أوهام القوة

الأحد, 20 أيلول/سبتمبر 2015 22:40 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 (كل بداية صعبة) مثل ألماني معروف. ولكن هذا المثل، الذي قد ينطبق على كل نشاط إنساني في بدايته، لاينطبق على الحروب. فبدايتها سهلة، بل ومغرية أحياناً. ولكن ما أن تدور عجلتها حتى يغدو من الصعب السيطرة على مجرياتها أو تحديد الصورة التي ستنتهي إليها. وأود في هذه العجالة أن أتوقف قليلاً عند قرار بدء الحرب وإغراءاته، ثم مساراتها وخواتمها، لاسيما الحرب بين الدول. فمن يستشعر القوة والتفوق في قدراته العسكرية تزين له نفسه عادة الإقدام على المغامرة، التي لايتوقع أن تطول. فأدوات الحسم متوفرة وضعف الخصم واضح، ولم يبق سوى تهيئة المسرح السياسي والذرائع اللازمة لتبرير الحرب. وما أن تدور رحاها حتى تتفاعل جملة من العوامل التي لم تكن مرئية قبل بدئها. وتفعل هذه العوامل فعلها في تغيير المعادلات وفي تغيير موازين القوى، بصورة تدريجية وأحياناً بطيئة، تنزع من القوي عناصر قوته وتمد الضعيف بإمكانيات وقدرات لم تكن في الحسبان. بل وتحدث تغييراً في المزاج الشعبي العام داخل الدولة البادئة بالحرب، قد يؤدي إلى خلخلة النظام الحاكم، وإلى إحداث تغيير سياسي غير متوقع. أما مايترتب على الحروب بعد انتهائها من آثار كارثية على حيات الشعوب وعلى علاقاتها بعضها ببعض، فموضوع آخر يحتاج إلى دراسات مستفيضة، لكل حالة من حالات الحروب على حدة.  

 ولنأخذ مثالين من التاريخ الحديث والمعاصر، يوضحان ما أجملناه في الفقرة السابقة:

المثال الأول من فرنسا: قفز نابليون بونابرت إلى سدة الحكم في فرنسا قنصلاً أول عام 1799م، ثم قنصلاً مدى الحياة عام 1802م، ثم إمبراطوراً عام 1804م. واستطاع أن يعالج المشكلات الداخلية في بلاده وينهي ما أعقب الثورة الفرنسية وأحداثها من فوضى وماسببته حكومة الإدارة من فساد مالي وإداري أوصل فرنسا إلى حالة الإفلاس. شعر نابليون بقوة فرنسا التي خرجت من تحت أنقاض الصراعات السياسية والعسكرية ومن أزمتها المالية موحدة تحت قيادته، فأغراه ذلك بالإندفاع إلى التمدد العسكري وبسط نفوذه على أوربا كلها. واستطاع في وقت قصير أن يصبح سيد أوربا بلا منازع. وفتح نصره السريع في أوربا شهيته للتمدد شرقاً نحو روسيا. وفي روسيا كانت هزيمته. فقد تحالفت الطبيعة وصمود الشعب الروسي للوقوف في وجه مطامعه. وعاد جيشه مهزوماً عام 1812م.

شرع نابليون بعد هزيمته في تكوين جيش جديد، ليواصل توسعاته. فتجمعت عليه الدول الأوربية واستطاعت أن تلحق به هزيمة ساحقة في أكتوبر عام 1913م، في (معركة الأمم) الشهيرة، التي دارت بالقرب من مدينة لايبزج الألمانية، ثم تطارده إلى فرنسا نفسها. فتنازل عن العرش وتم نفيه إلى جزيرة (البا) في البحر التيراني، قرب إيطاليا. لكنه عاد مع بعض جنوده في محاولة يائسة لاستعادة مجده ومجد فرنسا. والتف الشعب الفرنسي حوله، فاستطاع أن يستعيد الحكم، ولكن لمدة قصيرة، لم تتجاوز مئة يوم. إذ تمكنت الجيوش الأوربية من هزيمته هزيمة نهائية في معركة (واترلو)، التي دارت في القرب من العاصمة البلجيكية بروكسل، في شهر يونيو عام 1815م. وكان مصيره، بطموحه ومطامعه وقوته، النفي إلى جزيرة نائية في المحيط الأطلسي، تابعة للتاج البريطاني، وهي جزيرة سانت هيلينا، التي قضى فيها بقية حياته، تحت الإقامة الجبرية، في عزلة مؤلمة، تطارده كوابيس هزائمه، حتى تُوفي عام 1821م. 

