حامل لواء العدالة الاجتماعية في اليمن

الجمعة, 24 شباط/فبراير 2023 21:05
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

حين أتذكر اللحظات التي جمعتني بالأستاذ الرفيق يحيى الشامي تضيع الكلمات، وتتناثر الأفكار، فكم هو صعب جداً أن تبحر في معالم شخصية فذة مثل شخصية الراحل، وأن تحيط بكل سماته و سجاياه و مواقفه، لا لشيء إلا لأني أمام شخصية إستثنائية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

حين أتذكره تتبدى أمامي ملامح وجه البهي، بابتسامته الجذابة و كلماته العذبة، والجوانب العجيبة التي اجتمعت في شخصته الشاملة، ليصبح الحديث أكثر صعوبة، فعن أي جانب من هذا الإشتمال يمكن البوح بما تيسر من الكلمات التي لن تفي بمقام هامة وطنية كبيرة بهذا المستوى الرفيع.

هل أتحدث عن الأستاذ والمعلم، أم القائد الملهم، الفيلسوف الحكيم، أم السياسي المحنك، الإنسان أم الصديق أو المنظّر، أو المثقف أو الإجتماعي، أم داعم الشباب والتجديد أم الحزبي المنتظم … الخ..

كثيرة هي اللحظات التي كنت فيها معه، ووجدت فيها كل ماذكرته أعلاه. كانت شخصية بجوانبها العديدة تتوالى تباعاً لتحفر حضورها في القلب والذاكرة بصورة لا يمكن معها أن تغيب مدى الحياة.

ما زلت أتذكر إحدى الرحلات التي ذهبنا معاً إلى قرية حقل الفارد لحضور عرس نجل شاعر الحزب الرفيق أحمد الحمري ( السبيع ) و كنا قد بدأنا رحلتنا بإلقاء أبيات شهيرة من أشعار "السبيع" التي يقول فيها:

يوم القيامة له علامة

وأبرز علامات القيامة

ان الغراب يصبح حمامة

في عيون الناس

إلى أن يصل الى قوله:

سبيع من سبعين قامة.

وما أن انطلقنا من صنعاء بسيارة الأستاذ يحيى الشامي، والتي كان يسوقها بنفسه حتى وجدنا أنفسنا نسير في رحلة شبابية ضاع فيها فارق العمر بينه وبين من كنا بجواره أنا وقيس جارالله عمر.

مع نسمات الصباح الأولى كانت انطلاقتنا، وعلى صوت النغم الجميل بادرنا القول سنفطر خارج صنعاء هيؤا أنفسكم نحن ذاهبون في رحلة سنسير فيها على مهل فلسنا في عجلة من الأمر،  وأخذ يبدد خمول كان بادي على ملامح وجوهنا بعد النوم بنكت مختلفة و بوصف جمال الصباح في صنعاء، وحيوية الناس المتجهين لأعمالهم و بجمال الطبيعة.

ومع خروجنا من صنعاء حتى انطلق في استعراض ذكرياته عن محطات نضالية له وآخرين ممن عاصروا مسيرة النضال الوطني بحديث عن حصار صنعاء، ملوحاً نحو بعض من الجبال والتباب التي نمر بجوارها، لقد شدنا بكلماته التي قدم بها استعراضاً مقتضباً لتراكم تجارب حياة الكفاح والنضال و استلهام دروسها، و تناول بعض تلك الوقائع بسرد محايد لأدوار أطرافها بما لها و ما عليها.

كان خلاصة الخلاصة لكلامه تقف عند أن أزمة اليسار وتصارعه أعطت فرصة للثورة المضادة لتكبح طموح اليمنيين، وتعطل إنجاز أهم متطلبات الثورة، وتحديداً متطلب العدالة الإجتماعية كأهم هدف من أهداف ثورة الـ26 من سبتمبر،  التي شارك فيها كل مكونات المجتمع و من أوائل شهدائها الكبسي والوزير والمطاع وآخرين.

و ما أن تجاوزنا نقطة نقيل يسلح حتى انتقل بنا للحديث عما تعرض له موكب المهندس حيدر العطاس رئيس وزراء دولة الوحدة وكيف تعامل العطاس بصبر وحكمة، حتى لا ينفجر الموقف بين حراسته و القوة الموجودة بالنقطة، مقدماً ملامح لبعض من معاناة رجال الدولة القادمين من جنوب الوطن، وعلى رأسهم نائب رئيس المجلس الرئاسي، الأستاذ علي سالم البيض، والمضايقات التي تعرضوا لها في جوانب خاصة و عامة، وأعمال الإغتيالات الآثمة وأثرها على نفسيات شركاء الوحدة القادمين من عدن ، وتداعياتها اللاحقة التي ظلت تقلقه على مستقبل الوطن الواحد بعد ان اشتملت آثارها على كامل الجنوب أرضاً وإنساناً وأحدثت شرخاً في نفوس المواطنين، خاصة وأن من انتقل من صنعاء إلى محافظات الجنوب تحولوا إلى قوى نفوذ خارج القانون وقاموا بممارسات هزت ثقة المواطنيين في جنوب الوطن، و ضربت آمالهم بمستقبل أفضل في ظل دولة الوحدة.

ليتوقف بنا محدداً ً المطعم الذي كان فيه فطورنا والذي لم يفت عليه أن يتطرق لنا به لمواقف خاصة له مع حراسته ذات يوم في ذات المطعم في الأيام الأولى لدولة الوحدة الفتية، فيها من الفكاهة و المتعة والخوف، في ظل انتشار أنشطة ، الإغتيالات بأياد آثمة تم إعدادها و تكليفها بذلك.

بعد إكمال فطورنا وبعد تجاوزنا مسافة قصيرة حتى بلغنا أعلى عقبة نقيل يسلح، حتى اختار بقعة عدها مناسبة بإطلالتها للوقوف، وألقى نظرة قائلاً "على فكرة هذة البقعة تستحق عندها أن ننزل ونعمل حبة سيجارة"'وبعد تنسمنا من هواء ذلك المكان العليل، وإلقاء  نظرات نحو شاهقات الجبال على امتدادا النظر البعيد، حتى أطلق لذاكرته العنان لاستحضار ما يناسب المكان، فجاء حديثه عن الشهيد عبدالسلام الدميني وإخوانه، وكيف تم إلقائهم بعد قتلهم من أعلى النقيل بسيارة، حتى يتم اعتبار موتهم ناجم عن حادثة سقوط للسيارة، رابطاً تلك الحادثة بتخطيط مدبر كان يستهدفه والشهيد جارالله عمر أثناء  تواجدهم في صنعاء للحوار مع النظام، و قد تركز حديثه حول مواهب الشهيد الدميني، وقدراته و صفاته، وكانت الحسرة بادية في عبرات صوته على خسارة مناضل عتيد كالدميني في مقبل العمر، وفقدان اشقائه لحياتهم معه.

وعرج في حديثه عن الدميني لدور كبير لعبه مع الأستاذ يحيى منصور في مناطق كثيرة في شمال الشمال و استقطابهم للكثير من أبناء ووجاهات اجتماعية للمشاركة في العمل الوطني، مشيداً بمهاراتهما بذلك و قدرتهما على توظيف الخبرة للأستاذ أبو إصبع والاختصاص للدميني في تعاملهم مع الوسط الإجتماعي بتركيبته القبلية والبدوية في مناطق حساسة في الجوف و صعدة.

وما أن تحركنا حتى واصل حديثه رابطاً ذلك بأحداث المناطق الوسطى، وانطلاق المقاومة الوطنية التي امتدت لمعظم المحافظات التي تمتد اليها باقي رحلتنا، كان يلوح أحياناً بيده مشيراً هنا وهناك نحو جبال أو مناطق كانت تحت سيطرة المقاومة الوطنية، وكيف جاءت الظروف على غير حساب متوقع من قيادة الجبهة والمسؤلين على الملف في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ذاكراً منهم الشهيد علي عنتر، والشهيد صالح مصلح، وما دار حول ذلك من جدل شهدته أروقة المكتب السياسي، بعد ضغوط دولية تمت على الشهيد عبدالفتاح اسماعيل، باعتباره الرأس الأول بالدولة انحصر الحديث فيه على نقطة انسحاب عناصر المقاومة الوطنية من مواقع التقدم، و تكليفه هو والشهيد جارالله والدكتور محمد قاسم الثور وآخرين لتنفيذ ذلك، و قال أن الشهيد علي عنتر كان رافضاً ذلك وأنه استفز الشهيد عبدالفتاح اسماعيل وقال بصوت عال : كيف يقع هذا يعني انسحاب يابس؟

مؤكداً أن الرئيس فتاح كان غاضباً وقال: "نعم انسحاب يابس، و هذا قرار قرار قرار" وخبط بيده على الطاولة رافعاً الاجتماع، و هذا أمر اكده لي الدكتور محمد قاسم الثور في رحلة  تالية لحضور بعض الفعاليات الحزبية.

عدنا لمواصلة السير وظل الأستاذ الشامي في مواصلة الحديث عن تلك المرحلة وأثناء عبورنا منطقة من مناطق ذمار، وجدنا الأستاذ يحيى يترقب يميناً ويسارًا بحثاً عن مكان تواجد أحد الرفاق الذي كان منتظراً فيها على قارعة الطريق، بناءً على اتفاق مسبق بينهم، ما أن وصلنا جواره حتى توقف الأستاذ ونزل إليه طالباً انتظارنا، ولاحظنا السلام بينهم بحفاوة، بعدها أعطاه الأستاذ شيء تيقن لنا أنه مبلغ من المال، ثم عاد ومعه ذلك المناضل وعرّفه بنا ووادعناه بعد السلام.

بعد تحركنا تحدث الأستاذ عن معاناة الكثير من مناضلي الجبهة الوطنية، و كيف أنه لم يتم إحسان العمل من أجل استيعابهم في الدولة، و ضمان حصولهم على مرتبات، وكيف استغل الرئيس علي عبدالله صالح، وعلي محسن، ومحمد اسماعيل، وآخرين من رجالات نظام صنعاء هذا الأمر لتأليب عدد من الرفاق المناضلين بحجة أن الحزب الاشتراكي تنكر لأدوراهم وتخلى عنهم، و كيف حاولوا كسب العديد منهم لصفهم معترفاً بأن هذا الأمر لم يعطه حقه من الإهتمام والسرعة من قبل الحزب، رغم أن هناك ملفات جاهزة في إطار عمل لحل هذا الأمر، من قبل لجنة برئاسة صالح عبيد أحمد، وحال انفجار حرب صيف 94 دون إنجازه.

وفي الطريق كان في انتظارنا رفاق من قيادة الحزب في منظمة إب الشرقية، توزعوا بين يريم والرضمة والذي رافقنا بعضهم وصاحبنا بسيارة الأستاذ يحي، كان على رأسهم المرحوم مسعد الحدي، عضو اللجنة المركزية سكرتير أول المنظمة، وآخرين انضموا لنا بسيارة الرفيق الحدي وسياراتهم.

ما أن وصلنا مدينة دمت وبعد لقائنا بالرفاق من قيادة واعضاء الحزب بالمنظمة هناك التي يتولى سكرتاريتها المناضل ناجي عمر العداشي ؛ حتى كانت وجهتنا الأولى نحو المستشفى الذي كان فيه عضو اللجنة المركزية للحزب المناضل الكبير أحمد مسعد الحقب (أبو علي) رحمه الله، ونزلنا لزيارته، كان الأستاذ الشامي قد تنحى جانباً مع صاحب المشفى وطبيب آخر استفسر منهم على طبيعة حالة الرفيق الحقب، وكان الرفيق الحقب رحمه الله قد فارق الحياة بعد زيارتنا تلك بايام قليلة.

وعلى ذكر المرحوم أحمد الحقب (أبو علي) فقد فاتني عما سبق ذكر الواقعة التي سقط فيها نجله (علي) وكان الولد الوحيد له من الذكور، حيث استشهد بسبب إصابته من قذيفة استهدفت سيارته التي كانت تقل الشهيد جارالله عمر والشامي والثور، الذين كانوا متجهين نحو الرفاق في مواقع جبل صفوان وغيره في منطقة عمار وكيف كان احتمائهم بأحد الكهوف الصغيرة، في مفارقة عجيبة فرضتها الضغوط الدولية، التي تقتضي انسحاب عناصر الجبهة الوطنية، فقد كانوا مكلفين بالنزول الميداني للتفاهم مع رفاقهم وإقناعهم بالإنسحاب والتراجع.

بعد إنهاء الزيارة واصلنا وجهتنا نحو حقل الفارد، حيث كان قد حضر ضمن الضيوف عدد من قيادات أحزاب المشترك وبعض السياسين والكتاب، منهم الأستاذ محمد قحطان رئيس الدائرة السياسية للاصلاح.

كان الحضور كبيراً وكانت دواوين عدة مليئة بالضيوف في الديوان الذي كان فيه جلوسنا شهدنا مساجلات كبيرة من شعراء كثر من مختلف الانتماءات الحزبية، جاء أغلب ابياتها موجهة للشاعر أحمد السبيع وتطلب ردوده، واتذكر كيف وقف السبيع مردداً قصيدة ابتداء مرحبا بضيوفه بقوله على ما أتذكر بقوله:

يا مرحبا بالضيف

كلكم على راسي

مثل حد السيف

لكن ما اصبر على ذي تحداني

وانتم تقولوا كيف.

فرددنا جميعاً بصوت واحد كيف؟ فانطلق السبيع سارداً قصيدته التي تضمنت ردوداً موجهة دافعت عن الحزب الإشتراكي، وانتقدت الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي وطريقة إدارته للأمور، مقدماً لمحات برنامجية لوجهة تكتل المشترك وعمله المستقبلي إن لم تخني الذاكرة. وهو ما دفع بالأستاذ الشامي للحديث عن إعجابه لما شهده وبقدرات الشعراء بتقديم استعراضات سياسية كبيرة وهامة اختزلوها بأبيات شعرية، وعد بعضها بأنها توازي محاضرة سياسية شاملة. و هو منحى أخذ به الأستاذ محمد قحطان والأستاذ محمد المقالح الذين تحدثوا تالياً له وعلى نفس المنوال.

ما أود أن أختم به كلامي هو أن الأستاذ يحيى الشامي كان يستحضر مطلب العدالة الاجتماعية في كل حديث قاله خلال الرحلة، ودائماً ما كنت اسمعه منه في كل مرة يتفوه فيها فمه، سواء في مشاركاته بالإجتماعات أو الندوات أو الجلسات العامة، و كنت اقراءه في كل مقابلة، حتى أني أسميته همساً في أحد اجتماعات الأمانة موجهاً كلامي نحو المناضل الكبير المرحوم مهدي عبدالله سعيد قائلاً له عن الأستاذ الشامي "بحامل لواء العدالة الاجتماعية" وكان الأستاذ مهدي قد هز رأسه مبتسماً ورد بتأييده لي في ذلك. حيث ظل مطلب العدالة الاجتماعية و خصوصيته في كل عمل وطني هماً ملازماً للأستاذ يحيى الشامي، وأعتقد جازماً أني لم أجد ممن عرفت أحد ينشغل بهذة القضية كشعار وقضية كالأستاذ يحي الشامي.

رحمة الله تغشاه، لقد جاء فقدانه بعد خسارتنا في الحزب لكوكبة من الرفاق من أعضاء الأمانة العامة والمكتب السياسي تباعاً، حيث سبق الأستاذ الشامي الأستاذ أبو بكر باذيب- الأمين العام المساعد، والمناضل الكبير أحمد علي السلامي-عضو المكتب السياسي، والمناضل مهدي عبدالله سعيد - رئيس الدائرة العامة، والأستاذ المناضل ملك الأخلاق فضل سعيد شايف - رئيس الدائرة التنظيمية، وآخرين من اللجنة المركزية ولجنة الرقابة والأعضاء الذين غادرونا وهم يخوضون غمار النضال دون يأس في أحلك الظروف التي يمر بها وطننا و شعبنا وحزبنا، رحلوا  ونحن في أمس الحاجة لمواقفهم وأدوارهم التي جعلت معاناتنا بغيابهم وخسراننا لهم كبيراً بفقدهم.

اكتفي بهذا ففي المآقي دموع وفي القلب من ألم فراقهم الكثير، وتتخاطر على البال جملة من الذكريات لمواقف معهم، وعتاب للنفس جراء تقصير كبير تجاههم خاصة في الكتابة وذكر شي من سيرهم ومواقفهم، أو حتى في السؤال والتواصل معهم حين كانوا أحياء يرزقون وبكون ذلك واجب علينا.

رحمة الله تغشاهم.. وأسكنهم الجنة.. وعلى دربهم سائرون.. والله المستعان!!

 

قراءة 5359 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة