أخـــر الأخبــــار

 
بلال الطيب

بلال الطيب

الأحد, 12 كانون2/يناير 2020 01:28

جار الله عُمر(2/2)

البحث عن السلام

هناك في قرية «حارات» في جبال الأعبوس، التقى «70» شخصاً من أعضاء «حركة القوميين العرب»، كان جار الله عُمر أحدهم «26 يونيو 1968م»، وأعلنوا عن قطع علاقتهم نهائياً بالمركز في بيروت، وأدانوا نهج الحركة الأم، وأكدوا التزامهم بالاشتراكية العلمية، وأشهروا بمؤتمر تأسيسي مِيلاد «الحزب الديمقراطي الثوري»، واختاروا سلطان أحمد عُمر رئيساً، وعبدالقادر سعيد الأغبري مسؤولاً سياسياً.

ولد ذلك الحزب - كما أفاد سعيد الجناحي - وهو يحمل بذور المُغامرة؛ نتيجة عدم وضوح الرؤية العلمية، وتأثير الأفكار اليسارية المُغامرة الرائجة آنذاك، ورغم ظروف العمل السري، وتفشي الدعاية المُعادية، بدأ الحزب بالتوسع والانتشار، ليتلقى بعد شهرين من تأسيسه ضربة قاصمة، وهي من عُرفت بـ «أحداث أغسطس»، وتعرض أعضاؤه للتصفية والاعتقال، وكان مصير من نجا الهروب جنوباً.

تجاوز «الحزب الديمقراطي» تلك الانتكاسة، وعقد مُؤتمره الأول في مُحافظة أبين «1970م»، وبغياب جار الله عُمر عضو لجنته المركزية، والمُعتقل حينها في أقبية سجون «الأمن الوطني» في صنعاء، وأكد - أي الحزب - على خوض حرب التحرير الشعبية، الأمر الذي دفع بعض قياداته للقيام بعمليات مُسلحة؛ لوضع أعضاء الحزب أمام الأمر الواقع، رغم عدم توفر الموضوعية لذلك الخيار، لتبدأ بذلك مرحلة قاتمة لصراع أكثر دموية.

وفي المُقابل عمد اليساريون المنشقون عن ذلك الحزب، والمتأثرون بالأفكار «الجيفارية» و«الماوية» على تأسيس «منظمة المُقاومين الثوريين»، وذلك مع حلول الذكرى الثانية لاغتيال النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب «25 يناير 1971م»، دعوا إلى إسقاط السلطة في الشمال، واستعادة الأراضي المُحتلة من قبل السعودية، ومُقاومة سلطة الإقطاع والبرجوازية، وجعلوا من أرياف «المناطق الوسطى» نقطة انطلاق عملياتهم العسكرية.

خرج جار الله عُمر - في ذات العام - من السجن، ليجد نفسه بلا وظيفة، وبلا راتب، قرر حينها العودة إلى قريته، وإكمال نصف دينة، تحت الحاح كبير من والدته، وحين أزداد طلب السلطات له، اختبأ في مدينة جبلة، وما هي إلا بضعة أشهر حتى وصله استدعاء من سلطان أحمد عمر وبعض رفاقه المُقيمين في الجنوب، فيمم من فوره خطاه صوب عدن جنة الفقراء الفقيرة.

جار الله عُمر القادم من الجبال، تُيم بِعشق ثغر اليمن الباسم، ونقل ياسين سعيد نُعمان عنه قوله: «في عدن ترتخي كل عضلات الجسم، وتحس بالأمن والراحة، فيما عدا العقل الذي ينشغل بهاجس الحفاظ على جمال هذه النعمة»، وكم ضحكنا - الكلام هنا لياسين - في وجهه، وهو يُحاول أن يربط «الفوطة» بالطريقة العدنية، ويجادل في أنَّها التعبير المدني الذي يبعث الطمأنينة والسلام في النفس.

كانت حينها المُواجهات في «المناطق الوسطى» على أوجها، ما دفع السُلطات في الشمال لتسيير حملة عسكرية كبرى «فبراير1972م»، فيما اتخذت اللجنة المركزية لـ «الحزب الديمقراطي» قراراً بتشكيل «منظمة جيش الشعب» كجناح عسكري لها، وقد جاء ذلك القرار في ظل التوتر بين الشطرين، وسعي البعض لتكريس مفهوم إحاطة نظام الجنوب بسياج أمني لحمايته، في وقت كان هناك في الشمال من يرى أنَّه لابد من إرباك نظام الجنوب من خلال عمليات عسكرية لإضعافه، ثم الإطاحة به.

أدت تلك المُواجهات إلى نشوب الحرب الشطرية الأولى «أكتوبر 1972»، وعنها قال جار الله عُمر: « شنّ الهاربون من الجنوب إلى الشمال هُجوماً على الجنوب عن طريق قعطبة، ونشبت الحرب بين الجنوب والشمال، وكانت بدعم من السعودية، ومُساندة جيش الجمهورية العربية اليمنية، وتمكّن المُهاجمون من احتلال عشر قرى من مديرية الضالع، كان جيش الجنوب ضعيفاً لكنّه جيش ثورة، وكانت معنويّاته أعلى، وكانوا قد حصلوا على صواريخ الكاتيوشا ذات المدى القصير.. أرعب الكاتيوشا المُتقدّمين بصوته الجديد، ودويّه المُزلزل، وانسحب المُهاجمون، وتمكّن الجيش الجنوبيّ بقيادة علي عنتر وآخرين من أن يحتلّوا مدينة قعطبة».

وأضاف مُتحدثاً عن نفسه: «انتقلتُ أنا من عدن إلى الضّالع، لكي أشاهد المعركة، هُزم الجيش الشمالي؛ وكان من أسباب هزيمته أنّه كان لايزال لليسار قياديون في الجيش، وفي سلاح طيران الشّمال، ولم يكونوا يضربون الأهداف بدقّة كي لا يصيبوها، وكان الجيش الشمالي لا يزال جيش الثورة، ثورة سبتمبر».

كان صراع «المناطق الوسطى» محل خلاف القيادة في الجنوب، حتى روسيا نفسها لم تكن راضية عنه، وكانت تراه جُنوناً صينياً مُتطرفاً؛ بل ودعت إلى تطبيع العلاقات بين الشطرين، وهي حقيقة كشفها جار الله عمر، وقد أرجع الأخير استمرارية المُواجهات إلى أنَّ الجناح الأقوى في «اليمن الجنوبي» كان مع خيار الكفاح المُسلح؛ بل أنَّ سالم ربيع علي، وعلي عنتر، كانا من أبرز الداعمين لهذا الخيار، وفي المُقابل كان عبد الفتاح إسماعيل، وعلى ناصر محمد من أبرز المُعترضين.  

يومها كان «الحزب الديمقراطي» مُنقسماً على نفسه، وعلق جار الله عُمر على ذلك: «كان المرحوم عبدالقادر سعيد أحمد، وعبدالحافظ قايد، ويحيى الإرياني، وأحمد زيد، والكثير من أعضاء اللجنة المركزية يرون أنَّ الأفضل هو الاستمرار في العمل الحزبي، وخوض المعارك السياسية السلمية، وكان طرف آخر بزعامة المرحوم سلطان أحمد عُمر يرى بضرورة تأييد النضال المُسلح».

وسط ذلك الانقسام، وقف «جار الله» إلى جانب خيار الكفاح المُسلح، وأشار إلى أنَّ «الحزب الديمقراطي» عقد حينها مُؤتمراً استثنائياً في عدن، وتم اختيار سلطان أحمد عُمر أميناً عاماً مساعداً، وجار الله عمر عضواً في المكتب السياسي، وتم استبعاد عبد القادر سعيد، وعبدالحافظ قايد من عضوية اللجنة المركزية؛ على أساس أنهما يُمثلان الجناح اليميني الذي كان يرفض الانخراط في المعركة المُسلحة.

«أقول للتأريخ أنَّ عبد القادر سعيد كان الرجل الأكثر نُضجاً، والأكثر تطوراً منّا جميعاً»، قالها جار الله عُمر في لحظة مُراجعة صادقة، واستدرك: «كان الدفاع عن النظام في الجنوب مُبرراً؛ في ظل الهجوم الذي كان قائماً عليه من مُعارضيه لمحاولة إسقاطه، ومن وجهة نظر موازين القوى، وإمكانية الاستيلاء على السلطة عن طريق الكفاح المُسلح، لم يكن الخط السياسي الذي اُتبع صائباً»، ومن الناحية الأخلاقية اعترف أنَّه ليس هناك شيء يمكن الندم عليه؛ لأن الطرف الحاكم في الشمال كان مُمسكاً بالسلطة بالقوة، وصفى مُعارضيه في «أحداث أغسطس» بوحشية، وارتكب المجازر، ونصب المشانق في صنعاء وغيرها.

بعد سلسلة من الحوارات الحزبية، عُقد في البيضاء مؤتمراً عاماً «فبراير 1976م» أعلن فيه عن تشكيل «الجبهة الوطنية الديمقراطية»، وذلك من اتحاد خمس قوى يسارية، هي: «الحزب الديمقراطي الثوري»، و«منظمة المقاومين الثوريين»، و«حزب العمل اليمني»، و«اتحاد الشعب الديمقراطي»، و«حزب الطليعة الشعبية - بعث»، كما دخل - كما أفاد جار الله عُمر أحد أبرز قياداتها - في بعض الفترات «الناصريين» و«السبتمبريين»، و«حزب البعث العراقي»، لتنسحب الأحزاب الأخيرة مُبكراً، فيما بقى قوام الجبهة من فصائل اليسار.

بعض تلك التنظيمات كانت مُعترضة على الكفاح المسلح، وفي أوج تلك المُناقشات تبدل الهدف لتكون مهام الجبهة النضال بكافة الأشكال المتاحة والمُمكنة، وأن يكون الكفاح المُسلح شكلاً ثانوياً، وللدفاع عن النفس، وفي الأماكن التي يوجد فيها القسر، ولقد هيأت اللقاءات الحوارية الجبهوية - كما أفاد سعيد الجناحي - تقارباً بين وجهات نظر فصائلها، وتجسد ذلك التحاور في تشكيل لجنة تنسيق مُشتركة، سُميت بـ «لجنة اليسار». 

ساهمت الخطوات الوحدوية بين سالم ربيع علي، وإبراهيم الحمدي في التهدئة، اتفق الرئيسان على إلحاق عناصر الجبهة العسكريين بالجنوب، وكشف جار الله عمر عن لقاءات سرية جمعت قيادات من الجبهة مع الرئيس الشمالي، وأن الأخير لم يجرؤ أن يحول ذلك التقارب إلى سياسة مُعلنة، وأضاف: «كان الحمدي يخشى من بعض القوى الموجودة، خصوصاً وأنَّ محمد خميس كان لا يزال مُهيمناً».

عاد الصراع عقب مقتل الرئيس الحمدي إلى سياقه المُعتاد، وشهد عهد خلفه أحمد الغشمي حالة من الرعب، والاعتقالات، والمُطاردات الرهيبة، لتنتقل «لجنة اليسار» بفعل ذلك إلى عدن، فيما واصلت التنظيمات اليسارية حوارها، واتفقت على تشكيل حزب جديد سمي بـ «حزب الوحدة الشعبية»، كان جار الله عُمر مسؤوله الأول في الشمال، باعتباره - أي الحزب - فرعاً لـ «الحزب الاشتراكي اليمني»، والذي كان «جار الله» أحد مؤسسيه «أكتوبر 1978»، وأحد أعضاء مكتبه السياسي.

مع نشوب الحرب الشطرية الثانية «فبراير 1979»، زادت حدة المواجهات الجبهوية، لتبدأ بعد إزاحة عبد الفتاح إسماعيل، وصعود علي ناصر محمد «إبريل 1980»، جولة جديدة من المُواجهات، كانت الأعنف، وأصبح للجبهة ستة أهداف سياسية مُعلنة، كان أولها: «صيانة سيادة البلاد واستقلالها الوطني، وذلك بتصفية كافة مظاهر وأشكال نفوذ قوى الاستعمار والإمبريالية، وإنهاء تدخل ونفوذ الرجعية السعودية، واستكمال السيادة الوطنية على جميع الأراضي اليمنية».

في تلك الأثناء عاد الخلاف السياسي القديم داخل «الحزب الاشتراكي» للنشوب من جديد، وذلك بين الطرف الذي يطالب بإيقاف العمل المسلح، ووقف الدعم عنه كُلياً، وبين الطرف الذي يُطالب بمواصلة الدعم للنضال المُسلح، على اعتبار أنَّه سينتصر في نهاية الأمر، ليعمل الرئيسان علي ناصر محمد، وعلي عبدالله صالح على التخلص من بؤر التوتر، اتفقا على قطع الدعم عن الجبهة، وإيقاف بث إذاعتها من الجنوب، ليقود الأخير حواراً مع قادتها، على اعتبار أنَّ الخلاف اصبح «شمالي - شمالي»، صدرت صحيفة «الأمل» من صنعاء، واستمر مسلسل الاغتيالات، وعادت لغة الرصاص لتلعلع من جديد.

كان جار الله عُمر مُشاركاً في تلك اللقاءات التفاوضية، وعلَّق على التداعيات التي صاحبتها قائلاً: «كان لدينا رغبة حقيقية للوصول إلى السلام، ولكن الذي حدث أنَّ صنعاء لم تلتزم بأي اتفاق، وقد استمرت أجهزة المُخابرات في تصفية قيادات الجبهة الوطنية، حتى أنَّ عدد الذين قتلوا بعد السلام، وصدور العفو العام، كانوا أكثر من الذين قتلوا قبل ذلك».

عزا بعض المُراقبين استمرار عمليات الاغتيالات تلك لأذرع السعودية الخفية في جهاز «الأمن الوطني»، وحينما طالب «جار الله» الرئيس صالح التحقيق بقضية اغتيال عبد السلام الدميني، قال «صالح» بتلكؤ: «إنَّه حادث مروري»، وكان الأخير مُحرجاً من تلك القضية، ولم يستبعد «جار الله» أن تكون الواقعة قد تمت دون علمه، وأنَّه وضع أمام الأمر الواقع.

بعد ثلاثة أعوام من مُساندتها للنظام الشمالي، دخلت «الجبهة الاسلامية» - إخوان مسلمون، مشايخ قبليون - وبقوة على الخط «مارس 1982م»، ولولا ذلك التدخل الجبهوي المضاد، والمدعوم سعودياً، ما رفعت «الجبهة الوطنية» راية استسلامها، وفي المُقابل تحدث قياديون في الأخيرة أن تخلي الجنوب عنهم كان من أبرز أسباب هزيمتهم، واتهموا «ناصر» و«صالح» بالتآمر عليهم، ليقوم الأخير في «24 أغسطس» من ذات العام بحل الجبهة، وهو ذات التاريخ الذي انتصر فيه «المُتسلطون» قبل «12» عاماً على أبطال ملحمة السبعين يوما، مُعلناً تأسيس «المؤتمر الشعبي العام».

علي ناصر محمد ذو النزعة السلمية في صراعه مع الشمال، فجرها حرباً اهلية ضد رفاقه في الجنوب «يناير 1986»، وأدخل الجنوب معمعة صراع «مناطقي» حسمه الطرف الأقوى قبلياً، فيما توزع أعضاء «الحزب الاشتراكي» - من باقي المناطق - بين المُتصارعين، وقيل أنَّهم رجحوا كفة الفريق المُنتصر، وهو أمر نفاه جار الله عمر، حيث قال: «الذي حسم الموقف هو الجيش والمليشيات التي قدمت من الضالع وردفان ويافع.. أما دور أبناء الشمال في هذه الأحداث فقد كان دوراَ ثانوياً وجزئياً لا يمكن احتسابه».

كان جار الله عُمر حاضراً في معترك ذلك الصدام الدموي، مُنافحاً عن الجميع، ومُتنكّباً - كما أفاد عُمر عبدالعزيز - دور المُصلح الاجتماعي السياسي الذي يتنقل من بيت لبيت، ومن حارة لحارة، وكم كان استثنائيا في روحه النقدية الشفيفة، وفي حنكته السياسية الرائية لما وراء الآكام؛ ولهذا السبب حاول تقديم مخارج مُبكرة لتلك المحنة، ونادى بالديمقراطية كخيار ناجع لملمة الجراح، ولكن دون جدوى.

لم يكن استمرار حديث إعلام الفريق المُنتصر عن انتصاره عملاً سياسياً صحيحاً؛ كون الهزيمة - كما أفاد جار الله عُمر - تجرعها الجميع، مُعتبراً رفض هذا الطرف للمصالحة بالخطأ، مُعترفاً بأنَّه يومها لم يكن يراه كذلك، ولو حدث ذلك لكان انتصار حقيقي، لكنه للأسف لم يحدث؛ لأن الكل كان مُتوتراً، والجراحات كانت عميقة، والنضج السياسي لم يكن كافياً، ولولا تلك الانتكاسة ما انهزم «الحزب الاشتراكي» في حرب «صيف 1994».

وفي المُحصلة النهائية والمأساوية لم يكن اليساريون الشماليون طرفاً في الصراعات «الجنوبية - الجنوبية»، فتلك الصراعات كانت تقسمهم بين الرفاق المُتصارعين، ورغم ذلك أشاد جار الله عُمر بـ «سالمين، وفتاح، وناصر»، وقال: «الثلاثة كانوا مُكملين لبعض، وكنا نود أن يقودوا العملية السياسية في البلاد إلى نهايتها»، وأكد أنَّ اغتيال «سالمين»، واستقالة «فتاح» كانتا أساس الأزمات والإشكالات اللاحقة.

أقدم علي عبدالله صالح، وعلي سالم البيض على الوحدة من مُنطلق عاطفي بحت «مايو 1990»، وسط ظروف محلية ودولية فرضت عليهما تحقيق ذلك، على اعتبار أنَّها - أي الوحدة - كانت شعار النظامين، ومطلبهما التاريخي، افتقر الرجلان إلى حسن النية، والثقة بالآخر، ودخلا بعد أشهر عسل مَعدودة في صراع سلطوي، تاجروا من خلاله بأحلام البسطاء ومشاعرهم، ظلت الوحدة مرهونة ببقائهم، وظل كل طرف يتربص بالأخر، حتى اشتعلت الحرب، وسُفكت الدماء.

صاحبت قضية الوحدة مسيرة حياة جار الله عُمر النضالية، وكان فاعل أساسي في  الحوارات التي سبقت تحقيقها، وفي صياغة دستورها، وصفها - أي الوحدة - بالعمل التاريخي العظيم، وعدها أفضل حدث صنعه هذا الجيل، وأَّنَّه لا يمكن لليمنيين أن يعيشوا بسلام واستقرار وتنمية ورفاهية بدونها، داعياً الجميع إلى التفريق بين السياسات الخاطئة، وذلك المكسب الكبير، مؤكداً أنَّ التراجع عن تنفيذ اتفاقية الوحدة، وتشجيع خصوم «الحزب الاشتراكي» في الشمال والجنوب للانتقام منه، ساهم في تأجيج الصراع، مُعترفاً أنَّ الأزمة تداخل فيها العامل الشخصي، بالاجتماعي، بالسياسي، بالماضوي، بالمستقبلي.

لم يكن الطرف الأقوى مهيأ للقبول بالآخر كشريك حقيقي في صناعة القرار السياسي، كان مُستعجلاً في إخراج «الحزب الاشتراكي» من الحلبة؛ ولذات السبب لقي أكثر من «155» عضواً من أعضاء الحزب مصرعهم، وحين اغتيل ماجد مُرشد «يونيو 1992»، عقد الاشتراكيون في صنعاء اجتماعاً تشاورياً عاصفاً، طالب يومها عارف الدوش - مصدر الحكاية - بصوت مُرتفع بالقصاص، وحين حاول أحد الحاضرين إسكاته، أوقفه جار الله عمر - رئيس ذلك اللقاء، وطلب من المُتحدث إكمال حديثه، وحين انتهى، خاطب الجميع بالقول: «نحن حزب مدني ديمقراطي، وإن حصل ما انتم متشائمون منه، فستكون رؤوسنا قبل رؤوسكم، نحن لا نريد أن يغرق حزبنا في الجوانب العسكرية، فقد جربنا الاقتتال، وحسمنا الكثير من القضايا بقوة السلاح، ولكننا في الأخير خسرنا، وخسر اليمن».

وقال في موضع مشابه، رداً على بعض المُتحمسين: «القينا السلاح، ولا يمكن أن نعود إليه مرة أخرى، مهما كلفنا الأمر، لنخوض نضالنا السلمي، وثقوا أنَّ المُستقبل للعمل السلمي والديمقراطي، جربنا السلاح والقوة، ولم تزدنا سوى المآسي، وكلما خرجنا من حرب قادتنا الى أخرى».

انتهت الفترة الانتقالية بحدوث الانتخابات التشريعية «إبريل 1993»، والتي كان جار الله عُمر عضواً في لجنتها العليا، حل «الحزب الاشتراكي» ثانياً في القائمة العددية التي لم يحسم أمرها، ورغم ذلك طالب «جار الله» قيادات الحزب بالانتقال إلى مُربع المُعارضة، إلا أنَّهم أصروا على الدخول في «ائتلاف ثلاثي»، فيما أسندت إليه وزارة الثقافة، لم يدم ذلك الائتلاف طويلاً، عادت «الايدلوجيا» لتطغى على «المصلحة»، وحضرت صراعات الماضي غير البعيد، وغابت الوحدة التي كانت حتى الأمس القريب تَجبُ ما قبلها.

بعد قيامه برحلة علاجية إلى الولايات المُتحدة الأمريكية، وزيارتين سريعتين إلى كلٍ من فرنسا والأردن، عاد علي سالم البيض إلى عدن «أغسطس 1993م»، وفيها آثر الاعتكاف للمرة الثالثة خلال أقل من عام، وهو الاعتكاف الأطول والأخير، ليُقدم في مُنتصف الشهر التالي مشروعاً إصلاحياً من «18» نقطة، مُلخصاً مطالبه بـ «رفض سياسة الضم، والإلحاق، والإقصاء»، مُعلناً بدء الأزمة الحقيقة بين شركاء الوحدة.

في شهادته على تلك المرحلة قال جار الله عمر أنَّ الناس تجاوبوا حينها مع «الحزب الاشتراكي»؛ لأن النقاط الـ «18» قد نجحت في مُخاطبة وجدانهم، وألمحت الى مصالحهم الحقيقية المُفتقدة، كما تضمنت مُقترحات للكيفية التي يمكن بواسطتها حل العديد من التناقضات الاجتماعية والسياسية المزمنة، التي ظلت تتراكم عقوداً من الزمن، وتكبت بالقوة المرة تلو الأخرى.

 وهكذا تحول الصراع - حسب توصيف جار الله عمر - إلى صراع على قضايا اليمن، وبناء الدولة، وليس اختلافاً على اقتسام الغنيمة، وتوزيع المناصب الوزارية، الأمر الذي فتح الباب أمام نشوء شرعية جديدة موازية، هي الشرعية السياسية والشعبية التي تنامى دورها تدريجياً بما يكفي لمنع الطرف الآخر من استخدام البرلمان، ليتعزز ذلك الموقف بسياسة النفس الطويل، والصبر الجميل من قبل قيادات الحزب، وعدم الاستجابات العاطفية للاستفزازات المتعمدة أو الصدفية.

صمَّ «صالح» أذنيه مؤقتاً عن طبول الحرب، وقرر أن يناور كعادته، انصاع إلى مطالب الأغلبية بحل الأزمة سلمياً، لتتشكل - تبعاً لذلك - لجنة حوار من جميع الأطياف، كان جار الله عُمر عضواً فيها، تسلمت جميع أوراق القضية، واستمر عملها قرابة شهر، وعقدت «11» اجتماعاً، وذلك بالتزامن مع حدوث احتكاكات عسكرية بين طرفي الصراع، واستمرار عمليات اغتيال جنوبيين، الأمر الذي خدم «الحزب الاشتراكي» في موقفه، وأدى إلى استدعاء وساطة «عُمانية - أردنية»، وتشكيل لجنة عسكرية من الطرفين بمشاركة الوسيطين، والمُلحقين العسكريين الأمريكي والفرنسي، الأخير ممثلاً للاتحاد الأوربي.

 وفرت هذه التطورات - كما أفاد جار الله عمر - الشروط الضرورية للانتقال بالحوار السياسي وبالأزمة ذاتها الى المحطة الثالثة الأكثر أهمية وعمقاً، والتي شهدت صياغة «وثيقة العهد والاتفاق»، في ظروف بدت أكثر توازناً وأكثر مؤاتاة للحوار، واضطرار المؤتمر والإصلاح للتخلي عن مناوراتهما، والكف عن اختزال الأزمة بالخلاف بين الرئيس والنائب، والاعتراف بطابعها الوطني العام، وأنَّ لها ما يكفي من الأسباب الموضوعية التي ينبغي الاعتراف بها، تمهيداً للبحث عن اقتراحات وحلول عملية، وعدم الإبقاء على الأسباب التي من شأنها ان تنتج أزمات أخرى في المُستقبل.

ساهمت السعودية إلى حدٍ كبير في تأجيج ذلك الصراع، وخدعت «البيض» في ركوب حصانها الخاسر، ووعدته بتقديم المساعدات، نفى جار الله عمر علمه بذلك، ثم عاد واستدرك: «ولا شك أنَّ دول الخليج، أو على الأقل بعضها، كانت قد أثرت أزمة الخليج على علاقتها باليمن، وكان بعضها ينظر إلى أي صراع في اليمن باعتباره جزءاً من تبعات موقف اليمن في الأزمة»، وأضاف: «المسؤولية لا يجب أن نرميها على أحد في الخارج، فنحن في اليمن نتصارع ونتقاتل على السلطة منذ عشرات ومئات السنين؛ ولهذا فإن اليمنيين هم الذين يتحملون المسؤولية، وليس الآخرين».  

رغم أنَّ الأجواء في صنعاء لم تكن مهيأة، وكانت قيادات «الحزب الاشتراكي» المُعتكفة في عدن تتخوف من تعرضها إن هي عادت لتصفية، ورغم أن موقف جار الله عُمر كان صعباً؛ كونه متهم في الشمال، ومحل شك في الجنوب، فقد طالب تلك القيادات بالعودة إلى صنعاء، وتقديم تنازلات من أجل تجنب الحرب؛ بل وحمل الحزب جزءاً من مسؤولية ذلك التوتر، ليشاركه الرأي أنيس حسن يحيى، والذي بدوره قال: «كان يجب أن نتصرف بذكاء بعد عمَّان.. كان يجب إنهاء الاعتكاف، وأن نتعامل مع مهماتنا بمسؤولية.. وكنت أقول للإخوة أن يطلعوا إلى صنعاء. نحن بالاعتكاف قدمنا للطرف الآخر أن يشن الحرب علينا».

انفجر الموقف، واشتعلت الحرب الشاملة «مايو 1994م»، وبسقوط منطقتي كرش والضالع باتت بوابة الجنوب مُشرعة أمام القوات الشمالية، وفي عدن اجتمع أعضاء المكتب السياسي لـ «الحزب الاشتراكي» لمناقشة تلك التداعيات، وقيل أنَّ ياسين سعيد نعمان، وجار الله عمر دعيا إلى تنحي «البيض»، وأن تتولى قيادة جديدة التفاوض مع صنعاء، وقد أدرك الأخير برأيه العسكري والسياسي المتمرس أنَّ المعركة انتهت، وأنَّ الأمر لم يعد سوى تحصيل حاصل.

كان قرار «البيض» الارتجالي بإعلان الانفصال مُرحباً به عند بعض قيادات وأعضاء «الحزب الاشتراكي»؛ على اعتبار أنَّه نتيجة للحرب الدائرة لا سبباً لها، وعارضه في المُقابل كثير من القيادات، أعلن بعضهم - وخاصة المُقيمون في صنعاء - تأييدهم للوحدة، كعلي صالح عباد مُقبل، وآخرون، فيما آثر البعض الآخر الاعتكاف في منازلهم، أو مغادرة البلاد، وكان جار الله عمر أبرزهم، جعل الأخير من قاهرة المُعز محطة مؤقتة للبقاء، ليعمل ورفيقه «مقبل» - فيما بعد - على إعادة إحياء الحزب، وانتشاله من بين الركام.

حين عقد «الحزب الاشتراكي» دورته التاريخية لتحديد موقفه من انتخابات «1997»، كان جار الله عمر مع خيار خوض تلك الانتخابات، فيما أصر الأغلبية على الرفض، ولم يمر سوى عامين، حتى أيقن أولئك أنَّ الرجل كان على حق، وصوتوا - هذه المرة - للمُشاركة في الانتخابات الرئاسية، ومن ثم الانتخابات المحلية، وعادوا إلى قواعد الحزب، وخاضوا الصراع من نقطة الصفر.

مارس جار الله عُمر التحزب كمسؤولية أخلاقية، والانضباط الحزبي كمسؤولية معرفية، وساهم إلى حدٍ كبير في التأصيل النظري للتحولات السياسية لـ «الحزب الاشتراكي»، ليُنتخب في دورته الثانية أميناُ عاماً مُساعداً «2000»، وقد ساهم من موقعه القيادي في تعزيز حضور الحزب على المستوى المحلي، والعربي، والدولي.

عاش «جار الله» كوارث الشمال، وحُروب الجنوب، وخرج - كما أفاد صادق ناشر - من تلك المعارك مُنتصراً، ورأسه فوق جسمه، كان الحوار بالنسبة له أسلوب حياة، وأساس تعايش، واصل نشاطه مع الأحزاب السياسية اليمنية من أجل ترسيخ العملية الديمقراطية، وإزالة آثار حرب «صيف 1994»، وتكللت جهوده بميلاد «اللقاء المُشترك»، ذلك الكيان الذي لمَّ شتات الأحزاب المُتنافرة، وجمع تناقضاتها، واضعاً أسسه العريضة، فلا تخوين، ولا تكفير، مُحدداً نقاط الضعف والقوة لدى كل طرف، ليبني من خلالها رؤاه المُستقبلية، بعد أن جعل فاصلاً بينها وخيبات الماضي.

طالب «جار الله» قبل استشهاده بلحظات بالتصدي لثقافة العُنف، وضمان العدالة ولقمة العيش للمواطنين، معتبراً الديمقراطية منظومة متكاملة ﻻ تتجزأ، أساسها المُواطنة المتساوية، واحترام العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين، وصيانة الحريات والحقوق الانسانية، دونما تمييز لأي سبب كان، والقبول بالتعددية الفكرية والسياسية، وعدم الاكتفاء من الديمقراطية بالتسمية، ومظاهر الزيف الخارجية.

استاء المُتسلطون من دعواته؛ فأسكتوا صوته وللأبد «28 ديسمبر 2002»، تماماً كما أسكتوا من قبل صوت صديقه عبدالقادر سعيد في مدينة جبلة «مايو 1974»، وكأنَّه قدر هذا البلد المنكوب أن يسود فيه العنف، وما أحوجنا في هذه اللحظات الحرجة، أن نستقرأ حياة جار الله عمر، ونتعلم من تجربته، كي نجيد فن صناعة السلام.

السبت, 28 كانون1/ديسمبر 2019 17:07

جار الله عُمر (1-2)

عندما ساد العُنف

إنَّه الشهيد الشاهد، والسياسي المُتجدد، والمُفكر المُتعمق، والمُثقف الموسوعي، والمُحاور الحصيف، سيرته سيرة وطن، وكتاباته تاريخ يمن، غاص بدقة في التفاصيل، وتفنن في السرد المُكثف، والطرح المُختزل، والتحليل الموضوعي، والنقد الصادق، وفق منهج عقلاني مُتحرر من هيمنة العاطفة، وإرضاء الأهواء، فكان بحق صوت الحق، وعين الضمير، وصانع التحولات، ورجل التوازنات الذي لا يتكرر.

مُنذ تفتحت مداركه، وبدأت حواسه تستوعب ما يدور حوله، وجد الصبي النحيل نفسه بلا أب، وفي حضن أمٍ تبكي أباه، لم تكن ككل الأمهات، ضحت لأجله ولأجل أخته الوحيدة، وأصرَّت على تعليمه، ومنها تشرَّب معاني الوفاء والتضحية، واستمد القوة والشجاعة، ومضى في طريقه طامحاً شغوفاً بتعلم أبجديات القراءة والكتابة، وأبجديات ترويض الحياة، ولولا تلك البداية القوية، ما كان العظيم جار الله عُمر.

في معلامة قريته «كهال - النادرة» تلقى تعليمه الأول، وتوجه وهو في السادسة عشرة من عمرة إلى ذمار «1958م»، ودرس في مدرستها الشمسية لمدة سنتين، ويمم بعد ذلك خطاه صوب صنعاء، مُلتحقاً بمدرستها العلمية، ونهل على أيادي مُعلميها - كعبدالله البردوني - مبادئ حب الوطن، ومُفردات الوطنية، وحظي برعاية بعض الأساتذة المُنتمين لـ «حركة القوميين العرب»، وهو أمرٌ كان له ما بعده.

شارك في المظاهرة الطلابية التي سبقت قيام الثورة السبتمبرية، وهي المظاهرة التي تجاوزت إطارها المطلبي إلى رفع شعارات سياسية؛ الأمر الذي أثار غضب السلطات الإمامية الغاشمة، ألقت القبض على بعض الطلاب، وأودعتهم في سجونها المُوحشة، فما كان من جار الله عُمر إلا ولى هارباً إلى عدن، في رحلة شاقة استمرت أسبوعاً كاملاً، وحين لم يتوفق في الحصول على منحة دراسية من قبل مُعارضي الإمام، عاد أدراجه إلى صنعاء، عملاً بنصيحة الشيخ محمد بن سالم البيحاني، وما هي إلا أشهر قليلة حتى اندلعت ثورة «26 سبتمبر 1962م».

عاش جار الله عُمر تفاصيل تلك اللحظة الفارقة، وتابع سير المعارك الأولية عن قرب، وعايش انقسام اليمنيين حول ذلك الحدث، وقال أنَّ سكان مناطق تعز، وعدن، والمناطق الوسطى، والمناطق الشرقية أيدوا الثورة، وأنَّ سائر المُواطنين في المناطق الشمالية، وحتى بعض المواطنين في المناطق الوسطى لم يكونوا يؤيدونها تلقائياً، وأنَّ الأمور كانت تتغير تدريجياً، لافتاً أن التأييد في المناطق الأخيرة اقتصر على بعض أبناء المشايخ الذين كانوا قد دخلوا في صدام مع الإمام، بالإضافة إلى بعض الضباط الذين انخرطوا في الجيش، وخلص بالقول: «ولم تكن القبائل تحارب عن عقيدة أو عن اقتناع، لا مع الإمام، ولا مع مُعارضيه طوال التاريخ».

كما انتقد قيام بعض المُتحمسين «الجمهوريين» بإعدامات عشوائية لـ «إماميين» خارج دائرة القانون، وقال في تقيمه لتلك الأحداث أنَّ بعض من تم إعدامهم - من وزراء ومسؤولين - لم يكونوا يستحقوا الإعدام، وأضاف: «الثورة دائماً تكون أشبه بسيل يجرف ما أمامه، واليوم ينظر الإنسان إلى تلك الإعدامات بشيء من الأسف؛ بل وينظر بأسف إلى كل الآثار التي ترتبت على أعمال العنف التي صاحبت الثورة، لكن منهج العنف كان سائداً في اليمن من قبل الثورة، ومن بعدها، سواء من قبل الإمامة، أو من قبل الثوار».

وأردف: «لقد كانت الحرب تؤدي تلقائياً إلى مُمارسة العُنف هنا وهناك، فالصراع بين الملكيين والجمهوريين حصد عشرات الألوف من الضحايا، كما أنَّ الصراع داخل النظام الجمهوري قد أدى إلى سقوط ضحاياً أيضاً، وقد ألحقت هذه الصراعات باليمن ضرراً بالغاً، وأوقفت عملية التنمية، وسخرنا كل جهودنا للصراع السياسي العنيف، ولو لم نفعل ذلك، لكانت حياتنا اليوم أفضل».

أشاد الثوري النبيل بالتواجد المصري، وقال أنَّه لولا ذلك التدخل ما كان لـ «ثورة سبتمبر» أن تستمر، عمل هؤلاء على خلق نواة الإدارة لأول مرة في اليمن، وساهموا في انتشار التعليم الإعدادي والثانوي بمناهجه الحديثة، وكان البديل لتواجدهم - كما أفاد جار الله عُمر - هو تسوية مُبكرة مع السعودية، ومع القبائل المُحيطة بصنعاء، وهذا ما حدث بعد ذلك، وجميعنا يعرف نتائجه.

وانتقد في المُقابل الأخطاء التي مارستها السلطات المصرية في حق مُعارضيها، وتدخلاتها في تفاصيل حياتهم اليومية، ليصل الأمر إلى اعتقال جميع أعضاء الحكومة اليمنية في القاهرة، وهو التصرف الذي أثر سلباً على وحدة الصف الجمهوري، وقال جار الله عُمر عنه: «وكان هذا خطأً سياسياً فادحاً، يخلو من الذكاء السياسي، ومن الفطنة، ولا معنى له».

في عام الثورة الأول، انخرط الشاب الطموح في صفوف أعضاء «حركة القوميين العرب»، التي لم تكن حينها «ماركسية» التوجه، وتعرف على شخصيات قيادية، كمالك الأرياني، وعبد الحافظ قائد، وعبدالله محرم، وكان بارعا ومُحنكا في فن الاستقطاب، لينتقل بعد ذلك إلى تأسيس أول اتحاد طلابي، وصار بذلك شخصيته استثنائية، لها حضور لافت في مسارات العمل الوطني، ودخل - كما أفاد عبدالباري طاهر - مجال العمل الثوري من أوسع أبوابه، ليتولد عبر انخراطه ذاك شعوره بالمُسؤولية، ليس في الدفاع عن الثورة، وإنما بتحقيق الوحدة العربية، وتحرير الأمة العربية من الاحتلال وأذنابه.

وفي العام التالي، والثورة تعيش إرهاصات ولادتها، والمؤمنون بها يدافعون عنها بكل ما أوتوا من عزيمة وقوة، وبتكليف من «حركة القوميين العرب»، التحق جار الله عُمر بكلية الشرطة في دفعتها الأولى، الأمر الذي نمَّى مداركه، وعزز من قدراته الوطنية، وشارك كغيره من الطلاب في حماية شوارع العاصمة ليلاً، ليعمل بعد تخرجه مُدرساً في ذات الكلية، ودخل بسبب مُمارسته للعمل الحزبي في خلافات مع الضباط والمُعلمين المصريين المُعارضين - أصلاً - لأنشطة الحركة، فتم طرده من الكلية.

دخلت الجمهورية الوليدة مسارات مُتعرجة، لتأتي نكسة «يونيو 1967م»، ومُؤتمر القمة العربية بالخرطوم في «أغسطس» من ذات العام، وتزيدان الطين بلة، وهكذا صار خروج القوات المصرية أمراً حتمياً، ليبدأ «الجمهوريون» حينها بالاستعدادات للدفاع عن صنعاء، ولملمة صفوفهم، وإعادة الضباط الموقوفين إلى أعمالهم، كان جار الله عمر أحدهم، آخذين في الاعتبار تحررهم من «العقدة اليزنية»، وأنَّهم سوف يقاتلون هذه المرة بمفردهم، وهو ما كان.   

تجسدت الترجمة العملية لتلك الاستعدادات في أكثر من موقف، وكان أبرزها مظاهرة «13 أكتوبر 1967م»، التي غصت بها شوارع العاصمة احتجاجاً على وصول «اللجنة الثلاثية» المنبثقة عن «مؤتمر الخرطوم»، وبرغم الحوادث المؤسفة التي تخللتها، وبرغم أنَّها ساهمت في إضعاف موقف الرئيس عبدالله السلال، ومهدت للانقلاب عليه، فقد كانت - كما أفاد جار الله عُمر - عملاً جماهيرياً لم يسبق له مثيل في تاريخ العاصمة، فهي لم تُرغم لجنة التدخل العربية على مُغادرة صنعاء خائبة، وتحت حراسة مُشددة فحسب؛ بل كانت قبل كل شيء بروفة للصمود والمقاومة، ومؤشراً حقيقياً إلى أنَّ الانتصار في تلك المعركة المصيرية سيكون من صنع الشعب بأسره.

كانت معارك السبعين عند جار الله عُمر ملحمة مُقدسة، ولأجل تخليدها كتب كتابه القيم «القيمة التاريخية لمعركة حصار السبعين يوماً»، صحيح أنَّه لم يتعمق أكثر في يومياتها، مُكتفياً بذكر ما يعرفه، وما عايشه، تاركاً باقي المهمة لغيره، مُطالباً - في ذات الوقت - المُهتمين بتسجيل وقائع تلك الملحمة بدقائقها، لا من أجل راحة ضمائر صناع مجدها، الذين قضوا في سبيلها، إنما ليقولوا لأجيال ما بعد سبتمبر بكل موضوعية وأمانة علمية: ما الذي حدث بالضبط، وأي ثمن استخلصت تلك الثورة، وما الذي يتعين عليهم أن يفعلوا؟ لا لمجرد الاحتفال عند حلول ذكراها، وإنما من أجل إعادة الروح الثورية إلى مبادئها الستة، كي تنبض بالحياة من جديد، مثلما كانت عند الميلاد الأول.

ما كان لمعارك الشعوب الكبرى أن تظل حية في أفئدة ومشاعر الأجيال التالية، لو لم يوظف مُفكروها طاقاتهم الإبداعية الخلاقة من أجل نقل وقائعها إلى الأجيال، مثلما كانت على أرض الواقع، وهذا ما عمل عليه جار الله عُمر، ناصحاً غيره - كما سبق وأشرنا - بإكمال تلك المهمة، على اعتبار أنَّ دلالات بطولات «ملحمة السبعين يوماً» تتعدى الإشباع العاطفي، ففيها تجسدت ذاتية الشعب اليمني الحقيقية التي تصبو دائماً نحو الحرية والاستقلال، ومُناهضة كل طغيان خارجي كان أو داخلي.

كان جار الله عُمر أحد أبطال تلك الملحمة المرموقين، تصدر وأقرانه الضباط الصغار المشهد، وتحملوا مسؤولية الدفاع عن صنعاء باقتدار، وذلك بعد هروب غالبية الضباط الكبار، وقيامهم برحلة الشتاء إلى «القاهرة، وبيروت، ودمشق، وأسمرة»، تم تكليفه وأقرانه من ضباط وطلاب كلية الشرطة بحماية مطار صنعاء القابع تحت مرمي نيران «الإماميين»، وكانت له وأصحابه أدوار بطولية في تلك الجبهة، ذكرها تفصيلاً في كتابه السالف الذكر.

تحدث جار الله عمر عن أبطال تلك الملحمة بإنصاف، ولم ينجر كغيره للانتقاص من بعضهم، وحتى زيارات الفريق حسن العمري اليومية للجبهات، والتي كانت محل تندر كثيرين، أشاد بها، وقال عنها: «ولقد كانت لزياراته - يقصد الفريق العمري - المفاجئة تلك أثر إيجابي على معنويات المُقاتلين الجمهوريين، مثلما كان يحدث دائماً في زياراته المُختلفة التي دأب على القيام بها، وإن على عجل، وبدون تخطيط، وفي كل مرة كان يرى أنَّ الموقف يستدعي ذلك».

انتهى حصار صنعاء «8 فبراير 1968م»، واستعرت الخلافات المؤجلة بين رفاق السلاح، فيما انشغلت النخبة الحاكمة بالتمهيد للمصالحة الوطنية، أرسلت الوسطاء لذات الغرض، واستقبلت الملكيين «العائدين»، والضباط الكبار «الهاربين»، ليتجرأ هؤلاء ويطالبوا بالعودة إلى مناصبهم التي سبق وأن تركوها شاغرة، وصارت من مهام الضباط الصغار، أبطال فك الحصار.

دخل «الجمهوريون» - بفعل ذلك - معمعة صراع مناطقي أكثر مما هو حزبي، كان الضباط الصغار - كما أفاد جار الله عُمر - أكثر حماساً، سريعوا العاطفة، أقل صبراً، وأكثر طموحاً، وفي المُقابل كان الضباط الكبار لا يطيقون ذلك النزق، ويتوجسون خيفة من اندفاعاتهم، راقبوا تحركاتهم، درسوها، وأعدو الخطة للتخلص منهم جيداً، وهو ما حدث في أحداث «أغسطس» الدموية من ذات العام.

العنف عندما يسود يتحول إلى قانون يستخدمه كل فريق، ثم يستخدمه المُنتصرون ضد بعضهم البعض، هكذا لخص الشهيد جار الله عمر ذلك المشهد، وأضاف: «وأحداث أغسطس ذات دلالة على عدم النُضج السياسي، وسيادة العاطفة، والرغبة الثورية المتأججة في تحقيق الانتصار بالقوة، كما أنَّها صراع على السلطة أيضاً»، ثم عاد واستدرك: «ويمكن القول إن التفكير بالتصالح، والسماح للملكيين بالعودة، كانت فكرة صحيحة، لأنَّ هؤلاء مواطنون يمنيون، وكان يجب حل القضية سلمياً، لأنَّ الحل العسكري لا يمكن أن يحل أي شيء».

حمل جار الله عُمر الجميع المسؤولية، وقال في لحظة مصارحة صادقة: «القوى الجديدة كانت تريد الدفاع عن مواقعها على اعتبار أنَّها لعبت دوراً رئيساً في فك الحصار، وأنَّ من حقها المُشاركة في القرار السياسي، فيما القوى الأخرى كانت ترى أنَّ هؤلاء شباب مُتطرفون، وأنَّ دورهم بعد الآن سيكون ضاراً، ولا بد من تصفيتهم»، واعترف أنَّهم - أي الشباب - كانوا يفتقرون إلى القدر الكافي من التجربة، والحنكة، والصبر، وأنَّ الخلاف بين حركة القوميين العرب، وحزب البعث، ساهم في تأجيج ذلك الصراع.

وخلص بالقول أنَّ هؤلاء المُتصارعين لم يكونوا يستحقون النظام الجمهوري؛ كونهم ليسوا على قدر من الرؤية والبعد الاستراتيجي، وبدلاً من أن يعملوا على تضميد الجراح، وتعزيز حضور الجمهورية، وهيبة الدولة، وكل القيم الإنسانية النبيلة، انجروا إلى صراعات عبثية كان اليمن فيها هو الخاسر الأكبر.

صار المُنتصرون - المدعومين من قبل السعودية - متحكمون في كل شيء، ليساهم انفرادهم بالحكم في إفراغ النظام الجمهوري من محتواه، الأمر جعل ديفيد سمايلي - أحد أشهر المرتزقة الأجانب الذين قادوا حصار صنعاء - يُعلن أنَّ جهوده وزميله بيلي ماكلين لم تذهب أدراج الرياح.

وفي المُقابل تعرض أبطال حصار صنعاء الحقيقيين للتصفية، والتشريد، والاعتقال، وكان مصير جار الله عُمر السجن لثلاث سنوات، وليت حكام صنعاء الجدد اكتفوا بذلك؛ بل أرسلوا حملة عسكرية صوب منطقتي «الحجرية، والمواسط، والأعبوس» بمحافظة تعز، قامت بنسف منازل المتهمين بـ «الشيوعية»، واعتقال عدد منهم؛ فكانت تلك الأحداث الذريعة الرئيسية لتبني خيار الكفاح المسلح.

عقد «الحزب الديمقراطي الثوري» مؤتمره الأول في محافظة أبين «1970م»، وبغياب جار الله عُمر عضو اللجنة المركزية فيه، وأحد أبرز مؤسسيه، وأكد - أي الحزب - على نهجه في خوض حرب التحرير الشعبية، الأمر الذي دفع قيادته للقيام بعمليات مُسلحة، لتضع أعضاء الحزب أمام الأمر الواقع، رغم عدم توفر الموضوعية لذلك الخيار، كما أفاد سعيد الجناحي، لتبدأ بذلك مرحلة قاتمة لصراع أكثر دموية.