منصور هايل

منصور هايل

الأحد, 09 كانون2/يناير 2022 20:46

سداسية (رحمة) عليها السلام

 

في 1 يناير 2015 لفظ أبي آخر أنفاسه في أحضان شقيقتي رحمة -رحمها الله- التي تكفلت برعايته من لحظة إصابته بجلطة دماغية مطلع الألفية في دارها بقريتنا "ظبي".

وفي اليوم التالي وصلتُ إليها مرضوضًا، خائرًا ومتأخرًا من طريق منخورة بالحُفر و الكمائن والحواجز المسلحة ونقاط التفتيش التابعة لمليشيات "الموت لأمريكا"، التي كانت بعيدة يومذاك عن القرية ولم يخطر على بال أو خيال أحد بأنها ستصل إليها.

بعد أن أجهشت باكيًا بين يديها، كررت عليها اعترافي للمرة الألف، بأنها صارت الملاذ والملجأ والشخصية الاستراتيجية في العائلة.. وذكَّرتها متأوهًا بأنني أوشكت أن أقضي عليها دونما رحمة في مطلع شبابي الثوري عندما سوَّلت لي نفسي بأن أستقطبها إلى الحزب ولكن الصدف والأقدار تدخلت بعناية وحزم وحالت دون ذلك وإلا كانت القرية ضاعت مني أيضا.

استعادت ابتسامتها الصبوحة ودخلنا في الجد لأخبرها بأن العالم قد ضاق بنا وأن صنعاء لم تعد آمنة وكذلك عدن وغيرهما من المدن، وإني قد عزمت ومعي أسرتي الصغيرة اللجوء إليها، خاصة وأن زوجتي لم تعد قادرة على الخروج إلى الشارع سافرة بوجهها ورأيها كما اعتادت، وطلبتُ منها أن تساعدنا في بناء غرفة ذات شرفة تطل على بندر عدن، غرفة فقط، ذلك غاية ما نتمنى في هذه الدنيا.

ترحمت علينا ووافقت على أن تمنحنا الموقع المناسب لبناء الغرفة في المدرج الصغير الذي يطل على سقف دارها وعلى "خبت الرجاع" وعدن، وحسبت الكلفة ذهنيًا في تلك اللحظة وقالت: "على بركة الله" .. وشجعتني واشترطت عدم التسويف كما في كل مرة والمسارعة في إنجاز "المشروع" في أجل أقصاه يناير القادم.

قررتُ مُداراة الأمر بالكتمان، وصارت "الغرفة" نقطة ارتكازي في تقدير الكثير من الأمور وفي تدوير زوايا النظر بشؤون كثيرة.. ومع "الغرفة" بدأت أشعر بشيء من نشوة الوجود.

بعد رجوعي إلى صنعاء التقيت ذات صباح برفيقي وصديقي وجاري العزيز المهندس عبد الغفار الغوري -يرحمه الله- الذي سارع إلى تعزيتي بوفاة والدي.. وتبادلنا أطراف الخيبة والخراب والحسرات والطبطبات، أخبرته بأني قد أتخذت قراري النهائي باللجوء إلى القرية بعد كل الذي صار في دنيانا من كسوف للأحلام الكبيرة وإنكسارات وانهيارات قاصمة للأعمار والظهور.

بارك المهندس قراري وأخبرني بأنه كان سباقًا إلى اتخاذ مثل هكذا قرار وتنفيذه، وقبل أن نتوادع  طَّنت برأسي "الغرفة" وأودعته سري، فهش الرجل وبش واستبشر وتحمس وتفاعلنا إلى أن تجرأت وطلبت منه  تصميم هندسي للغرفة ووعدني بأنجاز التصميم ولم يأبه لي حين تراجعت وأخبرته بأني قد هندست ذهنيًا الغرفة التي أريدها ولم يتراجع عن اصراره فهو يعرف قريتنا وقد زارها -غير مرة- معية الصديق وإبن العم المهندس زكي العبسي للإشراف على إنجاز إطلالة أكبر في "دار النُكب" طال وتطاول زمن العمل فيها ورحلتُ من البلاد قبل أن تكتحل عيني بها.

قرصته في كتفه مشددًا على كتمان الموضوع حتى على الأقربين، بل وخاصة على الأقربين حتى لا تقوم الدنيا ولا تقعد في وجهي بزعمهم إنني أندفع إلى إفشال أي شيء بتحويله إلى "مشروع" كبير وخطير كما أفعل معك الآن… إلخ.

الصديق عبد الغفار، حليم وحكيم وكريم وهو مهندس عبقري وفنان عظيم ومتواضع بلا حدود و تحمل بصماته وتوقيعه أجمل المعالم المعمارية في صنعاء وغيرها وقد صار كئيبًا بعد انكسار "الثورة الشبابية" ولديه الكثير من الانشغالات والهموم و ينوء بأثقال من الأسى لا تحصى ولا يجوز أن اشغله، لكنه رد عليَّ حينما كررتُ إنها مجرد "غرفة" لاتستاهل: "من قلك هذا الكلام، ليست الغرفة بالأمر السهل والهيِّن يامنصور ومالك الا مايسرك".

وافقته متوكلًا على الله و"الصبر الإستراتيجي" وهجست بـ : لن تندرج ضمن مشاريعي المستحيلة.

بين الحين والآخر كنت اتواصل مع أختي لأُعيد التأكيد على "الغرفة" والتذكير بأني لن أتراجع من غير أن أتقدم خطوة واحدة لتنفيذ ما انتويت.

في الأثناء كانت المليشيات تقضم وتنهب الكيلومترات وتزحف وتزرع المزيد من النقاط وتسجل حضورها في المزيد من المواقع والتلال والجبال إلى أن أصبحت في عقر دارنا و: "الغرفة"!.

في بداية يناير 2016 احتدمت المعارك حول دار شقيقتي  و تخندق الأوغاد من مليشيات الطرفين في التلال والمغاور المقابلة والخلفية للدار و وصلتنا هذه الأخبار إلى صنعاء وكان علينا أن نصدق ما لايصدق.

قبل التاسعة من صبيحة التاسع من يناير اتصلت بها  واطمأن بالي حينما ردَّت علي ضاحكة بأن اطمئن، فيما النيران تلعلع وتنسكب حولهم وعليهم، وناشدتها ألَّا تفتح باب الدار ولا تخرج.. وبعد دقائق وقع المحذور واختزلت مأساة أختي مأساة بلد بكامله.

لقد قتلت "رحمة" برصاصة قناص حوثي لئيم في تمام التاسعة وكانت فاجعة رحيلها موجعة لنا حتى اليوم، وبعدها لم يستقر لي قرار، وفي وقت لاحق حاولت عبثًا العثور على صديقي المهندس عبد الغفار لأخبره بأن يصرف نظره عن "المشروع" الذي بيننا وعلمت -فيما بعد- أنه تستر هو الآخر على آلامه وانطوى على احتضاره ونفذ قراره باللجوء إلى القرية وهناك فارق الدنيا بعد بضعة أشهر على رحيل "رحمة".

تداعيات الفاجعة

في الساعة التاسعة من صباح التاسع من يناير 2016 قُتلت شقيقتي رحمة برصاصة قناص حوثي -مقذوف بي 10- حينما كانت تطعم بقرتها بجوار باب دارها حيث اخترقت الرصاصة وجهها وخرجت من قفاها وسقطت صريعة، خامدة الأنفاس، مضرجة بدمائها أمام بناتها الثلاث اللواتي انصعقن وانعقدت ألسنتهن من الذهول و من هول ما حدث لأمهن أمامهن، قبل أن يملأ عويلهن السماء.

ومن يومها انقلبت حياتهن رأسًا على عقب، انقطعن عن الدراسة وأصبحن: نازحات في الوطن الذي كان "صرحًا من خيال فهوى"، مع الإعتذار لسيدة الغناء العربي أم كلثوم.

بعد أسبوع نفقت بقرة أختي كمدًا ولحقت بها بقرة امي المقدسة و دجاجاتها والديك أيضًا، وانكسر ظهرها ولم تعد تحتمل المزيد من النكبات، ففي سنة سابقة فقدت بنتها الموجهة التربوية في حادث سير وهاهي تفقد الثانية برصاصة قناص حوثي، وفقدت المسكينة ذاكرتها وقضت نحبها بعد أشهر، وصارت ديارنا خاوية على عروشها، مهجورة ومغلقة تنعق فوقها الغربان وتعربد داخلها الجرذان ولم يعد لأرضنا من يفلحها.

قبل الفاجعة بعام، وبعد انقضاء أكثر من نصف قرن من إقامتي على الأرض استحوذني وسواس أن أكون مستثمرًا إلى حدٍ ما، وتركز الوسواس حول فكرة اللجوء إلى القرية، وفي السياق شجعت النجل الأصغر لشقيقتي "الشهيدة" والذي لم يكن يفارقها قط، على الالتحاق بدورة تدريبية في تربية النحل لدى صديق سبقنا في اللجوء إلى قريته و تفرغ لتربية النحل هناك وبرع في ذلك، في زمن لم تعد فيه شهادة الدكتوراه التي يحملها تنفع أو تُشبع.

وقد نجح الفتى في الدورة وقرأ كثيرًا عن تربية النحل وكان سعيدًا بأضافة هذا المشروع إلى جانب مشروعه في رعي وتربية الأغنام وحصل على 70 خلية نحل هديةً من صاحبي، وكان يوافيني بمستجدات المنحل أولًا بأول وأنا أتابع أخبار "المشروع" كاتمًا سري وسروري حتى لا يفشل كما فشل "المشروع الوطني" وذات يوم بشَّرني بأن ثمار مشروعنا غدت دانية القطاف ووعدني بأرسال أول قطفة من العسل بعد أيام لأتذوقه قبل غيري.

ولكن: سبقتنا الفاجعة وتدمر المنحل و أبيد عن بكرة أبيه على وقع القذائف والتفجيرات التي زلزلت قريتنا، وتشتت النحل وباد وانتحر، وتسممت الأجواء بالبارود وغبار جحافل القبائل المسلحة التي تقافزت إلى تلك القرية وغيرها بسرعة لا تضاهيها سرعة حيوان الكنغر الاسترالي، وراحت تذبح الأغنام والبقر وتزرع الألغام في الطرقات والمزارع  والمراعي وتفجر البيوت وتقيم الحواجز وتكتم الأنفاس وتفتش الناس وتقتلهم وتنكل بهم من ديارهم.

أعرف وأعلم تمامًا بأني متعاقد -من غير إعلان- مع الفقدان والخسران والنحس والدبور منذ وعيت نفسي، وقد أخفيت هذا الأمر على نجل شقيقتي خشية من أن يفزع ويتطير ويتراجع عن مشاركتي في أي مشروع  من مشاريعه.. وحينما وقع المحذور أكلني الندم وتعذبت بضغط شعوري المؤلم بوجود رابط خفي بين ما أضمرت من مشاريع وتلك النازلة التي حلَّت بعائلتنا.

تبعد قريتنا "ظبي" (بمديرية الأعبوس) عن صنعاء 300 كم تقريبًا وهي ليست على الحدود مع السعودية وليست ساحة مواجهة، وتقع دار أختي رحمة على قمة جبلية تشرف على مدينة عدن، وهي -أختي- ليست من "داعش" ولا من"داحس والغبراء" ولا من "الإخوان" ولا من "القاعدة" ولا تمتلك أي رصيد نضالي أو خلفية ثورية، بقدر ما تملك مهارات عالية في فلاحة الأرض و نحت الخبز، وشتل الحوش المحيط بدارها بالورود والرياحين والمشموم والليمون والفلفل والطماطم والنعناع، وتملك كنزًا من المشاعر الإنسانية الزاخرة بمحبة الناس تجلى أثره ساطعًا في مواكب النساء الحزينات النائحات المتوافدات إلى بيتها من أماكن وقرىً قصية ومنسية لوداعها وتقديم واجب العزاء، وما أكثر النساء الفقيرات، التائهات اللواتي كُنَّ يلجأن إليها ويستندن عليها في المُلمات وفي أي وقت، ويتقاسمن معها الخبز و الماء و الملح وفنجان القهوة المرة، وهذا نزر مما تناهى إلينا بعد رحيلها الفاجع.

عليك السلام والرحمة يا أختي الغالية رحمة في الذكرى السابعة لرحيلك.

لقد فقدنا الكثير من الأهل والأصدقاء في هذه الحرب، و يمكنني القول بأننا تعرضنا لأكبر عملية تجريف واقتلاع، لم نلمح هاويتها السحيقة حتى في أسوأ كوابيسنا السوداء.

الخميس, 09 نيسان/أبريل 2020 19:20

أشرس من كورونا

 

أن تغادر بيتك وتجبر على التخلي عن زاويتك الحميمة ومقتنياتك ومفرداتك التي راكمتها عبر عقود من الزمن، وتقسر على إلقاء نظرة وداع مشوشة على شرفتك وأصص الزهور والشبابيك وعناوين الكتب ورفوف المكتبة، ليس معناه الذهاب بعيدًا في متاهة التأسي والفقدان والحسرات والتحديق في العدم، بقدر ما يعني – على نحو أدق – أن تفقد جزءًا كبيرًا وكثيرًا من المعنى الذي تملكه.

يكون المصاب مهولًا لمن ولد برأس يعاني عضالًا من القلق مما يمكن أن يحدث أو يكون، ويعاني من صعوبة التعايش مع ما هو كائن.

ما أوجع الانحناء والالتفات إلى الأيام السابقة التي بدت – في وهلة – وكأنها عشية ليوم الكورونا الذي يتبخر فيه ومعه بحر الاحتمالات الايجابية ويطفح فيه كأس المرارة و يتقرر مصيرك بالحظ والقدر أو بالمصادفة، تستبد بك أشد أنواع الاستياء وخزًا وأنت “تتقلقل” في دائرة الخضوع والارتهان والغثيان المطلق وترى الأفق المترامي أمامك يتفكك ويتهاوى دون توقف ولا مناص، ما باليد حيلة، لابد مما ليس منه بد.

ممنوع اللمس.. لا بأس من التنفس الحذر والمتوجس، من الأصوب أن تكون أبكماً وأن تتكمم وأن تستبدل الوجه بالقناع والكف بالقفاز وتأكل لسانك، وتفتقد لجرأة الحلم، و عذوبة الصمت ورنة الخرافة ورونق الاسطورة.

لايتسع المجال ولا الوقت للبحث عن أرض بديلة أو سماء أخرى ولا لاستراحة الناجي من الحرب، فهو خائن بجريرة أنه نجا وأجبر على الرحيل وترك دياره التي تضرجت بدماء أهله، باستعجال كارثي وحقائب معبأة بالاشباح والاخفاقات ومعظم الأشياء العزيزة المنسية والفاقدة للجدوى.

من نجا من الحرب تتلقفه الكورونا .. ذاك هو مصيرنا الذي نحسد عليه حتى بعد أن صار الواحد منا بأقل من وزن قشة ودون لياقة فراشة متراقصة حول اللهب ودون قدرة تعبيرية تحاكي تحديق عيون النعجة الذبيحة.

ممنوع اللمس.. كيف ومتى وأين وكم هي المسافة المطلوبة لعدم الوقوع في المس والتماس والداهية.

التعقيم مطلوب وهو ضروري وكان العقم هو الأسلم لبشرية تتقوض وتنقرض وتنكشف على قدر فاضح من الهشاشة والهلع المعولم تجاه فيروس غير مرئي من صنعها و بتكرار ملهاوي لدراما فرانكشتاين.                                         

تضيق بنا الجدران الأربعة والأبعاد الثلاثة، وتشد خناقنا خيوط لا مرئية وتتلاطمنا الدوامة، فيما تعلو بعض الأصوات المنادية بالاحتشاد لاقامة الصلوات والأدعية والنصح بـ “شرب بول البعير” بزعيق لافت إلى مابعد الكورونا وما هو أدهى وأكثر قيامة من القيامة.

ولئن كان الوقت لايتسع للمسخرة والملهاة، فإنه يستضيف هذا الصنف من البلهاء بقهقهة لاحدود لها وكأن كوفيد 19 بحاجة لهؤلاء التوابل.

في مثل هذه الحالة لاينفع التعقيم وليس تكفي كل مطهرات العالم لاحتواء الجرثومة التي تنخر الرأس وقد جاءت الكورونا لتكون كاشفة وشاهدة على ابتلاءٍ أكبر وأعظم في ديار المسلمين.

المجد للكورونا التي دوخت – أيضًا – سمسار العقارات الحالم في البيت الأبيض، ترامب الذي تخبط وارتبش وبدا كمن يريد أن يقيم القداس و يقرع الأجراس في نفس الوقت – كما يقال-.

وفيما تعصف الكورونا بنيويورك وواشنطن وإيطاليا وإسبانيا وايران والعواصم الكبرى فإنها لم تقوَ على اختراق اليمن التي لم يعلن فيها عن ظهور اصابة – مجرد اصابة واحدة – رغم انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر على الزلزلة الكورونية التي رجت العالم.

ثمة أشياء لاتفسير لها، بل وتتحدى التفسيرات كلها وقد طالعتنا صحيفة اسرائيلية بتحليل أن السر في ذلك يكمن في تعاطي اليمنيين لـ”الحلبة”.

في الأثناء تتباهى المليشيات المتطاحنة والمتوافقة على طحن اليمنيين، بخلو البلاد من الكورونا فهي صالحة وحاضنة للحرب والتقتيل فقط.

ليس ثمة من يعترف بأن البلاد تفتقر إلى منظومة صحية ودولة، وتتناهشها كل أنواع الفيروسات حتى تلك التي تنتمي إلى أحقاب ما قبل التاريخ والأبجدية.

ليس ثمة من يستنجد ويستغيث بمسؤولية وجدية ويتورط بترف مثل هذه الدعوة للعالم بأن ينقذ ماتبقى من رمق حياة في اليمن، قبل أن تفترسه الكورونا، بأن يتدخل في قطع يد زعران الحرب الذين أحالوا البلاد إلى أرض أكثر من محروقة.

ليس ثمة من يبادر لوقف عربدة قادة المليشيا الذين يتعاطون مع هذه الجائحة الكونية بمنتهى الحمق والغباء و الاستبلاه والاحتقار لقيمة الحياة وللحياة برمتها.

ليس في عالم اليوم ماهو أشرس وأكثر توحشًا وافتراسية من الكورونا غير هؤلاء وجيران السوء والسفه.

الأحد, 20 نيسان/أبريل 2014 16:40

عثمان عبد الجبار راشد.. ذلك الأفق

 

الأستاذ عثمان الجبار راشد هو صباح الخير، وصباح الحب والمواعيد والوعود الجميلة، وهو النداء الدافئ الذي يستدعيك للمقابلة مع غد محتدم بالأسئلة، ويحرضك على التفكير فيما سيأتي وفيما ستكون.

شخصية نادرة، متنوعة، متعددة الأبعاد ولا يمكن تعريفه بذلك الذي كان "بعثي" وفي حدود إسهامه بدور تأسيسي للحركة السياسية اليمنية الحديثة، منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، اذ كان من جيل الرواد الشباب في مستوى الارتباط بفكرة ومشروع "البعث" بما هي فكرة تمرد ومقاومة وفي التأسيس لحزب البعث العربي الاشتراكي على المستوى العربي وفرع اليمن.

وبحسب الصديق والرفيق الأستاذ زين السقاف وهو شاعر، قاص، وكاتب رفيع كان الأستاذ عثمان في قاهرة أواخر خمسينيات القرن الماضي من المروضين لوحوش التنازع الاحترابي البعثي، الناصري، اليساري، وكان من أصحاب الصوت المسموع حتى بالنسبة لكائنات لا تسمع غير نفسها مثل "صدام حسين" على سبيل المثال.

عثمان عبدالجبار هو ذلك الإنسان الذي يلامس نبض الشارع والناس والأحلام والمستقبل وهو كان، بالفطرة، يحدس بما سيأتي ويهندس للسيناريوهات المرتقبة، ولمروحة واسعة من الاحتمالات والخيارات.

يلتمس الصداقة والمحبة حتى في الأجواء المفعمة بالعداوات والأحقاد، ويحرص على فسح المجال امام من يختلف معه ويخالفه في تصوراته وقناعاته، ويلتمس العذر لمن يناصبه الخصومة ويوجه نحو صدره قذائف الكراهية السامة والفاتكة.

وكما يلتمس الأعذار لمن يغدرون به ولمن كادوا، غير مرة، ان يغتالوه، فهو كريم ومتسامح من غير افتعال وعلى نحو لا يصدق وليس بالإمكان وصفه، ولا ينبغي ان يخطر على بال أحد انه عثمان كريم كـ"شيخ" قبيلة فهو يتسم بكرامة الأفق المفتوح والفسيح.. كريم في تعاطيه مع أصدقائه ورفاقه وأهله وخصومه والزهر والعطر والندى والبحر والأشجار والأغاني والأشعار والحكايا والتنظيم والإدارة، وفي غفرانه وسماحته وأدائه الرفيع حين تبوأ مناصب حزبية وحكومية قيادية كبيرة، وكان من المؤسسين للإدارة والتدبير الحكوميين الراشدين في حكومة ما بعد الاستقلال في عدن.

كان وزيرا للخدمة المدنية والعمل ووزيرا للثروة السمكية، وقياديا مؤسسا لوزارات كثيرة مثل وزارة الصناعة والكثير من المرافق في عدن.

عثمان نأى بنفسه دوما عن الاستنقاع في الصغائر وتجنب بوعي مسؤول ويقظ الالتياث في بازارات السياسة ومكائدها الرخيصة، وصراعاتها العقيمة، وحرص باستمرار، على توسيع المشتركات وإضفاء الطابع الإنساني الحميم على السياسة؛ فهو من القلائل الذين خرجوا عن القطعان الاستذئابية وصراعاتها العقيمة، ومن القلائل الذين أنهكوا أنفسهم في استعادة الإنسان وشتل حدائق الانسنة.

نأى عثمان بنفسه دوما عن ولائم التهريج والهتاف، وحرص باستمرار على توسيع المشتركات وتوطين السياسة في فضاء المدينة والتمدن وتخليصها من مخالب الوحوش التي طالما تناوشت وتناهشت السياسة وقاتلت من اجل حرفها عن مسارها وقذفها إلى مهاوي التوحش.

عثمان من المؤسسين لحزب الطليعة الشعبية اليساري الذي مثل طورا متقدما ودافعا حيويا قويا في إطار حركة اليسار اليمني والعملية السياسية اليمنية، وشكل انعطافة نوعية فارقة في مسار نضال حزب البعث العربي الاشتراكي.. هو ليس بحزبي محض أو جذري أو متشدد، ولم يعرف عنه قط انه غلّب مصلحة الحزب وتحيزاته على المشترك الإنساني والوطني قط.

على العكس من ذلك تماما عثمان يطل على الحزب من شرفة الفضاءات الإنسانية الرحيبة ويضع المشترك الإنساني الواسع في البند الأول المحدد لرؤاه ومرئياته للحزب والوطن والأسرة والصداقة.

من هنا شغف انخراطه في مضمار العمل الاجتماعي والخيري والأهلي، وهو عمل كان ولازال بمثابة المدرسة الأولى التي وضعت لبناتها أسرة عبدالجبار راشد بصفة عامة، وعثمان عبدالجبار بصفة اخص، والراحل القدير محمد عبدالجبار راشد، الشقيق الأكبر لعثمان الذي رحل عن دنيانا قبل أيام وكان المؤسس الأبرز لنادي الاتحاد العبسي في عدن، كما كان أول من بادر لتأسيس وبناء المدارس في الاعبوس والدفع بالنهضة التعليمية في هذه المنطقة التي انطلقت فيها مدارس التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي قبل الكثير من عواصم محافظات اليمن.

عثمان يرقد حالياً على سرير المرض في المستشفى، وهو الرجل الذي طالما انجد وأسعف عشرات المرضى من معارفه ومن الذين لا يعرفهم، وكان صاحب لمسات وأدوار استباقية في احتضان من ترهقهم أنواء الحياة ومكائدها وآلامها.

عثمان لا يحتاج، بالتأكيد، إلى شفقة سياسية أو رئاسية، ولا إلى برقية مواساة؛ فهو صاحب حق على الدولة التي ساهم في وضع لبناتها وتشييد عتباتها الأولى.

عثمان يحتاج إلى شيء من العرفان والوفاء والاعتذار، والى من يرد إليه بعض الجميل ويلتقيه على خط الوفاء والمحبة والرحابة.

عثمان مدرسة، وورشة، وأفق وحكمة متألقة بالتواضع، وإدارة وخبرة، معرفة، شغف، فضول وزهد وعلى من يحب هذا الرجل الرائع أن يقلع عن السجارة قبل أن يزوره وعندما يتذكره.

عثمان علامة فارقة على الانفتاح والمحبة والانسجام مع الذات والحوار المنتج والخلاق، وهو كبير وكثير وغزير المعاني والأبعاد إلى درجة يتلعثم في وصفها القلم.. عثمان يا جبار، يا جميل، يا نبيل سامحنا على كل تقصير وعلى كل تأخير في نقد الحزب والذات.