المثال الثاني من ألمانيا: صعد نجم أدولف هتلر في ظل الأزمة الإقتصادية العالمية، التي بدأت في بورصة نيويورك عام 1929م وعمت العالم وسحقت الإقتصاد الإلماني، الذي كان قد بدأ يتعافى وينهض من بين أنقاض الحرب العالمية الأولى، بفضل قدرة الألمان على العمل والإنتاج، وبفضل الإستثمارات الأمريكية والأوربية، التي عملت على إعادة تأهيل ألمانيا شريكاً إقتصادياً مهماً. ولمعالجة الأزمة الإقتصادية في أمريكا نفسها سارعت المصارف والشركات الأمريكية إلى سحب أموالها من ألمانيا وإيقاف استثماراتها فيها. فانهار الإقتصاد الألماني، الذي لم يكن قد اشتد عوده بعد. وكانت نتيجة ذلك توقف الأعمال وركود السوق وتدني القدرة الشرائية وانتشار البطالة بصورة غير مسبوقة. في هذا المناخ المحبط صعد نجم أدولف هتلر، الذي بدا في نظر الشعب الألماني وكأنه الأمل والمخلص.

وصل هتلر عبر انتخابات ديمقراطية إلى منصب المستشارية (رئيس وزراء) في مطلع عام 1933م. وفي العام التالي وحد منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ودمجهما في شخصه. واستطاع خلال فترة وجيزة أن يقلب المفاهيم السياسية، فأحل الدكتاتورية محل الديمقراطية والطاعة العمياء محل الحوار والإقناع ودفع الشعب إلى مجالات عمل جديدة، على رأسها بناء قاعدة اقتصادية قوية، أساسها الصناعات الثقيلة، واستحدث شبكة طرقات، تربط مناطق ألمانيا المختلفة، وفتح باب التجنيد العسكري للشباب الألماني. كما أحدث تحولاً في الوعي. فغذَّت الأجهزة التعليمية والإعلامية روح الإعتزاز بألمانيا وتاريخها وقدراتها المتميزة. وتحركت العجلة الإقتصادية وتم القضاء على البطالة واصطف الألمان جميعهم خلف قائدهم القوي هتلر، وأصبح الشعب الألماني كله جيشاً عاملاً، بعضه في المصانع والمزارع والأعمال الحرفية والتجارية، وبعضه في أجهزة الدولة ومؤسساتها المدنية، وبعضه في القوات المسلحة والأمن. وما أن هلَّ عام 1936م، حتى كان هتلر قد رفع ألمانيا من الحضيض إلى طليعة الدول الأوربية، صناعة وزراعة وعلماً وقوة عسكرية وطموحاً بالتوسع في ما أطلق عليه (المجال الحيوي)، أي البلدان الأوربية المجاورة، التي اعتبرها هتلر مجالاً للتوسع الألماني المشروع. واستند في ادعاء شرعية التوسع على تميُّز ألمانيا بقدرات إنسانها وكثافة سكانها، مع عدم توفر الموارد الإقتصادية الكافية، الملبية لطموحاتها. واستطاع هتلر أن يهيمن على السياسة الأوربية ويذل الإمبراطوريات الإستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، ويجعلها تسير على إيقاع السياسة الألمانية.

لم يكتف هتلر بما حققه لألمانيا من مكانة ولشخصه من مجد. فما أن انصرمت ثلاث سنوات أخرى (من 1936م إلى 1939م)، حتى أصبحت ألمانيا القوة الأولى في العالم. وتحت إغراء القوة اندفع نحو تحقيق حلمه، فأخذ يتوسع  في المجال الحيوي لألمانيا، بادئاً بالنمسا وبولندا و تشيكوسلوفاكيا في الشرق، ومتمدداً نحو الغرب والشمال، مطلقاً بذلك شرارة الحرب العالمية الثانية، التي امتدت نيرانها إلى العالم كله.

إحساس هتلر بقوة ألمانيا وضعف من حولها، مضاف إلى ذلك ثقته الراسخة بقدراته وتميزه وتميز شعبه، دفعته إلى المغامرة العسكرية، التي انتهت بتدمير ألمانيا، تدميراً كاملاً، وخروجها من الحرب وهي لاتمتلك جيشاً ولا حكومة ولا مالاً ولا تعليماً ولا مصانع ولا مزارع ولا طرقاً ولا كهرباء ولا مياه ولا حتى طعاماً. لقد هُزمت ألمانيا وانهار مجدها وعنفوانها وقدراتها وأضحت جثة مثخنة كسيحة مُعدمة، مرمية عند أقدام المنتصرين، ضعفاء الأمس، يصنعون بها مايشاؤون. وانتهت حياة قائدها الطموح منتحراً في أحد أقبية عاصمته برلين، التي تم تقسيمها بين الشرق والغرب إلى قسمين، يفصل بينهما حائط برلين الشهير. وأضحت شخصيته شبحاً مفزعاً لشعبه ولشعوب العالم. وتولى المنتصرون كتابة تاريخه وتاريخ حروبه كما يشاؤون.

البدء بالحرب إذاً أمر سهل. لايتطلب سوى شيء من القوة وقدر كبير من الوهم. أما نهايتها فتتحكم فيه مستجدات غير محسوبة. وما ينطبق على الدول، ينطبق إلى حد كبير على المكونات المسلحة المتقاتلة، المنتمية إلى شعب واحد وبلد واحد، كما هو حادث في اليمن وفي أكثر من قطر عربي. غير أننا لانستطيع أن نتحدث عن قوي وضعيف، عندما يتعلق الأمر بهذه المكونات. فالإخوة عندما يتقاتلون، لايكون فيهم قوي ولاضعيف. ولو تفكروا وتعقلوا لأدركوا أن قوة أحدهم هي قوة له ولبلده ولأخيه الذي يقاتله، وأن ضعفه ضعف لهم جميعاً. وأن استمرار الإقتتال فيما بينهم سينتهي بهم جميعهم إلى الضعف والخسران لامحالة. وسيكون الخاسر الأكبر في حربهم العبثية هو وطنهم وشعبهم ومستقبل أطفالهم.

فهل يمكن أن نستفيد نحن اليمنيين مما يقدمه التاريخ لنا من دروس وعبر، ونعجل في إيقاف عجلة الحرب، التي تمزقنا وتقدم للخارج الذرائع لتدميرنا والتدخل في شؤوننا، ونتجه إلى طاولة الحوار، سبيلاً وحيداً للتوافق وتطبيع الحياة، فنبني الدولة، بالشكل الذي يُرضينا جميعاً وعلى قاعدة الشراكة الوطنية، ونعالج كل القضايا العالقة، وعلى رأسها القضية الجنوبية؟ لاشك أن كل المتقاتلين سيصلون في نهاية المطاف إلى هذه المحطة، محطة وقف الحرب والإتجاه إلى الحوار والتوافق، ولكن بعد مزيد من المعاناة والدماء والقتل والتدمير والتشرُّد وتفتيت نسيجنا الإجتماعي. فلماذا لا يصلون إليها الآن ومباشرة ودون تأخير، ليوقفوا الكارثة التي حاقت بنا ويخرجونا من المحنة التي اشتدت وطأتها علينا ويطووا صفحة الحرب الكريهة، التي لاتبني وطناً ولا تُسعد شعباً ولاتحقق نصراً ليمني على أخيه اليمني؟

قراءة 2526 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة