وعندما انتقل علوان إلى جوار ربه، وشُيِّع جثمانه في صنعاء، التي شهدت أحلامه وطموحاته الوطنية وجهده ومثابرته وإنسانيته وسمو أخلاقه ورقي تعامله مع من حوله، سمعت حكايات من بعض المشيعين، مشابهة لحكايته هذه مع رفيقه وصديقه، حكايات حدثت مع أشخاص آخرين، بعضهم لم يكن يعرفه حق المعرفة، كما كان يعرف صديقه ذاك. ومع ذلك وقف معهم الموقف ذاته.

كان لعلوان حلمه الوطني، الذي سعى إلى تحقيقه عبر العمل السياسي المنظم. فانتسب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، في سنوات شبابه المبكر، ونشط بين صفوفه. وعندما أدرك أن حلمه لن يتحقق في حياته، من خلال العمل السياسي المباشر، في إطار حزب من الأحزاب، قرر أن ينهج نهجاً آخر لتحقيق ذلك الحُلم. ولن أسترسل في الحديث عن تفاصيل حُلمه، فمعظمكم يعرفه، وبعضكم عاشه معه. ولذا فإن إشارات سريعة، وعناوين عامة، تغني في هذا المقام عن الاسترسال في ما هو معلوم ومعروف.  

 لم يكن حُلم علوان حُلماً شخصياً، بتحقيق ثروة، توفر له رغداً من العيش وقدراً من النفوذ، في بلد يضيع فيها المواطنون البسطاء، الذين لا نفوذ لهم، وتُهدر حقوقهم، ولا يلتفت إليهم أحد إن جاعوا أو مرضوا أو ظلموا، بل كان حلمه بحجم الوطن كله، كان حلماً بمستقبل ناهض مزدهر لكلِ اليمنيين، خال من الفقر والجهل والمرض. وفي سبيل تحقيق حُلمه الوطني هذا، كرس كل حياته، وبنى قدرته المادية من لا شيء، وسخرها لتحقيق حلمه. فمكن أبناءَ أسر فقيرة من التعليم، وبنى المدارس ومؤسسات التدريب والتأهيل المهني، وأنفق عليها، وواصل الإنفاق على أسر متعففة، وعلى طلاب علم، وعلى محتاجين، ممن عرفهم وممن لم يعرفهم.

وكان آخر إنجازاته موسوعة الهجرة اليمنية، بمجلداتها التسعة، التي حوت في ما حوته، أسباب الهجرة ودوافعها وظروف المهاجرين اليمنيين في أقطار الأرض، ومعاناتهم وإنجازاتهم الكبيرة هناك، وإسهاماتهم في تطوير البلدان التي هاجروا إليها، والعوائق التي حالت دون تحقيق انجازات لوطنهم، مماثلة لتلك التي حققوها لتلك البلدان. وهي عوائق ذات طبيعة إدارية وإجرائية، ناتجة في الغالب عن ثقافة ووعيِ مسؤولي الدولة، حالت دون الاستفادة المثلى من إمكانيات المهاجرين المادية، ومن معارفهم ومهاراتهم وخبراتهم، التي اكتسبوها في مهاجرهم. ولم تمكنهم تلك العوائق من تحقيق ما يحلمون بتحقيقه لبلدهم وشعبهم. فاستفادت مهاجرهم منهم، أكثر مما استفاد منهم وطنهم.

ولأهمية ظاهرة الهجرة في حياة اليمنيين، وتأثيراتها المتبادلة، على المهاجر وعلى البلد الذي هاجر إليه، وعلى وطنه الذي هاجر منه، ولأن الراحل العزيز كان واحداً ممن قذفت بهم ظروفهم وظروف بلدهم إلى بلاد الآخرين، وهو طفلٌ صغير، فعاش حياة الاغتراب، وعانى ما عاناه غيره من اليمنيين المهاجرين، استحوذت هذه الظاهرة على تفكيره، واستأثرت بقدر كبير من اهتمامه، فاتخذ قراره، وهو رجل الأعمال المثقف والجامعي المؤهل علمياً، اتخذ قراره لإخضاع ظاهرة الهجرة لدراسة علمية، بدت لأول وهلة بسيطة ومحدودة، ولا تحتاج سوى أشهر لإنجازها. وإذا بها تتسع وتستغرق سنيناً، بدلاً من أشهر، وجهدا أكبر مما كان متوقعاً، وتتطلب أعداداً من الباحثين، يفوق ما كان في الحسبان، وإنفاقاً مالياً تجاوز ما كان معتمداً في لحظة الانطلاق. وجند الفقيد نفسه وكرس وقته وجهده لمشروع هذه الدراسة. وكلف مؤسسةَ الخير والتنمية الاجتماعية، التابعة له، بأن تتولى تمويلها وتوفير الوسائل اللازمة لإنجاحها، وأشرف على إعدادها إشرافاً شخصياً، وتابع جهود الباحثين فيها متابعة يومية، سواءً وهو في صنعاء، أو وهو في الخارج.

وكان مقرراً أن يعود من سفرته الأخيرة، ليحتفي بصدور هذه الموسوعة. ولكن الله أراد غير ذلك. وشاء جلت قدرته أن يحتفي أهل الفقيد وزملاؤه وأصدقاءُه ومحبوه، أن يحتفوا مع مؤسسة الخير، ومع شركائه في العمل، الذين شاركوه مسيرته، أن يحتفوا جميعهم بصدور الموسوعة في غيابه. وستبقى هذه الموسوعة، مثلها مثل كل الأعمال الجليلة، التي أنجزها في حياته، ستبقى معلماً من معالم حياة رجل وطني مثقف، من نوع فريد. اختار أن يشق لعمله الوطنيِ طريقاً مختلفاً عن طريق العمل السياسيِ المباشر، طريقاً يندمج فيه مشروع رجل الأعمال، ورجل السياسة الوطني، ورجل العلم والثقافة. مثْبتاً بذلك، وعلى نحو عملي، بعيد عن التنظيرات والتهويماتْ، أن طرق العمل الوطني متعددة، وأن أفضلها ما كان طريقاً محدداً وواضحاً ومثمراً، وشريف الغاية والوسيلة.

وبعدما أنجز الراحل ما أنجزه، بدأبٍ وإخلاصٍ ونزاهةٍ وكفاءة، فارقَنا في وقتٍ عصيبٍ، نحن أحوج ما نكون فيه إلى أمثاله، وأمثاله قليلون، بل نادرون.

تغمده الله بواسع الرحمة، وجزاه خير الجزاءِ في آخرته، على ما قدمه من خير في دنياه، أضحى شاهداً على ما يمكن للإنسان أن ينجزه في حياته، إذا علت همته وصدقت نيته ووضحت رؤيته وحدَّدَ هدفه وطريقه، وأحبَّ وطنه، وأخلصَ لشعبه وتفانى في خدمته.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

صنعاء، 17 سبتمبر 2022م

ألقيت في فعالية تأبين رجل الأعمال الفقيد علوان الشيباني

 

 

قراءة 1256 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة