د. ياسين سعيد نعمان

د. ياسين سعيد نعمان

الأربعاء, 14 أيلول/سبتمبر 2022 20:01

اليمن بلسان عاشق لتاريخه ومتفائل بمستقبله

الصديق Jack Stewartعاشق لليمن ولتاريخ الحضارة اليمنية. زار اليمن، جنوبه وشماله، مرات كثيرة في الثمانينات والتسعينات حتى أوائل الألفية الثالثة. أذهلته كوكبان وشبام حضرموت، وأعمدة وصرح عرش بلقيس، وبقايا السد القديم في ركني الوادي وآثار القنوات المائية الممتدة من السد عبر الصحراء حتى حضرموت، وكان يراها بقايا حضارة مائية عريقة.

وقف مبهوراً أمام مدرجات الزراعة في المرتفعات اليمنية ومنها حجة، المحويت، إب، مناخة، الحيمتين، رازح، ريمة، وصاب، عتمة، النجد الاحمر، صبر، يافع  وغيرها، ويحلو له أن يقرنها بمعلقات بابل التاريخية. شاهد من أعلى قمة سمارة الشعاب الخضراء وهي تخترق سلسلة الجبال الشاهقة، تحمل معها الحياة إلى المدى الذي تصل إليه، ثم تسلمها لشعاب فرعية تتدفق حياةً من مرتفعات أخرى، وكأنها تتناوب مهمة منح الإنسان الصامد في تلك الأرض القدرة على مواجهة تحديات البقاء والإعمار. تتبّع مجرى وادي بنا من مصدره في الجبال المطلة على الوادي في إب الشرقية، بما وهبه الله من طبيعة خلابة، حتى مصبه في بحر العرب باتجاه أبين.

زار تهامة وخلص إلى أنها خزان بشري يتمدد فوق أرض غنية وذات تضاريس تاريخية، يتسم ابناؤها بالتنوع في قدرات هائلة على العمل والانتاج في الميدان الاقتصادي والفكري والفني والرياضي والعسكري. تعرضت هذه القدرات للقمع والاهمال والافقار من قبل الأنظمة السياسية المركزية، وتم إخراجها بالكامل من معادلة الحكم، وتم تحويل أراضيهم الخصبة إلى مزارع خاصة لذوي النفوذ.

تجول في صهاريج عدن، وزار قلعة صيرة المطلة على خليج عدن؛ شاهد منها مدينة كريتر في درعها الصخري وهي تنام بهدوء فوق بركان خامد بشوارعها التي تتقاطع رأسياً وأفقياً في تخطيط بديع أخذت تعصف به العشوائية، كريتر المدينة العريقة المثقلة بالتاريخ والتي تعايشت فيها أجناس متعددة من البشر لتغدو متحفاً للإنسانية بكل معنى الكلمة. ومن القلعة تطلع إلى البحر في مداه البعيد حيث قوارب الصيادين تتراقص فوق أمواج صاخبة لا تهدأ، وعلى مرمى أبعد نظر إلى خط الملاحة الدولية وكانت سفن تمخر عباب الماء في طريقها نحو الشرق وأخرى متجهة غرباً. ومن القلعة شاهد جانباً من تاريخ عدن يحكيه المجمع السكني الرابض فوق جبل "معاشق" والذي كان مملوكا للتجار الأجانب ولبعض شرائح الارستقراطية العدنية التي أخذت تتشكل بمعايير الحداثة الغربية، وراحت تنفصل تدريجياً عن مجتمعها.

وفي نقاش مع بعض مثقفي عدن في أحد المنتديات، يعتقد أنه منتدى "الايام"، يقف عند مصدر كلمة "صيرة"، ويتذكر أنها مرادفة للكلمة اللاتينية "سييرا"، ومعناها سلسلة جبلية، وأنها جاءت مع البرتغاليين الذين بنوا القلعة أثناء احتلالهم لعدن في القرن السادس عشر الميلادي. وكان يحلو للبعض أن يطلق عليها "سييرا عدن" تيمناً بـ "سييرا مايسترا" التي انطلقت منها الثورة الكوبية بقيادة كاسترو ورفيق دربه جيفارا.

قال، شعرت وأنا أذكر "سييرا مايسترا" أن كثيراً  من الحضور في المنتدى يريد أن يعرف المزيد، فحكيت لهم قصة جيفارا الذي كان يرافق الثوار كطبيب، بعد انطلاقهم من "سييرا ماسترا" باتجاه "هاڤانا"، كيف تدخلت الصدفة ليتحول من طبيب إلى مقاتل حينما سقط حامل المدفع الرشاش في سريته قتيلاً، وتفرق بقية أعضاء السرية وكان معظمهم جرحى، ووجد جيفارا نفسه وحيداً، وأمام خيارين، إما أن يواصل حمل حقيبة الأدوية، أو يتخلى عنها لينقذ المدفع الرشاش الذي سيشكل فقدانه خسارة كبيرة على الحملة.. كان عليه أن يقرر ذلك سريعاً، ومعها يتقرر مستقبله. وقرر أن يترك حقيبة الدواء وينقذ المدفع الرشاش الذي لازمه بعد ذلك وأصبح جزءاً منه. هناك كثيرون كانت الصدفة هي من قررت مسيرتهم.

شهد إعلان الوحدة عام ١٩٩٠.. وأعجب بخطاب البيض في ميدان السبعين الذي ألقاه قبل إعلان الوحدة بأيام، ويرى البيض وطنياً عاطفياً أكثر منه سياسياً. ويعتقد أن علي صالح توفرت له فرصة لبناء دولة مستقرة لليمن لكنه ضلّ الطريق واعتقد أن الدولة ستنافسه السلطة وتوقف بها عند وظيفة الشرطي الذي يحمي مصالح الحكام وذوي النفوذ، وأن ذلك الحدث الكبير تحجر عند الحديث عن الوحدة كـ "منجز" بذاته دون تمكينه من إثبات ذلك؛ ثم سُلمت الوحدة، في أكثر اللحظات التاريخية خطأً للحرب، تلبيةً لمن أرادوا أن يعمدوها بالدم ويخلصوها من "لوثة الكُفر"، وكان أن تم تفريغها والعبث بها وإلحاقها، من ثم، بنظام سار بالبلاد إلى طريق مغلق ثم إلى المجهول.

كلما ألتقيه يتغزل بدار الحجر في وادي ظهر بصنعاء ومنارة المحضار في تريم، ويعتقد أن مبنى العامرية في رداع، وقصر السلطان عبد الكريم فضل في الرزمت في عدن (البُراق)، من المباني المعمارية التي يطلق عليها (landmarks)؛ ويرى أن جوامع العبادة في اليمن فيها بساطة في المعمار وعمق روحي وهو مغرم بالقصور المبنية من الطين في شبوة وحضرموت، ومتأكد أن المنطقة التي تمتد ما بين ثمود والعبر ورملة السبعتين في اتجاه شبوه مأرب حتى الجوف تحتوي على كنوزٍ أثرية مذهلة.

أكل "المندي" عند بلحمر في طريقه من عدن براً  إلى حضرموت، ويقسم أنه لم يذق طعاماً بتلك اللذة إلا مرة أو مرتين في مطعم الشيباني بصنعاء، ويتمنى لو يعود به الزمن إلى تلك الرحلة التي التقى فيها على الطريق كثيراً من الناس ممن كانوا يصرون على استضافته، ويتذكر صاحب النوب في "النقبة" عند مفرق طريق حضرموت، الصعيد- يشبم-عتق، والذي أهداه قارورة عسل جردان، كما يتذكر أنه أمضى مع مرافقيه بقية اليوم في بئر علي يصطادون السمك. وكان قد قرر أن يزور حوف وسقطرى، لكنه زار حوف المطلة على بحر العرب وتمتع بجمالها الأخاذ، أما سقطرى فلم يتمكن من زيارتها لأسباب تتعلق بالطيران.

حضر منتديات كثيرة، بعضاً منها في صنعاء وشارك في نقاشات تاريخية وسياسيه وأدبية، ويعتقد أن المثقف اليمني يمتلك الرؤيا لكنه يتوقف برؤيته عند حدود واقع صادم لأحلامه، ولطالما خذل رؤيته بمسايرة الواقع، كما يرى أن هناك تراث أدبي وفكري غني بالمعرفة، وأنه إذا ما أعيد بناءه وتجديده وتحقيقه في يوم من الأيام ستكتشف البشرية فيه جواهر علمية مذهلة.

زار مشاريع اقتصادية، والتقى برجال أعمال في كثير من المدن اليمنية، وتوصل إلى قناعة بأن اليمن محطة اقتصادية وتجارية هامة، وأن رجال أعمالها مؤهلون للتجارة، لكنهم لا يريدون أن يكونوا رواداً في العمل السياسي الوطني لأن التاريخ القريب يقول إن بعضاً من رجال الأعمال الناجحين ممن التحقوا بالعمل السياسي الوطني واجهوا مصاعب كثيرة، وبعضهم أفلس. ويرى أن العلاقة بين رجل الأعمال والسياسي غير مستقرة، فالسياسي ذي النفوذ يبتز رجل الاعمال، ويبني رجل الأعمال علاقته بالسياسي بقواعد الافساد. ولاحظ أن الأحزاب السياسية في اليمن لم تستطع أن تجسد بعد الحاجة الفعلية للتعددية السياسية والتنوع، ذلك أن تكويناتها تعرضت لاختراقات عصبية اجتماعية ودوغمائية جعلت منها حاضناً للصراعات المجتمعية التي تلبس ثوب السياسة، وهو ما سلبها القدرة على أن تكون قوة تغيير وتجديد مستمر للمجتمع. والأنظمة السياسية المستبدة لا تجد أفضل من هذا النموذج لإشهار ديمقراطية تقوم على التعدد والتنوع الذي لا يفضي بالنتيجة إلى أي تداول سلمي للسلطة. ويلاحظ أن قبائل اليمن تعرضت من قبل الأنظمة السياسية لإفساد نظامها الاجتماعي الذي ظل يحمل المجتمع عند غياب الدولة، والذي من المفترض أن يتحول تلقائياً - مع توسع نفوذ الدولة ووظائفها - إلى حالة تكون معها القبيلة قد أنجزت مهمتها كمرحلة من مراحل نشوء المجتمع والدولة. لكن مع الافساد الذي تعرضت له من داخلها ومن قبل الأنظمة تأخر هذا التحول وصار عقبة كبيرة أمام انجاز مهمة بناء الدولة.

ويرى أن المجتمع اليمني يغلب عليه التسامح، وأن العنف يأتيه من خارجه محمولاً بأيديولوجيات صدامية ودموية.

التقينا منذ أيام، وكان في غاية الشوق لمعرفة الأوضاع في اليمن، حدثته عن المستجدات في الشأن اليمني، وذكرته بحديثه عن أن العنف في اليمن يأتيه من خارجه محمولا بأيديولوجيات دموية. هز رأسه موافقاً، وأكد أن اليمن اليوم أمام أخطر أيديولوجية دموية على الإطلاق. وعند حديثنا عن جهود إنهاء الحرب وتحقيق السلام، قال إن إنهاء الحرب لن يتحقق إلا بهزيمة مشروع الحرب ذاته، والحوثي هو مشروع حرب، واليمن لا يحتاج إلى سلام يواصل تهشيمه، وإنما يحتاج إلى سلام يبنيه.

وجرنا الحديث إلى ما يشهده العالم من تغيرات وأحداث: أوبئة، حروب، تقلبات مناخية، ودورات اقتصادية يتعاظم معها الفقر، وجميعها تنذر بكوارث طبيعية لا تحمد عقباها. وقال إن المنطقة العربية ستتعرض بسبب ذلك لضغوط ضخمة باعتبارها منطقة هشة لم تستطع أن توفر لنفسها الحماية الذاتية الكافية، وهي في حاجة إلى أنظمة مؤهلة ومستقرة وقوية ومتعاونة فيما بينها على التنمية وإنهاء الفقر، وتستمد قوتها من هذا التعاون ومن ثقة الشعوب بها. ويرى أنها تحتاج إلى قيادات تؤمن بالتقدم العلمي الذي بات يرتب أدوات مختلفة لحل مشاكل الحياة، وهو ما يعني أن من يمتلك ناصية العلوم والتقدم التكنولوجي والعلمي سيكون صوته أقوى وفرصته أفضل لمواجهة هذه التقلبات.

وخلص إلى أن المنطقة العربية مليئة بالألغام التي لم يتفجر منها سوى النزر اليسير. وأنه على الرغم مما يتوفر لديها من فرص للخروج من حقل الالغام هذا إلا أن قرار الخروج لا زال بيد غيرها من القوى الدولية والقوى المحيطة بها؛ وأنها باتت في حاجة إلى توفر عوامل ثلاثة لتحقيق هذه العملية التاريخية:

- إرادة وطنية تتجاوز خطاب السياسة وتفاعيلها المراوغة التي تنشغل بها الأنظمة وتخدر بها الشعوب، إرادة تمنحها الثقة في التعاون فيما بين دولها وشعوبها على أسس الشراكة.

- توفر حامل علمي ومعرفي لهذه الإرادة يتجاوز الزعامة في صورتها التقليدية، ويهيئ لها قاعدة مجتمعية يتغير معها  التفكير النمطي في التعاطي مع المشكلات، تكون معه قادرة على مد جسور التواصل مع العالم بشروط مختلفة عن تلك التي أخضعتها للتبعية عهوداً طويلة من الزمن.

- إعادة إنتاج الجهد الإنساني المتراكم من الماضي، فيما كنت قد أشرت إليه عند حديثي عن اليمن من آثار وتكوينات حضارية وتاريخية وغيرها مما أنتجه الإنسان، وشكل الشخصية الجامعة التي تضفي على الحاضر المستمر قيمة أصيلة من قيم الحياة والتي تملأ وجدان إنسان اليوم بالفخر والاعتزاز، وتضعه دائماً في تحدي مع نفسه وهو يقارن حاضره مع منجزات أسلافه.

ثم قال: لا تستغرب إذا قلت لك أن ما شاهدته في اليمن من جهد بشري متراكم من غابر الأزمان يكفي لأن يحمل هذا البلد نحو المستقبل والتقدم بروح لا تقبل الهزيمة أو الانكسار مهما كانت التحديات. اليمن من الأمم التي لديها ماضٍ يستطيع أن يكون حاضناً جيداً لحاضر أفضل.

ويقول: خلصت إلى هذه الحقيقة ذات يوم، وجادلت الكثير من الباحثين المهتمين بالشأن اليمني حولها. سخر مني من جادلتهم مستدلين على "سذاجة" أفكاري بعد كل هذا الذي حدث من صراعات وحروب، لكنني مع ذلك لا زلت أعتقد جازماً أن اليمن يحوي في ثناياه من التاريخ ما يمكن أن يصنع تاريخاً إضافياً يهزم هذا الحاضر البائس. المهم هو أن لا ينام اليمن فوق هذا التاريخ.. يجب أن يجعل منه محركاً للنهوض. كل الذين ناموا فوق ماضيهم خسروا الحاضر.

خنقته العبرات، وبدا وكأنني أشاهد أمامي رساماً في مواجهة لحظة عصيبة وهو يشاهد لوحته التي أفنى عمره في تخيلها ورسمها وقد تشققت وتلاشت معالمها.

من صفحة الكاتب في فيسبوك

الخميس, 10 شباط/فبراير 2022 21:42

لم يكن فبراير مشروعا للتغلب

 

لن يكون الهجوم على فبراير من قبل البعض سوى دعوة للفبرايريين لإعادة نبش صفحات الماضي لتبرير ثورتهم والتمسك بها وبأهدافها .

لم يكن الجميع في حاجة لإغراق المشهد بمثل هذا الجدل الذي لا يعني أكثر من أن هناك ممن أخذوا المبادرة بتشويه فبراير لا زالوا يتحركون خارج حقائق التاريخ التي من بينها مستجدات الحياة السياسية والتي تتطلب من الجميع رصد مسارات التطور لأوضاع البلاد ، ومآلاتها ، بعيداً عما تضخه نوابض الانتماء إلى عصر لم يعد مفيداً أن نستحضر خصوماته ، لمجرد التسلية ، في زمن جاء فيه من يعمل على سحق الجميع : المعارضين والموالين .

إن ربط الوضع المأساوي الذي وصل إليه اليمن بفبراير هو محاولة يائسة من قبل البعض لدحض الحقائق التاريخية التي دائماً ما ارتبطت بصلتها بحاجة البشر إلى تجديد مسار حياتهم حينما ينتهون إلى طريق مسدود ؛ وهذا ما وصل إليه اليمن في لحظة تاريخية لم يعد فيها ممكناً آنذاك تحقيق أي تراكم كمي أو نوعي لتجسيره مع المستقبل .

من غير الممكن النظر إلى فبراير بمعزل عن عدد من الحقائق التي ارتبطت به كحركة سياسية شعبية سلمية على طريق التغيير :

١/ كان فبراير ضرورة موضوعية اقتضتها الحاجة إلى وضع حد فاصل بين دولة الغلبة التي سادت اليمن لعهود طويلة ولم تمكنه من النهوض ومغادرة التخلف والصراعات والحروب ، والحاجة إلى قيام دولة المواطنة والقانون الحديثة التي ناضلت من أجلها الحركة الوطنية اليمنية عقوداً من الزمن .

٢/ اشتعل الجنوب بالحراك السلمي في تحد مع ما انتجته الحرب من ظروف قاهرة في الجنوب وما كرسته من معادلات سياسية مختلة على صعيد البلاد ، وهو ما فتح الباب أمام حراك سياسي سلمي في الشمال أفضت جميعها إلى رفع شعار التغيير السلمي وإكسابه محتوى اجتماعياً وسياسياً وشعبياً غزير المعنى عندما يتعلق الأمر بضمان المستقبل في إطار واسع من الحرية واحترام انسانية الفرد وتمكينه من التمتع بحقوقه في العيش الكريم .

٣/لم يتحرك فبراير بارادة ملتبسة بحسابات كثيرين ممن التحقوا به فيما بعد ، فقد كان محصلة طبيعية لحالة الغليان الشعبي الذي نتج عن وصول النظام إلى طريق مسدود في معالجة القضايا البنيوية التي أخذت أحدثت شروخا هائلة في جسم الدولة "المركبة" وتوليفة النظام السياسي والاجتماعي الذي استنفد قدرته على الاستمرار دون مزيد من الأخطاء التي تسببت في الكارثة .

٤/ كان فبراير مشروعاً للبناء ، ولم يذهب ،بما شكله من مقاومة للتحديات الموضوعية ، إلى خصومة شخصية مع أركان النظام ، لذلك كانت أهم حلقاته هي التفاهم والحوار الوطني بين كل القوى السياسية لصياغة عقد اجتماعي يعالج مشاكل اليمن ويضع القواعد المنظمة لنشوء الدولة وحل قضية الجنوب . لذلك يمكن القول إن فبراير لم يكن مبعثه الصراع على السلطة بقد ما كان معبراً عن حاجة شعبية لحماية السلطة من الفرد في إطار دولة ديمقراطية تحترم الناس وخياراتهم .

٤/ كغيره من الأحداث التاريخ الهامة التي لا يمكن أن تجري من غير أخطاء ، فقد كانت هناك أخطاء كثيرة  ، حيث تسلق على سلمه كثيرون ممن أثبتت الأيام انه لم تربطهم بفبراير سوى مصالح خاصة حققوها على حساب أهدافه الحقيقية.

٥/ كان علي عبد الله صالح أكثر فطنة وإدراكاً من معاونيه في فهم حقيقة الأوضاع المسدودة التي وصلت إليها البلاد ، ومعها أدرك بعمق أنه لا يوجد ما يدفعه لأن يغامر بقمع الاحتجاج الشعبي السلمي ، وكان قادراً على ذلك ، لأنه لن يستطيع أن يخطو بعد ذلك بالبلاد خطوة نحو الخروج من المأزق . ولذلك فقد تجاوز كثيراً من الاحداث ومن بينها حادث تفجير مسجد الرئاسة الذي كان يمكن أن يوظفه عنوة لقمع الاحتجاجات . تماسك في أهم اللحظات ولعب لعبته في توظيف التناقضات التي كانت تقتلي داخل المجتمع ، وعمل على توفير فرص الانتقام من معارضيه ومن فبراير بأيادي أخرين ( الحوثيين) .

٦/ انتقم الحوثيون من فبراير نيابة عن صالح ، وفي مسار انتقامهم حاولوا إعادة صياغة معادلات سياسية واجتماعية وتاريخية لفرض مشروعهم الطائفي على اليمن واعتقدوا أنهم قادرون على استيعاب صالح ومنظومته التي بقيت إلى جانبه ضمن هذه المعادلة ، واعتقد صالح أن توظيفهم في الانتقام لم يكن سوى الخطوة الأولى نحو استيعابهم ، وكلنا يعرف كيف سارت الأحداث بعد ذلك .

٧/ كان فبراير مشروعاً سياسياً وشعبياً ناجحاً لأنه أوصل مسار التغيير الثوري الى الحوار الوطني متجنباً الغلبة التي دمرت تاريخياً كل محاولات النهوض بالبلد ، غير أن المشروع الذي لا يمتلك القوة التي تحميه يكون عرضة لخطر الهيمنة عليه من قبل قوى لا تحمل لمبادئه المودة ، وهذا ما حدث مع فبراير .

٨/ على الرغم من كل ذلك فإن صيغة التفاهم والتعايش التي خطها فيراير قد شكلت مرجعية تاريخية لبناء الدولة ، ومعها العدالة الانتقالية ، ومعها احترام إرادة الناس في تقرير خياراتهم السياسية .

أتابع كثيراً مما تبثه بعض الفضائيات العربية حول ما يسمى الذاكرة السياسية، واستطيع القول إن الكثير منها يتم إعدادها كصحيفة اتهام لتجارب وأحداث منتقاة لأغراض ليس لها أي وجه من أوجه التنقيب في الذاكرة السياسية بصورة موضوعية تحترم المستمع العربي، وتمنحه فرصة الاستفادة والتقييم، بل تمارس عليه التلقين السلبي.

ذلك الأسلوب هو صورة من صور القمع المعرفي الذي يمارسه الاعلام الموجه، تمشياً مع دوره في ترويض العقل العربي على قبول الرواية الرسمية.

وفي المساحة ما بين مفهوم الذاكرة السياسية والاستجواب، الذي يتم وفقاً للائحة اتهام يتم إعدادها سلفاً، مساحة يرمح فيها خيل راقص على انغام الفيلم الأمريكي الشهير "زوربا اليوناني" لأنتوني كوين.

يتحول الشخص الذي "يعد" ويجري المقابلة إلى محامي ادعاء يستمد أسئلته من لائحة الاتهام المعدة سلفاً. وبأسلوب متمكن، يحول السياسي الذي أمامه إلى مجرد شاهد (ادعاء) على صحة ما حوته صحيفة الاتهام.تتحول المقابلة إلى ما يشبه البحث في الزاوية القلقة من الذاكرة، وما يشبه الرقص في الزاوية المظلمة من التاريخ.

أتمنى أن لا يحدث هذا مع تجربة اليمن الديمقراطية الشعبية، كما تعرض الآن على قناة العربية. فنحن أمام شخصية قيادية محورية في تجربة الجنوب، وهو الاخ العزيز حيدر أبو بكر العطاس؛ وهو دون شك أحد مستودعات هذه التجربة  التي لا تحتاج سوى إعادة برمجة وتريب لمحتوياتها بمنهج هو أكثر من غيره معرفة بتقنياته كمهندس.   

أقول هذا لأن الاخ حيدر، بما له من مكانة ودور، وبما يحتفظ به من مخزون ومسئولية تاريخية تجاه هذه التجربة، يستطيع أن يفرض إيقاع المقابلة، بدلاً من ترك المبادرة للأسئلة الانتقائية التي يستعرضها المحاور بطريقة بدت وكأنها استجواب شاهد، لا إدارة نقاش مع قائد سياسي كبير، لكلمته مكانتها في تقييم هذه التجربة، كما أن للفضاء الذي يعرض فيه رأيه معنى هاماً في استيعاب ملامح التجربة.

لم تكن تجربة اليمن الديمقراطية مختزلة فيما عرضته أسئلة المقابلة وإجاباتها من نماذج لأحداث منتقاة حتى الآن، كانت تجربة ذات فضاء واسع امتد من تحقيق الاستقلال الوطني، وبناء دولة حديثة من إمارات وسلطنات ومشيخات مجزأة ومتناحرة، إضافة إلى مستعمرة عدن.. حققت هذه الدولة التي أقيمت على هذه الرقعة الواسعة من الارض كثيراً من المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لم يكن سهلاً دمج التراكيب الاجتماعية والسياسية المتناقضة والهشة في تكوين سياسي واجتماعي متجانس، وتكوينات إدارية للحكم المحلي، إلا بجهد شاق، وأحياناً تضحيات كبيرة. اعترف بها العالم، وتعامل معها باحترام، وأقامت علاقات دبلوماسية مع دول العالم والمنظمات الدولية، وكانت من أوائل الدول العربية التي احتلت مقعداً في مجلس الأمن من مقاعد الأعضاء غير الدائمين، وحققت جوانب كثيرة من الأمن، والعدالة الاجتماعية، وبناء الانسان، ومعهما توفير فرص العمل لكل القادرين عليه، وفتحت فرص التأهيل والتدريب والتعليم من الابتدائي حتى الجامعي مجاناً، وانشأت نظاماً متكاملا للتعليم الفني والتقني وهو ما كان يسمى "البوليتكنيك"، واهتمت بالثقافة والفن والرياضة والشباب وبناء المعرفة، وكفلت للمرأة حقوقها الاجتماعية والمدنية والسياسية كاملة، وكان قانون الاسرة مثالاً للتقدم الاجتماعي على هذا الطريق، وكفل القانون الترقي الوظيفي حسب المؤهلات لكل المواطنين دون تمييز، وأقامت نظاماً صحياً شمل كل المواطنين، فاختفت كل الأوبئة الفتاكة، وكان حقاً لكل مواطن أن يحصل على العلاج والدواء في مؤسسات الدولة العلاجية مجاناً بما في ذلك إجراء العلميات الجراحية  الكبرى في الداخل أو في الخارج، وأنشأت شبكة طرقات حديثة على طول وعرض البلاد بمساحاتها الواسعة، وأنشأت الجسور التي سهلت المواصلات، وأقامت السدود لخزن المياه وتوزيعها للأراضي الزراعية، ووفرت مياه الشرب النقية والكهرباء وخدمات البريد والاتصالات، وانشأت نظام للتجارة الداخلية استقرت وتساوت بموجبه اسعار السلع الضرورية على مستوى الجمهورية، وطورت ميناء عدن تطويراً شاملاً، ووفرت الخدمات الساحلية للصيادين، وانشأت المطارات المدنية في حضرموت والمهرة وشبوة إلى جانب تطوير مطار عدن، وأخذت تتدرج في بناء مساكن للمواطنين، وواجهت الضغوط، وقلة الموارد، وحافظت على سيادتها ودافعت عن سيادة أراضيها.. وكانت هناك أخطاء سياسية واقتصادية، بعضها كبير، وهو أمر لا يمكن نكرانه، ويحدث في كثير من التجارب في مراحل التحول الاجتماعي الحادة حينما تكون البنية الاجتماعية هشة أمام هذه التحولات التي يؤطرها نظام سياسي تنقصه التعددية الديمقراطية، وتنتظم في إطار نظام قانوني وقضائي غير مكتمل وقبل أن يصبح نظاماً مشهوداً له بالكفاءة، وتتحقق في ظل الموارد المحدودة وما تمثله من صعوبات لبناء الاقتصاد الذي يشكل القاعدة المادية لهذا التحول، وغياب دور القطاع الخاص بسبب الموقف الايديولوجي منه من ناحية، وضعف بنيته هو الآخر من ناحية أخرى. ولا ننسى هنا الحصار الذي قامت به شركات النفط الكبرى المهيمنة على المنطقة في تعطيل اكتشاف النفط لأسباب منها ما يتعلق بأسواق النفط والعرض والطلب حفاظاً على الاسعار وأرباح الدول المنتجة.

كان الطموح يصطدم بالصعوبات فيرتد إلى داخل المؤسسة السياسية في صورة خلافات حول المنهج السياسي والايديولوجي، ولم تكن القاعدة الاجتماعية التي تشكلت بفعل هذه التحولات غائبة حتى في نقاشات القيادة السياسية أو الحكومة مما يشكل ضغوطاً قوية على اتخاذ القرار داخل الهيئة، ناهيك عن الميراث الاجتماعي المتراكم والمرحل من مرحلة ما قبل الاستقلال.

تجربة هذا البلد بكل، ما رافقها من إيجابيات وسلبيات، لا يحوز للإعلام العربي أن يقدمها بهذه الطريقة الانتقائية التي تستهدف أحداثاً  بعينها خارج سياقها التاريخي والموضوعي.

أنا لا أقوال إنها تجربة بلا أخطاء، لديها أخطاء كبيرة كما قلت، ولكن ليس من الصح أن تقدم على هذا النحو وكأنها مجرد صراعات، ومؤامرات فقط .. حتى القائد الذي يقبل الحوار على قاعدة الوجه السلبي للتجربة سواء كناقد أو كمدافع لن ينظر إليه في النهاية إلا بأنه أحد مكوناتها أياً كانت طروحاته. والتاريخ له أدواته المحايدة بالطبع.

وأنا هنا لا أجادل فيما يقوله الشخص من رأي، من حق كل إنسان أن يقول رأيه فيما عاشه من أحداث، لكنني أتحدث عن المنهج وخاصة عندما يتعلق الأمر بتجربة لا يمكن تقييمها بمثل هذه الانتقائية في استعراض أحداث بعينها بصورة مفككة وغير مترابطة وخارج مساراتها.

إذا لم يتم تناول التجربة، إيجاباً وسلباً، بمنهج يضع الذاكرة السياسية في مسار صحيح ويجنبها الانسياق إلى الانتقائية التي تحاصرها في مساحات ضيقة من التجربة، فإنه لا معنى لذلك، وتبقى هناك تجربة إنسانية تستحق أن تقيم بصورة أفضل، وبأسلوب يتناول فضاءاتها التي لا يمكن اختزالها في صحيفة اتهام لا تبحث عن غير الأخطاء والسلبيات فقط .

لدي ثقة كبيرة أن تصحيح المنهج الذي يستعرض الذاكرة في الحلقات القادمة وذلك بتسليط الضوء على الفضاء الأوسع للتجربة سيبكون بمستوى الشخصية القيادية التي يتطلع الكثيرون لسماعها.

السبت, 05 كانون1/ديسمبر 2020 18:32

وكان السؤال.. هل هو صراع على السلطة؟

 

في المقال الذي كتبته بمناسبة الذكرى ٥٣ للاستقلال والذي كان بعنوان: "في ذكرى الاستقلال وبناء الدولة في الجنوب" ناقشني كثير من الأصدقاء مباشرة حول أحد العناوين الفرعية ، والذي اعيد نشره وكان عنوانه الفرعي  :

- "الجميع أبناء بيئتهم" : وجاء فيه :

" في عملية التعايش والصراع تلك لم يكن أي طرف من الأطراف مختلفاً عن الآخر عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالموروث الذي شكل تلك التناقضات ، وبالثقافة الملتبسة في فهم التقدم والتخلف ، ناهيك عما تولده عملية بناء الدولة من تبدلات على صعيد البنية الاجتماعية وما تنشئه من مصالح متعارضة . فير أن الموقف من إدارة هذه التناقضات كان هو الذي يميز هذا الطرف أو ذاك ، ذلك أن اللجوء إلى العنف والقوة لطالما تسبب في أضرار ضخمة ، وكان بمثابة المسبار  الذي يكشف أكثر الأطراف تأثراً بهذا الموروث ، مع أن الجميع كانوا أبناء بيئتهم التي تشكل جانباً من ثقافتهم ووعيهم الاجتماعي ، والذي غالباً ما تسبب في نشوء وعي سياسي متراجع عما تعبر عنه المؤسسة الحزبية من موقف متقدم .

كان العنف غالباً ما يغطيه القرار المؤسسي الحزبي ، عدا حالات معينة كان يتم فيها العنف ضد قرار المؤسسة السياسية الحزبية . وبينما كان العنف الذي يتم دفاعاً عن قرار المؤسسة السياسية ( الحزب) لا تتجاوز  آثاره المؤسسة الحزبية ومؤسسات السلطة لأنه يحسم الأمور داخل المؤسسة الحاكمة ، فإن العنف الموجه ضد قرارات المؤسسة السياسية يطال المجتمع برمته لأن العنف هنا لا ينحصر  داخل المؤسسة السياسية وإنما يمتد إلى تعبئة المجتمع . وغالباً ما كانت التعبئة هنا تستنفر البعد القبلي أو المناطقي في البنى الاجتماعية الهشة مما يتسبب في إبطاء عملية الاندماج الاجتماعي .

وبينما نجد أن العنف في صورته الأولى قد أوجد شروخاً داخل المؤسسة السياسية كان يجري تجاوزها سريعاً ، إلا النوع الأخير من العنف ، واستخدام القوة في مواجهة المؤسسة كان سبباً في خلق شروخ عميقة داخل المجتمع ، تتسع  وتعجز المعالجات السطحية من انهائها .

لا يمكن النظر الى هذه الصراعات بمعزل عن حقيقة هامة وهي أن بناء الدولة قد أحيط بصعوبات وتناقضات موضوعية في الأساس كانت تتسرب أحياناً ، وبصورة طبيعية ، إلى ثقافة الفرد لتحوله من صانع للتحول والتغيير إلى ضحية للتاريخ بما يتفاعل فيه من ميراث . كم هم الرفاق الرائعين والمناضلين الذي راحوا ضحية هذه الظاهرة ."

كان معظم الذين تحدثوا معي يسألون عما كنت أقصده بأن "الجميع أبناء بيئتهم"، وهل لذلك التحديد علاقة بتوصيف الصراعات بأنها كانت من أجل السلطة ؟

وفي نقاشي معهم أشرت إلى النقاط التالية :

-إن كثيراً من التقييمات التي انتقدت تجربة بناء الدولة في الجنوب كانت تناقش النزعة الشخصية بعيداً عن البئية المادية التاريخية والثقافية التي شكلت هذه الشخصية ، وهو أمر كثيراً ما كان يأتي ناقصاً بسبب تجنب ذكر العوامل المختلفة المؤثرة في السلوك الخاص والعام .

-حاولت على نحو سريع ومتواضع ، في ذلك المقال ، أن أنبه إلى حقيقة أن التقييم الموضوعي للحدث يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الواقع الموضوعي الذي كانت تعمل في ظله القيادة بما يضخه من صعوبات وإنفعالات بدوافع وتأثيرات مختلفة .

-أن هؤلاء القادة جاءوا من داخل هذه البيئة ، صحيح أنهم جاءوا ليغيروها لتغدو المكان الملائم  الذي يقيمون فيه مشروعهم ، لكنهم كثيرا ما اختلفوا حول عملية التغيير وأدواتها ، ومدى نضج الظروف لإقامة ذلك المشروع .

-كانوا كثيراً ما ينقلون خلافهم إلى داخل الحزب لا لإنضاج النقاش والحوار وإنما لإحداث حالة استقطاب ضد ، أو مع هذا الخيار أو ذاك .

-كانت البيئة من خارج الحزب محرضة على الإختلاف بسبب حالة عدم الاندماج الإجتماعي .

-لهذه الأسباب كان الصراع يتجه نحو السلطة ، ولكن من منظور أن كل طرف يريد أن يستخدمها لتحقيقه خياراته ، أي أن الصراع على السلطة لم يكن مجرداً من الخيار السياسي الذي يسعى كل طرف إلى تحقيقه .

-لم يبرئ هذا الوضع حقيقة أن السلطة لم تكن جسراً إلى الهدف السياسي العام في كل الأحوال فلها منطقها الذي تتفوق فيه على الخيارات العامة حينما تبدأ تدق اسفين في العلاقة بين جهاز الدولة الحكومي والمؤسسة السياسية ، ويبدأ هذا الجهاز في انتاج شرعية طاردة للمؤسسة السياسية ومقدسة للفرد .

-لا بد أن للبيئة بمكوناتها المادية التاريخية والثقافية أثرها الكبير في ذلك ، خاصة وأن الحوار الديمقراطي الداخلي كان يتعثر بعصبية البيئة .

 

لا يكتمل الحديث عن "ثورة ١٤ أكتوبر" إلا بثلاثين نوفمبر  ١٩٦٧ يوم الاستقلال ، الحدث الذي شكل حلقة توسط بين مرحلتين للثورة :

١/ النضال من أجل الاستقلال الوطني ومقاومة المشاريع الاستعمارية .

٢/ العمل من أجل بناء الدولة الوطنية بتوحيد أجزاء الجنوب ، وتحقيق الامن والإستقرار والتطور الاقتصادي والعدالة الإجتماعية .وبناء الانسان صحياً ومعرفياً وعلمياً وسياسياً ، التمسك بالميراث النضالي للحركة الوطنية اليمنية ، دعم نضال الشعوب العربية وغيرها من أجل الحرية والعدل والمساواة .

- عدن "سفر التكوين" ومهد بناء الدولة :

بعد أيام سيحل ٣٠ نوفمبر ، حاملاً معه أسئلة كثيرة من التاريخ ، وعن الحاضر ، و المستقبل . سيبقى بناء الدولة الوطنية على رأس الاهتمامات التي لا يمكن للمؤرخ أن يتجاهلها فيما يتعلق بما أنجزه نوفمبر ، وما خسره في نفس الوقت .

وستحضى عدن بأكثر الأسئلة ، وأشدها عاطفة وإثارة ، باعتبارها مهد الدولة الوطنية ، والمكان الجامع الذي تشكلت فيه أحلام المناضلين الأوائل ، وباعتبارها "سفر التكوين" الذي تبلور في منتدياتها ومعاهدها ونواديها ، وفي المجرى العام لكفاح عمالها وشغيلتها ومثقفيها وأبنائها الكادحين ، وكل القادمين إليها من مختلف أنحاء اليمن ، جنوبه وشماله ، وبلاد الكومنولث وغيرها .

في عدن حط هؤلاء رحالهم ، ونصبوا خيامهم في توافق إنساني هزم كل المحاولات التي ظلت تروج للانقسام العرقي ، والتمييز المكرس للاستبعاد الإجتماعي القادم في قوالب مهربة من وراء أعالي البحار  في صور مختلغة من التجارب العنصرية والطائفية وغيرها من تفريعات الانتقال من الاستعمار المباشر القديم إلى الاستعمار غير المباشر الجديد .

وستمتد الأسئلة لتشمل أبين ولحج وشبوة والضالع وحضرموت والمهرة وسقطرى ، باعتبارها مكونات الدولة الوطنية التي حملت في جوفها مقومات النجاحات وعوامل الانتكاسات ، وكانت بتضحياتها وثقافتها وفنها واقتصادها ومجتمعاتها وتراكيبها الاجتماعية وميراثها وعلاقات ماقبل الدولة تحمل نقيضين : الحالة الثورية المجسدة لروح الدولة الوطنية وبواعث نشوئها وقواها الجديدة وأهدافها وأحلامها ، والحالة اللاثورية المجسدة للثقافة الانقسامية العالقة في موروث سياسي واجتماعي لم يكن للدولة الوطنية الوليدة أن تتجاوزه بالرغبة ، أو بالإرادوية ، وإنما بتغيير قوى وعلاقات الانتاج ، وخلق مصالح مادية وروحية لجميع السكان من منطلق المواطنة التي أخذت تتشكل بأسس قانونية ودستورية .

- تناقضات ذات منشأ موضوعي :

سيسجل التاريخ أن هذه الدولة حملت في جوفها تناقضات ذات منشأ موضوعي تاريخي ، وهي تناقضات طبيعية ، أخذت تستولد منظومة من التحديات ، التي كان أهمها على الإطلاق "الإندماج الاجتماعي" باعتباره انعكاساً للتطور كعملية موضوعية لا تتم إلا بالتطور الإقتصادي والإجتماعي ، وخلق مصالح مشتركة تدار بنظام المواطنة الذي يحمي الجميع .

لقد كان من الطبيعي أن يتعايش القديم والجديد في إطار بنى الدولة الجديدة ومؤسساتها ، وهي في تلك المرحلة المبكرة من التشكل ، على أن هذا التعايش لا يعني الاستمرارية ، فالنقيضين ، بطبيعتهما ، يحمل كل منهما عوامل نفي الآخر . غير أن هذه العملية تغدو معقدة فيما لو تركت دون إسناد سياسي واع لحالة الجدل التي ترافق عمل القوانين الموضوعية والمتمثلة في العمل بمثابرة على تحويل وتفكيك القديم وإحلال الجديد بدلاً عنه . ولا بد من الاعتراف بأن هذا القديم لم يكن ممكناً تحويله وتفكيكه ، ومن ثم تجديد المجتمع ، إلا بتطوير علاقات وقوى الإنتاج من إقتصاد ، ونظم سياسية ، وعلوم ، وفنون ، وبنى تحتية وخدمات اجتماعية شاملة ، وقضاء ، وقانون ، والأخذ بيد المرأة لبناء مكانتها في المجتمع كأحد أعمدته الاساسية ، وانصاف ودعم القوى الاجتماعية المهمشة ، وتصفية الامية الأبجدية في المجتمع ؛ أي بناء هياكل التطور العام . والتطور يعني فيما يعنيه الانتقال التدريجي المنظم من القديم  إلى الجديد .

- التدخل بأدوات غير إقتصادية:

في تلك الظرف ، كان من الطبيعي أن تكون مقاومة القديم قوية لأن قوى الانتاج التي تم الاستعانة بها لازاحته لم تكن بالقوة الكافية التي تسمح بتحقيق ذلك بدون مشاكل وصعوبات حقيقية . فالوضع الاقتصادي لم يكن مؤهلاً لتسريع هذه العملية بأدوات التطور المادية ، ولذلك فقد كان التدخل بوسائل غير إقتصادية محاولة لإنضاج التحول على هذا الطريق ، إلا أن التدخل بوسائل غير إقتصادية قد يكون مفيداً إلى مستوى معين ، ولكنه يصبح بعد ذلك مضراً ، بل وعلى درجة عالية من الخطورة .

كان التدخل بأدوات إدارية وسياسية "ثورية"  لتعويض ضعف البنى الاقتصادية يتجاوز الحاجة في بعض الأحيان ، وكان لا يلبث أن يرتد في صورة توترات إجتماعية ، تتكثف بدورها في خلافات سياسية ، كما حدث في الانتفاضات الفلاحية التي كان يراد منها تغيير علاقات الانتاج في الريف بأدوات غير إقتصادية . ولم يستقم هذا الأمر على نحو متوازن بعد ذلك إلا بعد أن تحقق في المجال الزراعي قدر كبير من الميكنة الزراعية ، وإعادة تنظيم هياكل الانتاج الزراعي ، وإصلاح نظام الحيازة والملكية ، والتسويق ، وتحسن نظام الري ، وإدخال نظم انتاج لتعويض تسرب اليد العاملة منه إلى القطاعات الاقتصادية الحديثة .

والحال أنه في المفهوم العام للتطور الشامل لا غنى عن الإقتصاد ، وتطوير وسائل الإنتاج ومن ثم تغيير العلاقات الاجتماعية نحو التقدم .

- البنى الحديثة للدولة ، ولادة الطبقة المتوسطة :

مع خطوات بناء الدولة يمكن القول إن تناقضات القديم والجديد تعايشت وتصادمت .. ومن هذا التصادم والتعايش بني نموذج لنظام سياسي واجتماعي مقاوم للهزات العنيفة التي تكررت على نحو موضوعي للأسباب المتعلقة بمقاومة البنى القديمة وتباطؤ الاندماج الاجتماعي . وكان أن أخذت الدولة تستقر داخل بنى حديثة ومعاصرة ، وأخذ الناتج المحلي ، والدخل الوطني يتكونان بمعدلات أسرع في القطاعات الحديثة ، حيث أخذت الطبقة المتوسطة في هذه القطاعات تنمو وتأخذ مكانتها في البنية الاجتماعية ، غير أن هذه الطبقة الهامة لم تجد فرصتها الكاملة لتكون جزءاً من العملية السياسية ، إلا من التحق بعضوية المؤسسة الحزبية الحاكمة . وكان هذا الوضع مصدراً جديداً لمشكلة الاندماج الاجتماعي التي أخذت تجر عملية بناء الدولة إلى مواجهات ليس مع الموروث من التحديات القديمة وإنما مع ما خلقه التطور من مخرجات في صورة تحديات جديدة .

وهو ما شهده البلد منذ أن بدأ بناء الدولة وإقامة نظام الحكم  بنفس " الحجارة" الموروثة وبأدوات حديثة وبمنهج وطني أتاح تمييز الصلب من الهش وذلك بمقدار ما أتاحت تفاعلات النهوض الوطني من فرص لمزيد من الاختيارات الناجحة .

لم تكن عملية بناء الدولة سهلة ، فقد تداخل بناؤها مع إقامة نظام للحكم يستوعب الطبيعة الخاصة للجنوب المجزأ والغارق في بحر من التخلف ، فيما عدا عدن وبعض المناطق الحضرية الأخرى . غير أنه بمجرد أن دارت عجلة التغيير حتى نشأت مشكلة العلاقة بين الدولة والمؤسسة السياسية الحزبية ، فالدولة  اتسعت قاعدتها الاجتماعية مع نمو الطبقة المتوسطة ، بينما أخذت القاعدة الاجتماعية للمؤسسة الحزبية الحاكمة تتشكل بشروط حادة أبقت قطاعات واسعة من هذه القاعدة الاجتماعية خارج المؤسسة السياسية ، على الرغم من أن مؤسسات المجتمع المدني كانت قد استوعبت جزءاً من هذه القاعدة الاجتماعية . لكن هذا الاستيعاب لم يشكل تعويضاً كاملاً لحاجة الكثيرين إلى الانخراط في العمل السياسي ، وظلت  هذه واحدة من الأسباب التي أخذت تضغط باتجاه التوترات السياسية والاجتماعية التي كانت تشتد على المؤسسة السياسية الحزبية فتعمل على احتوائها بتوسيع قاعدة المشاركة في أبنية الدولة ومؤسساتها ، وتوفير الخدمات الاجتماعية ، وفرص العمل ، والتعليم بمستويات المختلفة ومجانية التطبيب ، وتحقيق قدر كبير من العدالة الاجتماعية عبر نظام عادل لإعادة توزع الدخل .

لكن التغيرات الكبيرة التي أخذت تصيب المجتمع الريفي والتقليدي كانت تدفع بآلاف الباحثين ، ممن تأهلوا علمياً ومهنياً ، عن فرص للعمل في القطاع المدني وهو ما رفد الطبقة المتوسطة بقوى إضافية مع ما ولدته من ضغوط على الحياة السياسية .

كان تصنيف الطبقة الوسطى بالبورجوازية الصغيرة قد أفضى إلى التمسك بتعريفات تضمنت موقفاً أيديولوجياً أقرب الى الخصومة الطبقية منه إلى إدراك ما تحمله هذه الطبقة من نزعة متقلبة تجعلها في مركز اهتمام الدولة ، ومن ثم العمل على استيعابها أو السماح لها بخلق تعبيراتها السياسية  . تجاهلت القيادة السياسية أن هذه الطبقة لم تكن سوى ما أسفر عنه بناء الدولة من مخرجات ، ولم تكن موروثة حتى ينظر إليها بأنها غريبة المنشأ وبخصائص تتناقض مع الجوهر الاجتماعي للنظام السياسي ، ولذلك كان من الطبيعي أن يتشكل قدر من التباعد الذي كانت له آثار سلبية على القاعدة الاجتماعية للنظام ، باعتبار أن هذه الطبقة هي جزء أصيل من هذه القاعدة ، لكنها لا ترتبط بها إلا بروابط يملؤها الشك من الطرفين .

- الجميع أبناء بيئتهم :

في عملية التعايش والصراع تلك لم يكن أي طرف من الأطراف مختلفاً عن الآخر عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالموروث الذي شكل تلك التناقضات ، وبالثقافة الملتبسة في فهم التقدم والتخلف ، ناهيك عما تولده عملية بناء الدولة من تبدلات على صعيد البنية الاجتماعية وما تنشئه من مصالح متعارضة . غير أن الموقف من إدارة هذه التناقضات كان هو الذي يميز هذا الطرف أو ذاك ، ذلك أن اللجوء إلى العنف والقوة لطالما تسبب في أضرار ضخمة ، وكان بمثابة المسبار  الذي يكشف أكثر الأطراف تأثراً بهذا الموروث ، مع أن الجميع كانوا أبناء بيئتهم التي تشكل جانباً من ثقافتهم ووعيهم الاجتماعي ، والذي غالباً ما تسبب في نشوء وعي سياسي متراجع عما تعبر عنه المؤسسة الحزبية من موقف متقدم .

كان العنف غالباً ما يغطيه القرار المؤسسي الحزبي ، عدا حالات معينة كان يتم فيها العنف ضد قرار المؤسسة السياسية الحزبية . وبينما كان العنف الذي يتم دفاعاً عن قرار المؤسسة السياسية ( الحزب) لا تتجاوز  آثاره المؤسسة الحزبية ومؤسسات السلطة لأنه يحسم الأمور داخل المؤسسة الحاكمة ، فإن العنف الموجه ضد قرارات المؤسسة السياسية يطال المجتمع برمته لأن العنف هنا لا ينحصر  داخل المؤسسة السياسية وإنما يمتد إلى تعبئة المجتمع . وغالباً ما كانت التعبئة هنا تستنفر البعد القبلي أو المناطقي في البنى الاجتماعية الهشة مما يتسبب في إبطاء عملية الاندماج الاجتماعي .

وبينما نجد أن العنف في صورته الأولى قد أوجد شروخاً داخل المؤسسة السياسية كان يجري تجاوزها سريعاً ، إلا النوع الأخير من العنف ، واستخدام القوة في مواجهة المؤسسة كان سبباً في خلق شروخ عميقة داخل المجتمع ، تتسع  وتعجز المعالجات السطحية من انهائها .

لا يمكن النظر الى هذه الصراعات بمعزل عن حقيقة هامة وهي أن بناء الدولة قد أحيط بصعوبات وتناقضات موضوعية في الأساس كانت تتسرب أحياناً ، وبصورة طبيعية ، إلى ثقافة الفرد لتحوله من صانع للتحول والتغيير إلى ضحية للتاريخ بما يتفاعل فيه من ميراث . كم هم الرفاق الرائعين والمناضلين الذي راحوا ضحية هذه الظاهرة .

- مقاومة الموروث لبناء الدولة :

كان بناء الدولة يسير جنباً إلى جنب مع جهود التغلب على هذا الموروث . والذي يعتقد أن هذه العملية كان ممكن أن تتم بدون مقاومة عنيدة من قبل هذا الميراث إنما يتجاهل حقيقة أن هذا الميراث كان قد تجذر في بنى إجتماعية وسياسية مغلقة على ثقافة ، وتاريخ سياسي ، ونظم حكم وفرت لها مقومات العزلة أكثر من فرص الانفتاح . وبهذا الصدد لا ننسى الدور الرائد الذي لعبه المناضلون الأوائل ممن كسروا حاجز العزلة وبناء جسور التواصل وذلك في بواكير العمل السياسي الذي كانت عدن الحاضنة الأولى له . إن عملية البناء تلك سارت بخطى جسدت الفكر السياسي الذي حمل منذ منذ ما قبل الاستقلال قضية بناء الدولة الوطنية بكل ما تعنيه من تحديات .

لقد أوضح ميثاق الجبهة القومية هذه المسألة بوضوح . وكان برنامجها الذي شكل رافعة سياسية للنضال الوطني قد تفاعل على نحو إيجابي مع نضال نقابات العمال التي كان لها دوراً مبكراً في تكوين الوعي السياسي الوطني ، والذي شكل بيئة مناسبة لكفاح مشترك لمناضلي الجبهة القومية ومناضلي جبهة التحرير ، وقبلهما الاتحاد الشعبي الديمقراطي وحزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب وغيرها من المكونات السياسية التي ، وإن اختلفت مساراتها ، إلا أنها شكلت الأرضية التي تحرك فيها الجنوب من حالة الجمود السياسي ليفرغ شحناته الوطنية في مسار انتهى ببناء دولته من العام ١٩٦٧-١٩٩٠ .

- التطور مفهوم إشكالي :

أمام نجاح بناء الدولة كان من الممكن أن تبقى تلك الأحداث على هامش عملية البناء تلك ، باعتبارها تحديات موضوعية ، غير أن للحياة منطقها الذي كان يجب أخذه بعين الاعتبار ، وهو أنه مع كل عملية مواجهة كانت القوة الحاملة للتطور تخسر جزءاً من دينامياتها ، لأن الذي كان يخرج من المعادلة هو جزء من "المجموع الحي" لمعادلة التطور ، وإن بدا أنه يحمل رأياً مغايراً ، إلا أن "التطور" في حقيقته كان مفهوماً إشكالياً في بلد لم تتشكل عناصر بنائه على قاعدة مستقرة من المفاهيم .

على هذا النحو سار بناء الدولة الوطنية في الجنوب وبأدوات ومفاهيم ومعايير كانت تتطور كلما استطاع "الجديد" أن يحتل المزيد من المساحة في رقعة الصراع ، حتى أخذت المسارات السياسية والاجتماعية تقترن بتطور معقول لقوى الانتاج ، وأخذت القطاعات التقليدية ، التي تضم الغالبية العظمى من السكان ، تتحول عبر خلق أنماط حديثة من عناصر الانتاج ، والادارة ، وتطبيق القانون ، والإشراف السياسي ، والدعم الذي قدمته الفنون ، وانتشار التعليم بشقيه الأكاديمي والمهني ، وكان للأخير دوراً كبيراً في ربط التطور الاقتصادي بقاعدة واسعة من الفنيين المهرة ممن غيروا تراكيب وبنى المجتمع وتأهيلها ، من ثم ،  لتنمية شاملة .

كان الوضع الذي استقر عنده بناء الدولة يعكس حقيقة من حقائق نجاح هذه العملية . فالتراكيب التقليدية للمجتمع كانت قد تفككت وتراجعت ، وأصبحت نسبة كبيرة من سكانها جزءاً من البنى الحديثة للدولة ، وكانت التجارة الداخلية ، وانشطة النقل ، والاتصالات ، والتسويق ، والبناء والانشاءات والمقاولات ، والصناعات الصغيرة والحرفية ، والسياحة ، والفن والموسيقى والتمثيل والرسم ،والرياضة قد فتحت أبواباً ومجالات لتعاون مشترك بين القطاع العام والتعاوني والخاص ، وقدمت فرصاً هامة للاندماج الإجتماعي الذي أخذ يتشكل بأدوات إقتصادية أكثر منها سياسية . كما أن النظام اللامركزي في إدارة الدولة كان قد حقق نجاحات كبيرة في تفويض صلاحيات المركز لمجالس الشعب المحلية ، وهو الأمر الذي أخذ يعالج جوهر مشكلة الاندماج الاجتماعي التي ظلت دالة في الميراث السياسي والاجتماعي والثقافي للمكونات والكيانات السياسية التي تشكلت منها الدولة .

- الدولة عند قيام الوحدة:

وعند قيام الوحدة كانت الدولة في الجنوب قد غطت المساحة الشاسعة من المهرة حتى باب المندب بنظام للحكم جمع بين المركزية واللامركزية الادارية والمالية على نحو أخذت فيه الحاجة لتعزيز اللامركزية تضغط بشدة و تنتج ديناميات اتجهت بالمسار كله نحو التعددية باعتبارها المعادل الموضوعي للتنوع السياسي والاجتماعي  الذي راح يعكس التغيرات الهامة والكبيرة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والحاجة الى التعددية السياسية المرافقة لذلك .

وثيقة الاصلاحات السياسية والادارية الهامة لخصت الحاجة إلى صياغة مشروع انتقال الى التعددية السياسية ، خاصة وأن الدولة قد اكتمل بناؤها ، ولا يمكن حماية هذا البناء وتطويره إلا بالاعتراف بالتنوع والتعدد الديمقراطي .

أخذت النقاشات في الأطر السياسية والحزبية والشعبية تتفاعل مع الحاجة الى إحداث تغيرات جوهرية في البناء السياسي لنظام الحكم يستوعب التطورات الاجتماعية الكبيرة التي رافقت بناء الدولة ، وعبرت عن توسع القاعدة الاجتماعية وتنوعها وحاجتها الى إصلاحات سياسية معادلة .

في خضم هذه النقاشات برزت قضية "الوحدة"

وتصدرت المشهد كله ، واشترط الجنوب ربط الوحدة بالديمقراطية ، وكان ما كان من أمر الوحدة والديمقراطية معاً ، فقد دفنتا بالحرب .. ومنها تناسلت المأساة .

وكل عام وأنتم بخير .

الأحد, 12 تموز/يوليو 2020 19:29

نقتل حصاناً لنصطاد أرنب

 

 

كنا نحلم بما يوحدنا ونحن مشطرون، فمارسنا في الواقع العملي ما يفرقنا ونحن  موحدون.

هكذا، نحن اليمنيين، نعمل ونتعب ونضحي في الوصول الى هدف ما، وعندما نصل إليه نبدأ نثير الاسئلة تشكيكاً في صحة ما عملناه.

كم هي الفرص التي أضعناها بسبب أن الأسئلة التي كان يجب الرد عليها قبل تحقيق الهدف أجلناها إلى ما بعد تحقيقه.

الفرصة الوحيدة التي توفرت ووضعنا فيها أسئلة الماضي والحاضر لبناء مستقبل، بدون أسئلة مؤجلة، كان مؤتمر الحوار الوطني، لكن حتى هذه الفرصة اشتبكت مع مخلفات الموروث التي تراكمت على مدى قرون، ولم ننتبه إلى حقيقة أن الحامل السياسي للفرصة كان مثقلاً بصراعاته وحسابات إلغاء الآخر، وأن الحامل الإجتماعي كان مهمشاً وغير قادر على خلق تنظيماته القادرة على حمل الفرصة باعتباره الأولى بها.

من هذه الحقيقة، وبعد أن وضعتنا الأيام أمام خيارات الضياع أو المراجعة، كان بالضرورة أن نستخلص الحاجة إلى إصلاح مكامن الضعف في هذه العملية المركبة، أي آصلاح الحامل السياسي وإعادة بناء الحامل الاجتماعي، وهو ما زال غائباً، ومعه نستمر في قتل الحصان لنصطاد الأرنب.

الخميس, 21 أيار 2020 00:56

ليتوقف البعض عن الرغي

 

يصبح المهزوم في المعارك الكبرى موضوعا للتندر رغماً عن وجاهة حججه ، لا ينصفه أحد ، يهيلون التراب على كل صوت يرتفع دفاعا عن موقف تاريخي يفضح المنتصر..

كلما حضر ٢٢مايو تحضر معه الاراجيف التي تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويتنطع أصحاب الاصوات العالية باذلين كل جهد لتمريغ الوقائع التاريخية في تراب النفاق.. ويواصلون تفريغ التاريخ من شحناته ليلقوا به جثة هامدة أمام سماسرة التسلط والهيمنة.

في هذا السياق يتحدث البعض هذه الايام بسخرية عن قيادة الجنوب التي وقعت على الوحدة، فينسب سبب فشل الوحدة السلمية إلى أن الاتفاقية التي وقعت بين الدولتن كانت من صفحتين فقط ولم تشمل قضايا جوهرية كان يفترض أن تشملها!!

وعندما تسأل بعضهم عن طبيعة هذه "القضايا الجوهرية" يرد بأن طبيعة الدولة التي كان يجب أن تقوم وكذا نظامها ومحتواها اغفلتها الاتفاقية.

الحقيقة أن هذا التفسير مردود عليه من الوقائع التاريخية التي رافقت الوحدة وهي أن الاتفاقية لم تكن الوثيقة الوحيدة التي انتظمت الوحدة في إطارها، وإنما كان هناك الدستور المتفق عليه، والقوانين التي تم الاتفاق على انجازها خلال الفترة الانتقالية التي حددت بسنة (نوفمبر ١٩٨٩/ نوفمبر ١٩٩٠) والتي تم اختصارها فيما بعد الى ستة اشهر بدون أي تفسير مقنع، وأنجز خلالها أكثر من ١٧١ قانون شملت مختلف مناحي الحياة المنظمة للجوانب الادارية والاقتصادية والامنية والعسكرية والحياة العامة.

ما يعني أن الوحدة قامت وهناك دستور واكثر من ١٧١ قانون متفق عليها شكلت بمجملها الوثائق الاساسية لإقامة الدولة.

تكمن المشكلة في مقاومة إقامة دولة الوحدة!!

البحث عن أسباب الفشل يجب أن ينصب على العوامل الحقيقية التي تضافرت لتعرفل بناء دولة الوحدة.

إن اختزال المسألة على هذا النحو الذي يجعل "الاتفاقية" سبباً في فشل الوحدة السلمية إنما هو تبرئة للعوامل الحقيقية التي قادت إلى ذلك.

حدث بهذا المستوى لا يجب أن يتم التعامل معه بهذه الخفة، وانما يجب البحث في عمق وجوهر الاسباب الكامنة أساساً في وعي اجتماعي وسياسي متنفذ تعامل مع الوحدة على أن طرفاً هرب إليها، وآخر كان مضيفاً وتصرف من موقع أن هذا الهارب يجب أن يقبل بشروط الضيافة.

من هذا السبب تناسلت الاسباب والتداعيات والحروب ومن ثم السقوط..

ليتوقف هؤلاء عن الرغي ، وينظروا كيف أن المنطق الذي دسه المتنفذون في قلب العملية التاريخية قد قلب المعادلة كلها رأساً على عقب لينتهي الوضع إلى ما انتهى إليه.

الارتقاء بالوعي إلى مستوى الاحداث الكبيرة عملية معقدة ونضالية وتشاركية، وهي ضرورية لنجاح هذه الأحداث في الواقع العملي.

الإثنين, 20 نيسان/أبريل 2020 16:12

معادلة التغيير: اتفاق- اختلاف – اتفاق

إلى العزيز محمد صبري في ذكرى الأربعين لوفاته:

الموت الذي يغيَّبُ إنساناً كمحمد الصبري لا يمكن تعريفه إلا بأنه فاجعة.

نعم.. لقد كان رحيله فاجعة، بكل ما حملته من وجع وحزن وذهول وشعور بالخسارة.

في معادلة الحياة والموت، تقاس خسارة الرحيل بمستوى حضور المرء في الحياة العامة.. كان حضوره كبيراً في المحيط الواسع الذي امتد إليه نشاطه السياسي والاجتماعي والإنساني، ؛ولذلك، لا بدَّ أن تكون خسارة رحيله كبيرة.

على نحو يثير الإعجاب والاحترام، استطاع محمد الصبري -رحمه الله- أن يشق طريقه في الحياة السياسية العامة إلى الصفوف الأمامية بثقة المقتدر على التعاطي مع تعقيداتها، وكان واحداً من قيادات اللقاء المشترك في محطة من أهم المراحل السياسية. وكان أن استطاع اللقاء المشترك، قبل أن تلتهمه خديعة السلطة، أن يعمل بدأب على خلق معادلة سياسية على الأرض تتجاوز حواجز الايديولوجيا إلى ما تحتاجه ضرورات التغيير من برامج وإصلاحات سياسية داخل كل حزب وفي الحياة السياسية عموماً.

سيظل اسم محمد صبري مرتبطاً بالتغيير في أي موقع كان فيه.. كناصري، هو رجل تغيير، ولو كان اشتراكياً أو إسلامياً أو ليبرالياً  سيكون بلا شك رجل تغيير.. وكان ذلك تجسيداً لروح “المشترك” الذي غير وجه الحياة السياسية في اليمن ومعادلاتها.

كان لا يتوقف بتفكيره عند حدود ما تشكله النظرية من فهم للظاهرة، لكنه يعمل عقله بدينامية الواقع الذي يتحرك فيه.. وهو إلى جانب أنه رجل تغيير بالمفهوم الذي يرى فيها الإنسان الحياة في حركتها لا في سكونها.

كان يتطور سياسياً وفكرياً في ظروف المعاناة الشخصية التي تكبدها بسبب مواقفه التي ظلت تعبر عن حاجة اليمن إلى إصلاحات جذرية في مجمل بناه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن البنى الثقافية والعلمية المنهكة بنفايات الايديولوجيا التي عمقت التخلف في كافة مناحي الحياة.

ولا أنسى مناقشتنا المستمرة لمسألة تغيير المعادلة المركبة التي حكمت الحياة السياسية اليمنية من: (اختلاف- اتفاق- اختلاف)، إلى (اتفاق – اختلاف- اتفاق).

وكان لا بد من وضع هذا التعديل في إطار  نظري منهجي يساعد على معرفة مضامينه بعيداً عمَّا يمكن أن يفهم منه بأنه اعتباطي أو تحكمي.

فكان الإطار المنهجي كالآتي:

(اتفاق): وتعني أن التنوع والتعدد السياسي والثقافي قيمة إنسانية لا غنى عنها لإدراك حاجات الإنسان المتنوعة؛ ولذلك فهي متكاملة وليست متصادمة. وأن القوى التي تمثلها لا بد أن تتفق على حقيقة أن هذا التنوع والتعدد يجب أن يدار بأدوات سياسية ومعرفية.

(اختلاف): التنوع بطبيعته يحمل اختلافاً في الرؤى والبرامج، على أن يبقى هذا الاختلاف محكوماً بالاعتراف بضرورات التنوع دون طغيان من أحد أو شعور بالتفوق والتميز، وأن التفوق هو ميدان العمل الذي تتحقق فيه مصالح المجتمع.

(اتفاق): على أن الديمقراطية وحق الناس في تقرير اختياراتهم السياسية هي الكلمة النهائية التي يحتكم إليها الجميع.

تغيير المعادلة على هذا النحو (اتفاق – اختلاف- اتفاق) كان وسيظل هو الرهان الذي لا يمكن لليمن أن يستقر بدونه.

لروحك السلام أخي أبي عبد العزيز.

د.  ياسين سعيد نعمان.

هاهي الوقائع تؤكد مجددا أن الحوثية فكرة تعيش بالحرب، وتتلاشى بالسلام، وهي لذلك لن تقبل بأي وقف للحرب ما لم يكن ذلك تعبيراً عن القبول بإنقلابها كمسلمة لا يجوز مناقشتها من قريب أو بعيد.

بمجرد ما أعلن تحالف دعم الشرعية أنه سيقدم مبادرة لوقف الحرب استجابة لنداء الأمم المتحدة لتمكين اليمن من مواجهة جائحة "الكورونا" العالمية، قامت الجماعة فوراً بتسريب ما اسموه "وثيقة الحل الشامل لإنهاء الحرب على الجمهورية اليمنية" في إستباق يرفض بوضوح أي مبادرة للتخفيف من معاناة اليمنيين.

وبعيداً عن العنوان الملغوم للوثيقة ومحتوياتها التي تستخف بوعي الناس وبما ارتكبته بحق اليمن، فإن الجماعة تعمل على استثمار معاناة الشعب، وتضع شروطها بالإنتقال من التهدئة إلى الحل الشامل وهي تعرف أن الحل الشامل يبدأ بخطوة تجسد إحترام حاجة الناس في هذا الظرف الصعب إلى حشد الجهد لمواجهة كارثة الوباء، وتخفيف المعاناة الانسانية، ومعها تتراكم وتتعزز شروط إنهاء الحرب بقواعد الحل الشامل لسلام دائم تنتهي بموجبه الأسباب الحقيقية التي قادت الى الحرب.

في الوثيقة، التي سربتها قبل إعلان مبادرة التحالف بساعات قليلة، لم تترك فرصة لتفسير مقاصدها على أي نحو مغاير، ولو بالحد الأدنى، لإصرارها على مواصلة الحرب ما لم يكن وقف العمليات العسكرية استجابة لشروطها.

ولم تكتف بذلك، فبمجرد أن أعلن التحالف مبادرته بوقف العمليات العسكرية، قامت بإطلاق صواريخ باليستية إلى قلب مدينة مارب في عمل لا مسئول، ولا ينم عن اعتبار أو تقدير لما يرتبه هذا السلوك من مخاطر على اليمنيين في قادم الأيام.

اليمن في ظل الأوضاع الراهنة معرض لكوارث المرض والأوبئة والمشاكل الاقتصادية والجوع، وللذين لا يعرفون حقيقة ما ينتظر اليمن من آلام وأوجاع مضنية خلال الأيام القادمة نذكرهم بأن برنامج الاغاثة لهذا العام تأجل الى هذا التاريخ لانشغال الدول المختلفة بكارثة الوباء، ولن يكون لديها المساحة المعتادة للدعم الانساني، أي أن "فائض الإنسانية" الذي يوزعه العالم على المنكوبين بحماقة العصبيات وطيش السلاح والقوة الغاشمة قد تبدد بالكارثة التي بات معها الجميع يئن من وطأة المعاناة.

٣- اليمن وطن وليس غنيمة حرب .

واليمني مواطن ، وهو مالك السلطة ومصدرها ، وليس رعوياً أو أسير حرب.

---------------------------------

تعتبر "الحوثية" مجرد مجموعة هامشية حينما يتعلق الأمر بالإمامة وعلاقتها بالأسر الإمامية التي حكمت اليمن. وهي تعرف تمام المعرفة أن تراتبيتها بين هذه الأسر لا تؤهلها لقيادة هذا التكوين "الثيوقراطي" المتشعب إلى أسر لطالما تطلعت جميعها إلى الإمامة والسيادة، واصطرعت بين إمام مفضول وإمام أفضل، وأسر حاكمة وأخرى هامشية، ومرجعيات أصيلة واخرى ملتبسة. 

حكمت هذا التكوين قواعد روتها الدماء التي سالت، سواء فيما بينها، أو في إقحام المجتمع فيها، لتستأثر بالإمامة والسلطة، وانهكت معها اليمن ليبقى من أكثر دول العالم تخلفاً وفقرا.

ولذلك فإن الحرب التي تخوضها اليوم هي في حقيقتها امتداد لهذا التاريخ الدامي، وهي ذات أبعاد متداخلة، فهي من جانب محاولة لتأكيد أهليتها للإمامة والسيادة ببعديها الثيوقراطي والعصبوي معاً، بعد أن ظلت مهمشة وخارج المكون "المرجعي" للأسر الحاكمة وتشكيلاتها التاريخية وهي، من ناحية أخرى، إستمرار لنظرة الإمامة إلى اليمن كغنيمة حرب وإلى أبنائه كرعية وأسرى حرب، وليس كوطن، لبنائه شروط مختلفة.

والحوثية، كجماعة عصبوية وفكرة عنصرية، ترى في الحرب وسيلة لإخضاع أطراف هذا التكوين بالبعدين "العرقي" والثيوقراطي معاً، وإخضاعه لسطوتها لتأكيد حقها في الإمامة بمرجعيات "حسين الحوثي" التي شكلت فرعاً لزيدية سياسية وفقهية وعرقية منفتحة بلا حدود لعلاقة متداخلة مع الاثنى عشرية الجعفرية. وهو انفتاح يهدف إلى بناء تحالفات خارجية تدعم مشاريعها التسلطية الفوضوية وإبقاء اليمن مخلباً إيرانياً في جسم المنطقة. ولتمرير هذا البعد فلا بأس من المراوغة مع الجمهورية بشعارات بمحتوى إمامي استبدادي يسمح لها بتمرير مخططاتها في السيطرة، أو أقله بالتعايش، ولكن من الموقع الذي تستطيع من خلاله التأثير في القرار السيادي وتعطيله بإتفاقات تصبح جزءاً من دستور البلاد.

غير أن ما يشغلها، ويثير لديها الهواجس، هو أن كثيراً من مكونات الثيوقراطية الامامية لن تعترف لها بالإمامة أو السيادة، كما أن كثيرين من أبناء اليمن ممن ينسٌبون تنسيباً إلى الهاشمية لن يقبلوا، كما لم يقبلوا من سابق، بجرهم إلى صراع عصبوي يجدون فيه أنفسهم وقد تحوصلوا في دائرة صراع أبدية مع بقية الشعب اليمني وهم الذين لا يعرفون اليمن إلا موطنا.. وأن يكون اليمن وطنا دائماً أفضل من أن يكون غنيمة مؤقتة. فالمغامرون قد يظفرون باليمن كغنيمة مؤقتة، كما تخطط الحوثية اليوم، وكما كان حال الإمامة دائماً، ولكنهم سيخسرونه كوطن دائم. خاض الكثيرون من هؤلاء نضالاً وطنيا ضد هذه النزعة الشوفينية وأيديولجيتها الثيوقراطية التسلطية، بل كانوا في طليعة هذا النصال الوطني في محطات تاريخية مختلفة.

تدرك الجماعة الحوثية، التي تستخدم مسمى " أنصار الله" كعنوان جامع تحاول أن تتجاوز به هامشية مكانتها في التراتبية الاسرية، أن بقية الأسر لن تقبل بإمامتها أو بتربعها كرسي السيادة، كما أن الكثيرين لن ينخرطوا في الفرز السلالي بذلك الشكل الذي يجعلهم في مواجهة دائمة مع مبدأ الوطن والمواطنة الذي يؤمن لجميع اليمنيين حياة آمنة ومستقرة، لذلك فإن الحوثية تعتقد أن فرض سطوتها هنا أمر لا بد منه. ومع السطوة يتم توريط الأغلبية في الحرب وممارسة القمع، والانخراط في دورة الانتقام بما يرتبه ذلك من فرز ومن ثأرات وردود أفعال تنتج خطاباً ومواقف معادية تجاه الهاشميين، وهذا هو بيت القصيد عند الحوثية، فكلما طال أمد الحرب كلما أوغلوا في توريط المزيد والمزيد، فمن يتورط لا يستطيع العودة الى الخلف، وفي نفس الوقت تكون الحرب قد شرخت المجتمع، وشرب هذا الشرخ الكثير والكثير من الدم، ومعه تكون قد أكلت الكثير من أبناء هذه الاسر ممن يعتقد الحوثيون أنهم لا يظهرون لهم الولاء إلا خوفاً، أو طمعاً، بينما هم في حقيقة الأمر لا يقيمون لهم وزنا في تراتبية الامامة والسيادة من ناحية، كما أن آخرين خاضوا نضالات وطنية خارج هذه المنظومة برمتها من ناحية أخرى ومنذ البواكير الأولى للحركة الوطنية.

وينطبق نفس الشيء على القبائل التي حازبت الحوثية وحاربت الى جانبها، والتي أرهقت بألاف القتلى من أبنائها، ممن تعتقد الجماعة بأن قتالها إلى جانبهم محكوم بدوافع لا صلة لها بالولاء العقائدي بقدر ما هو تعبير عما أصاب البنية الاجتماعية والسياسية اليمنية من تفكك واستقطابات، وشعور بالإبعاد والإقصاء، بسبب سياسات الأنظمة المستبدة. ولأن هذه القبائل لا تشكل، من وجهة نظر الجماعة، قاعدة عقائدية راسخة للسيطرة التي تسعى اليها، فإن هذه القبائل يجب أن تنهك وتستنزف إلى أبعد مدى، والجماعة لهذا لا تراها غير مخرن بشري للقتال والموت بمقابل.

الحوثية اذاً تقاتل، وهذا البعد من قتالها هو امتداد تاريخي للصراعات الداخلية للأئمة وعلاقتهم بالمجتمع الذي يسعون للسيطرة عليه وإخضاعه. ومعه ، فإن إدارة هذا الصراع لا زالت تعتمد على:

....يتبع الجزء الرابع

السبت, 28 آذار/مارس 2020 20:55

اوراق تستر العورة وتحصد الشكر

عندما هاجم الحوثيون نهم والجوف وطالب المجتمع الدولي بعدم التصعيد، رمى الحوثيون بورقة ناقلة النفط صافر التي تهدد البحر الأحمر وبحر العرب بكارثة بيئية، واعلنوا موافقتهم لخبراء الأمم المتحدة بصيانتها تجنباً للكارثة، فآثر المنشغلون الأمميون بقضية اليمن التركيز على صافر مكبرين موقف الحوثيين من هذه "القضية الخطيرة"...

أخذ الحوثيون الحزم واتجهوا نحو مارب، وبقيت ناقلة النفط "صافر" على حالها الذي يهدد بكارثة بيئية هائلة ولم يسمحوا لخبراء الصيانة بصيانتها.

ومع جائحة كورونا التي تهدد اليمن، أعلن الحوثيون موافقتهم على دعوة الامين العام للأمم المتحدة بوقف العمليات القتالية فحصلوا على نصيبهم من الشكر الجماعي الذي أسبغه الأمين العام ومبعوثه على الجميع.

لكنهم لم يلتزموا بشيء، وواصلوا هجومهم في صرواح بشكل أوسع مهددين ومتوعدين باسقاط مارب، وهاجموا في نفس الوقت في جبهة الضالع بأعداد وآليات أكبر، وواصلوا عبثهم في البيضاء والحديدة ومكيراس، واطلقوا طائراتهم المسيرة في كل اتجاه، ولتغطية كذبتهم بالموافقة على الدعوة رموا بورقة إطلاق البهائيين من السجون، وحصلوا على شكر أممي أكبر من الأول..

وحينما يشتد الضغط عليهم سيرموا بورقة أخرى ليحصلوا على شكر تنسى معه الأمم المتحدة قضية البهائيين، وهو ما قاموا به يوم أمس حينما أعلنوا انهم سمحوا للسفينة الأممية المخصصة لمفاوضات تنفيذ اتفاق ستوكهولم بالتحرك وسنسمع شكرا أممياً يتسبب في نسيان البهائيين وقضيتهم.. وهكذا، يستخدم الحوثيون الكثير من الأوراق لستر عورتهم، ويحصدون الشكر مقابل ذلك وبدون تنفيذ أي إلتزام.

حقيقة الصراع في اليمن:

في الجزء الأول من هذا المقال تحدثنا كيف أن الحوثية هي حاصل جمع موروث الحكم الامامي المتسلط لليمن من ناحية، والتخريب الذي أصاب الجمهورية من ناحية أخرى.

وفي هذا الجزء الثاني سنتطرق لطبيعة الصراع، وإلى البنية الفكرية الانعزالية المغامرة لهذه الجماعة، والتي تأسست بدوافع انتقامية، وكيف استطاعت أن تتشكل في جوف المصالح غير المشروعة التي اغتالت النظام الجمهوري، واستطاعت أن تخترق النظام السياسي والاجتماعي بخطاب مزدوج: سياسي مراوغ في جانب, وطائفي، تعبوي يدعو إلى العنف في جانب آخر.

وفي حين أن الخطاب السياسي الجمهوري الوطني كان قد قمعته السلطات الحاكمة، وعطلت مضامينه الثورية مما أخرجه من معادلة المواجهة مع هذا المشروع الخطير الذي تسلل إلى قلب النظام الجمهوري ليساهم في تخريبه من داخله، فقد وجدت هذه الجماعة في الخطاب الديني المتشدد والخطاب السياسي المنفلت وغير المنضبط بإيقاعات الحاجة الوطنية إلى ردم صراعات الماضي، على الضفة الاخرى، ضالتها التي استطاعت معها أن تشق لنفسها مساراً لخلق معركة طائفية وعرقية بعيداً عن الهم الوطني العام المتعلق ببناء الدولة الوطنية ونظام المواطنة المؤهل لتفريغ العلاقات المجتمعية من شحنات العنف التي يولدها الشعور بغياب مثل هذه الدولة.

أخذ هذا الخطاب يسحب وعي المجتمع واهتماماته خارج قضاياه المعاصرة إلى مجاهيل التاريخ، ومنتدياته السفسطائية، وقراطيسه الصفراء، وصراعاته الدموية، وبعيدا عن هذا الهم الوطني ومسئولياته تجاه الحاضر والمستقبل.

وشجعت السلطة يومذاك هذا المنحى بهدف استنزاف الجميع في صراعات، وذلك بهدف مقاومة أي دعوة لإصلاح النظام السياسي للجمهورية، الآمر الذي بدت معه الجمهورية وكأنها بلا محتوى وطني أو مضمون إجتماعي.

وتواصلا مع الحقيقة التاريخية التي تقول إن الأئمة طوال فترات حكمهم ظلوا يستمدون قوتهم، ومشروعية تسلطهم، من الخلافات التي نشبت واستحكمت حلقاتها بين الزعامات والقيادات المجتمعية والقبلية اليمنية، فإن الحقبة الجمهورية لم تشذ بعيداً عن هذه الحقيقة، فقد بدأت بتصفية القيادات الوطنية التي دافعت عن سبتمبر منذ أحداث اغسطس ١٩٦٨، ثم صياغات تحالفات سلطوية بعنوان جمهوري ومحتوى مختلط ومراوغ، كان أن فتحت الباب أمام تسلط قوى إجتماعية وسياسية قامت بتجريف الجمهورية، وتركتها بلا مضمون شعبي أو وطني، وهو الامر الذي امتد بعد ذلك إلى الوحدة التي تعثرت بمفاهيم سيريالية للدولة لم تصمد أمام تحديات الحاجة الوطنية لدولة تتجاوز ذلك التاريخ الانقسامي الذي تعثر فيه اليمن طويلا، وكان أن خذلتها في أكثر اللحظات مواءمة لبناء تلك الدولة المعبرة عن مشروع الوحدة.

وكان من الطبيعي أن يستمر الخذلان بعدئذ ليشكل ذلك العنصر الحاسم في تكوين البيئة التي مكنت هذه " الطبعة" من الإمامة من الانقلاب على الدولة، وهي كما قلنا من أكثر الطبعات تخلفاً وحقداً واندفاعاً نحو الانتقام.

ولا يزال الوضع كما هو عليه حتى اليوم، حيث تتغذى هذه الجماعة من تناقضات وخلافات الصف الذي تصدى لمقاومة مشروعها، وتبرز هذه الحقيقة التاريخية في أوضح تجلياتها، كما شرحناه في أكثر من مناسبة.

كانت صنعاء مدينة مفتوحة للقاءات إجتماعية يشارك فيها الجميع ويتبادلون نقاشات سياسية لا تنتهي.

وفي منزلي في حي الوحدة بصنعاء، وهو المنزل الذي سطا عليه الحوثيون بعد ذلك وكسروه وعبثوا بمحتوياته، بما في ذلك الوثائق الشخصية، ثم صادروه ببلطجة تنم عن طبيعة هذه الجماعة، وبنيتها الاخلاقية التي تشكلت كاستجابة لنزعة فاسدة فكرياً، كنت أستقبل كثيراً من الناس، وكان بعض من هذه الجماعة ممن يحضرون ويشاركون في مثل هذه النقاشات المتنوعة، وبعضها كانت تدور حول الدولة الوطنية وأهميتها لمستقبل اليمن، وعندما استعيد اليوم من الذاكرة بعضا مما كانوا يرددونه بشأن الدولة أدرك حقيقة ما تمتعت به هذه " المكونات الثيوقراطية" من قدرة على التخفي في مخازن الفكر الثيوقراطي المتسلط، وفي التقية والمراوغة في سلوكهم، وفي عملهم الدؤوب لفتح ثغرة في الجدار الجمهوري الوطني. ساعدهم على ذلك، وعلى التمدد في مساحة أوسع من الوعي المجتمعي، الموقف العدمي الرافض لدولة المواطنة الذي كانت تبديه قوى أخرى وشيطنة المنادين به من ناحية، ومن ناحية أخرى توظيف التناقضات السياسية بطريقة التشبيك اللئيم الذي خدع الكثيرين.

وكنت في نقاشات كثيرة أنتقد الموقف الحدي المبني على وقائع تاريخية منقولة من تلك التي شكلت حواجز ثقافية ونفسية ظلت ترتحل مع الأجيال وتغذى بدوافع مختلفة، ويستشهد بها على صعوبة التعايش.

وكثيراً ما كنت أورد على سبيل المثال في نقدي لهذه الظاهرة حكاية زميل لنا من البيضاء ونحن طلبة في مصر عام ١٩٦٧، وجئنا من حلوان يومذاك نبحث عن سكن في القاهرة، وبالصدفة التقينا بزميل من بيت الكبسي، وعرض أن يستضيفنا عنده الى أن نجد مسكنا، فرفض زميلنا هذا الذي من البيضاء، ولم أعرف سبب رفضه إلا بعد سنوات عندما التقينا وحدثني عن السبب، وهو في غاية الخجل، وطلب مني أعتذر لصديقنا الكبسي عن الموقف الذي قال عليه إنه كان "بايخ".

حقيقة لا ادري هل كان صديقنا ضحية التعبئة لأحدات تاريخية شهدتها تلك المنطقة، أم أنها مقاومة امتدت مع الزمن وعبر الأجيال لذلك النهج التعسفي للإمامة المتسلطة وما مارسته من قمع وتعسف واظطهاد.. وإذا كان الأمر كذلك، فقد بقي السؤال الذي لم أجد له إجابة يومذاك وهو لماذا يمتد هذا الموقف ليشمل صديقنا الكبسي، ذلك الشاب المكافح والفقير الذي لم يكن يجد قوت يومه، وظل في مقدمة الطلائع الوطنية المدافعة عن النظام الجمهوري.

شخصيا لم، ولن يرق لي، في أي يوم من الأيام أن أقبل بتصنيف عرقي للصراع في اليمن بعيداً عن بعده السياسي والاجتماعي والفكري، استشهد بهذه الواقعة في محاولة لإعادة قراءة خارطة الصراع من الزاوية التي لا يمكن أن نبرر فيها لهذه الجماعة المغامرة أن تعبئ جزءاً من الشعب بيافطة عرقية أو طائفية لاغراضها التسلطية المغامرة، مما يعني أن القبول به إنما يصب في خانة الهدف الذي أشعلوا الحرب من أجله.

تعتبر الحوثية مجرد مجموعة هامشية حينما يتعلق الآمر بالإمامة وعلاقتها... يتبع الجزء الثالث

تعامل مع خصمك كما هو في الحقيقة لا كما يحلو لك أن تراه.

لا يغير من الوضع شيئاً أن تختار على نحو تحكمي صورة انطباعية تصفه فيها بأدوات ثقافية ومعطيات تاريخية مراوغة.

الحوثيون قد يكونون الطبعة الأشد قتامة وتخلفاً وجهلاً من بين كل العائلات الإمامية التي اكتوى بها اليمن، لكن لا ننسى أنهم في حقيقة الأمر حاصل جمع:

1- ميراث الإمامة، بحكمها الطويل الذي ترك حصيلة لا يستهان بها من الأدوات الثقافية والسياسية والفكرية، ومناهج الحياة الاجتماعية التي قسمت المجتمع، بصورة تحكمية، إلى طبقات على نحو متعارض مع المناهج العلمية وقوانينها الموضوعية في تفسير ظاهرة الانقسام الاجتماعي بملكية وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج، الأمر الذي أدى إلى تكريس القبول شعبياً بطبقة السادة التي تنتج الحكام، والطبقات الأخرى المحكومة التي يظل وضعها دونياً، ومصيرها بيد طبقة السادة.

2- مصادرة النظام الجمهوري من قبل قوى اجتماعية وسياسية فشلت في حسم خيارات هذا النظام الوطنية، وتركت فراغات كبيرة تسلل منها ميراث "الإمامة" بشعارات إصلاحية، وأحياناً ثورية، استقطبت قطاعات واسعة من المجتمع.

استطاع هذا "الميرات"، بسبب غياب الدولة الوطنية، أن يقدم نفسه، بصور مختلفة، كمعارض في مواجهة الإخفاقات التي عانى منها النظام الجمهوري، وأن يعطل كل المحاولات التي جرت بعد ذلك لإصلاح النظام الجمهوري ويعيده إلى المسار الوطني.

وحينما بدا له أن المسار الوطني سيعصف بمشروعه الانقسامي الطائفي أخذ يعيد تشكيل قواعد مواجهته على أسس طائفية ومذهبية، بدعم من السلطة السياسية والعسكرية التي كانت تقود النظام الجمهوري.

لقد عملت سلطة النظام الجمهوري على تكوين بؤر صراع دينية مذهبية أخذت تتوسع وتنتشر وتتسلح على نحو لا يمكن معه إغفال ما كانت تهدف إليه تلك السلطة من مرامٍ تتعلق بإعادة صياغة الجمهورية بقواعد التوريث التي كانت قد غدت موضة في الأنظمة الجمهورية العربية. ومما لا شك فيه أن السلطات المستبدة انتهت ب"الجمهورية" إلى مأزق فقدت فيه الحاضنة الشعبية بسبب التخريب الذي مورس بجوهر النظام الجمهوري باعتباره حكم الشعب نفسه بنفسه دون وصاية من جماعة أو عائلة.

ولكي تبقى عملية تغيير أسس النظام الجمهوري بعيدة عن أنظار الشعب، فقد دفعت السلطة بمعارك جرى استدعاؤها من أضابير التاريخ، وشجعت أطرافها على توليد الخطاب الديني الذي أخذ يكتسح الخطاب السياسي الوطني وينشئ معادلاته السياسية على الأرض، وأحياناً بقوة السلاح.

كان لا بد من مواجهة المشروع القادم من قلب المشكلة التي أصابت النظام الجمهوري بمشروع وطني يستعيد جوهر هذا النظام.. وهو المشروع الذي تشكل في ساحات ثورة فبراير، متجاوزاً مقاومة خطاب ديني عقيم لم يستطع أن يحمل مشروعاً سياسياً جامعاً، وهو الخطاب الذي ظل يستدعي الصراعات التي تشكلت بدوافع لا علاقة لها ببناء الدولة المعاصرة ونظامها القانوني الذي يحقق العدالة والحرية والمواطنة وإنما بمنازعات حول الفئة المؤهلة لدخول الجنة دون سواها من المسلمين.

كان اللقاء المشترك قد استطاع أن يبلور خطاباً سياسياً متوازناً لبناء الدولة المدنية، وهو الأمر الذي مهد لخروج مؤتمر الحوار الوطني بتلك الوثيقة التاريخية التي أفزعت كل القوى التي رأت في بناء الدولة الوطنية ونظام المواطنة تهديدا لمشاريعها.

سأكرر من جديد، خيار التوافق التاريخي الذي توصل إليه اليمنيون كان بمثابة تجميع لروافد الحكمة التي تناثرت عبر القرون.. والذين لم يستوعبوا هذه الحقيقة هم الذين ورطوا هذا البلد في اللجوء إلى خيارات الخراب التي استقر عليها حاله اليوم.

وفروا لبعضهم ظروف رفض ومقاومة المشروع الوطني بذرائع بدت متناقضة في شكلها الخارجي ولكنها متفقة في عناصرها الداخلية، وظلت تدعم بعضها في التصدي لحاجة الوطن وإن واجهت بعضها بعيدا عن الحاجة الفعلية لبناء واستقرار هذا الوطن.

السبت, 14 آذار/مارس 2020 16:03

التفتيش في الدفاتر القديمة

 

في سوق البهرة بعدن، كان أشهر تاجر "بانيان" معروف باسم "لالجي بهادر " نموذج للتاجر النشط والذكي، وكان هو الذي يتنبأ بحال السوق صعوداً وهبوطاً.

تعاظم شأنه في السوق كمحلل، فكان التجار يأخذون بأرائه .. فليجأون في زمن الازمات، التي يتنبأ بها مسبقا، إلى تخزين البضائع، واثرى من وراء ذلك الكثيرون، وكان نصيبه يأتيه كمكافأة من التجار الذين أثروا.

وبسبب ذلك نسي التجارة بعد أن تدفقت إليه الاموال بدون تعب التجارة ومخاطرها، لكن الايام دارت وتعلم كثير من التجار ما كانوا يجهلونه من أسرار السوق ولم يعودوا في حاجة الى استشاراته فساء حاله، وحاول العودة الى التجارة لكن السوق كان قد تجاوزه، فبدأ يبحث في دفاتره القديمة عن إمكانية معاودة نشاطه القديم، لكنه أخذ منهجا عدائيا وانتقاميا، وراح يفتش عما يمكن أن يشوه به صورة غيره من التجار ظناً منه أن سيفتح لنفسه طريقا للنجاح بذلك الاسلوب.. ولم يدرك أن التجارة مثل أي نشاط بشري عام لا يمكن أن تزدهر بالحقد والكراهية والتشويه.

أفلس بعد ذلك، وصار اسمه يردد كنموذج للشخص "الذي يفلس ويرجع يقلب دفاتره " . وفي يوم من الايام، كما يقال، زاره المندوب السامي البريطاني "وليام لوس"، وكان قد سمع بقصته، فوجده منهمكاً فوق مكتبه يكتب، ويسجل، ويقلب في الدفاتر، فسأله:

-مستر لالجي، كيف السوق؟

أجابه: شوف دفاتري على الطاولة وانت تعرف السوق.

سأله:

-ماذا تعني؟

-لا يعرض التاجر دفاتره على الطاولة بهذا الشكل الذي تراه الا عندما يسود الافلاس.

-لكن هل انت الذي أفلست أم السوق؟

أجاب:

-ما تفرقش.

ترى كم لالجي سياسي يعرضون دفاترهم اليوم بعد أن راحوا يفتشون فيها بحثاً عن شيء ، أو تلفيقاً لموقف ، ينقذهم من الورطة التي وضعوا أنفسهم فيها .

القذيفة التي لا تطلقها رؤيا سياسية ثاقبة ومتجانسة ومتفاهمة تحوم في فراغ..

قد تقتل، وقد تدمر، وقد تصيب هدفها بدقة، لكنها فقط توسع مساحة الفراغ الذي يلتهم التضحيات والانتصارات معاً.. الموقف السياسي هو الذي يملأ هذا الفراغ، وهو الذي يجعل القذيفة رسالة للحياة، أو مجرد أداة للموت.

ابتلي اليمن بجماعة طائشة تتحرش باستقراره بإشعال الفتن والحروب إعتماداً على موروث سياسي كهنوتي، تهيئ الظروف لأي مغامر دوافع استدعائه في اللحظة التي تتراخى فيها قبضة الدولة ليثير الفتنة والحرب جرياً على ما ارتبط بهذا الموروث من أوهام تتعلق بشئون الحكم والتسلط.

وهو في الأساس مشروع ايديولوجي مسلح يستخدم العنف والقوة للوصول الى أهدافه. مقاومة هذا المشروع لا بد أن تتأسس في إطار مشروع يجسد الدولة المدنية ونظام الحكم المعبر عن إرادة الناس. وهو أمر لا يمكن أن يتم بدون ضوابط أو قواعد تستمد من إدراك مخاطر هذا المشروع العنصري من ناحية، والحاجة لتكوين الحامل السياسي المناسب لمواجهته.

لا يجب مواجهة هذا المشروع المغامر القائم على مفاهيم أيديولوجية في الحكم إلا بمشروع سياسي وطني يتجاوز مثالب الأنظمة المستبدة، التي تركت فجوات هائلة في الدولة لتسويق مشاريع حكم لا وطنية، وبمستويات لم تكن قادرة غلى استيعاب الوطن كله.. وبدلا من أن توسع نطاقها الوطني لتستوعب الوطن كله، راحت تستخدم القوة والافساد والقمع وتدمير البنى السياسية والثقافية والاجتماعية المؤهلة لبناء الدولة الوطنية بقاعدتها الواسعة.

هذا الوجه الاول للحامل السياسي في معناه، أما الوجه الآخر له، أي في مبناه، فهي القوى السياسي والاجتماعية المؤمنة بهذا المفهوم للدولة.

باختصار لا يمكن مواجهة مشروع الحوثي المتسلح بأيديولوجيا عنصرية للحكم الا بمشروع جامع متسلح بروافع وقيم وطنية.

وإذا المشروع الحوثي بأيديولوجيته العنصرية قد توفرت له قوة متجانسة ومتماسكة تبشر به وتقاتل تحت رايته، فإن المشروع المقاوم، والذي يفترض أن يكون مشروع الدولة الوطنية بروافعها وقيمها الوطنية، لا بد أن يتوفر له الحامل المتماسك، على أن يتجسد ذلك على كافة الأصعدة، وبصورة تبعث الإطمئنان والحوافز المجتمعية والشعبية.

بعد أن فرض الحوثي طبيعة المواجهة مع مشروعه عسكرياً، فلنراجع الان على صعيد الجبهة العسكرية مدى توفر هذا الحامل السياسي الوطني الذي لا يمكن لنا تقييم هذا المسار بدون أن نأخذه بعين الاعتبار، حتى بحده الأدنى الذي لا يمكن أن يكون للمقاومة معنى بدونه.

أسفرت المواجهة مع الانقلاب الحوثي ومليشياته عن خارطة عسكرية مكونة من ثلاث جبهات، تغيرت فيها المسارات وتبدلت على النحو التالي:

الميسرة، وهي جبهة الساحل الغربي وتمتد من صلاح الدين في عدن مروراً بباب المندب والمخا حتى الحديدة. تحققت فيها انتصارات كبيرة، وكان التفوق فيها للحكومة الشرعية والمقاومة الوطنية الباسلة بدعم التحالف العربي، وكان من الممكن أن تغير مجرى الأمور عامة لصالح استعادة الدولة وتحقيق السلام بمرجعياته التي تؤمن استقرار اليمن فيما لو استكمل تحرير الحديدة وموانئها، والذي كان قاب قوسين أو أدنى من النجاح، لكنها أجهضت على النحو الذي رأينا...فقد تدخلت الحسابات السياسية المتعارضة موضوعياً مع حاجة المشروع الوطني، وشهدنا، بأسف، كيف أفرز ذلك الإجهاض مساراً مختلفا للأحداث جعل عملية السلام معادلاً للمناورات الحوثية التي سخرت من الجميع.

لا بد من الاشارة هنا إلى أن هذه الجبهة كانت قد توفرت لها كثير من شروط النجاح في بداية معارك التحرير، بعد أن أنطلقت من عدن جنوباً، بقيادة موحدة ودعم من التحالف العربي، لتكتسح أهم مراكز التجمعات العسكرية للانقلابيين.. ثم اتسعت جغرافيتها العسكرية-السياسية بعد ذلك، وأخذت تتزاحم بحسابات سياسية تعكس حالة الانقسام الذي جعل معركة التحرير تتشظى على نحو لم يعد بالإمكان إغفال أسبابه العائدة إلى أسباب نعرفها جميعا.

إن هذا التشظي يعكس استمرار حالة الانقلاب في مستواه الذي جسده الانقسام داخل بنية النظام القديم.

 •القلب، وهي جبهة واسعة تشمل، الضالع، يافع، تعز، وإلى جانبها البيضاء، مكيراس، ثرة، طور الباحة، كرش، ويقوم فيها الحوثيون بمعارك استنزاف مستمرة ومتواصلة.

والضالع بالنسبة للحوثيين جبهة ذات قيمة خاصة، وهي تمتد من وادي بنا باتجاه العود ودمت وجبن والحقب ومريس وقعطبة والفاخر، وحجر السفلى، والمشاريح وقروض والقفلة، والضالع بنواحيها ومدنها وقراها.

ويرى الحوثيون أن كسر هذه الجبهة يكفي لتحقيق نصر معنوي من شأنه أن يقلب المعادلة رأساً على عقب. وفي حين أن هذه الجبهة تشكل في الاساس قاعدة وطنية في مواجهة المشروع الحوثي، كما كانت ولا زالت قاعدة المشروع الوطني، إلا أن المسار السياسي للأحداث قد أربك المسار العسكري، وخاصة ما يتعلق بقضية الجنوب والتي انعكست تداعياتها بشكل أو بآخر على مجرى الأمور في هذه الجبهة، وهو ما يجب على الشرعية والأطراف المعنية فيها أن تعيد النظر في هذين المسارين برؤيا استراتيجية وواقعية ومتكاملة تتجاوز النتائج المترتبة على غياب التفاهمات الاستراتيجية، وتضع خطة لصيانة هذا ( القلب) الذي سيعني اختراقه من قبل الحوثيين، إلى جانب ما حل بجبهة الساحل الغربي والحديدة، من أي انتكاسة لا يمكن تجاوزها بسهولة.

•الميمنة، وهي جبهة تضم : مارب، صرواح، نهم، الجوف، وهي الجبهة التي يتركز فيها الثقل العسكري بكل ما رافق المراحل الأولى من تكوين لقواعد انطلاق ثابتة وقوية، وخاصة في مارب بما حملته من رمزية، وما حققته من انتصارات بدعم التحالف العربي، لمواجهة المشروع الحوثي الإيراني. وهذه الجبهة، التي يمكن القول أنها صممت لتكون الجبهة القائدة، تعرضت هي الأخرى، رغم كل التضحيات، لانتكاسات، بعد النجاحات الضخمة التي حققتها في المرحلة الأولي، يصعب سبر غورها بالمعايير العسكرية.. ثم تجميدها بحسابات سياسية لم تحسب حساب متطلبات المعركة الشاملة، وهو ما يستلزم إعادة ربط مسارها وإصلاحه سياسياً وإدراياً على نحو تتمكن معه من ضبط إيقاعات المواجهة فيه بمعايير تتكامل فيها مع الجبهات الأخرى.

إن قراءة شاملة لوضع هذه الجبهات، بما تمثله من لوحة للتوافقات والتناقضات بسبب الوضع المرتبك للحامل السياسي، لا بد أن ينتهي إلى معرفة نقاط الضعف في منظومة المواجهة على كافة الأصعدة، فهي انعكاس للتراكمات السياسية التي عصفت باليمن ورحلت إلى قلب إدارة الحكم التي آلت إليها السلطة بعد ترتيبات نقلها سلمياً، وما لحق ذلك من انقلاب وانشقاقات وانهيارات.

إنها في الحقيقة ميراث من المشاكل التي تحتاج من موسى إلى "عصاه" قدر حاجته إلى أخيه.

الأحد, 23 شباط/فبراير 2020 18:10

تمثيل المجتمع.. لا التمثيل به

 

ظلت البنى الإجتماعية والثقافية الموروثة بكل تشوهاتها ، مصدراً للمشاكل والصراعات التي كان يتم إشعالها عبر حوامل سياسية هشة ومتداخلة مع هذه البنى ، وظل خطابها امتداداً لتلك البنى المختصمة والمتصادمة.

لم يستطع هذا الخطاب السياسي أن يتحرر أو يستقل من تأثير هذه البنى بكل ما يكتنفها من انقسامات وتشوهات ، ولذلك لا غرابة أن تتصدر المشهد دائماً عوامل الانقسام ، وتتوارى إلى الظل القواسم المشتركة التي بإمكانها أن تؤسس كتلة وطنية عريضة ، وخطاب سياسي جامع ومحفز على مغادرة مأزق تلك البنى وموروثها.

خطاب التنابذ ، المتداول والمتبادل اليوم ، هو امتداد طبيعي لهذا الموروث ، وهو خطاب ظل يؤدي وظيفة واحدة ، وهي تعويم جوهر الصراع الحقيقي في اليمن على مدى زمني طويل ، وفي محطات مختلفة .. وهو نفس ما نشهده اليوم مع الانقلابين الذين تصدوا بقوة السلاح لمشروع بناء الدولة ، وعطلوا حل المشكلات الوطنية بمعطيات التوافق السياسي التي خرج بها مؤتمر الحوار الوطني.

خطاب ، كل ما يمكن أن يفضي إليه هو أن يحول الصراع ، إلى انقسام مجتمعي (عرقي ، طائفي) ، سمه ما شئت من تلك المسميات الهائمة في فلوات مقفرة من الحلم ، والخيال ، والتطلع ، والعمل من أجل اليمن-الوطن.

ثنائيات ومفردات يغيب فيها "اليمن" ، ولا يمكن أن تتجذر فيها أي هوية سياسية حاسمة في انحيازها للدولة الوطنية ، ولا تعبر سوى عن تنطع عبثي يتجاوز خيارات الشعب في السلام والاستقرار والتقدم.

ترى ، هل سينجح الإماميون الجدد في توظيف هذا الخطاب بتحويل صراعهم مع الدولة والمجتمع إلى هذه الساحة الملغمة والمجهزة بأدوات الإنقسام المجتمعي لتكريس دعاواهم بتمثيل قسم من هذا المجتمع ، بينما هم في حقيقة الأمر يمثلون بالمجتمع بأكمله وبكافة نحله وأطيافه!!

يمكننا بسهولة تتبع هذه المسألة لنعرف كيف أنهم يمثلون بالمجتمع ليس إلا ، فحتى ذلك القسم من المجتمع ، الذي يحتمون به ، ويجعلون منه غطاءً لنزوة متعالية على الوطن والمواطنة ، يرفض كثيرون فيه مشروعهم ، وقدموا التضحيات في مواجهته والتصدي له .. والحقيقة أن علاقتهم به لا تعني أكثر من محاولة لاستخدام منتسبيه كعناوين بمحتوى "عرقي" ، يصرون على استدعائه من أضابر التاريخ ، لصالح مشروع لا يرون فيه وطناً ، وإنما سلسلة متواصلة من حروب لا تتوقف.

ولم يقتصر الأمر على التلويح بهذا التنسيب الذي يفتقر إلى التماسك الموضوعي ، بعد أن أنخرط كثير من أعضائه بدوافع مصلحية تماماً ، مثلما حدث مع غيرهم ممن انخرطوا في لعبة الانقلاب كأدوات لهذا المشروع.

بمراجعة للخطاب ، بكل ما يمثله من غضب واستياء لسلوك الحوثيين وحواشيهم المنخرطة في مشروعهم الانقسامي ، فإنه يعد دالة في الوضع العام للقوى المتصدية للمشروع الانقلابي.. هذا الوضع هو في حقيقة الأمر محصلة لتاريخ من صراعات النخب السياسية التي احتفظت بمتلازمات مرضية أفقدتها القدرة على إنضاج مواقف حاسمة لمغادرة تلك البنى الاجتماعية والثقافية الموروثة..

حماية المشروع الوطني تبدأ بتخليص خطابه من الانفعالات التي تهدر أهمية حضور الوطن في المكان والزمان اللازمين لحضوره . فكم هي المحطات التي تركت فيها مساحات غاب فيها الوطن وملئت بمشاريع أخرى . يتعين على هذه القوى أن تتجاوز فخ توريطها في خطاب حماسي يؤلب على مشروعها كل نقائضه ، وعلى رأس هذه النقائض تلك الارتدادات التي تستولد خطابا إنفعاليا متعالياً لا يميزه شيء عن ذلك الآخر الذي يتسكع في خرائب هذا البلد المنكوب.

خلص المبعوث الأممي إلى اليمن في نهاية إحاطته المقدمة إلى مجلس الأمن اليوم (الثلاثاء) الموافق 18 فبراير 2020، إلى الإعلان صراحة، وبدون مواربة، إلى أن خطته في بناء حل تراكمي للمشكلة اليمنية يبدأ من الحديدة (اتفاق ستوكهولم) قد تعثرت، وأنه كما قال:

 "حان الوقت، سيدي الرئيس، لنستذكر عناصر تلك الرؤيا، وهي حكومة وعملية انتقال سياسي تشمل الجميع بشكل حقيقي، وقطاع عسكري وأمني يحمي اليمنيين، وفرصة لإعادة الإعمار، وتنشيط مؤسسات البلاد وازدهارها".

ويختتم "يتم اتهامي بفروغ الصبر أحياناً، ونحن نرى السبب الآن، إن التردد في سِلك المسار السياسي يسمح بعلو أصوات الحرب".

مع كل الاحترام للسيد المبعوث وجهوده، لدي الملاحظات التالية:

- كنت أتمنى لو أنه خفض قليلاً من بلاغة الخطاب، وركز على متطلبات السلام التي كان مجلس الأمن في قراراته السابقة قد أكد عليها كأساس لحل المشكلة، والانطلاق منها في الإحاطة والتقييم.

- الطريق إلى السلام الذي يحقق الاستقرار في اليمن، بعد كل هذه المأساة والتضحيات التي قدمها اليمنيون، تحتاج إلى مصارحة الأطراف كلها بحقيقة أن ما توافق عليه اليمنيون لا يمكن أن يلقى جانباً ونبدأ من الصفر لتبرير انقلاب الحوثيين وإكسابه المشروعية، في مخالفة واضحة لإدانة المجتمع الدولي لذلك الانقلاب.

- لا أشكك في الجهد الذي يبذله المبعوث لإنهاء الحرب وتحقيق السلام، مع ما يحيط جهوده من تعقيدات وإرباكات، إلا أن هذا الجهد لا يجب أن يذهب بالمشكلة إلى المستوى الذي يتقرر فيه الحل بمعطيات وشروط الأمر الواقع الذي يعمل الانقلابيون على فرضه باستمرار خياراتهم العسكرية. وبإمكانه متابعة هذا المسعى منذ ما بعد ستوكهولم وتقييمه موضوعياً ليعرف أين تكمن المشكلة!!

- ستوكهولم محطة هامة لمعرفة رغبة الانقلابيين في تحقيق السلام، ولا يمكن لأي حكومة تحترم خيارات شعبها وتضحياته أن تقبل تحويل هذه المحطة الهامة، التي قدمت فيها التنازلات الكبيرة من أجل السلام، إلى أضحوكة يتسلى بها الانقلابيون بتلك الطريقة التي شهدها العالم بخصوص الانسحاب الذي نصت عليه الاتفاقية. وبالتأكيد فإن المطلوب من السيد المبعوث أن يقيمها قبل الحديث عن الانتقال إلى مشروع آخر لينسجم عمله مع متطلبات بناء أسس قوية لهذا المشروع.

- لا أعتقد أن المبعوث بخبرته يجهل حقيقة أن الذين انقلبوا على السلام وعلى التوافق السياسي الوطني وارتكبوا جريمة إغراق اليمن في هذه المأساة إنما يبحثون عما يغطي سوأتهم باتفاق سياسي يبرر ما عملوه، وهم لهذا مصرون على أن يحافظ "الحل السياسي" على انقلابهم ليبدو وكأنه فعل مشروع. لا يجب يا سيادة المبعوث أن تكون مبادرتك استجابة لهذا المنحى، الذي فيما لو تحقق، فإن اليمن لن يشهد سلاماً.. فالاتفاق هنا لن يؤسس سوى مشروعية الانقضاض المستمر على السلام بدوافع تجسد نفس الدوافع التي تم بموجبها الانقلاب. وليس من مصلحتك أن يقال إن جريفتس، رجل السلام المعروف، قد أرسى قواعد لحرب دائمة في اليمن.

- أعرف أن مهمتك صعبة ومعقدة، ولكن خير لك أن تقول في هذه اللحظة الحاسمة ما هي حاجة اليمن إلى الاستقرار، كما تراها، بعد هذا المشوار الطويل لعملك، دون اعتبار لأي رغبات تتعارض مع ذلك. في ضوء ذلك نستطيع أن نناقشك بوضوح، لأن الموضوع سيكون حاجة اليمن واليمنيين، لا حاجة الدبلوماسية الدولية لنجاح من أي نوع كان.

 

لا يمكن النظر إلى تحريك جبهة نهم خلال الايام الماضية من قبل الحوثيين ، وبتلك الصورة الدرامية المتعطشة للدم ، إلا بأنه قرار إيراني بتنشيط الذاكرة بأن مقتل سليماني لن يؤثر سلباً على تماسك كتلة المشروع الايراني في المنطقة ، وأن من الممكن امتصاص تأثير الصدمة ، واستعادة المبادرة ، وتكوين رأي عام بين الانصار على امتداد الإقليم بقدرة النظام الإيراني على الردع بطرق مختلفة.

لكن الأسئلة التي يتعين على اليمنيين أن يجيبوا عليها هي أنه:

لماذا قررت "كتلة المشروع الإيراني" في المنطقة أن تستعرض قوتها في جبهة اليمن دون غيرها من الجبهات الأخرى؟

لماذا ظهر العالم وكأنه قد بارك هذا الاستعراض بكل ما رافقه من خسة؟

هل مطلوب من اليمن أن يدفع ثمن تنشيط هذه الذاكرة كلما تعرض النظام في إيران لنكسة من هذا النوع ، وهل بات عليه ان يدفع ثمن تنفيس التوترات المترتبة على هذه الأحداث التي تضع المنطقة على حافة المواجهة ؟

وإذا كان الجواب بنعم ، فما هو المدى الذي ستمتد إليه هذه المباركة ؟ وما هي النتائج التي سيرتبها هذا الوضع على مستقبل اليمن؟ وهل ستقتصر هذه النتائج على اليمن أم أنها ستمتد إلى المنطقة كلها؟

كل ما يمكن أن يقال في هذا الشأن هو أن اليمن ، فيما بدا عليه من تفكك وخذلان ، سيواصل أداء هذه الوظيفة بتوافق ضمني ، أو صمت بدلالة الرضا ، مع ما يخلفه ذلك من تدمير وتراجع  لفرص الخروج من بين الأنقاض والذهاب إلى السلام والتعمير.

الحوثيون يتحملون مسئولية هذا الوضع الكارثي والذي بدأ بإنقلابهم المشئوم ، مروراً بكل حلقات مشروعهم الذي جعل اليمن وأهله رهينة  لمشاكل النظام الإيراني المعقدة والمركبة ، غير مبالين بما يرتبه ذلك من خراب ودمار على اليمنيين ومستقبلهم.

لهذا السبب عطلوا كل فرص السلام ، بما في ذلك تنفيذ اتفاق "استوكهولم" الذي قبلت به الحكومة ، في وقت كانت فيه قادرة على الحسم في أهم جبهة ، تمسكاً بالسلام لتجنب البلاد المزيد من الخسائر .

وكان الرأي الذي قلناه حينها بشأن هذا الموضوع ينطلق من حقيقة أن جبهة الساحل الغربي ، الممتدة من عدن حنوباً حتى الحديدة مرورا بالمخا ، كانت هي عنصر التفوق الوحيد بيد الدولة ، والذي لا يجوز التخلي عنه دون مكاسب حقيقية على الأرض .. لكن المشيئة التي فرضت الاتفاق قد تساوقت مع دوافع نبيلة للسلام ولكن مع مشروع غير نبيل.

عند هذا المنعطف ، الذي انكسرت فيه الإرادة الوطنية عن خلق معادلة حقيقية على الأرض ، أخذت تداعيات الانكسار تتجمع بيد الحوثيين على النحو الذي شهدناه خلال السنة التي امتدت من اتفاق استوكهولم حتى معارك نهم مؤخراً.

رغم كل ذلك ، ورغم كل التحديات الصعبة التي ترتبت على هذا الانكسار  ، فإنه لا يجب أن نواصل خذلان مشروع استعادة الدولة الذي يرتبط به مستقبل اليمن ومستقبل الاستقرار في المنطقة كلها بهذا التفكك ، الذي يجسد الداء القديم ، والذي لطالما نخر القوة من داخلها حينما لا تستطيع هذه القوة أن تتشكل وفقاً لمعطيات الحاجة الوطنية بما يفرضه ذلك من إعادة بناء للذات باتساق تام مع هذه الحاجة.

يكمن هذا الداء المستعصي في حقيقة أن القوى السياسية بمختلف مكوناتها ، ولأسباب أيديولوجية وتاريخية ومرجعيات سياسية متنافرة ومتصادمة  ، أقامت حواجز فاصلة فيما بينها لدرجة يصعب معها إنشاء كتلة موحدة متداخلة تؤسس لدولة تنفصل من حيث البناء المؤسسي والقانوني عن التكوينات التنظيمية الخاصة لهذه القوى.. وهذا ناشئ عن حقيقة أن كلاً من هذه المكونات ترى نفسها أنها هي الدولة ، بل وتعمل على ذلك انسجاما مع بنيتها السياسية والايديولوجية.

ولذلك فقد تعثر بناء الدولة الوطنية بسبب ذلك أيام السلم ، واستمر الوضع على حاله وبصورة أكثر تشدداً أثناء الحرب.

واستجابة لذلك المنحى السياسي والايديولوحي المتعسف لمفهوم الدولة فإنه لا بد أن يكون لكل من هذه التكوينات السياسية جيشها ، ولها الكلمة الحاسمة في المؤسسات التي تحمل إسم الدولة ، ولها علاقاتها الخارجية الخاصة ، ولها أمنها الخاص ، ولها إعلامها الخاص ، ولها موازناتها الخاصة ومواردها الخاصة، ولها جبهاتها الخاصة ، ولها انتصاراتها الخاصة .. ولها هزائمها الخاصة . الأمر الذي تحولت معه مكونات هذه القوة إلى جزر تراقب بعضها ، وتنشغل ببعضها بدلا عن انشغالها بالحاجة الوطنية التي تراجع سهمها في الاهتمامات التي تحولت إلى صراعات ليس لها سوى تفسير واحد وهو أن الأمراض الاجتماعية والثقافية التي رافقت نشوء الحياة السياسية قد شكلت المضمون الداخلي الهش للمؤسسة السياسية بغض النظر عن العناوين الكبيرة التي تحملها وتبهر الناظر.

أشد الأمراض فتكاً بالجهد الوطني المصاحب لهذه "القوة" المفككة ، ومكوناتها الهشة ، هو ذلك المرض الذي يتفاعل داخل كل تكوين ، على نحو نرجسي ، لا يمكن معه سوى أن يرى أن الآخر هو المخطئ، وهوالمقصر ، وهو الذي يجب أن يتحمل مسئولية الهزيمة ، وهو الذي يجب أن يحاسب .. وهو الشيطان ، وهو المتآمر.

وترتب المساحة الاعلامية ومساحة الاستئثار والهيمنة والهيلمان لهذا التكوين أوذاك الأحكام المجتمعية والسياسية والوثائقية .. الخ ضد الاخر ، وفي حين يعتقد "الهيلماني" أنه قد انتصر ، وبرأ نفسه من المسئولية ، في حين يقول واقع الحال إن الجميع مهزوم ، بل ويتحمل كل واحد الهزيمة بقدر تمدده وتمدد نفوذه في منظومة الدولة..

هذا هو واقع الحال الذي يعود في الأساس إلى الفشل الذاتي في بناء هذه "القوة"الكبيرة ، والتي تتسع رقعتها بحجم الوطن ، بأسس لا يسمح فيها لهذه الأمراض أن تعطل إنجاز المهمة الوطنية.

الجزء الأكبر من الإجابة على السؤال الذي أثرناه في بداية المقال يكمن في هذه الحقيقة بدون مواربة ، وحله بيد هذه القوى نفسها مجتمعة:

 ١- مغادرة الامراض القديمة ، ٢- إحترام الدولة ككيان سيادي وبناء فوقي مستقل عن المكونات السياسية والاجتماعية ، ٣- ترتيب أولويات المعركة ، ٤- الاعتراف بالمشكلات التي تحتاج إلى معالجات جذرية بتوافقات وطنية تكون الكلمة فيها للناس ، ٥- احترام المسئوليات وتراتبيتها دون تطاول مخل بقيم نظام الدولة أو استقواء بالظرف الاستثنائي الذي تمر به الدولة ، ٦-  الانتقال الفعلي إلى الاعتراف بحق الناس في تقرير خياراتهم السياسية ، ٧- لا بديل لدولة المواطنة.

هذا هو المشروع الذي سيهزم المشروع الطائفي التفكيكي الذي يضع اليمن رهينة بيده ، ويهدد مستقبله ومعه مستقبل الاستقرار في المنطقة.

الجمعة, 24 كانون2/يناير 2020 22:34

وطن سيهزم كل من يتطاول قيم المواطنة

لنتذكر كيف ضج الكثيرون محذرين من تدهور الاوضاع الانسانية ومن كوارث جسيمة حينما كانت قوات الحكومة العام الماضي ، مثل هذا الوقت ، على مشارف مدينة الحديدة ، ولم يكن يفصلها عن الميناء غير بضعة كيلومترات.

لنتذكر جيدا أن "الإنسانية" قد استخدمت كغطاء لأهداف غير انسانية ، وهو ما أثبتته بعد ذلك الوقائع ومسارات الأحداث.

وسواء كان ذلك بقصد أو بدون قصد ، فإن ما يثير الحيرة هو أن المجتمع الدولي لم يتحدث بعد ذلك عن تدهور الاوضاع الانسانبة التي رافقت حملات المليشيات الحوثية العسكرية لقمع المواطنين في حجور والحقب ودمت والعود والبيضاء ثم اعلان الحرب على الضالع ، ومواصلة ضرب بلدات ومدن الساحل الغربي بالصواريخ والكاتيوشا والطائرات المسيرة ، وكذا ضرب وتهديد دول الجوار بتوسيع رقعة الحرب على ذلك النحو الطائش الذي تسبب في تعظيم كارثة الحرب ومآسيها الانسانية على الشعب اليمني.

كل ما أسفرت عنه تلك الضغوط هو انها وفرت للمليشيات الحوثية فرصة استرداد نفسها ، وإعادة تنظيم قوتها العسكرية ، واختيار أهدافها في ظروف مثالية محروسة بمنطق الانسانية ، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.

لم تشهد البلاد سوى المزيد من تدهور الأوضاع الانسانية بعد أن وظف الحوثيون كل ما ترتب على تلك الضغوط من اتفاقات للهدنة التي لم تلتزم بها المليشيات الحوثية ، وتنصلت من كل ما شملته اتفاقات ستوكهولم بما في ذلك الانسحاب من الحديدة وموانئها الثلاثة.

لقد سخر الحوثيون من العالم، ومن الاتفاقات التي سعت اليها الامم المتحدة والدول الصديقة التي حرصت على اخراج اليمن من محنته ، بما في ذلك الدولة المضيفة ( السويد) ، وأخذوا يستفيدون من تجميد جبهة الحديدة ويعدون العدة لاستعادة نهم ، الجبهة الاستراتيجية من الناحية العسكرية الأقرب الى العاصمة صنعاء ، ما يعني أن كل ما قبلوا به من اتفاقات كان مجرد مناورات تدور في إطار استعادة أهداف عسكرية استراتيجية ولا تمت بأي صلة للسلام..

كان البعض ، حتى وقت قريب، لا يزيد أن يصدق علاقة ايران بالحوثيين حتى اتضحت الصورة مؤخرا لأكثر هؤلاء تشكيكاً في هذه العلاقة ، ثم أخذت الحقيقة تنجلي أمام كثير من أولئك الذين ظلوا يعتقدون أن الحوثيين جادون في عملية السلام.

والحقيقة أن الحوثيين هم الذين يقدمون للعالم الدليل تلو الآخر على أنهم مجرد مليشيات مغامرة تخدم أجندة إيران في الاقليم ، حيث لا يعنيهم من أمر اليمن سوى ما سيرتبه هذا الوضع المضطرب فيه من شروط جيوسياسية لخدمة النظام الايراني ومشروعه الطائفي.

الحوثيون في حقيقتهم أصغر من هذه المعارك التي يخونون بها وطناً لا يريد منهم سوى أن يقبلوا أن يكونوا مواطنين .. هذا الوطن هو الذي سيهزمهم ، وسيهزم كل من يتطاول على قيم المواطنة.

لن يهتم الحوثيون لأمر اليمن .. لا لحاضره ولا لمستقبله.

كل ما يعنيهم هو تأمين مكانتهم في السلم السياسي والاجتماعي لليمن ، لا كمواطنين لهم ما للمواطنين من أبناء اليمن وعليهم ما عليهم ، وإنما كحكام ، وجلادين ، وأصحاب امتيازات خاصة .. ومن ثم إقامة نظام سياسي يحقق لهم حماية هذا الهدف . وعلى هذا الطريق ليتدمر اليمن ويشقى أبناؤه ويشردوا وتسفك دماؤهم .. لا يعني لهم ذلك شيئاً في سبيل تحقيق هذه الغاية التي لا تدانيها أهداف أو غايات أخرى.

مع مرور سنين الحرب تتعاظم فرص الحوثيين في تحقيق هذا الهدف ، الأمر الذي يصبح معه مستحيلاً حينذاك الوصول إلى تسوية دون أن يكون ذلك الهدف عنصراً حاكما في معادلة التسوية..

ولهذا فإن تطويل أمد الحرب لا يخدم غير ما يسعى اليه الحوثيون ، وهو إعادة إنتاج يمن بمقاس يسمح لهم أن يكونوا فيه سادة لا مواطنين..

بالطبع لن يكون هذا هو اليمن الذي يحمل أبناءه نحو المستقبل ، وإنما اليمن الذي يحاصر أبناءه في الزمن المستهلك الذي أورثهم الخوف والجوع والفقر والتخلف.

مسارات مخيفة ومفزعة .. وفي حين نرى حقائق هذا المشروع ماثلة أمام أعيننا ، فإن الإخفاق في صياغة المواجهة الحاسمة معه تطرح أكثر من سؤال حول أهليتنا لإخراج اليمن من هذا المأزق..

والله إنني لا أقلل من التضحيات الجسيمة التي قدمها ويقدمها المقاومون لهذا المشروع والتي يجب أن ننحني إجلالاً لها ، ولا أقلل من كل جهد يبذل على هذا الطريق ، لكنني أعتقد أنه آن الأوان لإعادة بناء مقاومة هذا المشروع على أسس تتحدد فيها بوضوح المسائل التالية:

١-هزيمة المشروع ، وتعني كسر مقاومته ورفضه لبناء دولة المواطنة التي يتطلع إليها اليمنيون.

في كثير من التجارب التاريخية كان المغامرون في حاجة إلى هزيمة من هذا النوع لتصحيح مسار تاريخي يحميهم ويحمي الجميع من مغامرتهم وطيشهم . ويحتاج ذلك بالطبع الى تأكيد حقيقة مقابلة وهي أن المنتصر لا بد أن يكون صاحب مشروع للبناء.

٢-الفصل بين الدولة والحامل السياسي والشعبي لمقاومة هذا المشروع فيما يخص الأدوات وليس الهدف.

٣-بناء العلاقة مع التحالف بديناميات ذات أبعاد استراتيجية والتي بدونها سيخترق التحالف بأكثر من محاولة لتدميره.

لهذا الغرض ارى أنه لا بد من عقد مؤتمر مصغر يقف أمام وثيقة سياسية وعسكرية للخروج برؤيا وخطة عمل لمواجهة التحديات بصورها المختلفة وتصحيح ما تسرب إلى الوعي المضطرب عند البعض من إمكانية التسوية في ظل هذا الوضع الذي لن يقبل فيه الحوثيون بأقل من أن يكونوا جلادين وسادة على اليمن.

الإثنين, 20 كانون2/يناير 2020 23:42

فاجعة مأرب.. المصائب من حيث الأمان

 لا يمكن النظر الى ما حدث في مارب من مجزرة بشعة إلا بأنها إصرار حوثي على منازلة نهائية .. بمعنى أن الحديث عن السلام بالنسبة لهم يجب أن يتم في خط مستقيم ينتهي إلى الاعتراف بانقلابهم، وإلا فإنه لا سلام لا يحقق لهم هذا الخيار.

على هذا النحو يمكن قراءة هذا الحدث الذي ضرب عمق نقطة الارتكاز التي لطالما حلم بها الجميع كرافعة لاستعادة الدولة المصادرة . وهو حدث يحمل ، بلا شك، أكثر من دلالة على أن مشروع استعادة الدولة من أيدي الحوثيين وحلفائهم الايرانيين يواجه تحديات حقيقية لم يعد بالإمكان تأجيل مواجهتها إلى حين ميسرة.

في تقديري أنه فيما يخص مواجهة وهزيمة المشروع الحوثي -الايراني ، فإن الأمر لا يتوقف على القوة في صورتها المادية المكرسة لهذا الغرض ، وإنما بما تحتويه من "روح" ، كما هو حال "القوة" في كل زمان ومكان . فالقوة هي حاصل جمع جملة من العناصر التي يقف في طليعتها : الإيمان بالهدف والتمسك به ، القدرة على التعبئة من أحل تحقيقه ، التوسيع المستمر لمساحة قياس ميدان المعركة سياسياً وعسكريا واعلاميا كي تكون إدارتها ممكنة.

فقد قالوا قديماً " ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته" .

إن أشد عناوين هذا المعطى الجديد قتامة هو شعور الناس بقدرة الحوثيين على ضرب أهدافهم بسهولة في أي مكان وفي أي وقت . وبغض النظر عما يخلفه ذلك من سخط رسمي وشعبي فإنه في المجرى العام لتمسكهم بخيار الحرب يضعهم في مكانة مرموقة في الوعي المشدود إلى القوة لمجتمع لم يغادر ثقافة القوة . وما لم يتحول ذلك السخط إلى قوة ردع حقيقية فإن إعادة إنتاجه بالنواح والشكوى لن يفضي سوى إلى تكريس "رذيلة" الحرب ضداً على "فضيلة" السلام.

ضرب مارب ، على هذا النحو ، سيتواصل كهدف يبغي الحوثيون من ورائه كسر حلقات ومراكز المقاومة تماما مثلما يحدث في الضالع من حرب استنزاف ، وكل ذلك يصب في خانة التيئيس التي أخذت رقعتها تتسع منذ "عام الحديدة" .

الثلاثاء, 14 كانون2/يناير 2020 18:43

رضية احسان الله

 

في ساحة المدرسة الثانوية بخور مكسر توزعنا جماعات جماعات ذات صباح ، رافضين الدخول الى الفصول ، نتحدث بأصوات عالية لنثير مستر "هنز" نائب عميد المدرسة ، الذي كانت تستفزه مثل هذه التجمعات ، وكان موضوعنا يومذاك ما حدث في ثانوية البنات من مشكلة بين الطالبات ومسز "بيتري" عميدة الكلية بسبب ما عرف ب" أزمة الشياذر " . على إثر ذلك تفجرت مظاهرات شعبية واسعة ادت الى اعتقال الكثير من النشطاء والناشطات ومن ضمن هؤلاء كانت رضية احسان الله.

كان الجميع ، في التجمعات التي انتشرت في ساحة المدرسة ، يردد اسمها بصوت عال ، فيخرج علينا مستر " هنز" شاخطا ، بينما يقف عميد المدرسة لطفي امان مبتسماً ، وكأنه يقول لنا لا تهتموا لأمره .

كانت رضية يومذاك إسماً يثير الاعجاب بمواقفها ونشاطها ، وسجلت بذلك اختراقاً هاماً للمرأة في الخارطة السياسية والشعبية والنقابية التي كان يحتكرها الرجال في ذلك الوقت . ولذلك فأنه يمكن القول إن رضية رائدة من رائدات العمل السياسي والشعبي والنقابي في عدن ، ومناضلة على طريق تمكين المرأة وانتزاع حقوقها السياسية والمدنية.

عرفت من مقال للاستاذة عفراء الحريري هذا اليوم انها انتقلت الى رحمة الله . تغمدها الله بواسع رحمته.

الجمعة, 27 كانون1/ديسمبر 2019 20:36

إذا هوى النجم

 

في عام ١٩٩٧، كانت المرة الثالثة التي ألتقي فيها مع جار الله عمر منذ ما بعد حرب ١٩٩٤.

كان ذلك في المغرب العربي، في مدينة الدار البيضاء ، حيث انعقد المؤتمر القومي العربي - الإسلامي في ذلك العام.

وصلت إلى الدار البيضاء من دولة الامارات وجاء هو من صنعاء . واللقاء مع جار الله له طعم مختلف ، وفي كل مرة يتجدد بما يحمله أبو قيس من مشاعر رفاقية راقية في قراءة الحاجة الإنسانية للتفاؤل في لحظات الانكسار..

حتى وهو يعاني الإحباط من جور ما واجهه في حياته السياسية من متاعب وخذلان ، فإن روحه غالباً ما تصبح منصة للتفاؤل المصحوب بالثقة ، وكان دائما ما يأخذ الحديث إلى آفاق لا تغلق عند محطة بعينها ، مهما كبر وجعها وعظم جرحها.

كان يرى الأحداث على أنها نتائج لتراكمات سابقة ، وهي بالتأكيد كذلك ، لكنه كان يرى أيضاً أن طريقة التعاطي معها قد تحولها إلى مقدمات لأحداث أكبر ، وهكذا .. وعندما يستطيع المجتمع ونخبه السياسية ، أن يتوقف بالحدث عند المفهوم الذي يبقيه "نتيجه" لتراكمات سابقة ، ويضع خطاً فاصلاً مع هذا الماضي، يكون قد انتقل من منحنى الصراعات إلى منحنى الاستقرار ، كما حدث في تجارب بشرية كثيرة.

لم تكن اليمن بالطبع من بين هذه التجارب . حاول اليمنيون بعد ذلك بسنوات في مؤتمر الحوار الوطني ، واصطدموا بحقيقة أن منحنى الصراعات في اليمن يتشكل بعوامل مختلفة ليس لها علاقة بحاجات المجتمع.

لم يستطع اليمنيون أن يضعوا الخلاف وراءهم في كل محطات الصراع لكي يمضوا إلى الأمام.. أشد ما يثقل حركة المجتمع هو التشبث بقضايا الخلاف ، فهي لا تبقى بحجمها القديم وإنما تتمدد بحجم ما تنتجه الحياة من مصاعب.

في نهاية اليوم الثاني للمؤتمر ، وبعد أن حضرنا ، مع كل أعضاء المؤتمر ، محاضرة للمفكر المغربي" محمد عابد الجابري" حول كتابه الجديد يومذاك " العقل الأخلاقي" وعن سيرته ، اقترح أبو قيس أن نعود سيراً على الأقدام إلى مقر الإقامة عن طريق شاطئ البحر الذي كانت تتخلله مباني عتيقة مهدمة ، وكان الموج في حالة مد وصخب شديد..

قال ابو قيس ، وقد توقف على نحو تلقائي ليشاهد منظر الموج وهو يضرب بقوة بقايا المباني المبعثرة على الشاطئ ، ويستمع إلى المعزوفة الصادرة عن اصطدام وارتداد الموج ، " بعد وصولي إلى عدن عام ١٩٧٣ أخذني بعض الزملاء إلى صيرة ، كم أدهشني موج البحر حينذاك وهو يضرب الصخور ويحدث ذلك الصخب الذي يلامس الروح ، ومنذ ذلك الوقت وأنا مسكون بهذا الصخب..".

حدثته بمقاربة عشتها وكان لها نفس التأثير ، فقد كنا ، ونحن طلبة في ثانوية خور مكسر بعدن ، كثيراً ما نفضل أن نعود من المدرسة الى مساكننا في كريتر مشياً على الأقدام لنستمتع بصخب البحر وموجه الذي يرتفع مده ليغطي كل الطريق حتى جذر الجبل من الناحية الاخرى والممتد من محطة العاقل حتى معمل البرد القديم على مدخل مدينة كريتر من ناحية مبنى المجلس التشريعي والمدرسة المتوسطة .. ومع المدى يأخذ البحر مساحة في الروح لا يمكن أن تنتزع منه ، تلك هي المساحة التي تنتفض من تحت ركام السنين كلما وجدت نفسك محاطاً بموج البحر ، كما كان حالنا في تلك الليلة.

كان جار الله ، الذي جاء من الجبال ، يعشق عدن .. وكان يردد : " في عدن ترتخي كل عضلات الجسم وتحس بالأمن والراحة ، فيما عدا العقل الذي ينشغل بهاجس الحفاظ على جمال هذه النعمة" .. وكم ضحكنا في وجهه وهو يحاول أن يربط "الفوطة" بالطريقة العدنية ، ويجادل في أن " الفوطة" هي التعبير المدني الذي يبعث الطمأنينة والسلام في النفس ، على عكس "المقطب" أو " المعوز" والذي بطبيعته يجعلك في حالة تحفز لإرتباطه بالبيئة التي تفضله، أما القميص ، أو الزنة ، بشكلهما الجديد فلا يراهما غير نكاية بالإزار الأبيض الذي توارثه قطاع واسع من اليمنيين كلباس مميز.

تحدثنا في تلك الليلة طويلا . كل مرة يأتي فيها من صنعاء كانت تتضاءل عنده فرص الخروج من مأزق الحرب التي دمرت الوحدة السلمية ، لكنه لم يكن يغرق محدثه في اليأس ، يأخذه إلى الأفق الذي يكون فيه البحث عن الحل إختيارا انسانياً ونضالياً واعياً..

وجار الله كان أحد منظري الحوار القومي العربي - الإسلامي من منطلق القواسم المشتركة لحاجة الشعوب العربية إلى الحرية والديمقراطية والتعايش والتسامح والمواطنة والسلام في مواجهة الاستبداد والحروب والإقصاء والانقسامات الطائفية.

وكان يعمل بقوة في أن تكون الساحة اليمنية عنواناً لهذا الحوار ونموذجاً للأقطار الاخرى.

قلت له ذات مرة إذا بقي هذا الحوار محصوراً في إطار نخبوي غير قادر على الانتقال الى المجتمع فإن أخشى ما نخشاه هو أن عوامل النفي الكامنة في مناهجنا السياسية النخبوية تتمدد في المساحات التي يخلفها الفراغ الكبير الذي لا يزال قائماً بين النخب والمجتمع .

قال ، نعم ، سيظل هناك من يتحين فرصة للتراجع ليعلن الفشل ، لا بد من أن تشعر المجتمعات بأهمية هذا الحوار ، ولذلك فإن المنصات والمنابر التي تقوم بهذه المهمة يحب أن يتولاها من يؤمنون بقيمة هذا الحوار . وتساءل : ألا تلاحظ أن معظم الدول العربية ترفض حتى الان السماح لهذا المؤتمر بالانعقاد على أراضيها ؟

ثم أثبتت الايام أن عوامل النفي في المناهح التي فشلت في أن تستوعب حاجات المجتمع كانت أقوى من محاولات التغيير ، حتى بدت كما لو أنها مراوغة والتفاف على الواقع أكثر منها محاولات جادة لتغييره .

في تلك الليلة ، وكنا قد وصلنا الى مقهى على مشارف المدينة وطلبنا الشاي المغربي الشهير ، سألني عن الرفاق المقيمين في الامارات ، وتحدث عن نيته في القيام بزيارة لتداول الاراء مع بقية الرفاق ، وهي الزيارة التي تحققت بعد ذلك بسنتين تقريباً .

قال وكأنه يستمزج كلام الجابري عن تحوله من كتابة الرواية إلى البحث التاريخي في أصول الفكر : قرأت روايتك " أصل الحكاية ، كما يرويها عبد المرتجي البواب ". لماذا اتجهت نحو الادب وتركت الاقتصاد؟

قلت له : الادب وجدان ، والاقتصاد فعل ، في حالنا يكون الوجدان اكثر حضوراً وارتباطاً بالحاجة للتعبير عن الذات التي لا يشغلها الآخر كما هو الحال في الاقتصاد ، بما يتفاعل مع هذا الوجدان من خيال . طبعاً أقصد الخيال الذي لا يعطل التفاعل مع الوقائع وإنما يكسبه قوة التأثير بما يتضمنه من معاني غزيرة ودلالات قوية . وقلت له ، لو أنك كنت قد صغت ورقتك حول التحول الديمقراطي ، في ذلك الوقت الصعب ، بدون خيال ، وبلغة جافة ، ومتعالية الدلالة ، لما حظيت بذلك الانتشار الواسع .

قال ..هل تجد هذا الوجدان حاضرا في نظم الشعر أم كتابة الرواية ؟

قلت له ليس لي في الشعر غير تجارب بسيطة ولا أهتم به كثيرا . قال ، لكني قرأت لك مؤخرا قصيدة تتحدث فيها عن زحل ، وإذا هوى النجم .. وكنت أريد أن أسألك عما تقصده بهذا البيت ؟

قلت له هل تقصد البيت الذي يقول :

"حدد مسارك لا تركن إلى زحل ،

إذا هوى النجم ، أجبني ، كيف با ترحل !!"

قال : نعم هذا ما اردت أن اسألك عنه .

قلت له ، توقفت كثيرا أمام الصراعات التي كان يذهب ضحيتها كثير من المناضلين الطيبين والناس الابرياء الذي يصطفون إلى جانب هذا القيادي "الرمز" أو ذاك دون أن يسألوا عن أسباب الصراع ، فثقتهم ب"الرمز" تجعلهم يصطفون للقتال دون وعي أو معرفة بحقيقة الصراع ، وفي حين لا يجد هذا "الرمز " الوقت أو الجرأة ليحاور انصاره ويستشيرهم ، فإنه يتحول إلى مجرد مقاول للموت . وكثيرا ما انكشفت تلك الصراعات عن مأساة الاستقطاب التي دفعت بالالاف الى الموت دون هدف واضح أو معرفة حقيقية بأسباب الصراع .

وعندما قتل جار الله بعد ذلك بأعوام ، أعدت قراءة البيت بيني وبين نفسي ، ولكن على نحو آخر .

لم يترك اليمنيون الخلاف وراءهم كما كان يأمل ، وكما عمل من أجله ، حملوا الخلاف معهم فتفجر في وجوههم في أكثر من صورة !!

 

كل التجارب التي عملت على إنهاء الحروب ، وأغفلت حقيقة أن تحقيق السلام وإنهاء الحرب عملية مترابطة ومتداخلة ، لم تحصد غير نتيجة واحدة وهي الخيبة.

وأقل الخيبات درجة كانت في معظم الأحيان هي الانتقال من حرب "البارود" إلى الحرب "الباردة" ، بما توفره من شروط وأسباب لحروب لا تتوقف.

شحنة التفاؤل بالسلام في اليمن ، التي تبرز بين حين وآخر ، والتي يتطلع اليها اليمنيون بترقب وآمال عريضة، غالباً ما تعصف بها محاولات البحث عن سلام يتعايش مع الأسباب التي أنتجت الحرب ، أي سلام مفخخ بجولات أخرى من الصراعات والحروب، لأن هذا النوع من السلام لا ينهي الحروب،وإنما يمنح الأطراف المختلفة فرصة لتعبئة قواها لجولات أخرى.

منذ فترة يلاحظ أن الحرب في اليمن أخذت تتجه نحو التبريد مع إخفاق واضح في إطلاق عملية السلام ، لا لشيء إلا لأن محاولات إنهاء الحرب لا تصاحبها إرادة لإنهاء أسبابها.

على صعيد آخر ، وبصورة تعكس هذا الوضع الملتبس ، أخذ المشهد يزدحم بسياسات ذات أهداف متداخلة، وحرائق تشتعل هنا وهناك كتعبير عن عمق وتشعب الأزمة على أكثر من صعيد..

غير أن أبرز مظاهره هو إجهاد ذاكرة اليمنيين بغبار معارك جانبية بهدف نسيان الأسباب التي أغرقت بلدهم في هذه الحرب الكارثية ، وعصفت بالجهد الوطني الذي كان يبحث عن مخرج من الأزمات التي أثقلت البلاد بالصراعات ، وأنظمة الغلبة ، وعدم الاستقرار . وهذا هو الجذر السياسي للمشكلة.

في خضم هذا الوضع ، ظهر البيان الأممي الذي قدمه السيد جريفتس إلى مجلس الأمن مؤخراً بلغة حملت معها قدراً من الاعتقاد بأن هناك خطة جاهزة لإحلال السلام في اليمن ، وأن هذه الخطة قد تم التشاور بشأنها مع أطراف عدة ، يمنية وإقليمية ودولية ، مما يعني أن الزمن الذي كان فيه جهد المبعوث الأممي يتوقف عند مجرد الحديث عن " حاجة اليمن إلى السلام" ، قد سمح مجلس الأمن بتجاوزه إلى مجهود يترجم المستجدات حول هذه القضية ، وأن عليه أن يخطو خطوات عملية لتلبية هذه الحاجة . وشجع على هذا الإعتقاد التصريحات الصادرة مؤخراً من عواصم عربية ذات ارتباط وثيق بالقضية ، والتي أكدت على مشاورات ذات دلالات لا يمكن إغفالها حينما يتعين على المتابع أن يقرأ مسارات الأحداث بموضوعية.

ومعه ، يمكن القول ، أن هذه المبادرة لن تكون على غرار المشاورات السابقة في كل من جنيف والكويت واستوكهولم، ولكنها ستطرح خارطة اتفاق أممية لتحقيق السلام وإنهاء الحرب من منطلق أن أطراف القضية لم يتركوا خياراً أمام المجتمع الدولي سوى أن يتحمل مسئوليته بموجب القرارات الأممية ، ومنها تلك التي تضع اليمن على البند السابع ، وسيعاد بناء مكونات هذه العملية على النحو الذي يجعل السلام طريقاً لإنهاء الحرب،أي أن تحقيق السلام سيكون الخطوة الحاسمة نحو إنهاء الحرب.

ولكن سيظل السؤال ملحاً وهو: أي سلام؟

طبعاً هذا ما يفترض أن تتداركه أي مبادرة جادة تبحث عن الحل الدائم والمستقر ، والذي يفرض شروطه القائمة على التوافقات الوطنية قبل أن تتدخل مليشيات الحوثي الانقلابية بخياراتها العسكرية.

وإستناداً إلى الوقائع التي غيرت كثيراً في المشهد العام ، ومنها اتفاق الرياض ، هناك من يرى أن هذه الخارطة ستتناول كافة الملفات الأمنية والعسكرية والسياسية وبناء الدولة ، وقضية الجنوب ، ولن يترك سوى هامش ضيق جدا على حواشيها لتفاهمات جانبية ، أما موضوعاتها الرئيسية فلن يسمح لأي طرف بمسها . كما يعتقد أنها ستضع خطة "كيري" القديمة وراءها باعتبارها من الإقتحامات التي أربكت المسار السياسي.

باختصار ، يمكن القول إننا أمام وضع لا يختلف عن الحالات المشابهة التي شهدها العالم في مناطق كثيرة ، والتي فشلت أطرافها المعنية في حسم نزاعاتها ، وهي حالات واجهتها كثير من الأمم ، حيث يصر فيها البغي على موقفه ويعجز معه الحق عن ردعه.

والسؤال : هل العالم ، بعد خمس سنوات من الحرب ، التي تسبب فيها الانقلاب على الشرعية وعلى التوافق الوطني ، وتعاظمت معها المأساة الإنسانية في اليمن ، لم يعد يرى إمكانية لأي حل لهذا النزاع إلا بتدخل صارم باسم الأوضاع الإنسانية المأساوية ؟ ربما ، ومؤشرات ذلك كثيرة ، وهو ما سيضغط به العالم أجمع حينما يرى أن الحرب لم تعد غير ملهاة لن تفضي إلا إلى مزيد من الكوارث.

ولا شك أن المنحى الذي أخذ يتجه إليه وعي المجتمع الدولي بشأن الازمة اليمنية قد أخذ يتمحور حول الجانب الإنساني على نحو حاسم ، وراح الجذر السياسي يختفي ويتلاشى من المشهد ، وهو ما سهل على الجهد الأممي الاستعانة بهذا البعد بإبقاء الجذر السياسي للمشكلة حاضراً ، ولكن على نحو ثانوي في التأثير على الحل ، مع العلم أن العالم لا يزال يتمسك بشرعية الدولة ورفض الانقلاب.

كثير من الحالات المشابهة جرى فيها تطويق المشكلة السياسية بالبعد الانساني للضغط على الأطراف للوصول إلى الحل ، كما حدث في أثيوبيا، ورواندا والبوسنة والهرسك وغيرها . غير أن هذا الخيار كان دائما ما يحتاج إلى إصلاح جذري في منظومة الحكم تؤمن التمسك بشروط الحل بعيداً عن المراوغات وانتهاز الفرص.

إن إضعاف الجذر السياسي للمشكلة من شأنه بالطبع أن يجعل الحل سطحياً غير متجذر في بنية سياسية وطنية قادرة على حمايته ، وهو ما يضع القوى المقاومة للمشروع الإنقلابي الحوثي الإيراني أمام مسئولية لا أعتقد أنهم لا يدركون خطورتها ، المهم هو ما يتطلبه هذا الإدراك من عمل لتلافي الخطورة.

السبت, 30 تشرين2/نوفمبر 2019 16:30

٣٠ نوفمبر ١٩٦٧

 

 

٣٠ نوفمبر ١٩٦٧ هو المحطة الأخيرة من المرحلة الأولى لثورة ١٤ أكتوبر المجيدة.

في هذه المرحلة تم تحرير الجنوب ، وإعلان استقلاله وتوحيد أجزائه المفرقة في دولة واحدة هي "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية "، والتي استقر اسمها فيما بعد باسم "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية".

لكل المناضلين ، والشهداء الذين استشهدوا على درب الحرية من الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل ، وجبهة التحرير لجنوب اليمن المحتل ، ومن القوى السياسية والاجتماعية والشعبية والعمالية ، المجد والخلود في هذه المناسبة ، وللأحياء من المناضلين خالص التحايا.

كانت هذه المرحلة ، بتضحياتها وعنفوانها ، ووضوح أهدافها السياسية ، وصمود روادها في وجه التحديات الضخمة ، عنواناً للمشهد الوطني الذي أخذ يزيح غبار قرون من الضياع الذي شهده جنوب اليمن وشمال اليمن على السواء ، وشكلت مرحلة تأسيس لدولة وطنية.

وبقيام هذه الدولة واعلانها بدأت المرحلة الثانية من ثورة ١٤ أكتوبر ، وهي مرحلة البناء ، والتي أنجزت على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الكثير مما كانت قد وضعته أهدافاً لنضالها.

كان التحرير هدفاً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً ببناء الدولة ، وبصورة موازية لها بناء المجتمع والاقتصاد ، والاهتمام ببناء الإنسان بالتعليم والصحة والرياضة ومحو الأمية والقضاء على البطالة والخدمات الاجتماعية والتنمية المتوازنة ، وكانت قوانين الأسرة من أهم القوانين الاجتماعية التي مكنت المرأة من تبوؤ مكانتها اللائقة في المجتمع بما في ذلك حقها في العمل ، وحقها في التعليم وحقها في المشاركة السياسية ، وتعزيز دورها ومكانتها في بناء الأسرة المتماسكة عماد المجتمع المتماسك.

تكاملت المرحلتان ، اللتان شكلتا الاطار العام لثورة أكتوبر ، على نحو أعطى للثورة مفهومها الذي لا يتوقف بها عند مناسبة بعينها وإنما تمتد بقدر ما تجسده من أهداف.

المجد لنوفمبر.

الجمعة, 15 تشرين2/نوفمبر 2019 19:28

السلام و"بيرق" القوة الغاشمة

 

قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية عام ١٩٣٩ قام "تشامبرلين"، رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ، بزيارة إلى "ميونخ" في المانيا حاملاً مشروعاً للسلام ، يتضمن دعوة هتلر الى وقف غزو تشيكوسلوفاكيا الذي كان يعد له بدعوى تحرير منطقة الراين التي تسكنها أغلبية ألمانية كما يدعي . كان هذا هو العنوان الذي جعل منه "تشامبرلين" إطار مشروعه للسلام ، ولم يكن يدرك أن هتلر كان يستهدف أوربا بأكملها.

عندما عاد "تشامبرلين" الى لندن ومعه الاتفاق الذي وقعه مع هتلر بشأن حوض الراين ، أدرك البريطانيون حجم الخديعة التي نصبها هتلر ، فقد انتزع اعترافاً بحقه في الراين ولم يمنعه إتفاق السلام من مواصلة تنفيذ مشروعه الحربي بما كان قد رتب له من قوة.

لم تكن شروط السلام متاحة بالقدر الذي يجعل تطبيق الاتفاق ممكناً ، أي أن إتفاق السلام الموقع لم يكن يملك القوة الكافية لحمايته في مواجهة القوة التي كانت تعد للحرب . وعندما تغيرت المعادلة بعد ذلك ، انتصر السلام بنفس الاداة التي سخرت منه في البداية ، أي القوة.

السلام مطلب الحياة بقيمها التي تجسد كرامة الإنسان ، وهو المعادل الموضوعي للقوة التي تحمي منظومة تلك القيم .

وعلى النقيض من ذلك فإن طيش القوة الغاشمة ظل ، على مدى تجارب بشرية مريرة ، يضع السلام خارج معادلة الحياة بمعناها الذي يقود إلى بناء مجتمع متسامح يوفر شروط العيش المشترك ، والاستقرار ، والتنمية ،والإعتراف بحقوق الآخر واحترام خياراته.

والحقيقة أنه عندما يستهلك مفهوم السلام بتطبيقات هامشية للسلام ، ومعايير غامضة وشعارات متهافتة ، تكون النتيجة هي تكريس الحروب كخيارات لا مفر منها ، لأن السلام الذي لا تحميه القوة التي تؤمن به كقيمة من قيم الحياة لن يصمد أمام صفاقة القوة الغاشمة في صلتها بالوظائف اللصيقة بها، والتي من أبرزها حماية وتكريس مصالح الأقلية المتنفذة على حساب مصلحة المجتمع.

لن يأتي السلام ، الذي يتحقق معه الاستقرار في اليمن ، الا في حالة واحدة وهي أن تحميه قوة تؤمن بالسلام .

كان الحوار الوطني أبرز مسار في تاريخ اليمن نحو هذا النوع من السلام ، وبسبب غياب هذه القوة التي كان يجب أن تتشكل كمعادل له وللمتغيرات الكبيرة التي بشر بها الحوار ، فقد انقلبت عليه القوة الغاشمة التي تراكمت على الضد من مشروع بناء الدولة على مدى زمن طويل ، ورأت في السلام وفي تلك المتغيرات نهاية لحقبة تاريخية ظلت فيها متحكمة بمصير اليمن ، تتناوب السيطرة على الحكم وعلى الثروة.

رفعت جماعة الحوثي "بيرق" هذه القوة الغاشمة في لحظة تاريخية فارقة كان مشروع الدولة فيها قد تهيأ للانطلاق ، فما الذي يجعلها تقبل "السلام" الذي انقلبت عليه وعلى شروطه ومرجعياته بعد كل هذا النزيف والدمار ، إذا لم يفرض ذلك السلام بإرادة تتجاوز كل محاولات الالتفاف عليه ، أو على الأقل إذا لم يستجد شيء ما يجعلها تقتنع بأن تمسكها بهذا المسار لن يفضي إلا إلى ضرر بالغ بمستقبلها ، أما مستقبل البلد فلا أعتقد أنه يدخل ضمن أولوياتها.

ترى ما الذي استجد من شيء يجعلها تفكر في ذلك !!فخيار السلام على النحو الذي يراد للأمور أن تستقر عنده يقدمها ك"منتصر" من خلال تمسكها بكامل منظومة إنقلابها . وعندما يتحدث بعض قادة الحوثيين عما يعتقدونه شروطاً ضرورية للتفاوض ، فلا بد من إدراك المسار الذي يراد للسلام أن يتجه إليه بموازين المعادلة التي استقرت على الأرض حتى الآن.

صحيح أن المشروع الطائفي الكبير الزاحف على المنطقة ، والذي انقلبت هذه الجماعة على التوافق الوطني من أجله ، قد كسر في أهم مفاصله .. وصحيح أن سيطرتها على البلاد كاملاً قد اندحر بصورة أكدت أنها ملفوظة شعبياً ، وبقيت بسببه مجرد جماعة متمردة ، غير أن لديها مشروعاً ستقذف به في وجه السلام في اللحظة المناسبة، فمشروعها الذي ستفاوض عليه يقوم على التمسك بجزء من البلاد كرهينة لانشاء نظام طائفي لدولة يكرس الحديث فيها عن:

" الأبناء" بدلاً عن " المواطن"..

وعن القبيلة والطائفة والمنطقة بدلاً عن الدولة..

وعن النسب بدلاً عن المواطنة.

السلام الذي يطلب من المعتدي المتمترس وراء صفاقة تاريخ منقوع بالدم ومصلوب فوق شجرة النسب "المؤهل" للحكم ، تختلف معاييره عن السلام الذي توفر شروطه تسوية تاريخية متكافئة تحقق الاستقرار والتعايش في دولة مواطنة للجميع.

المعتدي على التوافق الوطني لا يمكن أن يفكر في السلام ، كل ما يفكر فيه هو تسوية تكون له فيها اليد الطولى ، خاصة حينما يأتي إلى مباحثات السلام وهو مسلح بحالة من الاسترخاء الناشئ عن اعتقاد بالنصر ، وفي مناخ يستطيع أن يسوق فيه طروحاته السياسية والتحريضية عن "العدوان" ، و" الصمود" ، وكل الإفك الذي يخفي خلفه الجرائم التي ارتكبها بحق البلد بالانقلاب على التوافق السياسي الوطني بقوة السلاح.

من الواضح أن الوضع الذي يثير أكثر من سؤال هو أن هزيمة مشروعه الانقلابي لم تكن من الصعوبة التي تبرر الحديث عن سلام تستجديه "القوة" التي واجهت هذا المشروع لخمس سنوات ، خاصة بعد أن كشفت الاحداث حجم الأسلحة والمقاتلين الذين تحتفظ بهم المعسكرات والجبهات ، زائداً الدعم والاسناد الجوي والبحري والاستراتيجي للتحالف ، زائداً القرار الأممي ٢٢١٦، زائداً الرفض الشعبي الواسع للانقلاب .. فهلا توقفنا قليلا أمام هذه الحقيقة لنبحث ولو بشيء من الصراحة عما يكتنف هذا الوضع من غموض؟

الحديدة وما حدث فيها نموذج لهذا الغموض الذي سيظل يؤرق كل من كان يتوق الى سلام حقيقي ينهي هذه الحرب ، ويضع اليمن على مشارف اتفاق سلام ينهي الغطرسة ، ويحقق الاستقرار وبناء دولة المواطنة.

اتفاق الرياض المكرس لتوحيد الجهد نحو سلام حقيقي لا يجب أن تتكرر معه تجربة الحديدة التي خذل فيها السلام بإسم السلام ، فالاتفاق هو توحيد جهد مكونات مقاومة المشروع الإنقلابي الحوثي الإيراني على نحو تصبح معه عملية السلام بشروط توفر الاستقرار ممكنة التحقيق . هكذا تفهم مضامينه من واقع ما آلت إليه معطيات الأزمة وما تستوجبه تحدياتها من إعادة بناء وترتيب للأولويات.

إن على المنظومة السياسية والعسكرية المدافعة عن شرعية الدولة ، في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة ، أن تستحدث ديناميات قادرة على التفاعل مع ما يجري من حديث عن عملية السلام ، مصحوباً برؤيا تتمسك فيها بخيارات الشعب الذي يتطلع إلى مستقبل خال من الحروب والصراعات ، مستقبل تكون للشعب فيه الكلمة الأولي والأخيرة في تقرير مصائره ، وأن تكون حاضرة في المشهد بقوة ، لأن التاريخ لن يعفيها من هذه المسئولية.

وفي هذا الإطار أصبح من الضروري أن تخرج القوى السياسية من صمتها بمشروع سياسي تتجاوز به أزمتها المعبرة عن ضرورة تصحيح علاقتها بالجماهير في أهم لحظات التحول التاريخية.

ولن يصنع السلام بدون مشاركة فعلية واعية للدولة ومكوناتها السياسية والشعبية في الخيارات التي سيستقر عليها هذا المستقبل.

وحينما تتفاعل الأحداث لتنتج مسارات بالمستوى الذي صار إليه المشهد في اليمن وفي المنطقة بشكل عام ، فإنه من الأهمية بمكان أن يتشكل الموقف بمعايير يكون فيه مستقبل اليمن حاضراً بقوة ، ويكون محور التفاهمات الإقليمية ، مما يتوجب معها حضور فاعل لليمن.

 

 

تقول الأطراف التي تفاوضت إن "إتفاق الرياض" لم يصمم لتحقيق إنتصار لطرف من أطراف الشرعية على طرف آخر. ولا تقول أكثر من ذلك. وحينما يتعين عليها أن توصف هذا الإتفاق بما يليق به يذهب كل طرف إلى منحه عنواناً يستجره من مخزون الفتنة التي عصفت بالجميع.

لنتوقف هنا قليلا لنتجاوز غبار الفتنة وأدبها السياسي وثقافتها المريبة، ونوافق الجميع على أن هذا الاتفاق لم يصمم لغرض تحقيق انتصار طرف على آخر، ولنقل أنه صمم لتمكين الشرعية من الانتصار على مصاعبها الموروثة من نظام تراكمت فيه المشاكل والقضايا لعقود طويلة لدرجة غدا معها هذا الموروث منتجاً لصعوبات وتعقيدات كثيرة أمام إنجاز مهمتها في استعادة الدولة من أيدي المليشيات الحوثية.

كما أنه لم يصمم لحل قضية الجنوب، بقدر ما كان إصلاحاً للمسار العام الذي يتوخى أن يفضي إلى توفير المناخات المناسبة لمعالجة هذه القضية الأساسية في إطار حل شامل للوضع السياسي في اليمن.. وإن كان هذا لا يقلل من حقيقة أن القضية الجنوبية، بهذا الاتفاق ، قد منحت الجنوب دوره ومكانته في التصدي للانقلاب الحوثي- الإيراني ببعد أكد الدور الوطني التاريخي للجنوب كحامل لمشروع ظل حاضراً بفعالية في كل قضايا اليمن المعاصرة ، وهو ما يرتب استحقاقات لا يمكن تجاوزها حينما يتعلق الأمر بمعالجة هذه القضية جذرياً فيما بعد.

الأساس في هذه العملية هو بداية إصلاح شامل ينهي الإرباك الذي ساد جبهة المقاومة الواسعة للمشروع الحوثي الإنقلابي على الدولة الذي ترعاه إيران وتدعمه كجزء من مشروع تمددها في المنطقة. ولا يمكن لعملية إصلاحية بهذا المستوى من الشمول والتعقيد إلا أن تركز على المفاصل الأساسية التي من شأنها، فيما لو طبقت بنجاح، أن تحدث سلسلة من التأثيرات الإيجابية على كافة الأصعدة.

في كل التجارب البشرية لا يوجد اتفاق مثالي يرضي كل طرف من الأطراف المتفاوضة على نحو كامل ، ولكن يوجد اتفاق الضرورة الذي يؤسس لحل من الممكن أن يكون مثالياً ، (وإن كان البعض يرى أن الاتفاق المثالي هو الذي يراه كل طرف من أطراف الإتفاق مجحفاً بحقه ، وهو ما تعكسه القاعدة الرياضية التي تقول بأن سالب +سالب = موجب)، هكذا أفهم الوضع ، وعليه فإنني أرى أن هذه الخطوة تعد إصلاحاً على طريق إعادة بناء هذه الجبهة على أسس أعادت إلى الصدارة أهمية تعبئة القوى والجهود ضمن أولويات تأتي في مقدمتها استعادة الدولة من أيدي الانقلابين الحوثيين ، مع التأكيد على أهمية معالجة القضايا الداخلية العالقة ومنها القضية الجنوبية.

خطوة إصلاح المسار هذه ستكتسب قيمتها الفعلية من خلال فتح الطريق أمام مزيد من الإصلاحات البنيوية الأخرى حتى يكتمل، على أسس سليمة ، البناء الذي سيتصدى بفعالية لمهام المرحلة القادمة وذلك على أي صعيد ستسفر عنه معطيات المشهد العام .

الخطوة الأولى:

-اكبر تنظيمين يشكلان عمودا الشرعية في الوقت الحاضر، من خلال تفردهما بالتكوينات الحكومية والسلطة ومناصب جهاز الدولة القيادية، هما المؤتمر الشعبي وتجمع الإصلاح. ولذلك فإنه لا بد من أن يعالج كل منهما وضعه الداخلي الانقسامي تجاه الشرعية. فلا يمكن أن يكون نصف المؤتمر الشعبي العام داخل الشرعية ويقودها، والنصف الآخر يعارضها ويعمل ضدها. وكذلك الحال بالنسبة للإصلاح. وأياً كانت طبيعة هذه الانقسامات فعلية أو تكتيكية، فإن هذا الوضع سيظل سبباً في إرباك الشرعية والتحالف معاً، ولا بد أن يعالج كجزء مكمل لمعالجة المسار الذي بدأ باتفاق الرياض.

الخطوة الثانية:

-تنظيم العلاقة بين تحالف دعم الشرعية والحكومة الشرعية وفقاً لقواعد منظمة تقودها وتعمل بموجبها تكوينات مؤسسية تتحمل المسئولية ومنها مسئولية تنفيذ هذا الاتفاق.

الخطوة الثالثة:

-تشكيل الحامل السياسي للكتلة الوطنية المقاومة للمشروع الحوثي - الإيراني، على أن يتم ذلك بصورة مبدئية وجادة بعيداً عن الارتجال والشكليات التي استنزفت الفعل السياسي الجاد، والذي بسببه فقدت المقاومة أهم عنصر قيمي في مواجهة هذا المشروع الخطير. لا بد أن يعكس هذا العمل معنى الشراكة السياسية الفعلي لإنهاء حالة التخبط الداخلي والاستقطابات التي كانت سببا في هذا التمزق الذي ساد الجميع.

الخميس, 17 تشرين1/أكتوير 2019 18:53

تاريخ ضخم.. وحاضر هش

 

تقول الكاتبة الفرنسية "سيمون دو بوفوار" في روايتها "المثقفون":

"فجأة إنهال علي التاريخ بكل قوته فتشظيت".

يتطبق هذا على اليمن اليوم ، ولأن تاريخ هذا البلد بالضخامة التي لا يتحملها جسده المعاصر الهزيل ، و"المرقع" في كل زاوية فيه بأسمال أنظمة فاشلة لم تستطع أن تتصالح مع هذا التاريخ الضخم ، أو ترتقي باليمن إلى المستوى الذي تكون فيه قادرة معه على تحمل ضغوطه ، فإن كل رجة يحدثها هذا التاريخ لا بد أن تخترق هذه الرقع إلى جوفه نحو ما تبقى من مخزون الأخوة ، ووشائج القربى ، وأوابد الحضارة التي امتدت لقرون ، تحاول جمع أشتاتها في مواجهة مع ما ألحقته حقب الهزائم من تمزق وخذلان.

هذا الاختراق الذي يقوم به التاريخ يؤدي إلى مزيد من التشظي بسبب هشاشة البنى السياسية والثقافية والاجتماعية المعاصرة والتي فشلت في أن تشكل حاملاً لمحاولات جمع تلك الأشتات.

لماذا؟ لأن هذه البنى بطبيعتها لا تستطيع أن تتفاعل إلا مع الجانب السلبي من هذا التاريخ، مع ما يصاحب ذلك من نزعات تسلطية معاصرة تحول العملية في مجملها إلى استعراض عضلات فاقدة لروح المعرفة بحقيقة معنى الانتماء إلى وطن يجسد كل ما هو جميل في هذا التاريخ ونبذ كل ما هو سلبي.

للتاريخ منطقه المستقل عما يشهده الحاضر من أحداث.. التاريخ ليس مجرد ذاكرة للاستعراض، هو في الأساس حراك موضوعي متصل الحلقات، ينتقل في اللحظة المناسبة من السكون إلى الفعل ليعدل مسار الأحداث على النحو الذي ينسجم مع طبيعة مخزونه من العناصر المكونة للشخصية، ليس في صيغتها البيولوجية وجيناتها، ولكن في صيغتها الثقافية والحضارية والمنسجمة مع مصالح الناس.

مصدر القلق هو الحركة خارج منطق التاريخ وتراكماته الثقافية والمادية، وما يتعرض له كل ذلك من تعسف وانتقائية من قبل إرادوية السياسي المتجمد عند هواجسه، ومشاكله الخاصة، ورؤاه الأيديولوجية المتماهية مع نزعة الخصومة المحتقنة بدوافع الصدام الدائم: أقودك أو أسحقك، أحكمك أو أبيدك.

تبدأ السياسة في اليمن من المظلومية وتستقر في حضن الظلم.. ويبدأ السياسي مظلوماً وينتهي ظالماً.

المتتبع لمسار السياسة بألوانها ونحلها المختلفة لا تجد استثناءً من هذه البداية "الانسانية" ، والنهاية " الشيطانية" .. أين تكمن المشكلة؟

هناك فجوة أخلاقية، ثقافية ومعرفية يحدث فيها هذا التحول الرهيب. الفجوة التي تغيب فيها ديناميات التاريخ وتحضر الأنا المتطاولة على مخزون التاريخ بصيغته التي تبعث إضاءات عند كل محطة يلتبس فيها الموقف.. تحل الارادوية والفعل المتعالي الذي لا يخضع لأي ضوابط محل العبرة والتجربة وإضاءات التاريخ، وهنا تكمن المشكلة.

الخميس, 26 أيلول/سبتمبر 2019 17:16

الجنوب وثورة ٢٦ سبتمبر

الجنوب وثورة ٢٦ سبتمبر

(المشروع الوطني في مواجهة الحلف الذي اتفق على نصف جمهورية)

١- إصطف جنوب اليمن كله من شرقه إلى غربه ، شباباً وطلاباً ونقابات عمالية ومرأة وقبائل ومقاتلين وأدباء وفنانين وصحفيين وأندية رياضية وإجتماعية ، مؤيداً وداعماً لثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢ . ورسم الجنوب بذلك لوحة لخارطة الوطن في اللحظات التي كانت فيها مقدمات النهوض الوطني تشعل الحماس وتؤسس لمسارات سياسية وطنية جعلت منه قوة دعم لثورة سبتمبر على كافة الأصعدة.

٢- خرجت المظاهرات الطلابية والعمالية والشعبية في كل أنحاء الجنوب تهتف لسبتمبر، وتدافع المتطوعون في طوابير طويلة للتسجيل في قوائم الإلتحاق بالقوات الشعبية للدفاع عن الثورة والتبرع من أجلها.

٣- وفي ثانوية خورمكسر بعدن لا زلت أتذكر عميدها آنذاك الشاعر لطفي جعفر أمان ذات صباح من عام ١٩٦٣ وقد وقف على رأس الطابور المدرسي ليخاطب سبتمبر بقصيدة طويلة يقول مطلعها: "أنت من يزرع قلب الشمس أضواء جديدة" ، وغنى المرشدي واحمد قاسم والعطروش ومحمد سعدعبد الله وبلفقيه وغيرهم لسبتمبر ، واحتفت أوسع الصحف انتشاراً يومذاك : الايام ، الامل ، فتاة الجزيرة وغيرها بسبتمبر ، وفتحت صفحاتها للحديث عن ذلك الحدث الكبير.

٤- لم يكن كل ذلك ممكناً لو لم تكن خميرة العمل الوطني في ذلك الجنوب قد تشكلت بروافع ثقافية وسياسية وطنية صمدت في وجه كل التحديات.

٥- كانت اللوحة التي رسمها الجنوب في تأييده ودعمه لثورة سبتمبر معبرة بكل المقاييس عن إجماع لا مثيل له . ولم يكن أبناؤه بحاجة لأن يذكرهم أحد بهويتهم أو وطنيتهم كما يحلو لدهاقنة وأدعياء "الوطنية" اليوم ممن يحاولون أن يستعرضوا على الجنوب والحركة الوطنية عضلات "وطنية" لطالما اختبرت نزاهتها في محطات مختلفة وفشلت.

٦-وفي حين كان الشعب في جنوب اليمن يقف كله إلى جانب سبتمبر ، فإن الحركة الوطنية في الجنوب قد ورثت هذا الموقف التاريخي في كل مساراتها وجعلته منهجاً لنضالها الطويل ، وكان هذا هو المناخ الذي نشأت وترعرعت فيه ، وشكل العمود الفقري لآفاقها الكفاحية الاستراتيجية بما في ذلك إشعالها لثورة الرابع عشر من اكتوبر حتى النصر . كل هذا شكل قاسماً مشتركاً مع الحركة الوطنية في شمال اليمن.

٧-أما شمال اليمن فكان قد انقسم تجاه الثورة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول وقف إلى جانب الثورة ودافع عنها وقدم التضحيات الكبيرة من أجلها وهو القسم الذي تشكلت منه الحركة الوطنية في الشمال بأطرافها المختلفة.

والقسم الثاني خذل الثورة في أهم محطاتها بدوافع ملتبسة ، وعرف بالتيار المحايد( لا جمهوري ولا ملكي ).

والقسم الثالث وقف ضد الثورة وقاومها بالسلاح.

٨-كانت محصلة هذا الانقسام هو أن القسمين الثالث والثاني إئتلفا وشكلا الحلف الذي استحوذ على "الثورة" بتفاهمات بينهما قضت باحتواء الثورة والقبول بنصف جمهورية (حتى بعد أن بدا أن الثورة قد انتصرت بعد مقاومة السبعين يوماً الخالدة) ، ولتمرير ذلك قام بقمع وتشريد وإقصاء ومطاردة القسم الأول الذي وقف إلى جانب الثورة بمن فيهم أبطال السبعين، والذي ظل مطارداً ومشرداً ومقصياً حتى اليوم .

٩-تسلط هذا الحلف على المشهد السياسي برمته ، وأخذ يوزع "الوطنية" مقروناً بالوظيفة والثروة بطريقة مثيرة تتناسب مع بنيته السياسية والاجتماعية ، وموقعه في السلطة ، وأعاد من ثم صياغة مفاهيم "الوطنية" على النحو الذي يتناغم مع علاقته الملتبسة وغير الودية بالثورة.

١٠-واصل هذا الحلف تحكمه بالمشهد السياسي والنفوذ بالرغم من إختلاف الوجوه والأسماء والمسميات، ومثلما قمع بقسوة القسم الذي دافع عن الثورة في شمال اليمن وأقصاه وأساء إليه ، فقد تعامل مع الجنوب بنفس الموقف الذي يعكس منهجاً إقصائياً أريد به فرز الحركة الوطنية باستقطابات مشبوهة داخل الجنوب ، (وخاصة بعد انتصار ثورة١٤ أكتوبر) لإستكمال حلقات الحلف أفقياً ورأسياً بهدف تصفية حساب مع كل من ناصر ثورة ٢٦سبتمبر ووقف إلى جانبها وطالب برد الإعتبار لها.

١١-نظر إلى الجنوب باعتباره ملحقاً وهامشياً في المعادلة "الوطنية" بالمحتوى الذي ظل يتعسف به الحقائق التاريخية، وأصبح للوطن عند هؤلاء مفهوم مختلف لا يتعدى جغرافيا في خارطة صامتة وبليدة ، لا تصدر عنها سوى أصوات الرصاص الموجهة لإخراس كل صوت يطالب بتحويل الجغرافيا إلى وطن .

فالوطن هو السلطة والثروة.. و"الوطنية" هي احتكار السلطة والثروة ..ومن هذا المنظور أسقطت الوحدة السلمية التي تحققت عام١٩٩٠ لتبدو وكأنها فعلاً إرادوياً لقوة تمنح نفسها السلطة المطلقة في التمدد الجغرافي والتصرف .

١٢-أطراف هذا الحلف لا ترى "الشمال" غير ساحة لتجهيز معاركهم وتزويد حروبهم بالمقاتلين لتكريس هذا المفهوم ل"الوطن" و"الوطنية" ، ومن أجل ذلك كان لا بد من إنتاج الثقافة الحاملة لهذا المنهج . وهي من جانب آخر لا ترى "الجنوب" إلا من خلال مشف البندقية ، وغبار التفجيرات ، وأشلاء الضحايا ، وكان لا بد أيضاً من تكريس الثقافة التي تجعل منه هدفاً دائماً للحروب باسم "الوطن" و"الوطنية" والوحدة .

١٣-والحقيقة أن هذا الحلف الذي إحتوى ثورة سبتمبر كان قد هدم مشروع الوطن من أساسه ، ووضع الحركة الوطنية بمجملها في موقع الخصومة الدائمة ، ووظف مفهوماً ملتبساً وديماجوجياً للوطنية لتغطية كل ذلك .وظل مصدراً لعدم الاستقرار الذي مر به اليمن : إذا اتفقت أطرافه أعاقت بناء الدولة ، وإن اختلفت أشعلت الحروب والكوارث في أنحاء البلاد. كان إسقاط نموذج بناء الدولة الذي بدأه الشهيد الحمدي مثالاً حياً .

١٤-اليوم وقد صعر الجميع خده للكارثة التي حلت بالوطن على أيدي أحد أطراف ذلك الحلف الذي نما وترعرع في المساحة التي خصصت له بموجب إتفاق التسوية ذاك واخترق إلى جانب ذلك النصف الحمهوري، فإن البحث في الأسباب التي قادت إلى هذه الكارثة لا يمكن أن تغفل الانتكاسة التي أصابت المشروع الوطني والأسباب التي تقف وراء ذلك . وبهذا الصدد سيتوجب على القوى التي تتصدى للمشروع الانقلابي الحوثي-الايراني أن تتجاوز أزمتها وتفتح فيما بينها حوارات صريحة وجادة لمعرفة أسباب هذه الانهيارات التي تعرض لها المشروع الوطني بعيداً عن منهج التخوين المتغطرس ، أو التلويح بالقوة، و التي اختبرت في أكثر من محطة كخيار غبي لم يسفر إلا عن مزيد من تكسير هذا المشروع وتخريبه ، ولتقف أمام ما يتوجب عمله في هذه اللحظة التاريخية التي تقلصت فيها الخيارات .

المجد للثورة ، الخلود لشهداء الثورة ، وكل عام والجميع بخير.

السبت, 10 آب/أغسطس 2019 19:37

العودة الى المشروع السياسي

 

ستكتشفون حجم الخطيئة بعد ما يحل الخراب بالجميع وأنكم جميعاً ضحية ، ولن يكون للندم بعد ذلك معنى أو أن للحكمة المتأخرة قيمة.

كم هي التجارب التي جعلت الجميع يعضون أصابع الندم ولكن بعد فوات الأوان.

لن يشكل تدمير عدن وترويع سكانها سوى المزيد من توسيع دائرة الهزيمة للجميع .

العودة للمشروع السياسي والحوار هو الذي سيؤسس حلاً ثابتاً وعادلاً لكل قضايا الخلاف. لنتذكر دائماً أن استخفاف القوة بالمشروع السياسي في أكثر من تجربة لم يصمد أمام وقائع الحياة، ذلك أن القوة لا تلبث أن تنقلب على نفسها في أكثر من تجربة.

الذي ينتصر بالعنف يجد نفسه في نهاية المطاف أسيراً لنتائج وأدوات هذا العنف، كما حدث في كل التجارب السابقة.

لا يجب أن تحل القضايا السياسية العادلة بالعنف، أو أن يرتبط مستقبلها بالعنف ، كما لا يجب أن تواجه بالعنف بأي شكل كان ، لأن النتائج التي ستترتب على ذلك ستنتج على الدوام أدوات صراع داخلية غير قابلة للتسوية إلا بالدم ، فالتجارب التاريخية تقول ذلك.

يجب التمسك بنهج الحوار الذي أسس أول تجربة في اليمن على طريق استعادة الوعي بأهمية العمل السياسي في حل المعضلات الوطنية، ولن يكون التخلي عنه غير تكريس لنهج القوة الذي أفسد حياة اليمنيين على مدى سنوات طويلة لصالح المتنفذين والفاسدين ممن ظلو يغذون الصراعات ويعيقون بناء الدولة.

الان سقط الوضع في مستنقع العنف، ولا بد لهذا العنف أن يتوقف فوراً لأنه لن يفضي إلا إلى طريق الحروب على نحو أوسع وأبشع.. يجب أن لا يذهب العنف بالأمور إلى نهايات لا يمكن معها إدراك أهمية العودة إلى المشروع السياسي الذي يقوم على تعزيز الدولة ومشروعيتها ودورها في مواجهة المشروع الانقلابي الحوثي الايراني، فهو أصل المشكلة التي يجب أن يتجه إليها الجميع، وأن تتسع هذه الدولة للجميع ولكل القضايا، وأن تنشئ آليات قانونية وسياسية لشراكة حقيقية تؤدي إلى الاعتراف بحق الناس في تقرير مصيرهم السياسي.

شخصياً لا أرى أي أفق للاستقرار والسلام اذا أصر العنف على السير بقضايا الخلاف إلى النهاية فلن تكون هذه النهاية سوى بداية لجولات أخرى من العنف.

أسجل رأيي المتواضع، واتمنى من الذين يتنابون على شحن الوضع المتفجر بالمزيد من التأجيج أن يتوقفوا، فنحن بالعنف سنظل أمام مسارات مجهولة لا أحد يعرف أين ستتوقف بنا.

السبت, 10 آب/أغسطس 2019 19:06

وجهة نظر أخيرة

 

أياً كانت النتائج التي ستسفر عن هذه الفتنة في الجنوب فإنها لا ترتب نتائج قابلة للبقاء بدون العودة الى المشروع السياسي والذي يتكون من وجهة نظري، مرة أخرى، من النقاط التالية:

- تعزيز دور الدولة ومشروعيتها بقيادة الرئيس هادي في استمرار مواجهة واسقاط الانقلاب الحوثي الايراني.

- إحداث إصلاحات سياسية وادارية تمكن الجنوبيين من شراكة حقيقية في ادارة شئونهم كمرحلة وسيطة.

- الدعوة إلى مؤتمر مصالحة سياسية بين الأطراف المقاومة للمشروع الانقلابي الحوثي الايراني، يقف هذا المؤتمر أمام خطة شاملة بما في ذلك ترتيبات العملية السياسية القادمة بصيغة تجعل المشاركة تعبيراً عن استعداد لمناقشة كافة القضايا.

لن ارد على المتهافتين الذين لا يفتأون يغرفون من مستنقع ضلالهم القديم للاساءة، فمن شب على شيء شاب عليه.

وعيد مبارك، وكل عام وبلدنا والجميع بخير.

الثلاثاء, 06 آب/أغسطس 2019 17:42

حافة العونطة و"الطمبرة"

 

ظلت عدن تحمل اليمن ، شماله وجنوبه ، وتعبر به الزمن بحلوه ومره..

كانت المكان الذي لا يتأثر بما يفعله الزمن من تغيرات.. فهو الثابت في معادلة الحياة بالنسبة لليمنيين قاطبة ، وبذلك اكتسبت مكانتها في قلوب اليمنيين ، حيث أمها المتعبون من نكد الحياة بحثاً عن ملاذ يعيدون فيه صياغة حياتهم بأمان ، جاء إليها التجار والعمال والبناءون والسياسيون والشعراء والهاربون من الظلم ، وبسطوا خيمهم في الفراغات التي رسمت البسمة كعنوان كبير لأحلام هؤلاء المتعبين ، وكانوا أوفياء في الالتزام بقيمها : التسامح والتعايش والسلام.

ومنها ، وعبر موانئها ، غادر المهاجرون إلى عوالم مجهولة وفي سفن بلا هويات.

في حافة " العونطة" التي تقع مابين حافة حسين والطويلة ، والمحاذية لمجرى الماء الذي يتدفق من صهاريج الطويلة عندما تفيض من جراء الأمطار ، كان الأهالي يتجمعون في المساء على صوت أنغام الطمبرة ( قيثارة أرضية ضخمة) التي يعزفها عم حسين البالو يغنون ويرددون أهازيج البحر والبر ورقصات الليوه والشرح والبرع والركلة .. ومن بين الحاضرين كانت الحجة "شمس" أم لاعب الكرة الشهير في نادي الحسيني عبد الله حرسي تحمل كيس فيه "النيكبات" القديمة حق إبنها توزعها على الفتيان من أبناء الحي ، فتخلق فيهم البهجة وكأن الواحد منهم يتسلم حذاء نوكيا جديد ، ومن العمارة المقابلة تأتي أنغام آلة "الجمد" الهندي مع صوت نسائي رخيم " إلاما إلاما زماني إلاما صدوداً وهجراً وحزناً".. ومن المقهى المجاور لنادي أبناء الاعبوس القريب من تجمع الطمبرة والمحاذي لمسجد العراقي يأتي صوت المباشر " واحد قرص طاوة مع فنجان شاي سلالي " .. تختلط الاصوات والموسيقى وتتداخل بعنفوان لتعكس وقع الأغنية " عدن عدن فيها الهوى ملون ..." .. ومن بعيد يضرب بحر صيرة الجو الحار بنسمات تحمل عبقاً خالداً يلتحم مع الاضاءات الخافتة التي تصدر من المصابيح الكهربائية الملاصقة لبيت الشيباني ومسجد الدوابية ، ومن بعيد بيت حسن بن حسن أغبري وبيت شوالة وخليل محمد خليل ( الوردة الحمراء، وحرام عليك تقفل الشباك) ومعمل السندي للنجارة ومنازل حسن وحسين ومصطفى اسماعيل خدا بخش خان ، وعلى مسافة مكتب التاجر أحمد عبد الله العاقل ومبرز الفنان با مخرمة وعمارة با نوير وبيت شماخ ومقهى الحاج غانم ، ويبعث ذلك الإلتحام دفقاً من حيوية لا تتوقف عند بهجة اللحظة ، تذهب بالمشاعر بعيداً كلما ضربت أوتار "الطمبرة" بقوة لتمتص بصورة مذهلة كل الضجيج المحيط بها .. تستطيع الموسيقى أن تفرض إيقاعاتها على ما يحيط بها من ضجيج في الحالة التي يكون فيها العازف ملماً بقراءة مشاعر الناس ، وفي اللحظة التي يتعين عليه فيها أن يجعل الوتر نغمة يهتز لها الوجدان طرباً وترتقي به فوق منغصات الحياة.

في هذا المربع الصغير من مدينة كريتر ، أقدم أحياء عدن ، يلتقي هذا الكم من الناس من مختلف الأجناس والأعراق لا يفرقهم إلا طابور "المخلقة" الذي فرضه نظام الاحتلال ، أما في حياتهم اليومية فهم جسد واحد يتشكل بمعايير ومقاييس وقيم يصنعها الناس فيما بينهم ويتناوبون حمايتها بالعلاقات الانسانية ومشاعر الحب والتسامح والتعاون.

كان هذا المشهد يتكرر في كل زاوية وفي كل مربع من مدينة عدن بأحيائها المختلفة وعلى نحو يعكس مدنية عدن التي أخذت ، رغم قساوة الأنظمة الاستعمارية ، تصيغ نظاماً للمواطنة كان له اليد الطولى في حماية حقوق سكان مدينة عدن ، وأخذ يتشكل كميراث للحركة الوطنية لا يمكن التخلي عنه تحت أي ظرف باعتباره القوة المحركة لعدالة القضية الجنوبية وقوة محتواها ومضمونها.

السبت, 03 آب/أغسطس 2019 19:36

التطرف طريق إلى الهزيمة

المتطرف شخص تقف وراءه دائماً حقيقة مختلفة..

يشرح ذلك قائد عسكري فيقول : "لم يتبق لكتيبتي سوى قليل من الطعام بعد أن تقطعت بنا السبل ، وكان لدينا عدد كبير من الأسرى ، وكنا مهددين بالموت جوعاً إذا استمرينا في اطعامهم ، فجمعت جنودي للتشاور ، الجميع أشاروا بضرورة اقتسام ما تبقى من طعام معهم ، واتخاذ تدابير شديدة التقشف لمواجهة المشكلة ، إلا واحد كان يتحدث بحماس ويقاطع الجميع ويطالب باحراق الاسرى أو قتلهم حفاظاً على ما تبقى من جنود الكتيبة ، وأخذ يبرر ذلك بصورة لفتت انتباهي ، قلت له ، وقد أضمرت شيئاً ، نعم الرأي ما قلت أيها الجندي الشجاع ، ثم أمرت أركان الكتيبة بوضعه تحت الرقابة المشددة ، وما هي إلا يومين حتى ضبط متلبساً بالتخابر مع العدو وكان آخر ما نقله للعدو هو أن آمر الكتيبة ١٣٦ قد أمر بإحراق الأسرى .."

التطرف ، والخصومة المتسمة بالانفلات ، والتصرفات الطائشة التي لا تحكمها أي ضوابط أخلاقية أو سياسية أو مجتمعية تسببت ولا زالت تتسبب في تأجيج الصراعات واشعال الكوارث والحرائق ، والهزائم ، وفوق هذا الاساءة إلى القضايا التي ينتسب إليها هؤلاء المتطرفون من كل الإتجاهات .

يوفر المتطرفون والمزايدون الفرص لهزيمة قضاياهم في مواجهات عبثية لا مسئولة ، كما أنهم يوفرون الفرص لإختراقات داخلية تقود إلى استنزاف الجهد في معارك داخلية يستفيد منها العدو الرئيسي في الصراع الذي تسبب في الحرب والمأساة .

لو أن القوى التي يتحدث هؤلاء المتطرفون جميعاً بإسمها ، ويمارسون الأخطاء باسمها ، التقطت الموقف في اللحظة التي تبدأ فيها الانهيارات الاخلاقية تعبث بوجاهة القضايا التي تحملها لاستطاعت أن تنتزع فتيل المشكلة بتوضيح الموقف عبر رسائل سياسية وإعلامية وخطوات مسئولة تقارع التطرف الصادر عن كل من ينتسب إليها .

إن ترك الخطاب السياسي والاعلامي وجانب مؤثر من التصرفات الطائشة للمتطرفين والمؤججين للصراع من كل الأطراف إنما يعكس تراجع وجاهة المحتوى السياسي  للقضايا التي يدعي هؤلاء جميعاً أنهم يعملون من أجلها .

فوق ما نحن فيه من كارثة ، فإن الأشد إيلاماً هو أن نتجه بالوجع الصادر عن هول الكارثة الى المكان الخطأ لنفرغ فيه الغضب والانين على نحو لا ندري معه أننا إنما نشعل النار في أجسادنا ، ولا غير ذلك .

إن أول مهمة للقوى التي تحمل أي قضية سياسية وجيهة هي أن تتصدى للتطرف إذا أرادت أت تسير بقضيتها إلى النهاية بنجاح . التطرف يهزم القضايا الكبيرة ، وهو صناعة الخصم الذي يخترق به كيانك بدرجة تمكنه من مواجهتك بإطمئنان .

 

١- يتنطط الحوثيون من جبهة إلى أخرى في خطوط التماس القديمة بين الشمال والجنوب مدعومين بسلاح عفاش وخبرائه، وسلاح إيران وخبراء حزب الله، يحشدون أطفال اليمن إلى الموت لا لشيء إلا لأنهم قرروا تدمير اليمن وإغراقه في حرب يحتاج إليها نظام الملالي في إيران.

٢- في كل جبهة من هذه الجبهات يكسر شرفه، وشرف السلاح الذي جمع من خبز الشعب اليمني ، وشرف المشروع الذي يقف خلفهم . يقتل أطفال اليمن في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ومع ذلك يواصلون الحشد والتعبئة والقتل.

٣- اليوم نطوا الى "ثرة" في مكيراس ليوزعوا طيشهم وهزيمتهم على طول هذا الشريط الذي يمتد من الساحل الغربي وبلادالصبيحي والمسيمير والضاحي والضالع حتى يافع والبيضاء ومكيراس .

٣- في تساوق مع هذا الطيش فإن المعركة التي تخوضها المقاومة بكل فصائلها هي والجيش وكتائب المتطوعين وبدعم من التحالف العربي في الضالع تدخل شهرها الثالث .. تحققت معها انتصارات، وسقط معها شهداء، وسجلت بأروع الصور بطولات لم تحسب حسابها المليشيات الحوثية وهي تقرر نقل المعركة إلى الضالع.

٤- تشكل هذه المعركة اختباراً حقيقياً لجملة من المعطيات التي استقرت في المشهد السياسي اليمني عموماً ، فهي من ناحية اختبار لترابط وشائج القوى المنضوية تحت مظلة مقاومة مشروع الحوثي في منطوقها العام ، وهي من ناحية اختبار حقيقي لقدرة الجنوب على الاحتشاد في مواجهة ما يخطط له الحوثيون من إعادة احتلال الجنوب بكسر أهم جبهة للصمود فيه.

٥- الحقيقة المؤسفة هي أنه على صعيد المعطى الأول لا يبدو أن هذه المعركة الحاسمة قد حركت حتى الآن القدر الكافي من حوافز التفاعل مع أحداثها، حتى وأبطال المقاومة والجيش فيها يقدمون الشهيد تلو الشهيد ، ويصنعون انتصارات طالما تطلع إليها الناس طوال سنوات أربع من الحرب.

٥- ينتج عن هذا اتساع الهوة بصورة مخيفة، يملؤها خطاب انفعالي تحرق معه المزيد من الاوراق ، وفي حين أصبحت هذه الجبهة الواسعة ، بفعل طيش الحوثيين وغرورهم ، تشكل تعويضاً رائعاً لجبهة الحديدة التي أسقطناها من أيدينا ، فإنه من غير المستساغ أن لا تشعل المواجهة حوافز الدعم والاسناد الشعبي من قبل الجميع وبالصورة التي تؤكد تلاحم المعركة.

٦- في مثل هذه المحطات التاريخية تكون المواقف عناوين لخيارات ومسارات المستقبل.. اللهم اشهد.

٧- أما المعطى الثاني فقد كان من المنتظر أن يحتشد الجنوب قولاً وعملاً، لا يكفي أن يحتشد بالكلمة ، فهو أمر لا يتفق مع ما يتعرض له من مخاطر ، والاحتشاد الفعال له مظاهر وآليات متعارف عليها في وقت الشدة .

8- لا يجب أن يلقى بالعبء على جزء من الجنوب ويظل الجزء الآخر منه يتلهى بالكلام والانتظار. اللحظات التي تحمل في طياتها عناصر صناعة التاريخ لا تتكرر، وهذه اللحظات في مقدمتها وعلى رأسها.

9- لا تتركوا الضالع وحيداً.. اللهم اشهد

الأربعاء, 22 أيار 2019 23:53

٢٢مايو

 

سيظل ٢٢مايو ١٩٩٠ حدثاً تاريخياً يتجاوز الخديعة والمؤامرات والجلد والتشوية وكل محاولات التصفية، وعليه أن لا يتوقف كثيراً إلا أمام ما أصابه من انتكاسة، بعد أن كان قد حمل اليمن نحو النور وحلق بها في ذراري السمو والحرية.

لم تكن الانتكاسة متجذرة في بنية الحدث كما يحلو للبعض، وإنما فيما رافق نشوءه من عوامل.

سيظل هذا اليوم حجة لمن صنعوه لا حجة عليهم، هكذا هو التاريخ لا يجب أن ينظر إليه كأحداث مصطفاة إو منتقاة بمعايير إرادوية.. هو فعل الضرورة المعبرة عن توافقات الموقف والقانون الموضوعي وتناغم مكونات الفعل الثوري في اللحظة التي يجسد فيها الوعي بالقيمة المجتمعية للحدث أشد أشكال الوعي تمسكاً بالإنسان وحاجاته.

لقد أدركت القوى التي تزاحمت على هامش الحدث والتاريخ معاً القيمة الحقيقية لهذا اليوم في معادلة مصالحها النقيضة للمشروع الوطني، وكان أن وضعته هدفاً لخيبتها منذ اليوم الاول، وسارت بالحدث في الاتجاه المعاكس لغاياته النبيلة لتوظفه لأهداف غير نبيلة..

لم يغير هذا من القيمة التاريخية للحدث؛ والذين يهربون الى إدانة الحدث، بدلاً من العوامل التي قادت إلى تعثره، إنما هم ضحايا مكر التاريخ ، فمكر التاريخ هي هذه العوامل التي تفسد الحدث التاريخي وتنهك عناصره وتحبط أهدافه، ثم تواصل معركتها الخاسرة لتصفية قيمته.

الأربعاء, 15 أيار 2019 02:04

تداعيات إيقاف تحرير الحديدة

 

سيكتشف الجميع أن إيقاف تحرير الحديدة ومنع استعادتها من أيدي الحوثيين كانت عملية خارج المنطق الذي يطالب بانهاء الحرب، فقد قلبت موازين المعركة والامن الإقليمي والحل السياسي رأساً على عقب. وسواء كانت محسوبة سلفاً بهذا المحتوى، أو أنها فقدت عناصر زخمها في مرحلة معينة، المهم هو أنها كانت نقطة تحول سلبية في المسار نحو استعادة الدولة، وما سيؤدي إليه ذلك من تداعيات على أكثر من صعيد..

١- فالمعركة بهذا التحول فقدت الايقاع الذي كانت تتحرك به نحو إنهاء الحرب وتحقيق السلام الذي يتطلع اليه اليمنيون ، حيث تحول المسار العام للمعركة بصورة بدا معها أن الإندفاع نحو استعادة الدولة قد فقد قدراً كبيراً من شروطه ، وكان لذلك أثره في تمكين الحوثيين ، ومن خلفهم الايرانيين، من إعادة بناء استراتيجيتهم القتالية واختيار ميادين القتال بدرجة كبيرة من الإطمئنان إلى أن الجبهة التي كانت تستنزفهم وتشكل المصدر الحقيقي لكسرهم قد تجمدت ، ولم يعد هنالك ما يشكل مصدر إزعاج لهم بعد أن تكفل المجتمع الدولي بحراسة هذا الوضع بإعلان السويد، وعلى النحو الذي شاهدناه في الرحلات المكوكية للمبعوث الأممي بحثاً عن وسيلة لإقناع الحوثيين بالانسحاب من ناحية ومساومة الشرعية والتحالف من ناحية أخرى ، واجتماع اللجنة الرباعية ، وأخيراً الاعلان عن إعادة الانتشار من طرف واحد في بادرة لم يشهدها العالم منذ أن أسس القانون الدولي تشريعاته في فك المنازعات ، مع تجاهل الطرف الآخر في التسوية بتلك الصورة التي راح أحد المسئولين الأممين فيها يردد بدون إكتراث من "أن الحكومة اليمنية ستنفذ إلتزاماتها عندما يطلب منها ذلك" ، غير مكترث للاعتراضات التي اعلنتها الحكومة .

٢- وما شهده بحر العرب، وفي المياه الاقليمية لدولة الامارات العربية المتحدة الشقيقة ، من تفجير للسفن السعودية ، وتبجح ايران ووكلائها ممن لمحوا وصرحوا وأعادوا تصريحات ظريف ، التي أطلقها في أمريكا بشأن أن الحرب "ستشمل الجميع" ، هي واحدة من تداعيات هذا الوضع الذي نشأ في الحديدة باعتباره مكسباً ذا قيمة جوهرية للمشروع الايراني ، رغماً عن كل ما تردده الدبلوماسية العالمية ذات الارتباط الوثيق بالوضع في اليمن من تطمينات . لا بد أن نعترف أننا خسرنا من أيدينا أهم عنصر في معادلة القوة والمواجهة مع المشروع الايراني في هذه البقعة من ميدان المعركة الواسع ، وإزاء هذا الوضع لن يقف هذا المشروع بزخمه الذي اكتسبه من هذا التحول الخطير في النطاق الجيوسياسي الذي تدور فيه المعركة ، ففائض القوة التي وفرها له تجميد معركة الحديدة نقلته الى أفق أوسع ، موظفاً الذرائع الناشئة عن صراع إيران مع الولايات المتحدة الامريكية لأسباب ظاهرها المشروع النووي وباطنها إعادة صياغة التحالفات الاستراتيجية في آسيا والشرق الاوسط مع ما توفره روسيا والصين والهند من ديناميات مقاومة للسياسة الامريكية وما يراود أوربا من مخاوف بشأن مجاهيل السياسة الأمريكية في ظل إدارة ترمب .

٣-وأخيراً يصبح الحديث عن السلام الذي يحقق الامن والاستقرار في اليمن في ظل دولة أمنة وقوية ومستقرة ضرباً من الخيال في ضوء ما اسفرت عنه المتغيرات التي أحدثها انتزاع الحديدة من معادلة فرض السلام الذي كان يمكن ان تتشأ عنه دولة بهذا المفهوم، فما الذي يا ترى يجعل الحوثيين يقبلون الان بمثل هذ الدولة وقد كانت متاحة بمخرحات الحوار الوطني وهم في هذا الوضع الذي جعلهم يتحدثون عن إعادة انتشار من طرف واحد؟

الأحد, 12 أيار 2019 23:29

عصارة جنون مقرف


١-ما هي الشروط التي توفرت حتى يعاود الحوثي محاولة الإختراق نحو الجنوب من نفس الجبهة التي تلقى فيها هزيمته الأولى عام ٢٠١٥؟

٢-كانت جبهة الضالع، آنذاك، هي المحطة الأولى التي كسر فيها الحوثيون في هجومهم جنوباً. في هذه الجبهة عرف الحوثيون معنى الهزيمة لأول مرة منذ أن خرجوا من صعدة معلنين حربهم على اليمن واليمنيين، مدشنين أسوأ كارثة بقرار طائش سيسجله التاريخ باسم جماعة عنصرية أغرقت اليمن في الدم، وأدمت كل محاولات العيش والتعايش بسلام بين أبنائه.

٣-ظلت هزيمة الحوثيين في الضالع تشغل حيزاً واسعاً في العقلية العدوانية للحوثيين، وظلت الضالع، بامتدادها الوطني جغرافياً ، وبالبعد النضالي التاريخي المشترك والمتجذر في المشروع الوطني الذي شكلت هذه المنطقة أحد روافعه الأساسية ، محط إهتمام وعمل منظم ،وتفكيك ممنهج ، باستحضار كل العوامل التي تم تجنيدها لإعادة بناء المشهد على النحو الذي أصبحت آلياته تعمل على نحو موائم لمعاودة الهجوم في هذه الجبهة.

٤- وكان أن تجمدت جبهة الحديدة بعد أن تدخل العالم على نحو تعسفي، باسم الوضع الانساني، متجاهلين حقيقة أن منح الحوثيين المزيد من الفرص لمواصلة الحرب هو الذي ينتج الكارثة الانسانية على نحو متزايد.

٥- وشكل قمع حجور والبيضاء حالة من المعنوية التي أعطت زخماً لهذا الطيش الذي رمى بثقل بشري وعسكري ليس له أفق واضح في منطقة لا يمكن أن تكون من الناحية العسكرية مساراً لهدف عسكري أكبر سوى الإنتقام منها على امتدادها الوطني ، وكسر مكانتها في منظومة المقاومة التي تصدت وتتصدى لمغامراته الدموية العنصرية.

٦- ورغم أن ذلك محال، في ضوء ما أثبتته الأيام الماضية، إلا أن الحوثيين استفادوا من حالة التفكك التي مهدت لهذه المغامرة ، وهي حالة ما كان يجب أن تسود على هذا النحو في منطقة يدرك جميع أبنائها على اختلاف مشاربهم السياسية والاجتماعية القيمة الوطنية لمقاومة هذا المشروع الذي يستهدف الجميع.

٧-لا أشك لحظة في أن هذا المشروع، الذي يتخبط من جبهة الى أخرى في محاولة للتنكيل باليمنيين قتلاً وتدميراً، قد استنفذ آخر أوراقه بحساب ما يسعى إليه من حكم اليمن، أو إقامة الدولة الطائفية فيه، ولم يبق أمامه سوى الانتحار على أسوار المقاومة الرائعة التي تصدت وتتصدى للحملات العسكرية التي تعيد إلى الذاكرة الوطنية الجرائم التي ارتكبها الإمام المتوكل اسماعيل بن القاسم بن محمد ضد اليمنيين وما أورثه من تاريخ أسود.

٨-لقد خان الحوثيون مشروع التوافق السياسي وغدروا بمشروع الدولة الذي كان كفيلاً بوضع اليمن على طريق الاستقرار والتطور الاجتماعي، ولم يكن ذلك غير استدعاء لهذا التاريخ بحمولته التي أدخلت المأساة إلى كل بيت من بيوت اليمنيين.

٩-لا يمكن لمن يقود هذا المشروع التدميري إلا أن يكون عصارة الجنون المقرف لمنظومة الحكم السلالي بشخوصها وأدواتها ودوافعها التي أبقت اليمن ضعيفاً متخلفاً وعرضة للتندر فيما أصابه من هوان على أيديهم.

الخميس, 02 أيار 2019 20:38

الجنوب

 

يتردد ذكر الجنوب هذه الأيام من قبل البعض على نحو أصبح فيه مرادفاً لطيش الحوثيين الذي يتوزع على كل اليمن.

يتم ذلك بصيغ إعلامية-سياسية تحاول أن تكرس الحوثيين كقوة في الوعي المجتمعي كعلامة على ما أصاب البعض من إحباط لما وصل إليه الوضع : الحوثيون يتقدمون نحو الجنوب ، الحوثيون يحاصرون قعطبة ، احتلوا مريس، الحوثيون يتجهون نحو العند ، يحاصرون الصدرين .. الحوثيون يطوقون الضالع من كافة الجهات ، يقتربون من جحاف، اقتحموا الازارق ، الحزام الأمني والجيش الوطني يفرون من أمام الحوثيين ، الحوثيون مصممون أن يمضوا رمضان في يافع .. الحوثيون على مشارف المسيمير ،الحوثيون احتلوا الفاخر ، العند في مرمى الحوثيين .. الحوثيون دمروا مقر التحالف بالدرونز، الجنوب في خطر إلخ.. إلخ!!

وعلى فكرة هذا مش إعلام الحوثي،

صرعات الاحباط ، أو الحنق ،أو التمني ، سمها ما شئت، لا تترك أمام البعض فرصة حتى لحماية الذات من السقوط الذي لا يستطيع معه الانسان أن يفسر سقوطه حينما يرتد إليه وعيه.

الحقيقة هي أن الحوثيين يسرحون ويمرحون في المناطق التي يسيطرون عليها منذ اليوم الاول لإنقلابهم في قتال من الكر والفر مع القوى الحية والشريفة التي حملت على كاهلها مقاومة هذه العصابة.. يتزامن ذلك مع حركات استعراضية من قبل الحوثيين تفتقر إلى الحد الأدنى من الاحترام لقيمة الانسان وهم يسوقون بالترهيب والترغيب تلك الجموع من الجائعين والخائفين ، معظمهم أطفال، إلى الجبال والشعاب الموحشة في تساوق مع ما أطلقة أحد مرجعياتهم ذات يوم وهو يتلذذ بدماء اليمنيين التي كانت تسيل في حروب الصراع بين أئمتهم (الحجرة من القاع والدم من رأس القبيلي).

وبدلاً من دعم هذه المقاومة الباسلة ، والوقوف إلى جانبها ، حتى بالكلمة ، يتم تضخيم حركات الطيش الحوثية لخلق بيئة تتوافق مع حاجتهم إلى تعظيم هذه التفاهات التي يصنعون منها بطولات.

لا يحتاج الحوثيون اليوم إلى إعلام خاص بهم يقوم بهذا التعظيم لاستعراضاتهم وطيشهم طالما أن هناك من يقوم بذلك نيابة عنهم بدوافع لا تخلو من حسابات تفتك بكل جهد يسعى لترميم الصدوع التي تملأ جدار مقاومة المشروع الحوثي - الايراني.

من هذه الصدوع تأتي هذه الاصوات التي تقرع طبول انتصارات الحوثيين وتحركهم نحو الجنوب فيما يبدو وكأنه التبشير بالشيء الذي انتظروه طويلاً . في حين يأتي من الطرف الآخر ، وعبر نفس الصدوع ، الصوت المقابل ، والذي على نفس الشاكلة يفسح للخديعة أن تلقم المشهد بهذا التعظيم لخطر الحوثيين بالحديث عن تحالفهم ، أي الحوثيين ، مع قوى من داخل الشرعية لغزو الجنوب ، وتكتمل حلقة المهزلة التي استطاع الحوثيون أن يخترقوا بها الجميع في حين تكون آمال الحوثيين في التمسك بمكاسبهم القديمة قد سقطت وشبعت سقوطاً.

ما أشد وقع الكارثة حينما تتسع الصدوع في جسم الجدار المقاوم لهذا المشروع الخطير لتتسلل منه هذه الأمراض التي تستهلك رصيد المقاومة وتضحياتها.

الأحد, 28 نيسان/أبريل 2019 18:25

بيان اللجنة الرباعية


إذا لم تستطع اللجنة الرباعية، لأسباب تتعلق بطبيعة مهمتها ، أن تدفع بتسريع الحل للوضع في اليمن بإدانة الطرف المعرقل وأن تكشف دوافع العرقلة ، فعلى الأقل لا تساهم في تغييب القضية اليمنية وأسبابها فيما تصدره من بيانات.

البيان الأخير لاجتماع اللجنة الرباعية المنعقد في لندن والذي صدر يوم أمس السبت ٢٧ابريل ٢٠١٩ غيب القضية اليمنية تماماً ، وتحدث عنها كما لو أنها صراع ثانوي بين طرفين وأغفل الاسباب الحقيقية للمشكلة.

صياغة البيان بالشكل الذي تم فيه الفصل بين الصراع اليمني- اليمني باعتباره أساس المشكلة، وما تتعرض له اراضي الجوار من انتهاكات من قبل الحوثيين ، وهي الانتهاكات التي تتم ضمن خطة مزدوجة الاهداف ، فهي من ناحية تعكس الطبيعة العدوانية للمشروع الذي تحمله الجماعة ، ومن ناحية أخرى تهدف إلى تضليل الرأي العام العالمي بأن المشكلة خارجية ، نخشى أن يكرس ما يذهب إليه الاعلام الحوثي ومناصريه من أن الصراع يمني -مع دول الجوار، وهي المسألة التي ظل الانقلابيون يعملون على ترسيخها كمحاولة لتغييب أصل المشكلة.

تكريس المسألة على هذا النحو يجعل الحكومة اليمنية كما أعتقد، وهذا رأي شخصي، تضع سؤالاً أمام حلفائها في معركة المصير مع المشروع الايراني في المنطقة عن الحدود التي سيتوجب علينا فيها أن ندرك معاً مخاطر هذا المشروع على أي حل يأتي به سلام هش لا يضع مستقبل اليمن بيد أبنائه، ويبقيه رهناً لتقسيم طائفي بغيض.

الاجابة على هذا السؤال هي محور فهم العلاقة بين الحكومة اليمنية والاشقاء في التحالف عندما يتعلق الأمر بتنسيق خطوات الحل القادمة.

 

١-الحرب والسلام عملية متداخلة، لا يمكن فصلها عن بعض، وخاصة حينما لا يكون الطرف الآخر في هذه العملية صاحب مشروع سياسي تتوفر لديه شروط مفاوضات جادة ، ويكون نفسه قد انقلب على المشروع السياسي بقوة السلاح.

٢-لسنا بحاجة إلى القول إن الحوثيون مشروعهم في الاساس عنصري كهنوتي، أي أنه بنظرهم مشروع "مقدس" لا يتجزأ، ولا يحوز التفاوض عليه، ومن ثم فهو مشروع إقصائيي تسلطي، أدواته بطبيعتها عسكرية قهرية. أصحاب هذا المشروع لا يمكن بطبيعتهم أن يقبلوا بأن يستوعبوا في إطار وطني، لأن "الوطن" لديهم منفي كقيمة علياء من قيم العيش المشترك، وهم يعملون على إجتثاث "الوطني" من مفهوم الدولة ليسهل فرض مشروعهم.

٣- نفي "الوطني" في مشروعهم يتضخم بالمدى الذي تكون فيه عنصريتهم قادرة على التمدد بقوة السلاح والايديولوجيا الكهنوتية التي تنشئ مفهوماً تسلطياً للحكم، ولذلك فإن السلام عندهم مرتبط إرتباطاً عضوياً بسيطرتهم، لا بالعيش المشترك مع غيرهم في إطار مشروع وطني يحقق الحرية والامن والمواطنة والحياة الكريمة للجميع.

٤- طبيعي أن يكون خطاب الدولة خطاب سلام، لا خطاب حرب، وبطبيعة الحال فإن الدولة التي تحمل مشروع السلام والعيش المشترك والمواطنة هي التي أنضجتها الحياة بعد تجارب مريرة من أنظمة العنف والغلبة، لكن لا يمكن لها أن تنتصر لمشروع السلام هذا إلا بقوة تستعيد فيه نفوذها وتحميه من المشاريع العنصرية الكريهة، وخاصة بعد أن أثبتت الأيام أن الركون على مفاعلات القيم النبيلة في تثبيت قواعد وأسس دولة المواطنة والقانون دون قوة كافية لحمايتها لن تكون أكثر من داعية للفضيلة في حانة تختزل فيها الفضيلة في جملة واحدة وهي "عربدة أقل".

٥-كل التجارب مع جماعة الحوثي، بدءاً من البحث عن مشروع للحياة والسلام والعيش المشترك والمواطنة ، مروراً بما تخلل الحرب التي فجروها لنسف هذا المشروع التاريخي ، حتى إتفاق ستوكهولم، إصطدمت بحقيقة أن هذه الجماعة هي نقيض كلي لقيم الدولة، ولقيم التعايش، أي أن تكوينها وأيديولوجيتها طاردان للدولة، لسبب واحد وهو أن التراتبية الكهنوتية بما توفره من شروط الهيمنة للمرجعية الطائفية تلغي المساحة بين الطائفة المتنفذة والدولة، أي أن مشروعها "مقدس" غير قابل للتفاوض كما قلنا، وهذا يعني أنها لا تفاوض إلا عندما تتعرض لضغوط من نوع ما، حتى إذا ما توفرت لها شروط التحرر من تلك الضغوط عادت إلى الحرب باعتبارها الطريق الذي لا يمكن لها أن تسلك سواه لتقرير خياراتها النهائية والتي تتعارض مع بناء دولة المواطنة.

٦- الدولة تتصرف بمسئولية، وحتى تصريحاتها لا بد أن تعكس هذه الروح المسئولة باعتبار أن الحرب هي خيار هذه الجماعة ومشروعها العنصري. والمسئولية في كل الأحوال ليست خيار الضرورة، لكنها خيار التاريخ حينما يتصدى له المؤمنون بقضية بناء الدولة التي توفر الحياة الكريمة لكل "المواطنين".

٧- اليوم وبعد كل هذه التجارب، وما يشهده الوضع على الأرض من تغيرات ناشئة عن تجميد المعارك الكبيرة ، وكيف استغل الانقلابيون ذلك ليحركوا آليتهم العسكرية لقمع المقاومة والانتفاضات في مناطق سيطرتهم وما دونها من أرض كانت قد تحررت بمقاومة أبنائها الابطال ، لا بد من التأكيد على أن هذه المعارك الصغيرة مع الانقلابيين الحوثيين لا يمكن مواجهتها إلا باستعادة العمل باستراتيجية المواجهة الشاملة مع لانقلاب.

٨- لا يجب أن يترك الامر على هذا المنوال الذي يختار فيه الانقلابيون معاركهم من حيث المكان والزمان وتحديد طبيعة ومستوى المعركة، ويختارون في ضوئها السلام الذي يروق لهم.

٩- الحرب خيارهم.. والسلام هو خيار الدولة. هم يحمون خيار الحرب بالحديث عن سلام لا يؤمنون به من حيث المبدأ، وعلى الدولة أن تحمي خيار السلام بما يتفق والحاجة إلى فرض هذا السلام واستعادة الدولة.

١٠- بوجود الاستراتيجية الشاملة للمواجهة تشكلت جيوب مقاومة وطنية في مختلف المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، وعندما توقفت المعارك الكبرى تفرغوا لقمع المناطق التي كانت حاضنة للمقاومة. وبحساب وضعهم المعنوي، الذي تعرض لإنهيارات ملحوظة بعد أن تمكن الجيش الوطني في جبهة الساحل الغربي من تحرير كامل المنطقة وصولاً إلى مدينة الحديدة، فقد جعلتهم هذه المعارك، على ما قدم فيها من تضحيات، يستعيدون المعنويات ويوظفونها في الحشد القسري وفي المزيد من القمع على كافة الأصعدة.

١١-أمام هذا الوضع لا بد من إعادة رسم استراتيجية المواجهة مع عصابة لا تعنيها الدولة في شيء وذلك على قاعدة المواجهة الشاملة حتى لا يصبح تجميد الجبهات الاساسية مكافأة تعطيها القوة الكافية لخوض المعارك الصغيرة وعلى النحو الذي يمنحها إنتصارات تستعيد بها معنوياتها المنهارة.

الجمعة, 19 نيسان/أبريل 2019 19:33

سينتصر "بنا" لتاريخه وبتاريخه الوطني

 

كنت كلما أصل إلى مفترق "يريم" قادماً من صنعاء في طريقي إلى عدن أتوقف في المفترق لأقرر أي الطريقين أسلك .

كثيراً ما كانت تدفعني مشاعر قوية تجعلني أحول مقود السيارة نحو يسار الطريق المتجه نحو "بنا" على الرغم مما يمنحه طريق سمارة من متعة للمسافر، بمناظرها البديعة، وشواهقها التي تطل على أودية عميقة تحجبها السحب في كثير من الاحيان.. يأخذك الطريق بروعته والذي تتصالح فيه المتعة والخوف، فلا تشعر إلا وانت في "الدليل"، ليبدأ حوض إب الواسع بكل ما يزخر به من طبيعة وبنيان .

ولكن، حينما يتوجب عليك أن تختار طريق السفر جنوباً نحو عدن، غالباً ما يكون ل"بنا" طعم مميز ونكهة خاصة.

بمجرد أن تبدأ لوحة "خاو" بالظهور على قارعة الطريق يكون ذلك إيذاناً ببدء الرحلة على طريق صنع التاريخ على حواشيه معالم لا يمكن أن تزول من الذاكرة.

على طول الطريق الذي يتوزع بين السهل والجبل لا ترى بلدة أو قرية إلا ويسكنها صديق ممن يشكلون جزءاً من لوحة العمر بكل ما سجل عليها من أحداث، وحينما تتذكر المزيد من الأصدقاء تضطر أن تذهب بخيالك إلى ما وراء الجبال المحيطة بالوادي حيث تنام ذكريات لقاءات لا يزال طعم "السبايا" في الصباح الباكر يوقظ في الروح مشاعر لا يمكن للايام أن تمحوها.

لا تذكر ثورة سبتمبر إلا وذكر معها حوض "بنا" بمناضليه ومبدعيه وقادته، ولا تذكر الحركة الوطنية إلا وكان "بنا" المخزن الهائل الذي تدفق منه الرواد الذين أكسبوا الحركة قوة الصمود في مواجهة الاستبداد، ولا يذكر العمران إلا وكان أبناء هذه المنطقة في الطليعة، ومعه يأتي الصوت القادم من قلب الوادي:

في سبيل اليمن ثرنا وضحينا

وانتصرنا لصوت الشعب والثورة

هذا الجسم الحي الذي شكل على الدوام الجناح الذي حاول أن يحلق باليمن ليستقر به في المكان الذي يليق به، كم حاولوا كسره، لكنه ظل يقاوم، وكل مرة كان يخرج أكثر قوة وتماسكاً.. ويستمر الوعيد القادم من غبار التاريخ:

وادي بنا والدور عليك واجي

والمسألة بيد حمود وناجي..

الحوثيون اليوم وهم يستلهمون تجارب من سبقوهم في محاولة كسر "بنا"... لن يفلحوا، سيخرج منتصراً بكفاحية أبنائه وما يحملونه على أكتافهم وفي ضمائرهم من وفاء لتاريخهم الوطني.. والأيام بيننا!!

الأحد, 14 نيسان/أبريل 2019 20:07

أسئلة ما بعد سيئون


١-الحدث الذي يثير جدلاً إنما هو دليل على حيويته. فالمواقف المتباينة منه، في إطار المكونات التي تحمل قضية واحدة، لا تعني أكثر من اختلاف في التقديرات لأسباب عدة منها ما تضخه انفعالات الزمن من هواجس تحتاج إلى المزيد من العمل النزيه لبناء جسور الثقة، وهو ما يتطلب عدم الذهاب بهذا الاختلاف إلى القطيعة.

٢- لنأخذ العبرة من الماضي على مدى عقود طويلة من العمل السياسي. في هذا الماضي إختلف الناس واتفقوا؛ وحينما دهمتهم الأحداث، فيما بعد، إكتشف كثيرون ممن اختلفوا أنهم متفقون في الجوهر، وأن المشكلة تكمن في أنهم لم يستطيعوا إدارة الخلاف واستيعاب وجاهة المختلف، لكن الوقت كان قد تغير وتغيرت معه مسارات الاحداث. أما الذين اتفقوا فقد تبين لهم أن إتفاقهم لم يكن متجذراً في بنية من الفهم المشترك لقضايا الاتفاق، وأن دوافع الاتفاق كانت في معظم الأحيان رد فعل لصدمات روضت الكثيرين بعيداً عن قناعاتهم ومساراتهم السياسية، وبدلاً من أن يفترقوا بسلام فقد أورثوا الأرض كوارث أخطائهم مرتين: في الاتفاق وفي الاختلاف.

٣- علينا أن لا نغرق كثيراً أمام ما ينجز اليوم على امتداد طريق طويل من التحديات، حتى وإن كان ذلك مهماً بحساب اللحظة الفارقة التي أشعلت الحاجة إلى مثل هذا الحدث.

٤-ربما كان علينا أن ننتبه إلى حقيقة ذات مغزى وهي أن "المبادرة" التي كان يجب أن تتحلى بها القوى المقاومة للانقلاب ومشروعه العنصري لإنجاز هذ الحدث كانت قد صانعت التسوية بملامحها المُرحّلة من الزمن القديم، ولم تشتبك معها إلا بقواعد ذلك الزمن ذاته. خٰذِلت المبادرة بدورها عند مراحل مختلفة من هذا الاشتباك مما يعني ان الفعل ما كان ليتم لولا هذه التسوية بكل ما رافقها من استحضار لأليات من زمن غير ما يحتاجه الزمن المعاش، وهو أمر، لكي يستوعب، يحتاج إلى قدر كبير من الصبر والتفهم بالطبع، لكنه يظل من النوع الذي يحتاج إلى بيئة ملائمة تحتضنه ليتشبع بروحها، أي أن البيئة السياسية المحيطة يجب أن تشهد تغيرات هي الاخرى لتصبح بيئة كفاحية حاضنة لعناصر هذا الفعل، حتى يتناغم مع متطلبات استعادة دينامية الحراك الشعبي باعتباره عنصراً حاسماً في هذه المعركة.

٥- مجلس النواب في طبعته الجديدة معني بتعميق الحوار كقاعدة لإنتاج أوثق الصلات بين النخب السياسية والناس، وعلى هذا الطريق لا بد أن يستوعب التنوع السياسي الذي أفرزته المرحلة الماضية، وأن يبدأ بالحوار والنقاش مع من تبقى من أعضاء المجلس لإثبات أن هذه الخطوة إنما هي على طريق استعادة الزخم الشعبي في مواجهة المشروع الانقلابي الكهنوتي.

لا يجب إعلان القطيعة، خاصة وأن المجلس يتكون في الاساس من القوى التي تجمعها مصلحة مشتركة في مواجهة هذا المشروع بعد أن رتبت الحياة هذه الحقيقة بقوانينها الموضوعية وأعادت الارادة الخاطئة إلى المسار الصحيح، مما يعني أنها لا تزال في حاجة الى المزيد من الحوار والتفاهم، ولا بد من التعاطي مع بعض الحالات بقدر من الحكمة وبعد النظر حتى لا يتسع "الوسط" الذي سيشكل في نهاية المطاف حاجز حماية للانقلابيين رغماً عن إرادة الكثيرين في حالة القطيعة.

٦- ليكن هذا الموقف تعبيراً عن التمسك بالمضامين السياسية للعملية التاريخية التي مثلها الوفاق الوطني والحوار في أهم مفاصل العمل السياسي، حتى تصبح مواجهة القوى التي خانت وانقلبت على التوافق الوطني عنواناً يؤصل لنشوء مرحلة جديدة من مراحل العمل السياسي تجسد الاستجابة للارادة الشعبية بالمعنى الذي لا تبقى فيه النخب منفصلة عن الناس حينما يتعين عليها أن تأخذ الخيارات المصيرية.

٧- إن قيمة أي خطوة سياسية وشعبية في هذا الظرف ستتوقف على إسهامها في بناء جبهة المواجهة ضد الانقلاب، وتوفير مناخ شعبي لمحاصرته، بما في ذلك إكساب المعركة بعدها الشعبي الذي سيعجل باستعادة المبادرة على أكثر من صعيد.

٨- سيحكم على أي حدث من هذا النوع إنطلاقاً من هذه الحقيقة بعيداً عن انفعالات الرضى أو عدم الرضى التي نجترها وراءنا كعربات محملة بهموم الماضي، أو حسابات مستقبل ليس لنا فيه خيارات كثيرة في هذا الوضع الذي يحاصرنا فيه سؤال كبير هو: ما العمل؟

٩- لا شك أن سؤالاً على هذ القدر من الأهمية يحمل في طياته أسئلة كثيرة ذات قيمة خاصة في احترام إرادة الناس حينما يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية، هذه الاسئلة يجب أن تتم الاجابة عليها في قلب هذه الاصلاحات وكجزء منها ، حتى لا تبدو وكأنها عناوين متفرقة ، وتكون الخطوة الحاسمة هي إكساب المعركة بعداً شعبياً، وهذا لن يتأتى إلا بإصلاح الجبهة السياسية ضمن رؤيا سياسية - كفاحية تشاركية، وسيكون الحديث عن تكتل سياسي لدعم الشرعية بهذا العنوان ملتبساً حيث يبدو وكأنه يضع حاجزاً بين الشرعية وبنيتها السياسية، المفروض أن التكتل السياسي هو الوجه السياسي للشرعية، إن مهمته لا تقتصر على الدعم لكنه عنصر أصيل في هذه الشرعية الدستورية والشعبية والتوافقية الوطنية.

 

الاشتراكي نت/ كتبه – د. ياسين سعيد نعمان

 

عندما كان اليأس من مواجهة الإستبداد السياسي يلجم اليمنيين ويضعهم خارج دائرة المواجهة كانت تعز هي المكان الذي تخرج منه الكلمة المبشرة التي يستعيد معها اليمنيون المبادرة وتحريك الفعل المقاوم لغول الإستبداد .

 

في أقنية المواجهات الثورية مع الاستبداد تجذرت جسور التواصل مع الحرية ، ونمت روابط مع المدنية في صيغتها التي أخصب فيها الفعل الثوري بالكلمة ، وما أعظم الكلمة حينما يملؤها الإيمان بقوتها في هزيمة الطغيان .

حملت تعز معها هذا المشعل المبشر بالحرية إلى كل اليمن ، غير أن ذلك لم يكن محل ترحاب من قبل قوى الهيمنة . أخذت هذه القوى تستعد للمواجهة مع تعز ، وفي محطات مختلفة كان قمع تعز يعني فيما يعني هدم جسور التواصل مع المتغيرات الثورية المبشرة بمستقبل يسوده العدل والقانون والمساواة .

عندما كانت تقمع تعز كان الحاكم في المركز يطمئن ويعيد ترتيب أوراقه ، وأهم ورقة من بين هذه الأوراق هي أن تبقى تعز مقسمة بعصبيات سياسية وإجتماعية ومذهبية . وكان أسوأ ما تخلف عن هذا الموروث هو أن تعز كانت أكثر المناطق اليمنية التي أخذت فيها النخب السياسية تحول الإنتماء السياسي إلى "جزر "مفرطة في الاختلاف مع الآخر ، لدرجة أصبح الانتماء السياسي فيها أقرب إلى العصبية منه إلى الإنفتاح والتفاهم والتعايش، وهو أمر مناقض تماماًً للبشارة التي ظلت تعز تحملها لليمن بأكمله .

شحنت تعز بهذا اللغم الكبير ، وتوزعت مفاتيح تفجير اللغم على أكثر من يد من أيادي الهيمنة القديمة والحديثة .لا يوجد حل لما يجري في تعز غير أن تعترف نخبها السياسية بحقيقة أن الحالة العصبوية التي آلت إليها التكوينات السياسية لا بد أن تنتهي ، وأن تغادر الجزر التي احتشدت فيها وتخرج إلى ساحة مفتوحة تستطيع فيها أن تقرأ بوضوح مكانتها في خارطة الصراع والمواجهة التي يمر بها اليمن ، وأن تسحب مفاتيح تفجير اللغم من الأيدي المهيمنة بدوافعها المختلفة ، وأن تعيد ترتيب تموضعها بما يتناسب مع الدور الوطني والتاريخي لتعز .

 

 

مع تطاول الازمة اليمنية ودخولها العام الخامس منذ أن سيطرت المليشيات الحوثية على صنعاء وانقلبت على الشرعية الدستورية والتوافق الوطني في خريف عام ٢٠١٤، أخذ الوضع السياسي المقاوم للانقلاب يتفكك بخطاب محتقن باليأس والتشكيك والملاعنة .

هذا الخطاب منقسم على نفسه ، وهو وإن بدا أنه تعبير عن حالة من التراجع المعنوي الذي رتبته أمور عديدة ، كتلك التي بدت مغايرة لما كان يجب أن يكون عليه وضع الائتلاف الذي تصدى ويتصدى للإنقلاب العنصري الغادر ، إلا أننا يمكن أن نقرأ من بين ثناياه عدداً من الأفكار التي يجب إعادة بنائها بشكل هادئ بعيداً عن الانفعال أو التحدي المناقضان لصخب هذا الخطاب ، وما يحدثه من تفكيك وارباك على كل الأصعدة .

وبداية لا بد من التأكيد على أننا أمام أزمة مركبة بأبعاد سياسية - إجتماعية تم جرها إلى الوضع الذي غدت فيه أزمة وطنية بمضمون يتداخل ويتشابك بقوة مع المشروع الطائفي الذي صمم بموجب استراتيجية إيرانية هدفها دفع المنطقة برمتها إلى كارثة الانقسام الطائفي ، بما يرتبه ذلك من صراعات وحروب داخلية لا تنتهي .

بعد هذه السنوات من المواجهة يطرح السؤال الاول الجوهري وهو لماذا استطاع الحوثيون إعادة صياغة معادلة الصراع لتلتحم بالمشروع الطائفي الايراني على نحو لا يترك أي إمكانية لحل سلمي يستعيد المشروع الوطني لبناء الدولة ؟

للاجابة على هذا السؤال لا بد من التطرق إلى جملة العوامل التي أبقت الوضع في حالة من المراوحة التي كرست إستقطاب الازمة في إطار هذا المشروع الطائفي تساوقاً مع ما يسعى الانقلابيون على تحقيقه من نتائج . فالحوثيون يعتمدون في سيطرتهم على ما تحت أيديهم من البلاد على عدد من العوامل الأساسية :

١-القمع وحملات البطش والتصفية في الجزء الذي يسيطرون عليه من البلاد وخاصة المناطق الحية : تعز ، البيضاء ، الجوف، دمت ، الحقب ، الحشاء، وأخيراً حجور ، مع كل ما قدمه رجالها ونساؤها من بطولات هي مثال على ذلك . ويتجه الحوثيون في نفس الوقت إلى إشعال الفتن والصراعات بين القبائل وتزويد أطراف الصراع بالسلاح والمال ، وهي سياسة قديمة لشغل الناس وإلهائهم واللجوء إليهم لحل النزاعات .

٢- تدافع عوامل الانقسام الطائفي ، الذي تقوده إيران في المنطقة ، لتشكيل حالة من الاستقطاب المتجاوز لحدود الجغرافيا-السياسية جعل من الحوثيين إمتداداً دينامياً لهذا المشروع ، حيث بات الدعم المادي والمعنوي الذي يتلقونه من البؤر التي تعمل على نحو طائفي ضمن المشروع الإيراني في المنطقة عنواناً لإرادة "لا يجوز أن تنكسر" على حد تعبير أحد منظريهم .

٢- إستمرار حالة اللا حرب واللا سلم ، مع قدر من المواجهات هنا وهناك والتي تشتد حيناً وتخفت حيناً آخر ، واستخدامها من قبلهم للتضليل الداخلي ومواصلة التعبئة لمواجهة " العدوان" بتعبيرهم ، بما يوفره لها ذلك من مناخ لتكريسه باستخدام عامل الزمن كأحد محددات كسر الناس وتطبيع الانقلاب في هذا الجزء من البلاد الذي يقع تحت أيديهم .

٣- التناقضات التي تعيشها الجبهة الواسعة من القوى التي إئتلفت لمقاومة الانقلاب واستعادة الدولة ، وأخفقت في إيجاد "الحامل السياسي" للمقاومة كإسناد طبيعي للشرعية التي تجسد السلطة المعترف بها داخلياً وخارجياً .

٤- الجانب الانساني المتدهور ، والذي أخذ يوظف على نحو "منافق" لدفع المجتمع الدولي إلى الضغط بقبول الانقلاب كأمر واقع ، يكون من نتيجته تسوية يخرج منها الانقلابيون وقد حققوا مشروعهم الطائفي .

٥- تداخل جملة من العوامل التي لا يمكن إهمالها حينما يتعين أن ننظر إلى الخارطة السياسية للمشكلات التي رتبتها سنوات من حكم نظام كان سبباً في تكسير المشروع الوطني على النحو الذي انتج أكثر من مشكلة في آن واحد .

٥- تشوش الرؤيا من مخاطر المشروع الإيراني في المنطقة بسبب الخلافات التي عمت المنطقة ، وهو ما ترك آثاراً سلبية على الجهد الذي كان يجب أن ينتهي بصياغة استراتيجية واضحة لحماية الدولة الوطنية على صعيد المنطقة وتطويرها بما يؤسس لتكامل سياسي واقتصادي وأمني يحمي مصالح شعوبها ويحافظ على ثرواتها ومقدراتها وأمنها الجيو سياسي .

إن العامل الأشد تأثيراً من بين جملة هذه العوامل هو ذلك المتعلق بالتناقضات التي تعيشها الجبهة الواسعة من ائتلاف القوى التي قدر لها أن تتحمل مسئولية مواجهة الانقلاب والتصدي لهذا المشروع .

لسنا بحاجة إلى القول أن هذه التناقضات قد وصلت في المرحلة الراهنة إلى درجة ملحوظة من الخطورة التي لا بد من التوقف أمامها بشيء من المصداقية لبحث أسبابها والإجابة على أسئلة هي من صميم إصلاح هذا الوضع وتجاوز إشكالياته .

لا يكفي أن نواصل لعن وشتم هذا الحال والتنديد به دون الخوض بجدية في تدارس الأسباب الحقيقية التي أدت إليه ، كما أن البحث عن ضحية ، كما قلنا أكثر من مرة، لن يغير من الأمر شيئاً سوى أننا نكرر السير في الطريق الذي تعودناه حينما تشتكل علينا الأمو وتتعقد . فبدلاً من تفكيك المشكلة لمعرفة أسبابها الذاتية والموضوعية فإننا نختار أقرب "سايلة" لنرمي فيها أوجاعنا وهمومنا .

نحن أمام وضع يطرح أمامنا أكثر من سؤال ، فإلى جانب السؤال السابق يبرز سؤال آخر مكمل له وهو : هل هناك من يعتقد أن الحوثيين سيوافقون على عقد سلام ينهي إنقلابهم ويمنع قيام الدولة الطائفية التي يسعون إليها دون تغييرات جوهرية على الأرض؟

الإجابة بكل وضوح هي "لا" ، إذا لم يتغير الوضع على الأرض ، وهو الوضع الذي صنعوه بالقوة !! الحوثيون يعملون على مستويين : السيطرة الكاملة ، أو الدولة الطائفية التي ستشكل بالنسبة لهم خيار التفاوض فيما لو بقيت الأوضاع على ما هي عليه .

المستويين أحلاهما مر.

وهذا يعني أنه لا خيار أمام قوى هذا الإئتلاف الوطني لإستعادة بلدهم ودولتهم ومستقبلهم سوى أن يتمسكوا بهذا الائتلاف الواسع مع كل كل ما يعتوره من إشكاليات ، والنظر بجدية فيما يمكن إصلاحه من أعطاب في آليات عمله ، وإكسابه ديناميات الفعل القادر على إنتاج شروط أفضل للعمل .

إن الخطاب الراهن يشوش المشهد بأكمله ، ولا يسمح بالبحث الجاد في إصلاح الخلل بعيداً عن الحسابات الجاهزة ، والمواقف المعززة بالانحيازات السياسية المجردة .

ومع ما يرافق ذلك من دوافع لتحويل الصراع الرئيسي إلى صراعات جانبية فإنه لا يدل ، في أحسن الأحوال، على إدراك حقيقي للتداعيات التي سينتهي اليها الحال في حالة استمراره على هذا النحو .

لقد بات هذا الخطاب ، على ما به في كثير من الأحيان من حنق وحرص وغيرة ، مثار قلق ، فمن شأنه أن يفضي إلى تكريس حالة اليأس وتبيئتها في الوعي الاجتماعي كأحد شروط تطبيع الانقلاب والذي سيؤدي بالنتيجة إلى تكريس خيارات للحل تضع اليمن على مسار لن يفضي بها إلا للمزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار .

ماضي اليمن ،البعيد والقريب ، مليء بالألغام .. في كل زاوية وفي كل ركن من هذا الماضي ألغام كفيلة بنسف كل فكرة عن التصالح والتعايش وبناء دولة المواطنة، بل وتدمير كل من يفكر في ذلك.

عاش اليمنيون حبيسي هذا الماضي الملغوم ، حتى أن كل واحد منهم كان يحمل لغمه الخاص كتعبير عن حجم الالغام التي صنعها ذلك الماضي في حياة اليمن.

ظل الماضي هو الحاضر دائماً، أما المستقبل فقد كان غائباً لدرجة لم ير فيه اليمنيون فرصة للانتقال إلى العصر إلا الوهم فيما يتزين به البعض من ثروات وحياة تتناقض مع البؤس العام ، أو ما يتوشح به غيرهم من وجاهة لا تنبئ بأصالة في السلوك ، أو ما يتنطع به المغامرون من مظاهر مسلحة تختفي وقت الحاجة ، أو ما يتقلده آخرون من "لجاجة" نظرية يموت مفعولها مع آخر حرف فيها .

كان ما إن يفتح نقاش بين الناس ، حتى لمجرد التلهي، إلا وانتصب هذا الماضي المثقل بألغامه ليحول الكلام إلى معركة تضيف المزيد من الألغام ، حتى أن اللغة ذاتها أصابها داء الألغام تلك .. فلا تجد تعبيراً إلا وقد فخخ بلغم أو مفجر تتهاوى معه أبنية من الروابط بين الناس . والأشد هواناً هو أن هذا الماضي الذي ارخي سدوله فوق البلاد لم يترك في الوعي مكاناً للتفكير في غيره .

وفي حين يفاخر اليمنيون بتاريخ عريق من الحضارة والحكمة ، فإنهم لا يجدون في البحث فيه عما ينشط ذاكرتهم بالعصر ، أو يحفزهم على العمل بالإنتقال إلى المستقبل .

ظل الماضي هو حقل الالغام الذي راح يتسع ويتسع ليغطى رقعة الجغرافيا السياسية من أقصاها إلى أقصاها ويصنع حاضراً مليئاً بالبؤس .

وكنا كلما غرقنا في الماضي وأهملنا المستقبل أخذت الألغام تنفجر في وجه البلاد والعباد وتطيح بالأحلام ومعها الامال بمستقبل يعيد وضع البلد في المسار الذي يتحقق فيه الأمن والاستقرار والتقدم .

لم يتمكن اليمنيون من وضع خارطة للخروج من حقل الألغام إلا حينما بدأوا يعيدون بناء الموقف من هذه الرزية داخل وعيهم وتكونت لديهم القناعة بأن الذهاب إلى المستقبل على رافعة دولة وطنية ديمقراطية ، بنظام يقوم على المواطنة ، هو الطريق إلى الخروج من هذا الماضي وألغامه .

كان الحوار الوطني تعبيراً عن القبول بهذه الحقيقة ...

إنتهى الحوار بخارطة للمستقبل بدا معها الماضي بألغامه وكأنه قد بات أثراً بعد عين ، غير أن الجميع لم يدرك أن هناك لغماً كبيراً مرواغاً كان قد تشكل وجرى بناءه بعناية شديدة بصورة مزامنة للدولة الهشة ونظامها المليء بالفجوات . كان الحوثيون هم ذلك اللغم الذي أخذ يتسع مع ضعف الدولة ، ويتعزز من داخلها ، وينبت أسنته في فجوات النظام . ظل هذا اللغم ينتظر إنهيار الدولة ، ولكن خيبته كانت كبيرة بنجاح الحوار الوطني في صياغة عقد إجتماعي جديد لبناء دولة المواطنة ففجر في وجه هذا المشروع الوطني ليحطم الجسر الذي كان اليمنيون قد بدأوا يقيمونه مع المستقبل ، ويغرقوا اليمن ، من ثم ، في الماضي وألغامه ، ويستمروا لغماً يُبنى من بقايا الدولة وحطامها .

الإثنين, 11 شباط/فبراير 2019 17:13

ثورة فبراير..اليمن تاريخ ومستقبل

 

كان اليمن قد أخذ يتجه ، بسبب السياسات الاجتماعية المنحازة لصالح ذوي النفوذ في المجتمع، نحو أن يصبح بلداً للقلة من سكانه، وهو ما جعل التفاعلات الاجتماعية تتجه نحو الصراع والعنف.

ولقد استغلت القوى المسلحة ذات المشاريع الخاصة هذا الوضع لتلتحم بهذا الواقع المتململ ضد الظلم الاجتماعي لتوظفه لصالح مشاريعها الجهنمية. غير أن ثورة فبراير ٢٠١١ سرعان ما غيرت معادلة الواقع باستعادة المبادرة الشعبية وطرحت مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية ونظامها المدني الذي يرتكز على المواطنة والقانون.

لقد كان القاسم المشترك بين كل القوى السياسية والاجتماعية التي اشتركت في الثورة هو تحقيق هذا الهدف باعتباره العامل الحاسم في استعادة الارادة الشعبية المسئولة، دون غيرها، عن النهوض بهذا البلد وتحقيق استقراره وتقدمه .

لقد كانت ثورة في الثورة، كما يقول المفكر الفرنيس ريجي دوبريه، بكل معنى الكلمة ، وستظل كذلك وخاصة وقد أثبتت الأحداث اللاحقة صحة المسارات التي انتهجتها الثورة سلمياً وحققت عبر حوار وطني شامل ذلك العقد الاجتماعي الذي ارتضاه الجميع ليكون خارطة طريق لبناء تلك الدولة.

الذي وقفوا خارج معادلة هذا المسار التاريخي، أو انقلبوا عليه ، هم الذين ظلوا يقاومون بناء الدولة لتسويق مشاريع الغلبة بالاستناد إلى خرافات لا تاريخية سواء في صيغتها الكهنوتية أو الاجتماعية ، وجميعها لم تستوعب أن لليمن مستقبل لا يراه سوى أولئك الذين ارتبط مصيرهم بمصيره ، وخرجوا من أعماقه مسلحين، في مواجهة الصعاب والتحديات ، بحبه وبإيمان لا يزعزعه شك بأن اليمن لن يظل تاريخاً فقط ولكنه مسقبل أيضاً .ثورة فبراير كانت المجس الذي سبر غور المجتمع اليمني وفتش أعماقه ليكتشف العلاقة بين التاريخ والمستقبل في بلد لديه كل المقومات للنهوض رغماً عن كل الزواحف التي تسلقت أعمدة نهوضه لتعيق مسيرته. كل عام وفبراير مجيد.

٦فبراير ٢٠١٩

الأحد, 10 شباط/فبراير 2019 19:57

كسر الانقلاب المهين لإرادة اليمنيين

 

في هذا الوقت العصيب ، تجد النخب السياسية ، المعوّل عليها مواجهة التدمير البشع للدولة الذي تمارسه جماعة الحوثي ، الوقت الكافي للمناكفات واستدعاء الخلافات بعناوينها المتعددة ، وتغرق فيها ، في مشهد لا يخلو من الاستخفاف بما تدبره هذه الجماعة من مصير بائس لهذا البلد.

يعيش الحوثيون اليوم على الفطريات التي تتخلف من المعارك الداخلية لهذه النخب مع كل ما تستولده من تفكيك لجبهة المواجهة.

ولا أعتقد أن هناك من يجهل أن الأحداث ، على النحو الذي سارت عليه، قد أفرزت مشهداً معتماً لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالوضع الذي سيسفر عنه بعد جلاء المشهد ، ما لم ينكسر الانقلاب المهين لإرادة اليمنيين في أهم حلقاته.

ويزيد من تعقيد هذه الحقيقة هو أن الوضع الذي تتخبط فيه هذه النخب ، مع كل ما يعتورها من إنقسامات رأسية وأفقية ، قد أفضى إلى حالة من الارتباك العام لم تساعد على رسم خارطة لمسار الأحداث ، وتحديد ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي ... والتمسك بعناصر القوة في المعركة السياسية والعسكرية وعدم السماح بالمناورة بها أو الإقتراب منها.

المشكلة أن كلاً من هذه النخب ، في أحسن الأحوال ، لا يرى إلا عيوب غيره ، ويرى أن غيره هو مصدر المشكلة ، وذلك في أحسن الأحوال.

وأدى تدهور العلاقات الداخلية ، من منظور يخلو من أي مسئولية إزاء ما يرتبه هذا الوضع من خذلان لآمال الناس العريضة ، إلى تراكم حالة من استنفار العوامل السلبية المحبطة في أكثر الظروف حرجاً لتزيد المشهد عتمة.

ربما كانت هناك أسباب لا يمكن تجاهلها حينما يتعين علينا أن نبحث في تفاصيل المشهد ، لكن الغرق في التفاصيل في مثل هذه الأحوال لا بد أن يبعث على المزيد من عوامل تعقيد الحالة ، والأولى أن يتم التركيز على مسئولية هذه النخب في إنجاز مهمتها التاريخية وهي إنهاء الانقلاب ، واستعادة الدولة ، ووضعها على طريق السلام والاستقرار ، وتسليم السلطة للشعب باعتباره مصدرها ومالكها.

وعلى هذا الطريق ، وإنسجاماً مع متطلباته ، لا بد من أن تسلك مسارات تليق بهذه المسئولية التاريخية.

 

كل الخوف هو أن يأتي إلى الأمم المتحدة جيل من الخبراء يقلبون المفاهيم بشأن دور الامم المتحدة في فك النزاعات الدولية ومواجهة الحروب ويعملون على تغيير دورها إلى رعاية هذه الحروب بمزيد من الاهتمام بتحسين شروطها فقط لدوافع انسانية.

أبرز صور هذا الانقلاب في المفاهيم هو ما شهدته وتشهده الحديدة.

عند النقطة التي كان من المفروض أن تشكل بداية حاسمة لانهاء الحرب يتم تفريغ ديناميات هذه العملية بالحديث بصخب عن الخوف من كارثة انسانية، وكأن اليمن الان في بهجة لن يهدرها سوى تحرير الحديدة من أيدي الانقلابيين.

لقد كان تحرير الحديدة ، وسيظل، خطوة هامة على طريق إنهاء هذه الحرب ، ذلك أن تمسك الانقلابيين بإغتصاب الدولة وتحويل الوضع الانساني الكارثي إلى وسيلة لحماية مشروعهم المليشاوي هو ما يجب على الأمم المتحدة أن تتفهمه جيداً حتى تعيد تصحيح موقفها من الحرب ومن الحل في اليمن في أن واحد.

الكارثة الحقيقية هي في استمرار الحرب ، وبدون أن يكسر الموقف المتصلب والمتعنت للانقلابيين من استعادة العملية السياسية السلمية فلن يكون بمقدار الأمم المتحدة بأدواتها الحالية أن ترعى عملية للسلام ، وكل ما ستسطيع أن تعمله عوضاً عن ذلك هو رعاية الحرب، وهنا تكمن المشكلة.

السبت, 26 كانون2/يناير 2019 18:19

الطغيان الكهنوتي الأحمق

 

لم يكن للقوى السياسية اليمنية أي موقف معارض أو سلبي من إشراك الحوثيين في العملية السياسية من فترة مبكرة ، بل إن القوى السياسية هي التي ظلت تطلب من الحوثيين أن يكونوا مكوناً سياسياً وجزءاً من عملية سياسية شاملة.

الحوثيون هم الذين ظلوا يمانعون ويماطلون بأردية كانت تخفي حقيقة موقفهم الممانع من التحول من جماعة كهنوتية , تشكلت بدوافع ثأرية لما اعتبرته حقها السلالي في الحكم ، الى العمل السياسي . ويوم قبلت المشاركة في الحوار السياسي لم يكن ذلك إيذاناً بإنتقال سياسي حقيقي بقد ما كان محطة تستكمل فيها الإعداد لاطلاق مشروعها اللئيم الذي أغرقت بسببه اليمن في هذه المأساة . وهو ما أثبتته وقائع الحياة بعد ذلك بالملموس.

أن تتحول هذه الجماعة إلى العمل السياسي ، مسألة تتناقض موضوعياً مع طبيعتها ومع بنيتها الاجتماعية والفكرية التي ترفض شراكة الآخر في العمل السياسي . لماذا؟ لأن العمل السياسي ينتج في الواقع شرعية الحكم الذي يرتضيه الناس ، وهم لا يرون أن أحداً سواهم جدير بالحكم من منظور متجذر في بنية فكرية كهنوتية تجرم كل من يتنازل عن هذا الفهم . جماعة الحوثي تعتبر نفسها سدنة هذا الفهم(الحق) الذي يرون أن دونه تدمير اليمن بأكمله.

ترى ما الذي يجعل الحوثيين اليوم يفكرون بالتحول الى العمل السياسي ، الذي يوفر شروط المواطنة التي تؤسس لدولة يمنية يتساوى فيها اليمنيون بنظام يحقق الحياة الكريمة لكل اليمنيين ، ويتم تسوية الخلافات فيه بأدوات سياسية وقانونية؟

لا يبدو في الأفق أن مثل هذا التحول قد استكمل شروط تحققه في أرض الواقع ، فالذين رفضوا العمل السياسي بالامس لم تكن دوافعهم سياسية من ذلك النوع الذي يمكن أن يحمل بأدوات سياسية ، كانت دوافعهم تستمد من طغيان كهنوتي أحمق كان ولا يزال القوة التي تحركهم بعيداً عن كل الدعوات للعودة الى العمل السياسي.

هذا الطغيان الأحمق هو بيت القصيد في معادلة التسوية الوطنية التي سيستهدفها العمل السياسي الوطني، ولا بدمن كسر هذا الطغيان بموقف وطني شامل يتم من خلاله استعادة الوعي بالوطن والمواطنة ، حينها فقط سيتم تمهيد الطريق الى استعادة المضمون الوطني الحقيقي للعمل السياسي بكل مكوناته بما في ذلك الحوثيين.

الإثنين, 24 كانون1/ديسمبر 2018 19:18

ثلاث حقائق رئيسية نحو سلام دائم ومستقر

 

في معادلة الحل السلمي هناك ثلاث حقائق أساسية ظلت تشكل الإطار الاستراتيجي الذي يتوقف عليه تخليص هذه المعادلة من المجاهيل التي تجعل حلها مستحيلاً.

في الطرف الاخر من المعادلة تقف جماعة تحمل مشروعاً لاهوتياً لا ينتسب إلى السياسة في شيء، ومنه تنبثق دوغما لا تقدم للتفاهم مع الاخر غير خيار القوة . ومع ذلك لا بد من فتح آفاق للسلام ،غير أنه لا بد من إستعراض هذه الحقائق الثلاث لندرك المدى الذي ستتسع له آفاق السلام تلك.

الحقيقة الاولى:

إن الذي انقلب على السلام بقوة السلاح لا يمكن أن يأتي مرة أخرى إلى السلام ، إلا اذا استطعت أن تفرض عليه خيار السلام فرضاً ، وأن تسقط خيار القوة لديه ، وتثبت بأن اختياره كان خطيئة لا يجب أن يكافأ عليها ، وإنما يتحمل تبعاتها ، ويعاد للسلام إعتباره كقيمة إنسانية محترمة بما توفره للانسان من شروط لحياة كريمة . وفي هذا الإطار نكرر أنه ليس من الخيارات الصحيحة في شيء أن يتخلى صاحب القضية والباحث الحقيقي عن السلام عن عناصر قوته في المعادلة ، مهما كانت الأسباب والضغوط ، لأن ذلك لن يخدم السلام بالمرة ، وإنما يصب في المتاهة التي يسعى الانقلابيون أن يجروا إليها الأزمة .

الحقيقة الثانية:

إن السلام لا يجب أن يكون تسوية من داخل الامر الواقع الذي يحاول أن يفرضه الإنقلاب كمكون أساسي من معادلة الحل ، بل يجب أن يكون متواصلاً مع العملية السياسية السلمية التي تم الانقلاب عليها . وباعتبار هذه العملية ، مع مرجعياتها الثلاث وشرعيتها الدستورية القائمة ، إطاراً موضوعياً لسلام لا يتوقف عند ذاته أو عند الحاجة المؤقتة للنخب ، وإنما هدفه هو تحقيق دولة مستقرة ومزدهرة ، فإنها ليست شروطاً ، كما تذهب بعض القرارات الأممية إلى تفسيرها ، حينما يتم التمسك بها من قبل الحكومة .. بل هي في صلب عملية السلام.

من هنا فإنه لا يجوز التلاعب بهذه المرجعيات ، بما في ذلك الشرعية الدستورية ، من خلال إعادة بنائها في صيغ ملتبسة لتتضمنها القرارات الأممية اللاحقة وتفقدها قيمتها ، أو تلتهمها ، بتفسيرات مختلفة عن مضمونها.

الحقيقة الثالثة:

هي أن العملية السياسية عملية مركبة كإنعكاس للقضية المركبة .. أي أنها ليست قضية "بسيطة " بمعنى أنها ليست ذات بعد واحد .. فهي قضية بأبعاد متعددة ، وإن شئت فإنها قضية تحمل في باطنها قضايا ومنها القضية الجنوبية . ولذلك فإن السلام لا يجب أن يكون عملية متعالية على المتغيرات السياسية الضخمة التي شهدتها البلاد منذ الوحدة ، وما رافقها من حروب وصراعات ومطالب شعبية وتضحيات تصب كلها في خانة أن التغييب المستمر للارادة الشعبية كان وسيظل الثغرة التي تتسلل منها القوى الغاشمة للاطاحة بأي تسوية سياسية . أي أن عملية السلام لا بد أن تفضي إلى تعزيز دور الارادة الشعبية في تقرير الاختيارات السياسية من منطلق الإنتقال من الحالة النخبوية ، التي كرست خياراتها المعطلة لقيام الدولة وحل المشكلات المرتبطة باستقرار هذا البلد ، إلى الحالة التي يكون فيها الناس حاضرين لتقرير مستقبلهم وتكون لهم الكلمة العلياء في حل مشاكلهم.

الثلاثاء, 18 كانون1/ديسمبر 2018 19:39

الغسيل

 

أي حديث يتعاكس في اللحظة الراهنة مع الآمال التي يعلقها الناس على أي انفراجة تقودهم نحو السلام ، بعد أن وصلوا إلى هذه المستوى من البؤس ، يعد إمعاناً في المزيد من التيئيس.

لكنه يبدو مبكراً أن نتحدث عن إنجازات على هذا الطريق.

كل ما في الأمر هو أن الانقلابيين الحوثيين إعترفوا ، بقبولهم الذهاب الى المشاورات ، بأن قدرتهم على مواصلة مشوار الصلف والطيش قد وصل إلى طريق مسدود ، وأن مخزون المراوغة الذي كانت تعززه القوة التي نهبوها غدراً من دولة تهاوت أمامهم برخاوة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً قد استنفذ.

نتوقف هنا لحظة لنراجع مسار الأحداث لنتبين أن مشروعهم الإنقلابي في السيطرة على اليمن من أقصاه إلى أقصاه قد هزم ، وأن تراجعهم إلى جزء من البلاد ليجعلوا منه رهينة لتفاوضات تمكنهم من فرض مشروعهم الاحتياطي ، الدولة الطائفية ، قد تسبب في دمار البلاد ، دون أن يتمكنوا معه من مقاومة التآكل المستمر لقوتهم ، وزعزعة هيمنتهم التي فرضوها بالعنف على الناس في مناطق سيطرتهم.

في تساوق مع هذا المنهج قاموا بفرز طائفي بغيض تسببوا بموجبه في تهشيم المجتمع على نحو بدا فيه منقسماً انقساماً رأسياً عميقاً ، جزء منه يقمع الجزء الآخر الذي بات مثقلاً بدوافع الانتقام.

أخذوا من موقعهم المهيمن يصنعون أسوأ تجربة في إعادة هيكلة المجتمع ، مصحوبة ببناء أيديولوجي مفخخ بمفجرات كفيلة بتدميز البلاد على نحو متواصل.

كل ما أورثه هذا الوضع هو أنه وضع صانعيه في مأزق وأخذ يستنفذ طاقتهم ، ويهيئ لتفاعلات إجتماعية أخذت تثير أكثر من سؤال حول مستقبل هذه الجماعة التي فشلت في أن تتحول إلى قوة سياسية مدنية يركن عليها في إدارة الدولة ، وكان أن قابلوا هذه التفاعلات الاجتماعية بمزيد من القمع والتسريح من العمل والمطاردة لفئات اجتماعية عريضة إزداد معها بؤس العيش الذي أضحى يعطي مؤشرات بتفكيك الجماعة بدءاً من محيطها الذي أخذ يتسرب ويتآكل على نحو أفزعها ، مما دفعها إلى تسريع الموافقة على مشاورات السلام.

كانت الموافقة هذه المرة محكومة بعوامل ذاتية داخلية ضاغطة هدفها إمتصاص ولو جزء من تلك التفاعلات التي أخذت تهدد سطوة الجماعة بالتفكك ، وشعورهم بأن الحديدة قد ذهبت من أيديهم ، كما أن برنامج المشاورات المعد سلفاً لن يمتد إلى ما يهدد قبضتها ، ولذلك كان عليها أن تأخذ كل هذه العوامل مجتمعة لتقرر الذهاب الى السويد بحثاً عن انفراجات تعزز تمسكها بالانقلاب ، بمعنى أنها ذهبت وهي لا ترى هذه المشاورات غير "غسيل " لكل ما ارتكبته بحق اليمن واليمنيين.

على العموم لا بد من احترام الجهد الدولي الذي أبدى كل هذا الحرص على إنهاء الحرب في اليمن مع تمسكه بمرجعيات الحل الثلاث ، وستكشف الأيام القادمة حقيقة هذه الجماعة التي لديها مفهوم واحد للسلام وهو أن تهيمن ، أو أن ترسم من قبل الجميع كقوة تمتلك الاوراق الكافية لتقرير مستقبل البلاد.

الأربعاء, 12 كانون1/ديسمبر 2018 19:52

اليمن في منظومة أمن الخليج

 

في اللقاء السنوي حول الأوضاع السياسية والأمنية في الخليج العربي الذي استضافته السفارة الكويتية في لندن مساء الاثنين ١٠ديسمبر ٢٠١٨، وشارك فيه الكثير من الكتاب والسياسيين البريطانيين وغيرهم من المهتمين بشأن الاقليم . كانت القضية اليمنية إحدى الموضوعات التي تناولها الاجتماع ، حيث تم تقديم عرض للقضية من قبلنا منذ نشاتها وعلاقتها برفض الحوثيين ومن ورائهم إيران إقامة دولة المواطنة التي تضمن صيانة حقوق كل اليمنيين على قاعدة المساواة أمام القانون كما أقرها مؤتمر الحوار الوطني ، وانقلابهم على ذلك التوافق الوطني بقوة السلاح.

- جذر المشكلة :

أعيد إلى الأذهان التذكير بجذر المشكلة التي يحاول البعض تجاوزها ، أو تخطيها ، بالتركيز على النتائج كما تعكسها الوقائع المستجدة ومنها القضايا الانسانية.

وتم التأكيد على أهمية القضايا الانسانية ، لكنه لا يجوز أن توظف لتمرير الانقلاب على الدولة وعلى التوافق السياسي ، وأن على الاستراتيجيين الغربيين أن يستوعبوا حقيقة الصراع في اليمن ، لأنهم على غير السياسيين الذين يقفزون فوق قضايا المنطقة بتحليلات تتجاهل حاجة بلداننا إلى بناء دولة المواطنة التي لم يستقر الغرب إلا بها بعد حروب إمتدت لقرون . تاريخ الغرب المثقل بهم الدولة الوطنية ونظام المواطنة يتكرر اليوم في بلداننا ، ومن الأهمية ، لمعرفة جوهر المشكلة ، الإعتراف بحق مجتمعاتنا وشعوبنا في أن تخوض نضالها المشروع من أجل هذا الهدف.

لا نريد من أصدقائنا سوى الإقتراب من حاجة شعوبنا إلى مثل هذه الدولة التي تحقق المساواة ، والتي ناضلوا هم أنفسهم من أجلها، وكانت سبباً في إستقرارهم وفي تقدمهم الاقتصادي والعلمي والاجتماعي.

- تجذير المشكلات في بنية أيديولوجية

دينية يعقد الحل سياسياً :

الذين يستصغرون نضالات شعوبنا من أجل قضية كبيرة بهذا المستوى لن يسهموا في حل هذه المعضلة التي يتوقف عليها إنهاء الحروب والذهاب إلى المستقبل بمشاريع تحقق السلام والاستقرار والتنمية .

اليمن نموذجاً لهذا الصراع بين مشروع دولة المواطنة والقانون ومعه السلام والاستقرار والمساواة من ناحية ، والمشروع الانقسامي الطائفي الذي يشكل إمتداداً للمشروع الإيراني في المنطقة من ناحية أخرى .

لا يجب أن يؤخذ الحديث عن المشروع الإيراني وكأنه ، أي هذا المشروع، مفرغ من إنتاج تفاعلات جوهرية تبعث على صراعات دامية بسبب التوظيف غير المسئول لتاريخ كتب في معظمه بصورة خاطئة عن قصد . والهدف منه تجذير الصراع في بنية أيديولوجية دينية يصعب تجاوزها سياسياً . وهنا مكمن المشكلة .

الذين انقلبوا على التوافق الوطني لبناء دولة المواطنة في اليمن يعتقدون أنهم أحق بالحكم لأسباب دينية يحددها ميراث يقوم على النسب والعرق والدم . وهذا المنحى في استثارة هذه العنصرية المقيتة في المنطقة، ومنها اليمن، جاء برافعة التغيرات السياسية الايرانية عام ١٩٧٩، ومعها اشتعلت المنطقة بالمشروع الطائفي الانقسامي .

- علاقةاليمن بدول الخليج:

وفي جانب آخر تطرقت المداخلة الى التجربة التاريخية في علاقة دول الخليج باليمن وهي العلاقة التي لم تنظر إلى اليمن إلا من خلال حاجتها للمعونة الاقتصادية ، في حين تركت اليمن خارج منظومة السياسة الاستراتيجية للاقليم بحسابات أثبت الزمن وأثبتت الأحداث أنها كانت خاطئة من قبل الطرفين ، وتركت فراغات لاستقطابات أضرت بالجميع .

- مباحثات السويد:

وحول مباحثات السلام في السويد أكدت المداخلة على أن الحكومة عملت وتعمل بجدية على إنهاء الحرب والعودة إلى العملية السلمية التي انقلب عليها الحوثيون وذلك بالاستناد إلى المرحعيات الوطنية والاقليمية والدولية التي تؤسس لسلام حقيقي ودائم . وفي هذا الاطار تعمل الحكومة على دعم واسناد جهود المبعوث الدولي مارتن جريفتس من منطلق أنها وحلفاءها لا تبحث عن نصر عسكري، كم أشار البعض، بقدر ما يهمها أن يتخلى الانقلابيون عما أقدموا عليه من حماقة قادت الى هذه الكارثة.

خاتمة :

وانتهت المداخلة إلى أهمية إقامة علاقة بناءة مع اليمن تشكل بدورها ضمانة لتفويت الفرصة على أي محاولة لإختراق أمن المنطقة باستقطابات تضر بمصالح الجميع ، ولا بد من الإشارة إلى أنه الأوان لتصحيح هذه العلاقة التي أثبتت الوقائع والأحداث أنها على قدر كبير من الأهمية الاستراتيجية.

السبت, 08 كانون1/ديسمبر 2018 16:59

ثنائية النرجسية والطيش

لا نريد أن نستعجل النهايات في مشاورات "السلام" على الرغم من كل ما تحمله الظروف المحيطة من دلالات محبطة .

ثنائية النرجسية والطيش لا تجد لها امتداداً سوى في تصريحات وفد الانقلابيين الحوثيين " لا نرفض ولكننا لا نقبل". الخلاصة التي يطلقها الانقلابيون في هذه المرحلة المبكرة من المشاورات، والتي تعكس غياب المسئولية في استلهام حاجة الشعب الى السلام بعد أن طحنته الحرب والامراض والجوع والتشرد.

نرجسية مستندة إلى ميوعة الموقف العام الناشئ عن تفكيك جذر المشكلة ،التي خلقوها بانقلابهم المشئوم، ومحاولة المجتمع الدولي إلباسها ثوباً يستر عورتهم.

طيش لا يمكنهم من فهم الضرورات السياسية والانسانية للانخراط في عملية سلام جادة تجنب اليمنيين المزيد من الدمار والدماء، ولا يستوعبون معه حجم الجريمة التي أغرقوا فيها اليمن حتى يغنموا الفرصة لإعادة بناء موقف إيجابي تجاه هذا البلد الذي خربوه.

ثنائية النرجسية والطيش تختزل كل هذا الجهد لتحقيق مكاسب سريعة.

إذا اعتقدوا أنهم جاءوا من أجل تحقيق مكاسب فقط فانهم واهمون.. يريدون مطار صنعاء ( ومن منا لا يريد فتح مطار صنعاء لإنهاء معاناة الناس) لكنهم لا يقبلون الحديث عن فك حصار تعز، ولا الحديث عن الحديدة، أو الممرات الآمنة لإيصال الغذاء والدواء للناس، ولا المرجعيات التي تنتظم في إطارها عملية السلام وبناء الدولة.

يقفزون إلى الجانب السياسي مرة واحدة بدون معالجة الوضع الأمني والعسكري وموضوع السلاح.. ينطون الحواجز بحثاً عن مكاسب أو فليذهب السلام إلى الجحيم.

أحدهم يقول إن المبادرة الخليجية انتهى زمنها وأن الامور قد تبدلت. من المسئول عن إستغراق الزمن ؟ اليسوا هم الذين انقلبوا على العملية السياسة بقوة السلاح ، وهم بذلك غير مؤهلين بأي صفة كانت لنقد إستغراق الزمن ، أما التبدلات التي حدثت فهي في الحقيقة ما يريد الانقلابيون فرضه على الواقع بانقلابهم ، بمعنى إما أن تقبلوا بنتائج الانقلاب أو أنه لا سلام.

باختصار كل ما يبحثون عنه هو، كما يبدو، مكافأة سريعة لقبولهم المشاركة في المشاورات.. هكذا يتصرفون حتى الان.

 

الثلاثاء, 04 كانون1/ديسمبر 2018 20:24

التاريخ وحياتنا الملتبسة

 

إختار علي عبد الله صالح نهايته ، وصار في ذمة التاريخ.

علي صالح ، كجلاد وكضحية ، هو جزء من تاريخ اليمن المعاصر..

لن يكتب هذا التاريخ من يحبون صالح ، وإن كتبوه فإنما يكتبون حكايتهم دون أن يتجرأ أحد أن يسميه تاريخاً ، كما لن يكون مقبولاً أن يكتبه من عارضوه.

للتاريخ أدواته التي لا تتأثر بالحب أو الكراهية ، وهي أدوات لا يجيدها سوى المؤرخين الأصايل.

لنترك التاريخ يقول كلمتنه في رجل لا يمكن أن يشطب من التاريخ لأن هناك من لا يحبه ، كما أنه ليس ذلك التاريخ المفعم بالزهو الذي يغرق فيه من تبقى من محبيه.

كل ما يكتب اليوم ، ذماً ومدحاً ، لن يفيد التاريخ في شيء.. سيذهب مع الريح ؛ ما سيبقى هو ما يمكن أن يقدمه معاصروه من شهادات موضوعية مسئولة من الواقع المعاش دون زيادة أو نقصان.

هذا إذا أردنا أن يكتب تاريخنا بشكل محترم لنتخطى بؤس الانحطاط الذي أوقعنا فيه التاريخ المزيف.

لم ننكشف على مثل هذا البؤس المعرفي الذي يسم حياتنا إلا حينما تركنا التاريخ ليكتبه الارزقية ، والمتعصبون ، والمنافحون ، والمفلسون ، ووظف لتصفية حسابات سياسية ، في حين أن الأمم لا يستقيم حالها إلا بالمعرفة ..والتاريخ هو نبض المعرفة ، لا باعتباره تدويناً لحياة شخص بصورة مجردة ، بقدر ما هو تسجيل دقيق ومتكامل وأمين لوقائع الحياة في حركتها وظروف وملابسات هذه الوقائع والأحداث، والطريقة التي صنعت بها.

وإذا كان علي عبد الله صالح قد عمل على تسويد تاريخ خصومه ، من موقعه كرئيس ، في الكتب المدرسية وغيرها من وسائل المعرفة ، فلا شك أنه لا أحد يتذكر اليوم شيئاً مما حاول أن يعبئ به وعي الناس ضد خصومه لأنه لم يستطع أن يخترق التاريخ بأطروحات سياسية هشة ، لم تلبث أن أخذت تتبخر مع أول رجة يحدثها السؤال عمن يكتب التاريخ!!

دعوا الرجل ينام بهدوء ، فقد كانت رحلته نحو النهاية شاقة ، خاصة بعد أن تبين له في آخر لحظات حياته أن الحاكم بالنسبة لمعظم من يحيطون به هو مجرد مصلحة فقط ، وبعد أن تحكمت به دوافع الإنتقام ، وأغلظت الحياة ردة فعلها عندما سلمته للقوة الغاشمة التي تحالف معها.

لم نعد في حاجة إلى المزيد من الذم والمدح ، ولنقف مع أنفسنا لنتذكر أن أخطاء الحكم لا يصنعها الحاكم بمفرده ؛ ولذلك وحتى لا تبدو الحكاية وكأن اليمنيين قد وقعوا في فخ "تجسيد" التاريخ في شخص بعينه ، فلا بد من أن نأخذ المرحلة كلها إلى تاريخ منصف يعيد لنا قيمة المعرفة في حياتنا الملتبسة.

١- كلما اتجهنا نحو السلام ، واستعادة العملية السياسية للخروج من الأزمة ، كلما ازداد توحش جماعة المليشيات الحوثية ، مدفوعة بطبيعتها وبنيتها العنصرية المغلقة وأدواتها غير السياسية .

٢- رفضت هذه الجماعة أن تكون جزءاً من نسيج المجتمع ، وتعالت عليه وعلى قيم المواطنة فيه ، وأصرت ، بشكل عجيب ، أن تتحول إلى شيء من الهوام التي يقذف بها التاريخ في طريق تطور الأمم .. لا وظيفة لها سوى إعاقة تطور المجتمعات وإرباك استقرارها والانطلاق من أقبيتها لإشعال حرائق الحروب والصراعات كلما أخذت الدولة تتجذر في المجتمع بقوة مؤسساتها وتعبيراتها الوطنية .

٣- ترفض هذه الجماعة "المواطنة" بدوافع تنشئها أيديولوجية متعصبة وعنيفة واستعلائية ، سبق لها أن حملت هذا البلد بروافع عنصرية دموية كرست التخلف والإقصاء وسفك الدماء والتمزق الاجتماعي.. وفيما لو قدر لها أن تسود من جديد فإن البلد سيغرق في أديم ذلك الماضي الرهيب ، ولذلك فإنه لا خيار أمام اليمنيين سوى حماية أنفسهم من الإنزلاق نحو الارهاب الذي يطل علينا من داخل هذه الأيديولوجية التي تصطخب بمقاربات عنصرية مقيتة من حيث مضمونها الصفوي والإقصائي ، والعنف الذي يشكل أداتها الوحيدة في فرض خياراتها .

٤- اليمن اليوم أمام مفترق طرق يجب التعامل معه بحسم ، وهو أن إستعادة المدن والمؤسسات والمنشئات التي سيطرت عليها مليشيات الحوثي بالسلاح هي مسئولية وواجب الدولة وحكومتها الشرعية .. هذه الدولة هي التي ستسأل عن أي تفريط بإستكمال هذه المهمة الوطنية التي تلتئم معها الدولة لتواصل إنجاز مشروعها التاريخي الذي يتصدره إعادة الاعتبار للارادة الشعبية في بناء الدولة وتقرير الاختيارات السياسية للشعب .

٥- في تحقيق مهمتها تلك لا تحتاج أن تستأذن من أحد ، أو تنتظر موافقة أحد ، كل التجارب الانسانية التي واجهت مثل هذا العبث التي تمارسه مثل هذه الجماعات العابثة لم تترك خيار الحفاظ على الدولة وحمايتها للثرثرة أو المساومة ، فقد كان التصدي للعبث حق مشروع ، وكان من حقها أن تستعين بمن تريد وتستخدم كل الوسائل لإنجاز هذه المهمة .

٦- نحن أمام مجموعة مغامرة وطائشة ، تسعى إلى تهميش وتهشيم هذا البلد العظيم من خلال إغراقه في مشروع عنصري تسلطي مغامر ، لن يفضي سوى إلى تأبيد التخلف الذي شهدناه إبان حكم أسلافهم ممن أغرقوا اليمن في أسوأ أنماط التخلف المريع .

٧- الكاتب المتميز ثابت الاحمدي في مقال له منذ أيام قال إن اليمن لم يعش الجاهلية التي عاشتها هذه المنطقة ما قبل الاسلام ، وكان موفقاً في التوصيف والتحليل ، لكن أقول له بأسف إن اليمن غرق في الجهل ما بعد الاسلام ، بالمعنى لا يبتعد كثيرا عما أشار إليه ، بسبب سيطرة هذا النوع من الحكم المتخلف الذي يسعى هؤلاء اليوم إلى إعادة إنتاجه بدعم نظام إيران الذي كرس نفسه لتخريب جيرانه العرب ، وبالسلاح الجمهوري الذي لم يكن في أيادي أمينة على الجمهورية .

٨- مع هذا الوضع ، الذي لا نرى له نهاية مع هذه المناورات التي تستخدم السلام وسيلة لتمييع الموقف الحاسم من استعادة كل ما نهبه لصوص التاريخ هؤلاء من أحلامنا في بناء يمن سعيد ومستقر لكل أبنائه ، لا بد من التأكيد على أن السلام سيتعثر ،بكل تأكيد، مع هذه الجماعة المغلقة على مشروع إقصائي يتماهى مع الفاشية ، في معناها الذي يتولد من سلوكها العنصري الدموي ، وهو ما يجعل السلام بالنسبة لها خياراً للتلهي والمناورة ليس إلا .

٩- لهذا تصبح خيارات استعادة أجزاء الدولة المصادرة من قبلها ومنها المدن والمنشئات والمؤسسات عملية لا يجب أن تتحكم فيها انتقائية أو مساومة من النوع الذي سيسجله التاريخ على أنه تفريط بحقٍ لا يملك إلا الشعب وحده الكلمة الفصل فيه .

الأحد, 25 تشرين2/نوفمبر 2018 16:32

الغرق في الخرافة بعد عقود من الثورات


بعد خمسين سنة من الثورة يأتي من يغرقنا في خرافة "الولاية " .. وخرافة أفضلية الاستعمار ، وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان.

أتذكر اليوم كلام مدرسة اللغة الانجليزية في ثانوية خورمكسر عام ١٩٦٦ "مسز روبرتسون" وهي تحدثنا عن الثورات يوم أن كانت عدن تشتعل بالثورة،

خلاصة ما تبقى في الذاكرة من كلامها هو قولها من أنكم ستجدون أنفسكم وحيدين لا تعرفون من أين تبدأون ، لن يساعدكم أحد إلا وهو يضمر شيئاً ما.

الغرب سيزايد عليكم بالديمقراطية والحريات وحقوق الانسان ، ولن يهمه كثيراً أن تتحقق هذه القيم أو لا تتحقق في بلدكم، بالعكس قد يقف ، محمولاً بمصالحه، إلى جانب من يقمعون هذه القيم أو يمضغونها للتسلية.

الغرب مهتم بقيم الحرية داخل مجتمعاته باعتبارها التحديات الكبرى التي يستمد منها شرعية الاستقرار السياسي والاجتماعي في بلدانهم، أما في بلدانكم فلن يكون الموقف منها سوى سوطاً يجلد به من يخرجون عن طاعته.

والشرق الاشتراكي بلا مستقبل ، بعد أن تحولت الايديولوجيا التي تحمل هموم الكادحين وأحلامهم إلى وسيلة لتسويق أنظمة قمعية مغلقة.

الثورات في بلدانكم هي عبارة عن حالة وجدانية غاضبة من شيء ما ، لكنها لا تحمل مشروعاً ثورياً يبدأ بتغيير الانسان تغييراً جذرياً.

إذا لم يتغير الانسان بصفات ثورية من ذلك النوع الذي تنتهي معه علاقته الوجدانية بالخرافات التي قمعت مبادرته قروناً طويلة فلا شك أنها ستتمكن منه مرة أخرى مع كل انتكاسة تمر بها هذه الثورات.

نعم ، اليوم نقف أمام حقيقة من حقائق الحياة وهي أن كل ما عملته الثورات هو أنها أنتجت نخباً متعالية على مجتمعاتها ، أو منفصلة عنها ، غير قادرة أن تغوص إلى قلب هذه المجتمعات لتقود التغيير فيها ، حيث بقيت هذه المجتمعات في فراغ تملؤه الإشاعة والخرافة.

أما أن الأنظمة السياسية فقد ظلت تخشى تغيير الانسان تغييراً ثورياً بمفهوم يرتب انتقاله بصورة نهائية الى العلم والمعرفة ... وكل ما عملته وتعمله هذه الأنظمة هو أنها خلقت مجتمعين متنافرين غير متجانسين ، أحدهما يدمن المكتب والتعالي على واقعه ، والآخر يهيم في الشارع وفي همومه ويهيئ نفسه للسلاح واستقبال الخرافة.

وهنا تكمن المشكلة.

الأحد, 18 تشرين2/نوفمبر 2018 17:10

السلام بين "المفارعة "والموقف من الدولة

١- السلام قيمة إنسانية تستحق التضحية والكفاح من أجلها ، فلا تستقيم الحياة بدونها ، ولا تبنى الأمم من غير سلام .

٢- لسنوات طويلة واليمنيون يتطلعون إلى السلام ، وكلما بدا أنهم اقتربوا منه عصفت بهم موجات من الصراعات والعنف والحروب تنقلهم الى مربع الصفر الذي يبدأون منه الحديث عن السلام في مشوار جديد لا يستند على أي تراكم يوفر أفقاً واضحاً لهذه العملية ، أو ينتج قدراً من الثقة تبدد المخاوف التي ولدتها التجارب القديمة الفاشلة.

٣- في اليمن كان السلام يأتي ليوقف حرباً ، أو يفك نزاعاً ، أو يجمد صراعاً دون أن تتجه الأطراف المعنية بعملية السلام تلك إلى الأسباب الحقيقية التي أدت الى الحرب أو الصراع أو النزاع . ويترتب على ذلك أن تبقى أسباب الصراع والحروب قائمة.

٤- وكل ما يتم هو التوافق على تسويات تجمد الخلافات ، والتي لا تلبث أن تعيد إنتاج نفسها في صور جديدة من التناقضات السياسية والاجتماعية على نحو أشد بعد أن تكون قد حفرت في البنى الاجتماعية الهشة مسارب إلى الانتقام والثأرات وغير ذلك من نزعات التغلب التي لا تقف عند حد.

٥- لم تدرك أطراف الصراع ، بما شهدته من ألوان التحالفات وتبدلاتها ، أن السلام ليس قضية معزولة عن حاجة الناس إلى الدولة التي ستنتج الديناميات التي ستحمي السلام ، وتجعل منه قيمة سياسية واجتماعية وثقافية وأخلاقية في مواجهة نزعات الحروب.

٦- السلام بدون دولة تحقق الاستقرار وتوطد الامن وتحفظ حقوق الناس لن يكون غير تهدئة مؤقتة يصاحبها جمود لا يولد أي قدر من ممكنات التوافق على حياة مشتركة خالية من الصراعات.

٧- إن ما يحتاجه اليمن هو السلام الذي تحمله وتحميه دولة مستقرة ، وما لم نتجه بالحل في هذا المسار فإننا سنكرر نفس الأخطاء القديمة التي جعلت السلام مجرد غطاء للموقف السلبي من الدولة والذي أفرز كل هذه الصراعات والحروب .

٨- باختصار لا نريد مجرد "مفارعة" ، وإنما نريد موقفاً من القضية الرئيسية وهي بناء الدولة ، وموقفاً من حق الشعب في تقرير خياراته السياسة لحل القضايا المعلقة ومنها قضية الجنوب .

تعبنا من "المفارعة" بمسميات لا تحمل دليلاً واحداً على معرفة جوهر المشكلة ، وآن الأوان أن ينطلق السلام من جوهر المشكلة .

 

 

رفض الحوثيون كل فرص السلام لأن مشروعهم يقوم موضوعياً على الحرب ، وهو ما يعني أن السلام الذي يؤمن الاستقرار لهذا البلد يتعارض مع مشروعهم.

لن يقبل الحوثيون بالسلام آلا اذا فرض عليهم فرضاً ، ويجب أن يفرض السلام ، لا من أجلهم ، ولكن لانقاذ اليمن.

إن الطريقة الوحيدة لفرض السلام هي النظر إليهم كسفهاء وغير ذي أهلية في تفاوض جاد يقود إلى سلام دائم بعد أن أثبتوا ذلك بالملموس ، ولذلك بالطبع تبعاته التي تجعل إستجداء السلام من سفيه مسألة غير مجدية.

لا يجب التراجع عن تحرير الحديدة كبوابة لصناعة هذا السلام.

عمر الدبلوماسية الدولية ما أنصفت المترددين ، الدبلوماسية تتقاطع في ميدان الفعل مع الارادة الفاعلة في مواجهة الغلط عند نقاط كثيرة ، وكم هي النقاط التي ضاعت معها الفرص في حسم الأمر مع هذاالغلط الذي اقتحم مسار اليمنيين الذي تمثل في نهب الدولة من قبل مليشيات الحوثي حينما طالت الحرب لتنتج هذه المأساة الانسانية التي غطت بدورها على جذر المشكلة ليستفيد منها سفهاء الانقلاب لتمرير مشروعهم.

مشكلة الدبلوماسية الدولية هي أنها ترى شعوبنا غير جديرة سوى بالشفقة مما تعتبره انسانياً بمعاييرها ، وتنسى أن بلدانها لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أن حسمت أمرها من قضية الدولة التي حملتها نحو المستقبل.

نحن هكذا ، وبعد كل هذه التضحيات ، لا يجب أن تكون النتيجة هي التضحية بالدولة التي ستحملنا نحو المستقبل بأمان كبقية خلق الله.

لن تحملنا الدبلوماسية الدولية نحو المستقبل بمعايير الشفقة الانسانية التي تلوح بها في وجه الدولة التي نريد ، والتي يجب أن تتحقق بعد كل هذا الدمار والخراب الذي شهده اليمن .

ليس المهم ما تريده ، أو ما تلوح به الدبلوماسية الدولية ، المهم هو لماذا قاوم شعبنا الانقلاب على مشروع الدولة وقدم تلك التضحيات الضخمة؟؟

السبت, 10 تشرين2/نوفمبر 2018 20:16

التراتبية الاجتماعية الشاذة

كثيراً ما تحدث اليمنيون عن تراتبية إجتماعية في المجتمع اليمني : سادة ، قضاة ، قبائل .

يقف السادة في أعلى السلم ، يليهم القضاة ، وتأتي القبائل في أسفل السلم .

أما المجتمع المدني فيتخبط على هامش هذه التراتبية، لا يجد لنفسه المكان الملائم إلا كملحق يتعين عليه أن يعيش براتب أو بأجر وربما بدخل من تجارة أوخلافه.

حاولت الثورة أن تخترق هذه التراتبية بقرارات تعيد بناء المجتمع بقواعد أخرى، وبقوة التأثير المادي والروحي لمضمون الثورة، وعلاقات وقوى الانتاج، إلا أن هشاشة الاقتصاد، والتراجع الذي قاده نظام متماهي مع تلك التراتبية الشاذة، لم تسمح بتحقيق إختراق كبير في عمق المجتمع، حيث ظل الاختراق هامشياً.

وبسبب هذا الاخفاق ظلت التراتبية القديمة، المحكومة بالعرف المتوارث والمشحون بثقافة عصبوية جامحة بسياسة الغلبة، تنتقل داخل المجتمع بسلاسة، وتنتج بؤرها، وتؤسس قناعات راسخة بهذا التقسيم البغيض الذي شكل أرضية للمغامرين بإعادة إنتاج النظام السياسي الذي يجعل من هذه التراتبية قدراً لليمن.

لن يكون هذا قدر اليمن أيها المغامرون. نعم، استفدتم من الاخفاقات التي مارسها نظام سياسي واجتماعي حافظ على هذه التراتبية التي حملتكم مجدداً إلى الموقع الذي استطعتم من خلاله أن تهدموا مشروع الدولة الوطنية، لكن ما يجب أن تعرفوه هو أن ما تقومون به هو مجرد إعاقة مؤذية لمسار التاريخ في حركته الموضوعية التي لا يمكن أن ترتهن لهذه التراتبية البغيضة، وأن موضوعية المسار التاريخي ستعيده مجدداً إلى صلته بقواعده الحقيقية المتمثلة في الوجود الاجتماعي كما يقررها الواقع الذي سيتطور بأدوات إنتاج مختلفة عن كل الأوهام التي تقسم المجتمع الى سادة ومسودين.

انتبهوا جيداً، واعرفوا أنكم قد سفكتم من الدماء ما يكفي لطمس هذه الخارطة، ومعها مغامرتكم، في وحل يصعب تنظيفه لعقود من الزمن. استفيدوا من فرص السلام وامسحوا من على ظهركم جزءاً من هذا الوحل بالتوقف عن غطرسة رفض السلام والتمترس وراء خيارات تجعل من اليمن بؤرة للعنف وللحروب.

عودوا إلى حقيقة أنه لا يميزكم عن أبناء هذا الشعب أي شيء يجعلكم تطالبون بأكثر مما يستحقه جميع أبنائه، وكفوا عن اعتبار أنفسكم الصفوة التي تنحني لها الرؤوس حتى لا ينظر إليكم كعاهات عفى عليها الزمن فيما لو واصلتم التمسك بهذا الوهم الذي يجعل منكم شيئاً منبوذاً خارج قيم الزمان.

لا تشطحوا فوق الحقيقة التي لا زالت تنظر إليكم كجزء من نسيج المجتمع لتجنيب اليمن المزيد من الكوارث التي تسببتم بها بسبب هذا الوهم الذي جعلكم تنصبون انفسكم أوصياء على بلد عظيم لا يقبل الوصاية من أحد.

تذكروا أن البندقية التي يحملها غاشم غير جديرة بالثقة .

الإثنين, 05 تشرين2/نوفمبر 2018 16:44

المشروع المصلوب فوق خرافتي"الولاية" و"السيد"

 

ما إن أطلق وزير الدفاع الامريكي ، مؤخراً، "مبادرته" للحل السياسي لأزمة اليمن حتى وجد تنابلة الحوثي في ذلك فرصة للحديث بصخب عن الوطن والمشروع الوطني ، على نحو بدوا فيه وكأنهم انزعجوا من حديث الوزير.

لم يكن الصخب الذي أطلقوه حول الوطن والمشروع الوطني سوى مزيج من الفجور السياسي والاخلاقي..

فالمشروع الوطني عندهم هو الخرافة الكبرى التي طوقوا بها التاريخ ليجعلوا منه مُقعداً بلا حراك على كرسي "الولاية"مجهولة النسب ، إلا من بقايا وشم لخارطة جينية لا تقدم أي دليل على توازن عقلي من أي نوع كان.

وأما الوطن ، كما يتجسد في مخيالهم السياسي ، فهو ملحق بخرافة أخرى إسمها "السيد" ، أخذت تنمو مع الوقت في أحضان الخرافة الكبرى ، باعتباره القرين الذي يستلهم منه ناموس الحياة .. وفيه يختزل الوطن ، وتختزل المعاني المرادفة له كالإخلاص والتقديس والتضحية .. وبذلك ، فلا معنى للوطن بدون "السيد"، ولا معنى للمشروع الوطني من دون " الولاية ". وما علي والحسين رضي الله عنهما إلا الرداء التاريخي المقدس الذي يغطي هاتين الخرافتين، والشماعة التي يعلقون عليها المعاول الملطخة بالدم بعد كل دورة دموية يهبون فيها بحثاً عما يعتبرونه ميراثهم في الحكم.

كفوا عن التدليس باسم الوطن الذي أدمته مغامراتكم الصبيانية ، وتوقفوا عن اللغو حول المشروع الوطني الذي صلبتموه فوق خرافة "الولاية"، وعودوا الى الواقع ،والى وقائع التاريخ ،واعترفوا انكم جزء من هذا المجتمع ، لا يميزكم عن أبنائه نسب ولا عرق ولا دم ولا كلام فارغ من ذلك الذي يردده أدعياؤكم الذين ظلوا يحملون معاول تدمير هذا البلد والنبش في تاريخ معفر برائحة الموت.

الثلاثاء, 30 تشرين1/أكتوير 2018 21:41

الخفة في استخلاص الحل من داخل مشهد رديء

١-يراهن البعض على أن قضية استعادة الدولة من أيدي المليشيات الانقلابية ستكون ضحية تسويات لقضايا أخرى مستجدة أو عارضة في المنطقة .

٢- إزداد الرهان مؤخراً بعد حديث وزير الدفاع الأمريكي في مؤتمر البحرين عن تسوية يمنح بموجبها الحوثيون حكماً ذاتياً في مكان ما في شمال الشمال ، وحدود دولية منزوعة السلاح ، وجيش يمني محدود التسليح.

٣- يتخبط هؤلاء المراهنون في حسابات لا تختلف كثيراً عما يروج له الانقلابيون عن صفقات يجري الإعداد لها ، تجعل من إنقلابهم ومصادرتهم للدولة أساساً لحل سياسي شامل بديلاً عن المرجعيات الثلاث التي تشكل الطريق الوحيد نحو سلام دائم باعتبارها أساس بناء الدولة .

٤- إن ما يمكن التأكيد عليه هنا هو أن الخفة التي يتعاطى بها البعض تجاه قضية اليمن ، لا يجب أن تربك الموقف من مسألة بناء الدولة بالمضمون الذي توافق عليه اليمنيون ، لأنها الخيار الأفضل والمتاح لتجاوز هذا المشهد القبيح الذي أغرق فيه اليمن .

٥- مثل هذا المشهد لا يمكن أن يستخلص منه حل لمشكلة اليمن ، إن البحث عن حل من داخل هذا المشهد الذي تَخَلَّق بفعل الانقلاب ، وما قاد إليه من كارثة ، هو إستخفاف بحلم اليمنيين في إقامة الدولة التي تحمي حقوق الجميع ، وتمنع الحروب وتقود اليمن إلى الاستقرار الذي يتحقق معه العودة إلى إرادة الناس لتقرير خياراتهم السياسية .

٥- لم يحدث في التجارب التاريخية أن استخلص من المشهد السياسي الذي تتعطل فيه الفرص وتختلط فيه مخرجات الكارثة ، بما في ذلك عنصر فرض الإرادات الذي يتوزع على جبهة واسعة من الفعل الأهوج المحسوب بحسابات لا تهتم كثيراً الا بالربح والخسارة لأطراف الصراع ، أي حل قابل للاستمرار . لا بد من تجاوز المشهد الرديء والبحث عن حل لمشاكله بإرادة تتجاوز تفاعلات هذا المشهد ومعوقاته .

٦- إن كل الذين يحاولون أن يستخلصوا الحل من داخل المشهد إنما يستخفون بقضية اليمن كقضية متعلقة ببناء الدولة التي هي بيت القصيد في مغادرة هذا المشهد القبيح .

٧- ولبناء الدولة بالمفهوم الذي استقر عليه العقل اليمني في حواره التاريخي ، وخاصة مضمون الدولة ، شروط تتجاوز وقائع هذا المشهد وتأتلف مع نضالات الحركة الوطنية وتضحياتها العظيمة .

٨- لنذكر دائماً كل من يتطاول على الشعب اليمني في أن تكون له خياراته التي تحمله نحو المستقبل بأن قضية بناء الدولة الوطنية ونظامها المدني ليست قابلة للتجزئة أو الترحيل أو عبث الإرادات المستفزة لهذه الخيارات .

الأربعاء, 24 تشرين1/أكتوير 2018 19:01

عمار علي مكنون


علي مكنون قطاعي مثقف محترم.

ولأنه انسان محترم بكل ما تحمله الكلمة من معنى فقد إنعكس ذلك على طريقة تربيته لأبنائه ، وأعرف منهم المهندسة أمل عضو مؤتمر الحوارالوطني، والتي كانت نموذجاً للفتاة اليمنية التي حملت معها إلى المؤتمر حلم تحرير المرأة من كل أشكال القهر والمعوقات التي لطالما أقصتها من معادلة البناء لتبقى مجرد شاهد على بلد تفنن العابثون في تعطيل دينامياته وكل أسباب وعوامل تطوره.

والثاني هو الشاب المثقف عمار الذي ما إن تفتح معه أي موضوع للنقاش إلا وتجد نفسك أمام شاب معرفي واسع الاطلاع ... يجادل بثقة العارف والمطلع الذي يجادل لتزداد معرفته ، وهو أمر نادر حينما يتعلق الامر بأقرانه ممن يوظف ما لديه من معرفة للتعصب.

كان عمار مشروع ثقافي وطني يجسد بموهبته قوة الموقف من حلمه، الذي يرى الكون من خلاله ، وهو العيش في يمن حر وسعيد قبل أن يعتقله الحوثيون منذ ثلاث سنوات ويخفوه حتى اليوم.

منذ ذلك التاريخ ووالده لم يترك باباً إلا وطرقه بحثاً عنه ، وكل ما يلقاه من رد كان دائماً الإهمال والتجاهل.

هذه صورة للتوحش الذي يستهدف جيلاً بأكمله.

الإثنين, 22 تشرين1/أكتوير 2018 19:35

تطبيع المأساة ..

 

١- تتحول الحرب في اليمن يوماً بعد يوم إلى ملهاة بعد أن أفرغت شحناتها في لوحة من الصور الانسانية المروعة ، وبعد أن توقفت عند مفترقات لم يعد يسمح بتجاوزها لأسباب ظاهرها إنساني وباطنها شيطاني.

ويتحول الحديث عن وقفها إلى أضحوكة حينما يتم التغاضي عن جذر المشكلة التي أشعلت الحرب.

٢- بتعبير آخر ، لم تعد القضية اليمنية والحرب يثيران ذلك الإهتمام القديم على الصعيد الدولي إلا في حالتين : حينما يتعلق الأمر بالجانب الانساني ، وحينما يتقدم الجيش الوطني لإستعادة المواقع الاستراتيجية من أيدي عصبة الانقلابيين ، كما حدث ويحدث مع الحديدة . في الحالتين يهب المجتمع الدولي ليتحدث عن السلام فيما يشبه صحوة متخم أوقظ من تعسيلة بعد وجبة دسمة.

٣- بسبب هذا الوضع الذي يراد فيه إدخال القضية اليمنية غرفة التبريد ، فإن توحش عصبة الانقلاب يزداد ليعمق المأساة الانسانية على أكثر من صعيد.

٤- يتجسد جانب من هذا التوحش فيما تمارسه عصبة الانقلاب من سلوك طائش وغير مسئول تجاه عملية السلام، والتمادي في رمي اليمن إلى أحضان تاريخ من الخرافات اللاهوتية المنشئة لمنظومة فكرية وسياسية متطرفة تجعل الحكم حكراً في يد جماعة مجندة للفتنة وسفك الدم بذريعة حقها المزعوم في الحكم ، مع ما يرافق ذلك من قمع لكل إرادة تقف ضد هذا المنحى الغرائبي في الاستيلاء على السلطة.

٥- تتوسع بيئة التوحش تلك مع غياب إستراتيجية متكاملة لمقاومة الانقلاب واستعادة الدولة . ونقصد بالاستراتيجية هنا الفعل الذي يتحدد وفقاً لرؤيا منهجية شاملة ، وليس الفعل الذي يتشكل في سياقات غير متناغمة ، لا تترك مجالاً لخيارات مرنة وقادرة على ضبط إيقاعات المواجهة كلما اختل المسار بفعل تعقيدات الوضع وتداخله مع غيره من القضايا المحلية وقضايا المنطقة.

٦- ومع تزايد معاناة الناس من طول الحرب ، فإن حاصل هذا التداخل بين هذا التوحش والتراخي العام ، الذي يحيط بهذه العملية من عدة وجوه ، قد أفرز حالة من اليأس عند عامة الشعب بإنهاء الحرب ، وما تنتجه من كوارث ومآسي تزداد مع كل يوم يمر لا يحمل معه أي تباشير بالخروج من هذا المأزق.

٧- إن النتيجة الطبيعة لليأس ، في صورته السالبة ، تقود ، في نهاية المطاف ،إلى "تطبيع المأساة" ، وهذا أسوأ ما ستنتجه هذه الحرب من التشوهات التي ستلحق بالمجتمع أخطر النتائج التي قد تمتد لسنين طويلة . وهي لن تبقى عند حدود ما تفعله الحرب من تخريب مادي ، ولكنها تذهب إلى الجانب المعنوي ، حيث يتحول تطبيع المأساة إلى عنصر مثبط للفعل المقاوم لكل ما هو خاطئ في الحياة.

٧- إن "تطبيع المأساة" على هذا النحو يشل القدرة على التفاعل مع عدالة مقاومة التعدي على خيارات الشعب بالقوة العسكرية ، وينذر بمخاطر من ذلك النوع الذي شهدته كثير من الشعوب حينما أخذت الحروب فيها تنفصل عن المجتمع وتكون بؤرها ومصالحها الخاصة ، وأخذت الشعوب تتطبع بقبول القمع والحرب ومآسيها ، وتبحث عن ملاجئ تلوذ بها من جحيم الكارثة.

٨- إن هذا الوضع يَصْب لصالح العصبة الانقلابية المتشبثة بخرافتها التي أغرقت فيها اليمن وأدمته ودمرت مقدراته ، والوقوف في وجه هذه الخرافة البغيضة هي عملية متكاملة في منع "تطبيع المأساة" التي يسعى إليها التوحش الذي تمارسه عصبة الانقلاب ، وهو ما يعني أن الشق الآخر من معادلة التطبيع تلك لا بد أن يستعيد الوعي بأهمية تحريض العقل المقاوم لهذه الخرافة على أكثر من صعيد ، وأن يبادر إلى تعبئة أطراف المقاومة لصياغة استراتيجية شاملة لهذا الغرض بعيداً عما يعتمل تحت مظلتها من أرق الاختلاف.

السبت, 20 تشرين1/أكتوير 2018 17:50

التاريخ المحترم


مرة أخرى المعارك الصغيرة تلتهم المعارك الكبرى..

لا يحدث هذا إلا عند العرب حيث تسود ثقافة " ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا"..

واليمن هي أصل العرب كما يقول صديقنا العزيز عميد السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي سفير الكويت في لندن خالد الدويسان وهو يتأوه حزناً لما أصاب اليمن من كارثة.

اليوم لا يجدي أن نواصل الصراخ عن أننا أمام وضع لا يتسع معه التاريخ المحترم لمعارك من ذلك النوع الذي تصبح معها المعركة الكبرى خرافة تبتلع الحلم بوطن آمن ومستقر.

التاريخ المحترم لا يستحقه إلا أولئك الذين يحددون أولوياتهم بصورة لا تلتبس فيه خياراتهم بما هو أقل من حماية وطنهم من الانهيار ، وحماية الأوطان من الانهيار ليست مهمة نخبوية ولكنها مهمة الشعب كله.

وعندما نقول مهمة الشعب كله فإننا لا ننطلق من مفهوم إنتقائي يتحدث عن الشعب وقت الحاجة .. الشعب يجب أن يكون حاضراً في الوعي السياسي باعتبار مالك السلطة ومصدرها ، واذا غابت هذه الحقيقة عن الوعي السياسي حدثت هذه الفوضى التي تلتهم فيها المعارك الصغيرة المعركة التي تصنع التاريخ المحترم في عملية جدلية هي في الأول والأخير روح الأمم التي ترتحل في مجرى الدم ، جيلاً بعد جيل ، لتخصب الانتماء إلى وطن لا يهان فيه ولا يظلم فيه أحد.

السبت, 13 تشرين1/أكتوير 2018 21:28

بين الفعل الثوري والفعل الثأري

- الذكرى ال٥٥ لثورة ١٤ أكتوبر المجيدة لن تكون مجرد حكاية تسرد على نحو لا يمكن أن تنصف معها التضحيات التي قدمت على طريق انتصار هذه الثورة ، إذا لم نبحث في ما تحمله الحكاية من دروس وعبر .

- التاريخ ملهم لمن يريد أن يتفكر في أحداثه ويتدبر أمر متغيراته .

- في اليمن يستبد بِنَا الحدث التاريخي الذي يشعل فينا الحماسة كتعويض عن الانكسارات التي تعقب ذلك الحدث في اللحظة التي يتعين علينا فيها أن نبحث عن أسباب الانكسارات لنتخطاها ، ونكاشف أنفسنا وأجيالنا عن الحقائق بأسلوب ثوري يبرر إحتفاءنا بالثورة .

- لو لم يتبق من الثورة سوى هذه المكاشفة الثورية لأمكننا القول إن الثورة لا تزال زاخرة بعوامل ديناميكية تتجدد بها عند كل انتكاسة ، وأنها لا تزال حاضرة في وجدان الناس وثقافتهم ، وأن ما تعرضت له من تحديات لم يكن سوى صورة من صور التدابير الخاطئة التي ستواصل الثورة تسوية مسارها من خلال تصحيحها .

- لكن أخطر ما يصيب الثورة من انتكاسات هو أنه عندما يصبح الحماس الذي تشعله الذكرى غير موصول بالوعي والثقافة الثوريين اللذين لا تنتقل الثورة عبر الأجيال إلا بهما. وأنه وبدونهما ، وخاصة عندما لا يتأسس في الأرض واقع صلب يشي بأن حراكاً ثورياً قد مر ذات يوم من هنا ، فإن الذاكرة في هذه الحالة لن تستطيع أن تربط الأجيال بعجلة الثورة مما يهدد بفقدان الذاكرة نهائياً بعد أن تتحول الى مجرد طقوس لا تحمل غير معنى واحد وهو " الإنتكاسة" .

- في غمرة هذا الحدث العظيم يجب أولاً أن نتذكر الشهداء الذي سقطوا على درب الحرية ودفاعاً عن حلمهم في البناء والتقدم الاجتماعي . ومن هذه النقطة علينا أن نتبين حقيقة هذه المسألة التي غمرتها الصراعات وأخرجتها من دائرة التفاهمات الوطنية التي كان يفترض أن تسود وهي أن هؤلاء الشهداء كانوا ينتمون الى كل التيارات الوطنية ، وكان هدفهم واحد بالرغم من التنوع السياسي الذي طبع لوحة الثورة في مبناها العام وأدى إلى قدر من الاختلاف في الرؤى ، لكنه ليس الاختلاف الذي يشكل تناقضاً حاداً في الموقف من الهدف الاساسي للثورة ، وكانوا بذلك عنواناً مشتركاً للارادة الوطنية التي حملت لواء الحرية .

- باستعادة هذا المشهد الذي انعكس بعد ذلك في صراعات لم تنته يتبين لنا كم كانت الايديولوجيا الطاردة للتفاهم الوطني لهذه القوى الحاملة لمشعل الحرية قوة سلبية في المجرى العام للثورة .

- لم تسمح بأي حوارات بين هذه القوى ، بل كانت ،بمنطق اليوم ، الخندق الذي لاذ به الجميع كل من موقعه في الخارطة السياسية ليقصي الآخر .

- هناك من أقصى ، وهناك من عانى من الإقصاء، وهناك من عاد ليقصي .. وتكررت دورات الاقصاء ، ولم تعد في الهزيع الأخير من دوراتها أيديولوجية بقدر ما كانت ثأرية .

- تنتهي دورات العنف والاقصاء إلى حقيقة مفادها أن العنف والاقصاء في الحياة السياسية قد أساءا الى الوطن والى الثورة وإلى دم الشهداء ، وخربا الفعل الثوري البناء وحولاه إلى فعل ثأري هادم .

-لا يبدو أن الجميع قد تعلم من هذه الحقيقة التي غرق فيها بلدنا ... واذا لم نتعلم الان فمتى سنتعلم ؟

كل عام والجميع طيبون في ذكرى أكتوبر المجيد !!

الإثنين, 01 تشرين1/أكتوير 2018 19:59

سقوط القلعة الأهم


- بسقوط الريال تكون قلعة من قلاع الصمود الوطني قد سقطت ، ويكون الانقلابيون بذلك قد استكملوا إغلاق الحلقة الشريرة التي حشروا فيها البلاد برؤيا انتقامية ممنهجة لا تخطر على بال.

- كان صمودالريال قد شكل حائطاً يستظل به البسطاء ممن أفقرتهم الحرب وسياسة استبطان الظلم ، وكان سنداً لأولئك الذين تقطعت بهم السبل بحثاً عن ملاذ للهرب من عاديات لا ترحم .. لكنه اليوم ، وقد سقط من جملة ما سقط من قلاع أمام زحف فاجعات الزمن الرديء ، فإن جميع هؤلاء باتوا مكشوفين على ما هو أسوأ من الكوارث ... فهل إلى تجنب ذلك من سبيل؟

- ناقشت منذ يومين صديقاً مقرباً من أحد مستشاري البنك المركزي حول موضوع تدهور سعر العملة الوطنية وأسباب عدم القدرة على صياغة سياسة نقدية تخفف من المشكلة ، ولا نقول حلها ،في ظل الظروف الحالية، لم أجد في الحديث الذي تبادلناه ما يبشر بأي معالجات جادة لهذا الوضع المأساوي سوى أن الجميع يقلب معادلات أكاديمية أكل الدهر عليها وشرب بحثاً عن حلول لمشكلة يصنع الجزء الأكبر منها الانقلابيون بإصرارهم على مواصلة منهج الحرب لما يوفره هذا الوضع من ظروف لمواصلة المهزلة التي يمارسونها في المضاربة بالريال بواسطة شبكة واسعة من ذوي الضمير الميت ممن يتكسبون من معاناة الناس بشراء الدولار وغيره من العملات من الاسواق بأسعار خيالية لا يحكمها أي ضابط من ضوابط السوق المعروفة.

- فالأموال بالريال التي بيد هؤلاء تعود في الاساس الى المصادر التي تجبى خارج إطار الدورة المالية والنقدية التي يشرف عليها البنك المركزي وهي ضخمة لدرجة لا تقل عن ٤٠٪ من حجم النقد المتدوال ، ( تشكل أموال شركات الاتصالات جزءاً هاماً منها) ، وهي التي تضخ الى سوق العملة بواسطة تلك الشبكة من المضاربين لشراء الدولار والنقد الأجنبي عموماً .. مع ملاحظة أن المضاربة هنا لا تتم لغرض الاستيراد وإنما لتهريبها الى خارج البلد والتوظيف غالباً في شراء العقارات والاستثمار الخاص.

- قد لا يكون بمقدور البنك المركزي أن يضع المعالجات الكاملة التي تكفل منع هذا التدهور السريع ، لكن بمقدوره أن يتابع هذه الاسباب ليعرف الناس أين تكمن المشكلة ، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتخريب الذي تقوم به شبكات واسعة للتكسب على حساب المواطن المسكين ، وبمقدوره لذلك أن يعالج جزءاً هاماً من المشكلة.

- لا أدري أي ضمير يحمله هؤلاء الذين يبحثون عن الثراء على جثث مواطنين يطحنهم الجوع والفقر.

- المشكلة غدت بحجم كارثة لا يمكن أن تبقى موضوع مداولات بين أجهزة لا تتوفر لديها القدرة ولا الأدوات المناسبة لمواجهة مشكلة بهذا المستوى من التفاقم المريع ، وهي بدون شك أوسع من هذه الأجهزة وأكبر من مجرد ضخ نقدي الى جسم إقتصادي متهالك ومنقسم ويتحكم بالجزء الأكبر منه الانقلابيون المنتجون للمشكلة.

- في جزء كبير من المشكلة هي شبكة مصالح أنانية لا يحكمها حد أدنى من الأخلاق ، ويقودها أناس تجردوا من الدوافع الانسانية التي تربطهم بهذه الارض سوى ما تبعثه فيهم نزعات التسلط من دوافع لمراكمة أدوات النفوذ لفرض خيار الأمر الواقع.

- مغادرة حالة اللاحرب واللاسلم هي الخطوة الأولى نحو تجنب الانهيار الشامل الذي تتربص به مجاعة لن ترحم.

الانقلابيون الذين وجدوا في هذه الحالة المائعة وضعاً مثالياً لتنفيذ مخطط إسقاط الدولة عن بكرة أبيها هم العنصر الأهم في هذا التخريب النقدي الذي تفاقم كأداة لتكريس الانقلاب تحت ضغط الوضع الانساني المتدهور.

- لسنا في حاجة إلى تكرار ما قلناه أكثر من مرة من أن مواجهة الانقلاب واستعادة الدولة لا يحب أن يقتصر على عنصر واحد من عناصر المعركة ، وإلا فإن الجميع سيحاصر بمثل هذا الوضع الانساني الذي سيفرض شروطه.

الإثنين, 30 تموز/يوليو 2018 16:40

عدن بين البحر واليابسة


في صيف عام ١٩٦٦ خرجنا مجموعة من طلاب ثانوية خورمكسر بعدن إلى ميناء البواخر بالتواهي نودع أستاذ الادب الانجليزي بالمدرسة آنذاك السيد " ماكايفر" وهو أسكتلندي الأصل، ونقل الى عدن من "فيجي آيلند" قبل ذلك بعامين.

منذ وصوله إلى عدن والمظاهرات والإضرابات العمالية والطلابية لا تتوقف ، وكانت الثورة تتصاعد في صور عدة من الاعمال السياسية والشعبية والعسكرية.

تعرض ذات صباح وهو في طريقه الى المدرسة لشغب من قبل بعض المتظاهرين ، تحطم بسببه الزجاج الأمامي لسيارته.

جاء بعد الحادث إلى المدرسة ، وهو بشخصيته ذات الهيئة العسكرية ، وكان متماسكاً ، وأخذ يمسح بمنديله بقايا الدم الذي كان يسيل من جرح فوق حاجب عينه اليسرى . هرعنا إليه نسأله عما حدث . تبسم وقال : كان علي أن أقوم بدور أحدب نوتردام لأتجنب الحادث ، ما حدث لي ليس له علاقة بالثورة ولكنه على علاقة بالشخصية التي ظهرت بها أمام المتظاهرين .. رأوني في شخصية محتل ، وكا يفترض أن أجعلهم يروني في صورة مدرس أو معاق " . كان يضحك ، ويمسح الدم من على جبينه ، وكنا في غاية الاحراج.

بعدها بشهر جاء وقت رحيله ، كان ذلك قبل عام من الاستقلال ، فقد سرعت الحادثة موعد مغادرته عدن ضمن القوائم المعدة للسفر لأسباب أمنية . خرجنا الى الميناء الذي سيستقل منه الباخرة لتوديعه.

في لحظة التوديع قال كلاماً كثيرا في وصف عدن وعن مشاعره.

كانت هناك باخرة ضخمة تحمل سواحاً في طريقهم إلى استراليا قد رست على الفور في الميناء ، وأخذ السواح ينزلون منها إلى القوارب التي تقلهم إلى الرصيف في مشهد تزين فيه البحر بألوان الملابس التي كان يرتديها السواح والقبعات التي يعتمرونها.

نظر الاستاذ "ماكايفر " إلى السفينة وما أحاط بها من منظر وقال : كل ما أتمناه هو أن علاقة عدن بالبحر لا تخربها علاقتها باليابسة ".

لم نفهم يومها هذه العبارة .. لكن بعد سنوات طويلة أدركت المعنى الذي قصده ذلك الاستاذ الطيب وكيف تغلبت اليابسة لتذهب بعدن بعيداً عن عذوبة البحر.


- لم يخيب الحوثيون كل التوقعات بأنهم لن ينسحبوا من الحديدة ولا من مينائها، وأن الالتزامات التي قدموها للمبعوث الأممي لم تكن سوى مناورة لكسب الوقت ، وكسر مسار العمليات العسكرية بمزيد من الضغوط الدولية . هذا ما أسفرت عنه زيارات المبعوث المكوكية إلى صنعاء.

- لم يكن مطلوباً التفتيش قي نوايا الانقلابيين لمعرفة هذه الحقيقة . يكفي أن نستعرض التجارب الماضية ليعرف العالم أن التسويف كان وراء عدم تنفيذ أي إلتزام يقدموه للمجتمع الدولي ، وأن التحذير من ذلك لم يكن تجني ، أو أنه من غير أساس . جبلوا على المراوغة لأسباب تتعلق بطبيعة المشروع الفاسد الموكل إليهم تنفيذه وأسلوب إدارته المتداخلة مع حاجة نفس المشروع في ساحات أخرى ، ومركز إدارته طبعاً في طهران.

- يكفي أن نشاهد أنه أثناء الفترة التي علقت فيها الحكومة وتحالف دعم الشرعية العمليات العسكرية في الحديدة إستجابة لطلب المبعوث الدولي لمواصلة مشاوراته بتحقيق الانسحاب من المحافظة سلمياً تجنباً للمزيد من الدمار ، كان الحوثيون يزرعون الألغام ويفخخون الميناء والبحر ويهاجمون ويتسللون ويفجرون لاستعادة المواقع التي دحروا منها ، ويطلقون الصواريخ الى المناطق المأهولة وعلى ناقلات النفط في الممرات الدولية ، ويتحدثون عن تفجير طائرات بدون طيار بصورة عشوائية مصحوبة بحملات إعلامية وضجيج لا يضاهيه إلا ضجيج وخطابات قائد الحرس الثوري الايراني الذي ظل يعلن بصريح العبارة أن البحر الأحمر لم يعد آمناً.

- أعتقد أن محصلة التجربة الماضية ، وحتى الآن ، تقدم الدليل الكافي على أن إغراق اليمن في هذه الحرب هو قرار إيراني نفذه الحوثيون ، وهدفه في الأساس تجميع أكبر قدر من الأوراق بيد النظام الايراني لتوظيفها إقليمياً ودولياً لإعادة تكريسه كشرطي للمصالح الدولية في المنطقة على غير ما يبرزه الخطاب الاعلامي للنظام من خلاف مع هذه المصالح.

- وفي حين يعمل هذا النظام على إعداد نفسه كشرطي ، فإن دوائر إمبريالية أوروبية تعمل على إبقائه "كبعبع" بهدف استنزاف وابتزاز ثروات المنطقة ، وما نلاحظه من تخبط في السياسة الدولية وانقسامات تجاه هذا الدور إنما هو ناشئ عن المراوحة بين الخيارين.

- إيران لا تريد أن تبقى مجرد بعبع يتكسب الآخرون من ورائها ، لكنها تريد أن تلعب دور الشرطي ، في استدعاء مُلفت لمشروع الشاه المعروف ، ولكن بأدوات أخرى لا صلة لها بالقوة الذاتية ، وإنما بتخريب الأنظمة المحيطة واشاعة الصراعات والحروب الطائفية فيها عبر وكلائها المحليين ، وتصبح التسويات مع كلائها في كل دولة على حدة وسيلتها للسيطرة على جزء من القرار المحلي والإقليمي.

- لا خيار آخر غير أن يهزم هذا المشروع في اليمن ليبقى اليمن لأهله جميعاً كمواطنين بدون تراتبية حمقاء مغرقة في تقسيم الناس بين سادة ورعية ، ويلتحق بعمقه العربي الذي يؤمن للمنطقة الاستقرار بعيداً عن دور الشرطي والبعبع.

- التسوية مع هذا المشروع باقتسام القرار ستكون خطيئة كبرى ، ستبقي اليمن بؤرة للحروب والاستقطابات وعدم الاستقرار .. وسيرتب هذا النوع من التسوية إذلالاً لمشروع الدولة الوطنية والشخصية العربية عموماً في المنطقة . وعلى الحوثيين أن يختاروا بين دولة المواطنة التي تؤمن لليمن واليمنيين جميعاً السلام والاستقرار ، وبين هذا المشروع الفاسد الذي يوهمهم بالسيادة على اليمنيين بكل ما يحمله من خراب وفاحشة.

- لا يحتاج الأمر إلى ذكاء لمعرفة المسار الذي يجب أن تتجه إليه الأحداث بعد كل هذا ، كل ما في الأمر هو أن ترمم الشروخ في جدار القرار المقاوم والتي يتسلل منها بعض الهواء الملوث.

الإثنين, 23 تموز/يوليو 2018 18:41

الحرب والأزمة وتكوينات ماقبل الدولة


- سيجد الجنوب نفسه في مسار خرافي إذا ما تخلى عن مدنيته التي اكتسبها مع الزمن وكانت سبباً في وحدته .

- لا يجوز أن يفكر الجنوب ، أو أي جزء من اليمن ، بعد هذا المشوار الطويل من الصراع والمعارك والتضحيات من أجل بناء الدولة المدنية أن يعود إلى إحياء تكوينات ما قبل الدولة كتعبير عن حالة الاحباط التي تسود المجتمع ليبدو وگأنه أمام خيار مقبول للعودة إلى ما قبل الدولة .

- في كل الاحوال لا تقدم الاستعانة بهذه التكوينات لمواجهة تحديات ظروف فشل الدولة فرصاً جوهرية للنجاح وخاصة حينما تجسد العودة إليها إعترافاً على نحو خاطئ بأفضليتها على الدولة .

- هناك حلقات وسيطة تكونت في المسار العام لبناء الدولة ، وهي منظمات المجتمع المدني ، لا يجب إهمالها عندما يتعلق الأمر باستعادة المبادرة للخروج من المأزق السياسي ، حتى وإن كانت في حالة الضعف التي هي عليه.. وهي في الجنوب حاضرة في الوعي الاجتماعي رغم كل المحبطات التي يمر بها .

- التكوينات الاجتماعية لما قبل الدولة ، وخاصة القبيلة والاسرة والعائلة ، هي جزء أصيل من الهوية التاريخية لأي شعب أو أمة . وهي لا تبقى على حال . تتطور وتتبدل بفعل ما يصيب المجتمع من تغيرات اقتصادية ومادية وعلمية وثقافية .

- مع تطور المجتمع يصبح الفرد منتمياً إلى تكوين أوسع من الاسرة ومن العائلة والقبيلة .. مع ما يرتبه ذلك من التزامات وواجبات تجاه الشكل الاجتماعي الجديد . ومع تطور المجتمع تكون الدولة بمؤسساتها وقوانينها ونظمها هي الأرقى في تمكين الفرد من ممارسة حياته الطبيعية دون أن ينفي ذلك انتماءه الاسري أو القبلي . لكن تصبح الدولة ونظمها هي معيار وإطار المواطنة والانتماء إلى الأمة والشعب وليس التكوينات الاخرى.

- ما يحتاجه الجنوب ، واليمن عموماً ، هو التوجه نحو الدولة دون أن نمكن تكوينات ما قبل الدولة من أن تعيد إنتاج نفسها كبديل أو كمعادل لهذه الدولة.

- في ظروف الحرب وتدهور أحوال الدولة تنشأ بعض الحاجة إلى هذه التكوينات للحماية الذاتية ، خاصة مع قصور وضعف منظمات المجتمع المدني ، ولكن يجب أن نتجنب أن توظف هذه الحاجة لأمور تتعلق بالدولة لان ذلك سيقود إلى حالة من التخبط والصراع والتناقضات التي يفترض أن المجتمع قد تجاوزها بعلاقاته وتركيبته المتداخلة . فاللجوء إلى هذه التكوينات لأغراض تتجاوز هذه الحاجة لا يسرع عملية إفشال الدولة فحسب ، ولكنه يؤجج الصراعات بموجب خارطة الدم وما يضخه ذلك من اشكاليات لا تحسمها إلا الدولة.

- الاسرة ، العائلة ، القبيلة هي تكوينات طبيعية وامتداد للدولة ، وهي مختلفة عن غيرها من التكوينات الأخرى مثل الإثنية والعرقية والانقسامات الطائفية ذات المنحى الديني والتي تعد أكثر خطورة على الدولة من حيث ما تمارسه من تأثير وممانعة على إندماج الدولة . ولذلك فإن تكوينات الاسرة والعائلة والقبيلة تظل تحمل وداً للدولة باعتبارها إمتداداً لها ، ومع ذلك لا يجوز المجازفة بتوظيفها في لحظة ضعف الدولة على أي نحو كان إلا في الحدود التي تؤمن الحماية لمنتسبيها.

- لا يجب التعاطي مع هذه المسألة بتذاكي أو باستهانة ، فالحالتين ستجران الجنوب خارج مشروع الدولة الذي يشكل بالنسبة له صمام أمان من التفكك.

- تداعيات الحرب والازمة ستنتج معادلاتها على الارض وداخل المجتمع ، ومنها الحنين إلى تكوينات ما قبل الدولة ، غير أنه يجب أن لا يسمح بتوظيفها سياسياً لتقويض مشروع الدولة الذي وحده سيحمي الجنوب من التفكك ، ويضعه في المكان الذي يستطيع معه أن يقرر إختياراته السياسية.

السبت, 21 تموز/يوليو 2018 20:15

موسم الزيارات إلى صنعاء


- يوماً عن يوم تتصدر أخبار عن زيارة مسئولين أوربيين إلى صنعاء عناوين بعض وسائل الاعلام ، فتتحول عبر حملات إعلامية ، منها ما هو مبرمج ومنها ما هو عفوي ، إلى دعاية عن أن هناك انفتاح دولي على المليشيات الانقلابية ، وعن أن هذه الزيارات إنما تمهد لإعادة فتح سفارات بعض البلدان في صنعاء.

- الترويج لهذه التحركات بمثل هذه التفسيرات هو جزء من المعركة ، ويستهدف تطبيع الانقلاب وإكسابه صفة الأمر الواقع ، وتوسيع حالة الاحباط الشعبي الذي يتمحور حول عملية الحرب والسلام ، والمدى الذي تتحرك فيه العملية ، وتأثيره على استعادة الدولة من أيدي المليشيات الانقلابية.

- لا تمثل مثل هذه الزيارات ، في تقديري ،أكثر من " نكز" لحالة الجمود التي يتجه إليها الوضع العام مع تفاقم الحالة الانسانية التي تتجه نحو الكارثة . وفي هذه الحالة لا يكون البحث عن أسباب هذه التحركات إلا في مكانه الطبيعي وهو مدى " تماسك استراتيجية المواجهة الوطنية وحلفائها ضد المليشيات الانقلابية.

- أقول هذا لأن العالم كله ، دولاً وتجمعات ومنظمات ، لا يزال يدعم الشرعية الدستورية في معركتها من أجل استعادة الدولة بكل الوسائل ، ولكن لا بد ان نعرف أن هذا الدعم ليس شيكاً على بياض ، وكل التجارب المماثلة تقول ذلك ، فالعالم لا يراقب الاخر الذي تعدى على الدولة بقوة السلاح وأغرق البلاد في الدم فحسب ، ولكنه أيضاً يراقب أكثر ذلك الطرف الذي يقف إلى جانبه في معركته ويؤيده ، وغالباً ما يكون نقده له أشد ،لأنه بموقفه المؤيد يتحمل جزءاً من الأخطاء.

- حينما يصل الوضع الانساني إلى حافة الكارثة ، وهذا ما راهن عليه الانقلابيون وحلفاؤهم وعملوا من أجل الوصول إليه طوال اربع سنوات بالمراوغة وتطويل الحرب ، فإن الإهتمامات الدولية تتغير ، لأن ضغوط المجتمعات في هذه البلدان ومنظماتها المدنية والانسانية تكون قوية بما يكفي لتغييب الجانب السياسي ، بل وربما التضحية به تجنباً للكارثة الانسانية.

- الحكومات في الغرب الديمقراطي أكثر ما يزعجها أن يقحم إسمها في أي كارثة انسانية مهما كانت نبالة القضية السياسية التي تقف إلى جانبها ، وخاصة عندما تكون هذه القضية السياسية غير محورية بالنسبة لمصالحها الاستراتيجية.

- في هذا الإطار تفهم هذه التحركات ، ولن يكون للغضب منها أي معنى . لا بد من فهم الرسائل التي يراد تقديمها من ورائها على نحو دقيق.

- هناك ما يجب التفكير فيه على نحو استراتيجي بعيداً عن التفاصيل المملة التي لا قيمة لها في اللحظة الراهنة سوى أنها ستغرق الوضع في المأساة على نحو أعمق . ولا أحد يستطيع أن يرد على كثير من الاسئلة المتعلقة بهذه المسألة غير الحكومة الشرعية والتحالف الذي يدعمها.

- روافد الحل بدوافع الوضع الانساني تتجمع على نحو غير مسبوق ، ولن يستطيع المبعوث الأممي أن يسبح في اتجاه معاكس . وإذا استمر الوضع على الارض على ما هو عليه محكوماً بحسابات مجهولة أو متعثراً بما أفرزه الواقع ودالة في معطياته ، فلا شك أن السياسي سيتوارى خلف الانساني.

- والحل بتأثير الدوافع الانسانية يعني أن الانقلاب نجح في تمرير مشروعه بالشكل الذي يبقي اليمن في حالة حرب مستمرة . أو أقله في حالة لا سلم ولا حرب.

- المرجعيات الثلاث هي أساس الحل ، ولكن ليس بالاعتماد على عصى موسى.

الأحد, 15 تموز/يوليو 2018 17:07

اليمن كله "شواعه" لعصابتين


العصبيات التي تفقد شروط التحول إلى حالات أرقى في علاقاتها الداخلية وبمحيطها تتحول إلى عصابات.

هذا ما حدث فعلاً في اليمن.

- عصبية السلالة "والدم النقي" عندما فقدت شروط التحول إلى المواطنة أصبحت عصابة مسلحة للقتل والتفجيرات وملشنة الدولة والعمل بقوة السلاح على تكريس نظام طائفي يعطل بناء الدولة الوطنية لعهود قادمة .

- عصبية القبيلة "والدم الحار" حينما قاومت قيادتها شروط التحول إلى الدولة صارت هذه القيادة عصابة للنهب والفساد والقتل والنخيط وتكسير الدولة واقتسامها . وكان أول ضحايا هذه العصابة هي القبيلة نفسها ، فلا هي تحولت إلى دولة ولا هي سمح لها أن تبقى بتقاليد القبيلة.

العصابتان هما أسوأ ما أنتجه حكم المركز " المقدس" طوال قرون تناوبتا فيه حكم اليمن بأدوات العصابة لا بأدوات الدولة ، ووظفتا كل اليمن في حروبهما الداخلية والبينية ، وحرصتا على بقاء اليمني رعوي في أسلوب حياته وعكفي في أعماقة.

رغم كل ما يبدو عليهما من مظاهر العداوة إلا أنهما يديران مصالحهما على نحو لا يخطر على بال أحد . تنتهي خصومتهما عند الحد الذي تبدءا فيه اقتسام المصلحة كغنيمة لا يجب أن ينازعهما فيها أحد.

العصابتان تجمعها مصلحة مشتركة وهي غياب الدولة.

بقية اليمن أشبه "بالشواعه" يتوزعون حوالي العصابتين ، في وضع لا يرتب أي احتمالات للخروج من المأزق الذي ساقتا اليمن إليه ، لا سيما وأن الدلائل تشير إلى أن هناك من يرعى التقارب بين العصابتين لهزيمة الشرعية والتحالف الداعم لها بعد أن استطاعت "الثعالب" داخل الشرعية وفي محيطها توفير المناخ المناسب لمثل هذا التقارب.

ملحوظة: الشواعة هم الذي يزفون العريس ليلة عرسه.

الإثنين, 09 تموز/يوليو 2018 20:33

دودحية قادة المشروع الطائفي


تدافع غلاة قادة المشروع الطائفي في المنطقة مؤخراً لإعلان الحرب على اليمن واليمنيين وعلى نحو لم يخل من حماقة من تعوزه اللباقة حينما يتعرض للهزيمة .. ظل هؤلاء مجندين لخدمة المشروع الإيراني بصمت ، ذلك الصمت الذي كانت إيران في حاجة إليه لتخدع العالم بأنها بعيدة عما يجري في البمن .. قاموا بدورهم البائس على أكمل وجه تنفيذاً للمخطط الذي اجتاح المنطقة.

لم يتغير موقفهم في الأساس .. وعلى الذين يستغربون هذا الصراخ أن يدركوا ذلك جيداً أن كل ما عمله هؤلاء هو أنهم خرجوا من تحت الطاولة إلى فوق الطاولة بحسابات قدرها القادة الفعليّون للمشروع في المنطقة.

الآن وعلى هذا النحو الذي دشنه حسن نصر الله بالدعوة الى الجهاد في اليمن لتنصيب عبد الملك الحوثي سيداً على اليمنيين ما يجعل المسألة تظهر في أكثر تجلياتها وضوحاً من أن المشروع الطائفي الذي ظل يتستر خلف دعاوى قومية المعركة على مستوى المنطقة كلها فضحه اليمنيون برفضهم وصمودهم ضد الإنقلاب الذي شكل أحد روافد هذا المشروع ، الامر الذي جعل حزب الله يتخلى عن معركته في مزارع شبعا إلى زراعة الألغام في اليمن.

وبين الحديث عن مظلومية جماعة إلى الدعوة إلى تنصيب زعيمها سيداً على اليمن ما يفضح حقيقة هذه المظلومية . للمظلومية عند هؤلاء معايير تنم عن فساد الطوية ولا تعبر عن مشروعية مكافحة الظلم في صيغته الاجتماعية التي لا تقتصر على جماعة بعينها بقدر ما هي تعبير عن طبيعة النظام السياسي الاجتماعي الذي لا يفرق في الظلم بين سني وشيعي أو بين زيدي وشافعي ما يجعل مواجهته شأناً وطنياً لا طائفياً.

ينسى هؤلاء الطائفيون أن اليمنيين بكافة نحلهم رفضوا إكساب حرب النظام السابق مع الحوثيين طابعاً وطنياً ووقفوا بقوة مطالبين بوقف الحرب والمطالبة بإشراكهم في حوار وطني شامل يمكنهم من طرح رؤيتهم بشأن الدولة التي يجدون انفسهم شركاء فيها كأي مواطن يمني.

ألم ينقلب هؤلاء انفسهم بعد ذلك بقوة السلاح على مشروع الدولة والتوافق السياسي حينما وجدوا أنفسهم في وضع يمكنهم من التنصل من عهودهم ليدمروا اليمن ، فأين المظلومية التي يتحدث عنها السيد حسن نصر الله ، ومن الذي ظلم هنا؟

لا يخلو هذا العمل الذي يتجلى في أردأ صوره من فقاعات "دودحية " كعادة الطائفيين الدوادح الذين لا يتنفسون إلا كنفايات تغرق نفسها قبل غيرها في مستنقع الإنتقام.


سيقول المؤرخون كلمتهم حول مفاوضات جنيف والكويت مع الانقلابيين الحوثيين وحليفهم آنذاك الرئيس السابق صالح من حيث التوقيت والمسار العسكري على الارض وما إذا كان ذلك قراراً صائباً للشرعية أم لا.

نترك ذلك الآن جانباً لبحثه في نطاق الظروف التي أحاطت باتخاذه يومذاك ، ولنكتفي بإيراد حقيقة واحدة وهي أن التفاوض من أجل السلام مع من انقلب على السلام بقوة السلاح والدم لا يمكن أن يكون ذا معنى إلا اذا تغيرت المعادلة على الارض ، وإلا فما الذي يجبره على ذلك ؟ سيكون مضحكاً أن نعتقد ولو للحظة واحدة أن من رفس مائدة السلام بقدمه أن يكون قد هذب هذه القدم "الفلتانة" بوازع سياسي أو أخلاقي.

في معادلة الحرب والسلام مثل هذه القدم يجب أن "تقص" قبل الذهاب إلى السلام.. حينها فقط يمكننا الحديث عن مباحثات بناءة للسلام.

كان تحرير عدن قد مزق شرايين تلك القدم وجعلها تنزف وتتخبط مهرولة ومتراجعة بحسابات لم تعد بضخامة صلفها القديم ، لكنها رغم ذلك لم تفقد الحيلة في الاستمرار في عنادها بدعم مشروعها الانقلابي بالمزيد من تجريد البلاد من أي فرصة للسلام بتثبيت هيمنتها على جزء كبير من البلاد كرهينة لتسوية تمرر من خلالها المشروع الطائفي الذي دمرت البلاد من أجله.

هذا هو الخيار الذي استقرت عليه هذه المجموعة في نهاية المطاف ، ولذلك لم يكن غريباً عليها أن تتخلص من حليفها صالح بتلك البشاعة حتى تبقى "نقية" خالصة في أي مفاوضات تحصل منها على حصتها في دولة مركبة طائفياً.. 

أي أن خروجها مدحورة من عدن كان قد أفقدها حلمها بالسيطرة على البلاد بأكملها، فأعادت بناء هذا المشروع بمستويين: أعلى وهو السيطرة على أراضي ما كان يعرف بالجمهورية العربية اليمنية ، وأدنى وهو التمسك بدولة طائفية تضمن لها حمل السلاح وإقامة علاقات حماية خارجية بمعزل عن العلاقات الخارجية للدولة. 

معركة الحديدة يجب أن تفهم بأنها ليست مجرد معركة لاستعادة مدينة أو ميناء ولكنها معركة لتصفية المشروع التوسعي الايراني الطائفي كاملاً بتفويت أي محاولة لتمييع استعادة الدولة والتفكير من ثم في التفاوض على إقامة دولة طائفية من أي نوع كان.

الانقلابيون سيستخدمون ورقة الحديدة لصالح مشروعهم في السياق الذي يوفر لهم دعماً يمكنهم من المناورة بتسويقه لدى الدوائر التي تعمل على تدويل مداخل البحر الاحمر منذ حرب عام ١٩٧٣ بين العرب وإسرائيل ، وهذه الورقة هي حصان الرهان الذي يعمل عليه الاخطبوط الذي يخدم مطامع ايران في هذه المنطقة خاصة وقد شارف مشروعهم على الغرق بصورة نهائية في المياه اليمنية ، ولا عجب بعد ذلك أن يسعى الحوثيون ومن لف لفهم في طرح هذه الورقة على الطاولة بتعبيرات ملتوية بعد أن أوشكوا على خسارة المعركة وهو أسلوب قديم في التهافت. 

في الحديدة لا خيار غير إستعادة الدولة كاملة وغير منقوصة بعيداً عن أي تسويات تجعل الدولة الوطنية هي الضحية رقم واحد.

إن المنهج السياسي الاستراتيجي لاستقرار اليمن بعلاقة قوية ومتينة مع محيطه العربي ، يجب أن يتقرر في قلب المعركة خاصة بعد كل هذه التضحيات التي لن يبررها التاريخ إلا بإقامة الدولة التي تؤمن الاستقرار والسلام والامن والازدهار لهذ الشعب الكريم ، أما التسويات التي تفتح أكثر من باب لحروب جديدة فلن ينظر إليها إلا على انها استخفاف بحاجة هذا الشعب إلى دولة تؤمن له حياة كريمة كبقية خلق الله.

الإثنين, 11 حزيران/يونيو 2018 23:27

عدن "سفر التكوين".. في مواجهة الثقافات الخمس


لن يستقيم حال اليمن ، جنوبه وشماله ، إلا إذا صلح حال عدن .

عدن هي مربط الفرس في معادلة شديدة التعقيد في الوقت الراهن . وهي المعطى الأكثر وضوحاً في هذه المعادلة ذات المجاهيل المتعددة.

ومثلما كانت عدن "سفر التكوين" لكل من جاء إليها حاملاً هم الحياة وحالماً بمستقبل أجمل ، فقد كانت أيضاً " سفر التكوين" في نشوء الحواضر في عموم الجزيرة العربية ومصدر إلهام للوعي بأهمية التمدن لخوض غمار تجربة إنسانية معاصرة في منطقة أبهرت العالم برسالتها ، ذات يوم، ثم نامت تحت حوافر الخيل التي اجتاحتها لتضعها خارج العصر .

مثلت الحاضرة رقم واحد ، دون أن تنازعها ذلك أي من الحاضرات الأخرى في الجزيرة العربية واليمن ، في التعايش والتسامح والسلام والتمدن بالمفهوم الذي يحضر فيه الوعي بالحرية والتسامح كقيم انسانية رفيعة.

كان يأتي إلى عدن من خارجها الكثير والكثير من الناس في ظروف مختلفة بحثاً عن الاستقرار ، فتستقبلهم بهدوء وتتولى ، ومجتمعها المدني المسالم ، إعادة تكوينهم بما تضخه فيهم من بساطة وحب النظام والتعايش ، وبما يتوجب عليهم أن يتعلموه من علاقات إنسانية بناءة .. أما من كان يستعصى عليه إستيعاب هذه القيم فيظل على هامشها كنموذج للنقيض الذي يقاوم "مدنية" عدن بروحها التي تشع حباً وتسامحاً وبساطة.

في الخمسينات انتشرت في أحياء عدن الأندية الثقافية والرياضية والاجتماعية ، وكانت مراكز للتعاون ونشر الثقافة والمعرفة بين الناس ، ومثلت أرقى أشكال التكون الاجتماعي .

في هذه الأندية تخلقت مفاهيم جديدة لبناء الانسان تسللت منها السياسة . وأخذت السياسة تعيد بناء وفرز تكوينات المجتمع ، لكنها لم تستطع أن تسلب المدينة قدرتها الكامنة والمتمثلة في تأثيرها المدني الهائل على وعي وسلوك الناس ، فكانت السياسة "مدنية" قبل أن يصيبها التعصب الايديولجي بدائه الذي أشعل فيها كثيراً من الأمراض التي أخذت تتسلل إلى النخب لتفسد علاقات التعاون والقبول بالآخر وتمارس الإقصاء ضد بعضها البعض .

أخذ ذلك عهداً من الزمن ترك أثره في انقسامات كانت في الاساس نخبوية لأن المجتمع في عدن ظل ، إلى حد كبير ، مشبوكاً بقيم مدنية تحميه من تلك الانقسامات ، وكانت رافعة له من وهدة السقوط في الصراعات المسلحة التي كانت النخب تحسم بها صراعاتها السياسية ، فيمنع ذلك من تحولها إلى حروب أهلية شاملة .

ثم تراخت القبضة الايديولوجية لتحل "المناطقية" بأدوات هي أسوأ ما ترثه المجتمعات من فاجعة إخفاقات النخب في قيادة مجتمعاتها ، وأخذت المناطقية تهدد عدن وميراثها المسالم المتعايش ، وراحت النخب المفروزة مناطقياً تتوالد وتتناسل وتنخر داخل بنية المجتمع وتهدد بتكسير الأسس التي شيدت تماسكه كمجتمع مدني خلال عهود طويلة قاوم فيها كل الإحباطات التي ضختها سياسات العزل الاستعمارية ، وبعد ذلك الإقصاء ، ونبش القبور ، والمناطقية ، والالحاق القسري والتحريض على التنوع البشري فيها واللذان أسفرا عن تخريب قيم التعايش والاصرار على تجريد عدن من مدنيتها.

هذه السياسات التي تحولت إلى موروث ثقافي تكبس اليوم على عدن كعوامل محبطة ،وتعبر وتدافع عنها نخب كل ما استطاعت أن تعمله هو أنها تحاول أن تنتزع هذه المدينة التاريخية من أصالتها ومن فضائها المدني الواسع لتحتويها في خرق ثقافتها المهترئة . وزاد من حماقة المحاولات أن العنف صار أداة لفرض هذه الثقافات .

مع هذاالوضع يثار سؤال حول بقاء عدن حبيسة هذه الإحباطات ، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تدهور لما تبقى من مكونات "المدنية" التي كانت ولا زالت حصان الرهان لحركة تنويرية تلبي حاجة ما بعد الحرب لتنشيط المجتمع المدني في مواجهة السلاح والعنف .

مهمة المجتمع ، بما تبقى من مؤسساته المدنية في هذه المدينة العريقة ، هي التفكير في كيفية تطويق هذه الإحباطات ومواجهة عبث "الثقافات الخمس" ونخبها وإعادة الاعتبار لثقافة السلام والتعايش والتسامح وجميع مكونات المدنية وثقافتها الأصيلة.

الثلاثاء, 05 حزيران/يونيو 2018 23:50

ما بين اختيارات المواطن وخيارات الرعوي


كل من اعتقدوا أن اليمن قد صار ملكاً لهم ، يتصرفون به وبمقدراته كما يحلو لهم ، رماهم خارج بحره كجيف تعفنت فوق كراسي السلطة ونفوذها بدءاً من بيت حميد الدين وموروثهم بمسمياته العديدة .

تقدم الحياة دروساً من واقع ما شهده هذا البلد من تجارب ، لمن يريد أن يتعلم ، أن الحكم ليس مجرد سلطة ، ولكنه إختيارات انسانية قبل كل شيء . وهي ليست إختيارات الحاكم فقط ولكنها اختيارات الشعب في الأساس .

الحكم الذي يقترن بالسلطة دون أن يتحرك في توافق مع هذه الاختيارات الانسانية لا يكون أكثر من تسلط يُنشيء معادلاته بمجاهيل كثيرة .. يكون العنف والتآمر والخيانات والفساد هي "ألمالانهايات" التي لا ينتهي إليها حل المعادلة إلا بالدم ، كما رأينا في كل التجارب اليمنية .

أدرك اليمنيون هذه الحقيقة بعد أن تخبطوا عهوداً طويلة في مشاريع نخبوية واستبدادية ، وعقدوا العزم على تغيير خط السير نحو فضاءآت سياسية جديرة بهم كشعب عريق عبر حوار وطني شامل ، وعلى طريق تشييد دولة يصنع خياراتها مواطنون لا رعية .

كان قرار الانتقال إلى المواطنة عملية ثورية بكل المقاييس ، وهو ما دفع حراس النظام الرعوي القديم من مخلفات الكهنوت وأدواته العنصرية الطائفية ، وحلفاءهم من حراس ميراثه القبيح ، أن ينقلبوا على هذه العملية التاريخية ويغرقوا اليمن في بحر من الدم .

لم يكن في مقدورهم الابحار سوى فوق مركب لا يطفو إلا على الدم ، ووسط خرائب وحرائق عمت اليمن من أقصاه إلى أقصاه ، ومأساة سجلت على أنها الأبشع في التاريخ .

رفضوا المواطنة وتمسكوا بخرافة السلالة في أسوأ خيار لا يمكن أن تكون محصلته إلا هذا الدمار الذي حل بالبلاد . رفضوا الفضاء الوطني الواسع وهدموا الجسور مع الوطن ، وأقاموا جدراناً من العزلة بمنافذ لا تتسع إلا لفوهة المدفع .

الآن وبعد أن طوت الحرب الكارثية أهم حلقات المشروع العنصري الطائفي بعد أن إقتحم مسار التغيير السياسي والاجتماعي السلمي الذي شكل تواصلاً مع نضال الحركة الوطنية اليمنية منذ الخمسينات ، لا بد أن نراجع الوضع داخل المكون الواسع للطرف الذي يعتبر نفسه امتداداً لهذه الحركة الوطنية لنقرأ بمسئولية واقع الحال .

ونبدأ بالسؤال عن مفهوم "الوطن" عند هؤلاء ، والذي طحنت وتطحن الآن آلاف الجماجم من أجله .

الحقيقة أن هذا "الوطن" غاب ويغيب داخل عنوان فضفاض للجمهورية التي جاءت ذات يوم تحمل مشروع "وطن" فنهبت وتعثر ميلاد ذلك الوطن .

وجاءت الوحدة السلمية حاملة حلم الحركة الوطنية بإنشاء "الوطن" الذي بشر به روادها الأوئل فأجهضت في مهدها بمشروع الإلحاق الذي أبقى "الوطن" قيمة مقموعة بنفس السلاح الذي نهب الجمهورية .

لا يوجد دليل على أن "مشاريع" الحكم القادمة والتي يبلورها المشهد كأمر واقع في قلب المأساة التي تطحن البلاد قد تعلمت أنه لم يعد هناك من سبيل لتجنب الحروب والصراعات غير طريق واحد هو بناء "الوطن" بالمفهوم الذي يتحول فيه الانسان من "رعوي" إلى "مواطن" بكامل الحقوق السياسية والطبيعية والانسانية ، مواطن يكون مصدر السلطة ومالكها ومحرك اختيارات الأمة دون وصاية من نخبة أو جماعة أو سيد أو أكليروس بصفته صاحب مرجعية هي الحق وما دونها الباطل ، مواطن به تتجدد السلطة ، وبإرادته يصاغ القانون ويحترم النظام .

نتلفت يساراً ويميناً شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً فنجد الصورة مخيفة فيما تمدنا به هذه الصورة من حقائق عن هذه "المشاريع" وبأنها ليست سوى امتداد مباشر للتسلط الذي كرس سلطة الحاكم المستبد وقمع اختيارات الشعب .

أقول هذا بالرغم من أن الحوار الوطني قد وضع خارطة دولة المواطنة القادمة بصورة توافقية هي من أجمل ما صاغه العقل اليمني ، حينما يتعلق الأمر بمضمون الدولة ، غير أن مصدر الخوف هو أن ما كشفته وقائع الحياة من أن الفجوة الكبيرة بين ما كتب في الوثيقة وما يصنع في موازاتها من حوامل سياسية واجتماعية غرائبية للمستقبل من الممكن أن تبتلع الحلم بمثل هذا "الوطن" تماماً مثلما ابتلع قديماً بتحريض الجمهورية المنهوبة عليه وبتخريب صلته بالوحدة .

لنفكر في مجمل الصورة بهدوء لنكتشف أن ما يجب أن نعمله على الخارطة السياسية لا يقل أهمية عن الجبهة العسكرية .

لا خيار إلا أن يكون لدينا "وطن" ونكون فيه مواطنين يصنعون خياراتهم بإرادتهم لا بإرادة المرجعيات أو النخب أو السيد .

الأربعاء, 30 أيار 2018 23:27

النووي مقابل اليمن


ظل بعض الكتاب السياسيين في الشأن اليمني من الأوربيين يتحاشون الحديث عن تورط النظام الايراني في اليمن فيما يكتبون ، ويذهبون في تفسير موقفهم هذا إلى أنهم لا يجدون دليلاً واضحاً على هذا التورط .

كل الدلائل والأدلة التي أكدت وتؤكد على ذلك ، والتي عرضت في مناسبات كثيرة ، تركها هؤلاء جانباً وراحوا يكتبون عن الوضع من وجهة نظر لا تقيم وزناً لمعاناة اليمن التي تسبب فيها المشروع التوسعي لنظام لا يمتلك أي مقومات للبقاء سوى إشاعة الفوضى في المنطقة بتوظيف جيوبه الطائفية في البلدان المجاورة ، وتسويق فكرة الأقليات لإقامة الدولة الطائفية كعنوان للانقسام المجتمعي لإدامة الصراع وتبرير التدخل في شئون هذه البلدان.

البحث عن الأدلة كان مجرد تبرير لمواقف ظلت تعكس في الأساس إرتياحاً لدى هذه الدوائر لما يدور في هذه المنطقة من حروب انقسامية يغذيها هذا المشروع الطائفي.

يوم أمس قدمت إيران الدليل الذي لا يضاهيه أي دليل آخر على تورطها في إشعال الأزمة والحرب في اليمن عندما قدمت عرضاً في مباحثاتها مع الأوربيين لحماية مشروعها النووي مقابل إقناع حلفائها في اليمن ، وتقصد الحوثيين ، بقبول مفاوضات وقف الحرب ، واستخدمت "المعاناة الانسانية " في أسوأ إستخدام لهذه الظاهرة البشرية التي ينحط معها كل ما له علاقة بالبشرية.

ترى ما الذي يحتاجه هؤلاء الكتاب بعد هذا من دليل أوضح مما قدمه النظام الايراني عن تورطه في الشأن اليمني ؟؟ كيف سيبرر هؤلاء دفاعهم ، أو على أقل تقدير، صمتهم عمن يقف وراء هذه المأساة طوال هذه السنوات ومحاولة تضليل الحقيقة ، وتقديم غطاء غير أخلاقي لممارسة هذا النظام وما قاد إليه من كارثة في اليمن؟؟

ما الذي يجعل إيران تقدم هذا العرض الآن دون خشية من أن يؤخذ كدليل على تورطها في اليمن؟

بالطبع .. لم يعد اليمن بلداً مغرياً لها بعد أن بات مشروعها الطائفي على أبواب الهزيمة وبعد أن ألحق باليمن أعظم مأساة عرفتها البشرية بتعبير منظمات الأمم المتحدة العاملة في الجانب الانساني ، وهي لم تكتف بخلق المأساة ، بل تعمل على استخدامها في حماية مشروعها النووي ليعلم من ورطتهم في حمل مشروعها أنهم مجرد "كرت" لم يعد لهم في حساب مصالحها أي قيمة.

 

"السياسة اقتصاد مكثف" ، قانون من قوانين الحياة المعاصرة والقديمة .

لا توجد نظرية سياسية أو قرار سياسي على وجه الأرض إلا ويقف الإقتصاد خلفهما ، أو حاملاً لهما، بكل ما يعنيه من مصالح ومنافع مادية وغير مادية ، متصادمة أو متكاملة.

تتحرك السياسة مع الاقتصاد ، حتى وإن بدا أن هناك مساحة يبقيها الاستراتيجيون للمناورة ، لكنها لا تملأ إلا بالأدوات التي يقررها الاقتصاد وهي الأدوات الأمنية والعسكرية والعقابية الاخرى.

الاقتصاد والمال أدوات عقاب سياسية بيد الدول العظمى تماماً مثلما هي مكافئ مبشر بنجاح السياسة لأي بلد من هذه البلدان.

يحاول القادة السياسيون الكبار على صعيد العالم تهذيب هذه الحقيقة في محاولة لإكساب السياسة بعداً منزهاً ،أو بالأصح تجريدياً ، من خلال إخفاء الحمولة الإقتصادية لكل قرار سياسي ، وهي القاعدة التي بدد الرئيس الأمريكي الحالي "ترمب" غموضها ، وأخذ يتجول داخل هذه العلاقة المتداخلة بمهارة رجل الأعمال المتمرس في إدارة الصفقات التجارية وبشكل نفى معه مثالية القرار السياسي ، وجرده من الغموض الذي ظل يمارس على نطاق واسع.

الحالة الكورية اليوم هي صورة تطبيقية لتسويد صفحة السياسة بكل ما يحيط بها من بهاء وعنفوان ، مع التأكيد على أنها مطية الاقتصاد والمال لا أقل ولا أكثر .. وما عدا ذلك مجرد تفاصيل لا تغير من هذه الحقيقة الشيء الكثير.

الارتباك الذي ظهر على مسار هذه العملية كان سببه إقتصادي بحت ، كما عبرت عن ذلك المعلومات التي تسربت عن صفقة السلاح الضخمة التي كانت كوريا الجنوبية على وشك أن تعقدها مع إدارة ترمب ضمن عملية التسليح الهائلة والمتواصلة التي تتولاها أمريكا في مواجهة كوريا الشمالية .. وعندما خفت حدة التوتر بين الكوريتين ، وبدا أن إتفاقاً شاملاً يوشك على التوقيع قوامه تفكيك المشروع النووي الكوري الشمالي .. تساءل المقربون من ترمب عن مصير تسليح كوريا الجنوبية ، وخاصة بعد أن ظهرت تلميحات كورية عن عدم جدوى نشر الصواريخ التي شملتها هذه الصفقة في حالة تفكيك المشروع النووي الشمالي.

وحتى لا يبدو الأمر وكأنه بهذا المستوى من الهزال فقد أخذ معاونو ترمب يلمحون عن خشيتهم من إتفاق كوري - كوري بمباركة صينية وخاصة بعد الزيارة الثانية لزعيم كوريا الشمالية إلى الصين منذ إعلان التقارب الكوري -الكوري ، ولا شك أن هذه المخاوف قد أعطت للخطوة الامريكية بإلغاء اللقاء في سنغفورة بعداً استراتيجياً ، لكنه في كل الاحوال لا يذهب بالمسألة إلى أبعد مما يجعل من السياسة مطية للاقتصاد ، خاصة إذاعرفنا عمق المشكلة الاقتصادية الحالية بين الصين وأمريكا ومعها الدول الصناعية الغربية عموماً بسبب إغراق الانتاج الصيني لهذه الاسواق في سابقة لم تستطع معه الدول الصناعية المتقدمة إخفاء مخاوفها مما تحمله من مخاطر على اقتصادها.

في هذه الأثناء زار رئيس كوريا الجنوبية واشنطن ..وترافقت الزيارة مع الحملة الإعلامية المتبادلة التي لمح فيها الرئيس ترمب بإلغاء اللقاء المقرر عقده مع زعيم كوريا الشمالية في سنغفورة يوم ١٢ يونية القادم.

كان واضحاً أن الرئيس الامريكي يضغط بأدوات تحمل دلالات لا تقبل أي جدل على أن الإقتصاد محرك أساسي في مسار الاحداث ، ويتجاوز كل البوابات الأخرى إلى التاريخ عند زعيم لم يرتق إلى ما وصل إلا من بوابة واحدة : هي التجارة والمال.

ويبدو أن الضغط قد أثمر فور توجيه الرسالة التي ألغى بموجبها اللقاء وترك الباب موارباً لمعرفة رد الفعل والذي جاء على لسان المتحدث الرسمي للرئيس الكوري الجنوبي الذي صرح بعد اعلان الرسالة بالقول" إننا نريد أن نكتشف نوايا الرئيس ترمب والمعنى الحقيقي من وراء رسالته".

هذا ما يستطيع أي مسئول كوري جنوبي أن يقوله في مثل هذه اللحظة الحرجة . غير أن التصريح يحمل معانٍ كبيرة ، وهي أنه عندما تتصدر المشهد المصلحة الامريكية بتعبيراتها الاقتصادية فإن القرار هنا لا بد أن يخدم هذه المصلحة مهما كانت طبيعة العلاقة التي تربط بين الدولتين .وأن الدولة التي تعيش بحماية غيرها لا تستطيع إلا أن تنتظر حتى لا يكون الثمن مضاعفاً.

كان ترمب قد سخر من الذين يبحثون عن بوابة للتاريخ غير بوابة البنوك .. كان هذا في بداية عهده برئاسة دولة عظمى - للتاريخ فيها أكثر من باب . فهل اكتشف الآن بقية الأبواب أم أنه لا يزال متمسكاً بالباب الذي أوصله إلى رئاسة أعظم دولة في العالم ؟

العالم الذي تعود أن يبحث المتغيرات السياسية وسط كومة من الاسباب التي لا تقدم إجابات واضحة في كثير من الأحيان ، جاء ترمب ليبسط المسألة ، ولم يفعل شيئاً إستثنائياً فيما يخص حقيقة أن "السياسة إقتصاد مكثف" سوى أنه أخذ يدير السياسة من فوق الطاولة وعلى المكشوف بعد أن أخرجها من تحت الطاولة.


سيكتب التاريخ الكثير والكثير عن ٢٢ مايو ١٩٩٠ .. لكن أهم ما يمكن أن يكتبه ، من بين كل ما سيكتب ، هو أن للأحداث العظيمة مسارين يتوقفان على القوة التي تحمل هذا الحدث.

فإما أن تختار المسار الذي يجسد عظمة هذا الحدث ، أو ألحقته بالمسار الذي يجعل منه مهزلة تاريخية.

٢٢مايو من أعظم أيام التاريخ في اليمن المعاصر ، لكن النكسة التي أصابته وجعلت منه يوماً إشكالياً مسكوناً بالخوف والنقيض والسخرية والعظمة ، في آن واحد ، هو أن المسار الذي وضع فيه مثل إنقلاباً جذرياً على أهدافه الحقيقية في بناء وطن حر ومستقل ومزدهر.

- كان حدثاً لإغلاق صفحة الحروب والصراعات الدموية في حياة اليمن فتحول إلى بوابة لحروب أشد فتكاً ودماراً . افتتحت بحرب ١٩٩٤ التي اجتثت الحدث من جذوره ، وشقت الطريق إلى المسار الذي أفضى إلى هذه النهاية المأساوية.

- كان حدثاً للم شمل اليمنيين ، فجرى تحويله إلى مناسبة لتمزيقهم على نحو لم يشهد له اليمن مثيلاً حتى في أكثر فترات انقساماته السياسية والعسكرية ودويلاته المتعددة.

- كان حدثاً لبناء دولة وطنية متماسكة تعيد للإنسان كرامته ومواطنته التي أهدرهما الاستبداد ، فجعلوا منه متراساً لمقاومة وتعطيل أي جهد وطني لبناء هذه الدولة ، وأهدروا دم كل من سعى الى التمسك بهذا الهدف الوطني العظيم.

- كان حدثاً لبناء يمن متقدم ومزدهر فتحول إلى بؤر استنزفت فيها ثروات البلاد من قبل أقلية متنفذة لا تتجاوز واحد في المائة من السكان بقوة السلطة ونفوذها . وأفقر الشعب في أسوأ صور الإفقار التي غابت معها كل فرص التسويات والاصلاحات على أي صعيد كان . وتوسعت رقعة الفقر التي استقطبت الملايين في دورات الجوع ، والعنف، والقلق ، والتوهان في مشاريع لحظية غاضبة توزعت فوق خارطة مفككة ، كان أخطر فجواتها استدعاء الطائفية السياسية من مرقدها لتغرق اليمن كله في بلواها وعنادها وميراثها اللئيم.

- كان حدثاً للانفتاح على العصر ، فأغرق في جحر الماضي وسردابه الذي أوصله بالحبل السري للكهف الذي احتشد فيه هذا الماضي ، بكل بلاويه ، ليخرج بمشروع إنتقامي مدمر كان خلاصة مكر التاريخ بما اتسم به من عبور هزلي ونهب ساخر لوقائع تاريخية ولا تاريخية لم تصمد كثيراً أمام مكر التاريخ.

- كان مشروعاً لبناء عملاق ، ففجر من داخله ، وصار تلة من خراب. وجميعنا اليوم قاعدين فوق هذه التلة نتراشق بحجارتها غير قادرين على أن نحدد مساراً نبدأ منه مشوار استعادة الوعي بما آل إليه حالنا.

٢٢مايو مخيال كبير بحجم وطن اسمه اليمن ، حاصره فعل صغير بحجم القبعة التي صادرته.

٢٢مايو صورة من صور حياة اليمنيين التي تتجسد فيها ثنائية العظمة والخذلان في أبرز تجلياتها التي لا تترك أمامنا غير خيار لا يكفي معه أن نعترف بأننا في محنة بل بأننا مسئولون عنها وعن حلها.


- قلنا أهدأوا ، لا تشعللوا الأمور فوق ما هي مشعللة.. الوضع يتدحرج نحو المجهول . في اللحظات الصعبة اتركوا فرصة للعقل الفعّال وريحوا الدماغ المنفعل.

- إنتبهوا يا سادة ، الولولة بفك عرى التحالف لعب عيال .. الحوثيون غيروا نطاق الحرب ،وبدلوا في معطيات معادلتها، وأكسبوها بعداً مختلفاً بالصواريخ الباليستية بعيدة المدى التي تطلق على جيران اليمن شرقاً وغرباً وشمالاً وفي كل اتجاه. .. يعني باختصار أبعاد الحرب ومعادلتها ونطاقها تغير . وافهموا الباقي ، وهي أن المسألة تجاوزت قضية نريد أو لا نريد.. بات الأمر مرتبط بمستقبل المنطقة وأمنها كاملة . ترتيب الوضع العام في هذه المنطقة بما فيها اليمن ما بعد الحرب قضية مشتركة.

- هناك مشكلة في إدارة التحالف طالبنا بضرورة حلها مع كل ما اكتسبته من تعقيدات حتى لا يتطور الوضع إلى الأسوأ .. قلنا اتركوا الفرصة لرئيس الدولة بصبره وحكمته ، وجميعنا إلى جانبه، أن يعالج الوضع دون ضغوط أو ابتزاز ، ساعدوه بدلاً من إرباكه ، هتف البعض يسقط التفاهم دون أن يكملوا .. وماذا بعد؟؟ جندوا للشتم والإساءات عشرات المواقع وكثير من العاهات . مَش جديد.

- لم يتكاشف اليمنيون فيما بينهم لمعرفة أين أصابوا وأين أخطأوا .. ولو لمرة واحدة .. كل ما قاموا ويقومون به هو مغالطة انفسهم بمناكفات يستهلكون بها الزمن للتسريع بتحقيق منجز واحد وهو بقاء بلدهم في وضع مستنزف وفقير ومتخلف دون بقية بلاد الله.

- حتى في مؤتمر الحوار ، دفنت المشكلة حباً في الوصول إلى اتفاق . ثم اكتشفوا أن المشكلة كانت أعوص ، وأن الاتفاق بسبب ذلك كان يحتاج إلى قوة تحميه لا إلى جماعات تستثمره أو أخرى تشيعه.

- لا يصمد في المعارك المصيرية إلا البسطاء ، أما ذوي الرتب ممن اصطفاهم الزمن بمعاييره المفخخة بالقبح فهؤلاء لا يهتمون سوى بمعاركهم الخاصة وسط كل الكوارث التي أغرقوا بها البلاد.

- المعارك الخاصة لا تؤهل الأوطان ، لكنها تؤهل الانتهازيين والارزقية ومقتنصي الفرص وكل الذين أمعنوا فساداً في الارض.. وفيها يتم تصنيف البشر وتوزيعهم في مربعات وخانات، هذا مشترى وذاك بياع ، ولا غير ذلك من معايير فهم الآخر. ما يثير الانتباه هو أن المتورطين في البيع والشراء هم أكثر الناس ضجيجاً في هذا الموضوع.

- تقتحم المعارك الخاصة حياتنا بعناوين ضخمة ، وعندما تنقشع هذه العناوين وتذروها الرياح لا تجد أمامك غير أكوام من القبح الذي يسخر منك ومن عبطك..

- تعرض اليمن لخديعة تمثلت فيما أصاب أنظمته والنخب الدائرة في فلكها من لوثة كان من نتيجتها إقامة الجسور مع الماضي لا مع المستقبل ، فحيثما تجد جسراً من أي نوع كان تجده ينتهي وسط مستنقع تراكمت فيه مخلفات تحمل شعارات تمجد الوطن ، تفتش حواليك بحثاً عن هذا الوطن فلا تجد غير لصوص يتجولون بين هذه المخلفات ، يتصرفون كحراس المعبد في الأسطورة الإغريقية القديمة .. وفي هذا الخراب تجد ألواناً من العاهات التي خلفتها أنظمة القمع وجميعهم يتحدثون عن الوطنية بدوافع لا مكان للوطن فيها.

- كل أزمة تنتج أزمة أكبر وأعمق .. ويتدافع الجميع في مهرجان أشبه بملهاة ، يلطخون بعضهم ، ثم يفتشون عن غريم يمسحون فوقه بلاهتهم.

- تاريخ اليمن هو انتاج المشكلة والبحث عن غريم . إنتقل هذا المرض عبر الأزمان ، والأخطر أنه يتكرس في بنية مفخخة بألغام صنعناها وزرعناها بأيدينا ، ثم نطلب من الآخرين انتزاعها نيابة عنا مع احتفاظنا بالخرائط.

- مرة ثانية اتعوذوا من الشيطان وراجعوا حساباتكم بهدوء ، نتناصح بدلاً من النفاق والمجاملة واستعراض الفهلوة والحسابات الغلط .. الجبال الضخمة من الهم التي رمتها الإحداث فوق هذا البلد وشعبه ورئيسه لا تحتاج إلى من "يطينها" ولكن إلى من يساعد في حملها.

- تعود اليمنيون التضحية بالرجل الأول هروباً من مساءلة التاريخ ، وكانوا في ذلك الورثة الحقيقيين لميراث ملعون من الحكم الذي ينشئ فيه الحاكم حلقات نهايته بيده ، كل من حول الحاكم ينصت بخشوع لكنه الإنصات الذي ينشغل فيه الجميع بالتفكير في نهاية الحاكم . هذا الصمت يجب أن يملأ في هذ الظرف الصعب بما يستجيب لحاجة الفعل الذي يساعد البلد على الخروج إلى طريق سليم ، حتى لا يتورط في تكرار ذلك الميراث اللعين.

- لا داعي للبحث عن بطولات في زمن تلطخت فيه البطولات بما أصاب وطننا من كوارث.

نشوف ما الذي لنا وما الذي علينا ، الذي لنا نصطف لنأخذه بدون مبالغة في الخصومة والبطولات ، والذي علينا نعطيه بدون انحناءات صغيرة أو كبيرة.

- نفكر في الأكبر وفي المستقبل الأوسع والأهم من مصالحنا الخاصة ، ونتجاوز الصغار التي دفعتنا أثماناً باهضة .نتعلم كيف نختلف وكيف ندير الخلاف ،، أساتذة الوطنية يتنازلوا شوية وما فيش داعي للأقنعة ، ممكن يخاطبوا الناس بدون أقنعة افضل علشان الكلام يكون واضح ومفهوم.

- جدير بِنَا بعد كل هذا أن نتعلم شيئاً مفيداًمن كل هذه الكوارث.. الجنان الثورجي اكتشف البعض أنه مهمة مربحة على الصعيد الشخصي ، لكنهم أغفلوا أن كلفته باهضة على هذا البلد.

الثلاثاء, 08 أيار 2018 17:46

نقطة نظام


هل يمكن إعادة قراءة المشهد بما يحقق تصحيح المسار؟

هل يمكن البحث في أسباب هذا التخبط بعزل كل ما علق بالمشهد من زوائد وتراكمات؟

هل يمكن إعادة ترتيب الأوراق بهدوء وبعيداً عن حماقة ردود الأفعال ونزق وحماس التصريحات والتعليقات؟؟

أعتقد أن الاجابة على هذه الاسئلة ستتوقف على الإجابة على ما يشغل الجميع من هم أساسي ، فإذا كانت المعركة من أجل استعادة الدولة من أيدي الانقلابيين لا زالت هي الهم الرئيسي فلاشك أن كل ما يعترض هذه القضية من مشكلات لن تكون أكثر من عوارض صغيرة يمكن تجاوزها بسهولة أمام التحدي الأكبر والتضحيات الجسيمة التي بذلت في سبيله.

لا يفتعل المعارك الجانبية في ظل المعارك المصيرية إلا المهزومون لتضليل الناس عما أصابهم من هزيمة ، ولا أعتقد أن الشرعية والتحالف الداعم لها مهزومون حتى يهربوا إلى هذه المعارك الجانبية التي قد تغرق الجميع في مستنقع مواجهة سينتهي بدون أدنى شك إلى خسائر لا يمكن تعويضها.

كما أنه لا يجد الوقت الاضافي لمثل هذه المعارك إلا المنتصرون الذين ينعمون بانتصاراتهم بتمضية وقت من ذلك النوع الذي تتسلى في الأجنحة المنتصرة بمناكفة بعضها . ولا أرى أن الشرعية والتحالف الداعم لها قد حققوا ذلك النصر ليخوضوا مثل هذه المناكفات ويجعلوا منها مناسبة للتلهي.

تدخل الشرعية ، التي يقودها بصبر وحكمة الرئيس هادي ، والتحالف الداعم لها ، والذي تقوده المملكة العربية السعودية وإلى جانبها دولة الامارات العربية المتحدة ، مرحلة من المواجهة مع الانقلابيين الحوثيين هي من أهم وأخطر المراحل التي يتوقف عليها مستقبل اليمن ، ومعها كل التضحيات التي قدمها الجميع للوصول الى الهدف المنشود باستعادة الدولة وبناء اليمن الجديد.

ومع ذلك تجرهم أخطاء وفراغات إدارة علاقة التحالف ،التي سبق التنبيه لها منذ اليوم الأول ، إلى هذا الوضع الذي توسعت فيه دائرة الخلاف ليشمل ، فيما يشمل من أوراق الضغط المتبادل ، الجغرافيا والأرض في تطور أقرب إلى "الفنتازيا" منه إلى الواقع ، وهو ما لا نجد له تفسيراً ملائماً إلا حينما يحجم القادرون على الانتصار عن السير في المسار الذي يفضي إلى ذلك الانتصار ، ويختارون بدلاً منه الطريق المعاكس الذي يفضي إلى الهزيمة .. هنا تتضخم حماقة الفعل ورد الفعل.

هناك مشكلة تتعلق بإدارة التحالف يجب أن تحل بعيداً عن ضغوط الارض والجغرافيا .. الأرض هي أخطر الأدوات التي يمكن استخدامها في تدمير أنجح العلاقات وأشدها قوة ومتانة ، وغالباً ما تكون وسيلة للتعبئة وتشويه هذه العلاقة وتدميرها . ولذلك لا بد أن تحسب كل الأطراف حساب توظيف هذا العنصر بصورة خاطئة ، لأن التداعيات من هذه المسألة لن تسهم إلا في المزيد من تعقيد الأمور في وقت نحن في أشد الحاجة فيه للتفكير بمسئولية حول كيفية تصحيح العلاقة وإدارة التحالف.

تحدثنا عن العلاقة الاستراتيحية حينما اختلط الدم اليمني والسعودي والإماراتي دفاعاً عن الدولة اليمنية المصادرة بالانقلاب الحوثي المدعوم إيرانياً ، وعن شرعيتها، وعن مستقبل العلاقة في خلاصها من المشروع الطائفي التوسعي الذي يهدف إلى إغراق المنطقة في فوضى الانقسامات بتدمير الدولة الوطنية ، فإذا بهذا الخيار المنطقي والواقعي يرتبك في أول إختبار لدرجة كان لا بد معه من التنبيه إلى أن تأسيس هذه العلاقة الاستراتيجية يحتاج من الجميع إلى جهد جبار لفهم متطلبات هذه العلاقة حتى لا يغرق المشروع كله في "شبر ميه" بتعبير أشقاءنا المصريين.

لا أحد يتصور، بعد كل هذه التضحيات ، أن العودة إلى مربع التراجع عن هذا المشروع الاستراتيجي أصبح ممكناً ، يجب أن تكون هناك مراجعة بالمفهوم الإيجابي الذي يؤسس لانطلاقة أقوى في هذاالمسار بكل ما فيه من تعقيدات وصعوبات .. وكل الحسابات يجب أن تنطلق من المؤشر الذي ستستقر ، أو يجب أن تستقر عنده المعطيات التي سيتقرر في ضوئها مستقبل هذه المنطقة . حتى وإن بدا أن هذا المؤشر يتعثر بعدد من التباينات بين دول المنطقة ، إلا أنه سيفرض في نهاية المطاف خيار الرؤيا الاستراتيجية التي تضع المنطقة كلها بدولها وشعوبها في مواجهة التحديات الأساسية التي تأتيها من خارجها في صور مختلفة من الخديعة لتعميق الشقاق حتى يسهل ابتلاع المنطقة بأكملها.

بمراجعة بسيطة لما يراد لهذه المنطقة أن تبتلعه من سكاكين تنشر صحيفة أجنبية تقريراً لصحفي مغمور عن سقطرى ، وفي وقت قياسي يجري تفخيخ مشكلة أمام التحالف والشرعية بأسئلة من النوع الذي يجعل المسألة مفتوحة أمام قراءات توسع الخلاف ، وهو ما جعل المسألة تعرض على النحو الذي برزت فيه روابط التفاهم وقد تخلخلت على نحو صادم لدرجة صار من الممكن تمرير كثير من هواجس الشك من خلال أسلاكها المشوشة وفي كل اتجاه.

كل ما في الأمر هو أن غياب الإدارة الصحيحة لهذه العلاقة رافقتها تصرفات أدت الى تعميق عدم الثقة والتي انعكست بدورها في مزيد من التوظيف الذي أضعف بشدة قوة الدفع بهذه العلاقة إلى آفاقها الاستراتيجية . وبسببها فقد أنتجت أرضية خصبة لتكوين هواجس تفاعلت مع كثير من التصريحات المتبادلة التي أخذت تؤجج الخلاف على خلفية معلومات وتسريبات لا أحد يعرف مصدرها أو دوافعها.

كان من الممكن إحتواء هذا التصعيد ، الذي أخذ طابعاً خطيراً يتعلق بالسيادة على الارض ويتداخل مع أكثر العوامل استقطاباً للخلاف في المنطقة ، من قبل الشرعية والتحالف باعتبار أن توسيع رقعة الخلاف إلى هذا الحد قد بات أمراً يستوجب توضيحه للناس بحجمه وشحمه ولحمه ، أياً كان ، حتى لا يترك فريسة لأي حسابات تذهب به بعيداً وبدون وازع من مسئولية أو تقدير لحجم الضرر الذي سيرتبه ذلك على انجاز المهمة المشتركة وما رافقها من تضحيات حتى الان.

فلا أدري مثلاً من الذي ينازع في يمنية سقطرى ، غير الأشقاء الصومال الذين يعملون الان بدون كلل على احتواء الجزيرة ضمن الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة للصومال بعد أن يئسوا من تغيير جغرافيتها السياسية ، وهي قضية مثارة على صعيد تحكيم دولي يشتغل فيه الصومال بهمة عالية منذ فترة طويلة حتى وهم غارقون في حروبهم الطويلة ، وللعلم فقد اختاروا لذلك شركة محاماة من أهم الشركات العالمية في هذا المجال ، ومن الخبل أن يدعي أحد أن هناك من يعتقد أن سقطرى جزيرة لا نسب لها في عرض المحيط الهندي ، لم نسمع هذا من دول التحالف ولا من الامارات ، وكان من الحكمة أن نبحث فيما وراء بواعث ودوافع اثارة موضوع بهذا الحجم الذي لن تتوقف تداعياته عند حد معين.

أما وقد أثير موضوع سقطرى بهذا المستوى فلا بد لوزارة النقل اليمنية أن تطلع الرأي العام اليمني بالمشكلة الحقيقية التي تتعرض لها الجزيرة ، فهناك قضية لا يجب أن تغفل ، فقد يفاجأ بها اليمن عما قريب.

البيانان اللذان صدرا عن الحكومة اليمنية والخارجية الإمارتية وضعا من وجهة نظري حدود المشكلة في الإطار الذي طالما تكلم عنه الجميع ، وهو ضعف ادارة العلاقة بين أطراف التحالف وما أصابها من تصدع .. فبيان مجلس الوزراء ربط المشكلة بواقع العلاقة المشوبة بكثير من التحفظات التي كانت سبباً في نشوء عدم الثقة ودعا إلى ضرورة معالجة الوضع في اطار أشمل من المعالجات ، وبيان الخارجية الاماراتية أكد على إلتزام الامارات ، في إطار التحالف الذي تقوده المملكة، بمواصلة دعم اليمن في جهودها من أجل استعادة دولتها المغتصبة من قبل الانقلابيين الحوثيين وعودة الشرعية نافياً أي أطماع لها في الارض اليمنية.

في البيانين هناك ما يمكن أن يسهم في إعادة بناء الثقة بين أطراف التحالف ، ولا يضير شيئاً أن تكون هناك مكاشفة لبدء مرحلة من استعادة الثقة تغلق فيها أهم المنافذ التي تتسرب منها عوامل الخلاف.

وفي الإجابة على الأسئلة التي وردت في البداية يمكن القول أن الإشارات الإيجابية التي وردت في البيانين تحمل دعوات متبادلة لتصحيح مسار العلاقة. ومن هنا نبدأ التصحيح.

السبت, 05 أيار 2018 17:11

مستويين للخارطة السياسية


جرت يوم الخميس الماضي إنتخابات المجالس المحلية في عموم بريطانيا انتهت ، بنتائجها، دون تغييرات كبيرة

تمسك المحافظون بمكاسبهم القديمة على الرغم مما تواجهه حكومتكم من تحديات على صعيد الخدمات الصحية وبعض الخدمات الإخرى بسبب الاستقطاعات في ميزانية هذه الخدمات. وقد خاض هذه الانتخابات وهو يواجه انقساماً داخلياً بخصوص خطة الخروج من الاتحاد الاوربي وخاصة ما يتعلق بالإتحاد الجمركي.

أما حزب العمال، الذي راهن على تحقيق اختراقات مثيرة على الصعيد المحلي، فلم يتمكن من تحقيق هذه الاختراقات. واكتفى بالاحتفاظ على ما بيده من مجالس.

وقد خاض هذه الانتخابات وهو يخوض جدالًا حاداً داخل الحزب حول ما سمي بظاهرة العداء للسامية antisemitism، وكان اللقاء الشهير لزعيم الحزب "جيرمي كوربن" مع قادة الطائفة اليهودية البريطانية حول هذا الموضوع الشهر الماضي قد فتح الباب لنقاشات أوسع ، ربما تتواصل على إيقاعات مزيد من التوتر داخل الحزب.

الانتخابات المحلية عند الناخب البريطاني لها قيمة ومعنى أوسع وأهم باعتبار أن المحليات بما تضطلع به من مسئوليات يومية هي العنوان الأهم لتطور حياته واستقرارها.

في هذه الانتخابات يختار من يقود ويعتني بحياته اليومية بدءاً بالنظافة وتجميع القمامة وتبليط الشوارع والطرقات والعناية بالحدائق والاشجار والمربعات الخضراء والمنتزهات ، إلى الإسكان والمياه والكهرباء والخدمات الصحية والتعليم والمواصلات ومواقف السيارات والشئون الاجتماعية والمطاعم والأسواق المحلية والضرائب والتراث والفنون المحلية والأراضي والعقارات والمقابر والامن والحرائق ودور العجزة والإيواء والبريد وكل ما يتعلق بحياة المواطن. ولا يهتم المواطن بالمؤسسة المركزية لأن كل ما يتعلق بشئون حياته هي من مسئولية هذه المجالس.

لذلك لا غرابة أن تكون نتائج انتخابات المجالس المحلية هي مقياس لمعرفة الخارطة السياسة للبلاد ، والتي تتكون بعد ذلك في الأنظمة البرلمانية من مستويين الكلمة والفعل . فبينما تكون الكلمة هي أداة التعبير للبرلمان ، يكون الفعل هو أداة التعبير للمجلس المحلي . ولذلك يردد الإنجليز مثلهم الشهير:

Actions speak louder than words

وقارنوا "يا ايها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون".

الأحد, 29 نيسان/أبريل 2018 20:41

نفايات هزيمة مشروع الدولة


كل الذين أسهموا في هزيمة مشروع الدولة بمعناها الذي يؤسس لوطن ومواطنة لا زالوا يقاومون ويرفضون بناء هذه الدولة بصور مختلفة من التعبيرات والمواقف.

لم يتعضوا مما أصاب الناس وأصابهم من ويلات بسبب الهزيمة التي أوقعوها بالدولة طوال ذلك العمر المديد من الصراع بين مشروع الدولة ومشاريع التسلط الخاصة.

كل الذين يعملون على هزيمة الدولة يتحولون مع المدى إلى نفايات لا تصلح لشيء غير إشعال الحروب وملاعنة الشقاء الذي استولدوه بأيديهم.

توزع هؤلاء الذين قاوموا الدولة بين مغتصب للحكم ، وجلاد بيد المغتصب، وناهب للثروة ، ومروج للخطيئة التي ترتكب باسم الدولة الغائبة ، ومنظر للحق الالهي في الحكم، وحانق على ضياع الخلافة ، وسلالي أعطبه الدهر مع ما أعطب من خرافات ، وناعق في خراب الثأر والإنتقام...إلخ

كل هؤلاء وغيرهم لم يجدوا، ولن يجدوا، ما يستروا به عوراتهم عندما تهزم الدولة وتنهار كل دعاواهم التي تستجر من ملهاة الأزمان التي لم تستطع أن تقدم دليلاً واحداً على أن جمود الفكر البشري عند نمط بعينه من الدولة والحكم لم يكن سبباً في الحروب وانهيار الأمم ، وأن هذه الانهيارات لم تتوقف إلا حينما ترك للانسان حرية اختيار حاكمه ونمط دولته.

يتجدد مفهوم الحكم والدولة باستمرار ، ويتداخل الوعي والتطور المادي والمعرفي ،الذي يحدث في الواقع ، في علاقة جدلية تمثل إيقاع الحياة الذي تتفرع منه كل مكونات النهوض والتطور أو الخراب والإنهيارات . ويبقى الانسان في قلب فكرة الحكم ، باعتبار الحكم الوجه الآخر للدولة التي تجسد إرادة هذا الانسان وغاياته.

من حق كل هؤلاء أن يعتقدوا كيفما شاءوا ، ولكن ليس من حقهم فرض هذا الإعتقاد على غيرهم بالقوة ، لأنهم في هذه الحالة لن يمنعوا الآخرين من فرض معتقداتهم بالقوة أيضاً ، وإذا بِنَا أمام دورات من العنف والانهيارات التي لا تنتهي . معظم دورات العنف التي شهدها اليمن تدور في هذه السياقات التي أخذت تشعل جذوة الانتقام مع كل راية من الرايات التي ترفع هذه المفاهيم المشوهة للدولة وسلطتها القمعية.

الدولة التي تمثل القاسم المشترك للجميع بعقدها الاجتماعي وقوانينها وقواعدها ومؤسساتها واحترامها للانسان واختياراته هي وحدها القادرة على حماية معتقدات الناس وأفكارهم ومصالحهم ، وهي وحدها من يؤمن حماية الفكرة التي يحملها الانسان دون وصاية من ذلك النوع الذي يستند على إدعاءات يجري تدويرها مع الزمن كنفايات أيديولوجية تم تصميمها بمقاسات خاصة لخدمة الاستبداد وقمع الانسان وإذلاله.

المستبد عندما تنتهي دورة استبداده يقع في فك الاستبداد الذي هزم به الدولة.

والمنتفع ، الذي كان سوطاً بيد المستبد، يسلم السوط لجلاد آخر ، ويتحول من جلاد إلى نفاية على هامش الحياة.

وناهب الثروة يتمتع بما نهب إلى حين ، لكنه يعيش كابوس العوز الذي يتجلى في صور الضياع التي تلاحقه كمدمن لفساد الضمير.

أما الموروث السلالي الذي لا يرى الدولة غير منصة سيادة يتوارثها بالدم ، فهو يتخبط في تاريخ يعتوره الانفصام والقلق والخوف والغرور والإعتقاد بالأحقية في الحكم ليشكل منه كل ذلك عجينة متناقضة ، مع ما يترتب عليه من منهج فكري يرضعه الكراهية والإحتقار للآخر ، ويضعه دائماً في مواجهة مع هذا الآخر من منطلق أنه لا يستطيع أن يتعايش معه إلا كحاكم ومتسلط.

وما تبقى من عتاة المقاومين لبناء الدولة فإنهم ، حينما تنهار الأمة بسبب الحروب ، يتخبطون في أرذل ما شيدوه من أوهام كبديل للدولة ليكتشفوا أنهم في قائمة ضحايا غياب الدولة التي قاوموا بناءها وهزموها بخرافاتهم وتهويماتهم وصلفهم.

لا بديل عن الدولة التي تصنع الوطن وتعيد بناء الانسان كمواطن بحقوقه وواجباته المتساوية والعادلة.


في اللقاء الذي دعا إليه الرئيس هادي بعد دخول الحوثيين إلى عمران بيوم واحد وجمع الحكومة والمستشارين وقيادات الأحزاب وهيئة رئاستي البرلمان والحوار الوطني والقى فيه كلمة قوية طالب الحوثيين بالخروج فوراً من عمران انسحب من الاجتماع شخص بدا من هيئته ومن الطريقة التي عبر بها عن رد فعله وانسحابه أنه يشق طريقه في المهمة التي أوكلت إليه من قبل الجماعة وسط ألغام ليس أقلها خطورة العيون التي تراقب ردود فعله في مثل هذه المواقف.

كان ذلك الشخص هو صالح الصماد الذي كان قد حل محل صالح هبرة في تمثيل الجماعة على أكثر من صعيد ومن ذلك هيئة المستشارين.

ثم تتالت الأحداث وظل مأخوذاً بهاجس المراقبة الدائمة في كل المهمات التي أوكلت إليه بما ذلك رئاسة "المجلس السياسي".

لم يشكل الصماد بمنصبه الشكلي الذي مات تحت عنوانه قيمة حقيقية بالنسبة لجماعة الحوثي اللهم إلا إذا أخذنا بعين الإعتبار حاجتهم في تلك المرحلة المبكرة لتنويع قاعدتهم الاجتماعية خارج السلالة.

بمقتله يمكن القول إن الذين يصرون على نقاوة نفوذ الجماعة قد رصدوا وهم يعبرون عن مغادرته بالإرتياح ، على الرغم مما يعنيه ذلك من مخاطر تعكس تحولا في أسلوب المواجهة على أرض المعركة.

وحتى لا يتعثروا بشخصية أخرى من خارجهم يتكرر معها تعريض نفوذ الجماعة لمخاطر التشتيت ، فقد بادروا وعلى نحو سريع بإحلال مهدي المشاط محله بصورة اختفت معها مهارتهم القديمة في استخدام الآخرين لخدمة السلالة، مع كل ما يبعثه ذلك التصرف من إشارات سلبية تؤجج الصراع الذي برز إلى السطح في أكثر من مناسبة بين حلقتي الجماعة : الحلقة المركزية التي تجمع السلالة بمكونها العقائدي، والحلقة الموالية والتي تتنوع بتعبيراتها ومكوناتها الاجتماعية ومصالحها وحساباتها الخاصة.

بعيد مقتله مباشرة ، طويت صفحة الصماد بهدوء وبدم بارد من قبل الجماعة التي انتسب إليها دون إدراك منه ومن أمثاله لحقيقة أنه لا يوجد ما يعرف به الانتساب الى هذه الجماعة من خارجها سوى الولاء ، والولاء الذي لا تشوبه شائبة . فالإنتماء هنا لا يعكس أي صيغة من صيغ الروابط السياسية كما هو الحال في الأحزاب والمكونات والتجمعات المدنية ، ذلك أن الجماعة التي رفضت أن تتحول الى مكون سياسي ظلت تعمل بصيغة الإنتماء السلالي ومرجعياتها الفكرية في نطاق الحلقة المركزية التي تدير وتتحكم فيما عداها من الملتحقين بها على أساس الولاء أو الإنتفاع . وتشكل الحلقة التي يتكون منها الموالون المخزون الذي يستخدم لأكثر من غرض والتي تعد السياج الذي يحمي الجماعة . وتبقى وظيفتها محصورة في هذا النطاق ، دون أن يسمح لمنتسبيها التسلل إلى مراكز القرار إلا عند الضرورة ولأسباب آنية تقررها قيادة الجماعة.

أبرز التناقضات التي دفعت بالصراع داخل حلقات الجماعة هي أن الشعارات السياسية التعبوية التي تستخدم في الاحتشاد اليومي لا تجد لها حاملاً سياسياً معبراً عنها في أرض الواقع غير حركة عقائدية مغلقة ومستغرقة في ذاتها وخطاب رغائبي لزعامة لا يجمعها بالناس سوى الفيديولنك.

حالة التصادم بين الحلقتين ، والتي غالباً ما أسفرت عن تقليص المزيد من نفوذ الحلقة الثانية في البناء العام لمركز القرار داخل الجماعة ، ناشئ عن هذه الحقيقة وحقيقة هامة أخرى مشتقة منها وهي أن التسوية السياسية ، من وجهة نظرهم ، يجب أن تتركز في عدم التفريط بالمكسب "الطائفي" الذي سيسعون إلى تحقيقه من التسوية المرتقبة بحيث يبقى حكراً على الحلقة الاساسية دون أن ينازعها في ذلك أحد من خارجها.

ولتحقيق ذلك فإنه لا بد من إعادة بناء وتحضير الجماعة بالصورة التي تظهر فيها كطرف "نقي" ووحيد في معادلة التسوية مقابل الطرف الآخر الذي يمثل الشرعية ، خاصة بعد أن بدأت تسريبات تتحدث عن بنود مشروع التسوية للمبعوث الأممي السيد "جريفيث" ومنها أن المفاوضات المرتقبة ستكون بين الحكومة والانقلابيين.

ولذلك لا نستغرب السرعة التي جيء فيها بالمشاط الى رئاسة "المجلس " دون أن تحسب الجماعة أي حساب لحلقة الموالين الذين يفترض أنهم لا زالوا يشكلون في معادلة الصراع والحرب رقماً مهماً بالنسبة لهم.

الحوثيون أكثر ما يشغلهم في اللحظة الراهنة هو إعادة تجميع أوراق ومراكز النفوذ بأيدي جماعتهم حتى لا ينازعهم أحد في نصيبهم من مكاسب التسوية المرتقبة ، وبصورة إجمالية لا بد من النظر إلى أن تصفية حليفهم السابق صالح ، ومعه المؤتمر الشعبي ، قد انطلق في الأساس من هذه المعادلة الخطية التي يتهيأون أن يكونوا فيها الطرف الأوحد في مكون تحالف الانقلابيين المفاوض.

لم يعودوا يفكروا في تنويع وتوسيع القاعدة الاجتماعية لحركتهم ، مثلما كانوا في بداية أمرهم ، ولو من باب التمويه في ظرف لا تزال فيه الحرب تدق أبواب أكثر مناطقهم نفوذاً . باتوا يدركون أن مشروعهم الذي كان يملي عليهم اشتراطات ودوافع العمل مع الآخرين ، ناهيك عن استفادتهم مما أفرزته مرحلة الاستقطاب الاجتماعي وثأرات الصراعات الدامية والإفقار وإخفاقات الأنظمة في بناء الدولة الوطنية من مناخات وتربة خصبة للعمل ، قد سقط إلى غير رجعة . ولذلك فإنهم يعيدون ترتيب البيت الداخلي باستعادة حلقات النفوذ إلى أيديهم استعداداً لمرحلة التسوية التي لن يكون فيها الآخرون من حلفاء الأمس إلى جانبهم سوى أوراقاً من غير رصيد ، حتى أن الداعي المذهبي الأكبر الذي يتجاوز السلالة لن يكون غير ورقة محروقة أمام النزق الطائفي الذي يتبلور داخل جماعة تعتقد أنها تحمي نفسها بنقاوة الدم.

في المواجهة مع الإنقلابيين الحوثيين: هل يصبح صوت الانتقام أعلى وأشد حماساً من صوت استعادة الدولة!!

لو كانت الاجابة بنعم، وتحول الأمر على هذا النحو، فلا شك أن الحوثيين سيجدون ما يسوقون به عدوانهم على الدولة وتزكية ما يجعل معركتهم مقبولة إجتماعياً.

الحرب التي تختفي فيها "الدولة" ويظهر فيها الإنتقام كعنصر محرك لسير المعركة تنتهي إلى نهايات تظل الدولة غائبة فيها إلى ما لا نهاية. والحوثيون، الذين اعتدوا على الدولة، منتبهون لحقيقة أن معركتهم مع استعادة الدولة خاسرة بكل معنى الكلمة، لذلك فانهم يصعدون على الجبهة الأخرى بمزيد من القمع والإجراءات التي كان من بينها قتل حليفهم القديم صالح.. وهي إجراءات تنم عن خطوات مدروسة لإكساب معركتهم مشروعية تاريخية ببعد إنتقامي يعزلها تماماً عن القضية الحقيقية المتعلقة باستعادة الدولة. وسيتحقق لهم ذلك لو نجحوا في جر الآخرين إلى هذا المستنقع وإنتاج خطاب انتقامي مقابل حيث يختلط الحابل بالنابل وتضيع الدولة في "هيصة" هذا الخطاب المأفون بروح الإنتقام.

لا يجب أن نصفق لمثل هذا الخطاب لأنه ملغوم بثقافة داحس والغبراء، وهو يوفر لمن اعتدوا على الدولة وصادروها فرصة الهرب من استحقاق وطني لا بد أن يتحملوا مسئوليته.

الإثنين, 16 نيسان/أبريل 2018 20:35

مات عبده هزاع وبقي ميراث نشاطه الانساني


مات عبده محمد هزاع الصبيحي بعد أن أزاح عن بلاد الصبيحي -سهلها وساحلها- ركاماً ثقيلا من الإهمال وستائر النسيان ، وكشف عن حقيقة أغفلها أهلها سنين طويلة تجذرت في أعماق الموروث الانساني لهذه البقعة من أرض اليمن بامتدادها التهامي الحميري كرافد لحضارة قامت على التجارة والعلاقات بين الأمم.

إكتشف عبده هزاع جوهر الانسان في هذه المنطقة بعيداً عن المظهر الملتبس بالسلاح والقسوة ، وبدأ مسيرة الاكتشاف بالاعتماد على حيوية العلاقة التاريخية بين البحر واليابسة ، فأنشأ أول نشاط تجاري في صورة تعاونية لتوزيع المواد الغذائية سرعان ما توسع نشاطها ليشمل المنطقة بأكملها وأخذ يمتد الى خارج المنطقة.

وبعقلية اقتصادية تجاوزت زمنها أخذ يطور نشاط التعاونية لتأخذ طابعا مؤسسياً أسهم في توفير الخدمات لأبناء المنطقة ، وإقامة استثمارات في مجال الخدمات والاسكان والنقل والتعليم والصحة ، وجاءت حرب ١٩٩٤ وقد أصبحت التعاونية ترميزاً لانتقال منطقة كاملة من السكون إلى الحركة، فكانت هدفاً رئيسياً للمنتصرين في الحرب . صدر الامر بمصادرة ممتلكاتها وتخريب نشاطها وبقي المرحوم عبده هزاع يقاوم ظلم المنتصرين البغيض وفساد كل من تم توجيههم بتدمير ذلك النشاط الرائع.

قاوم فساد نظام كان يرى النجاح الانساني في هذه المنطقة منكراً ومعه كل ملحقاته من المساومين والبائعين من كل لون . طرق كل الأبواب وقدم مشاريع حل لكل ما لفق على التعاونية وأنشطتها من قضايا ، سجن ظلماً لفرض حلول لتصفية أصول التعاونية.

التعاونية اليوم وما تبقى منها هي ميراث منطقة كاملة ، ليس بأصولها التي اندثرت ، ولكن بفكرتها التي انتزعت أبناء هذه المنطقة من بين ركام النسيان لتضعهم أمام حقيقة أصيلة من حقائق التاريخ عندما يتعلق الأمر بالمبادرة التي تستنهض الروح لتقاوم ملل الجمود.

رحم الله عبده هزاع

 

الأربعاء, 04 نيسان/أبريل 2018 19:32

إيقاعات شيطانية

لا يجب التلهي بالمشكلة التي يمر بها أي مجتمع ، وخاصة عندما تأخذ هذه المشكلة صورة الإغتيالات على النحو الذي نراه اليوم . التلهي بها يحولها إلى كارثة . وأقصد بالتلهي توظيفها إعلامياً وسياسياً في سياقات مختلفة عن طبيعتها وأسبابها خدمة لشكل آخر من أشكال الصراع السياسي الذي تزخر به اليمن .

صمت الكثيرون عن الاغتيالات ورأوا انها ، في أحسن الأحوال ، لا تعنيهم ، بل إن البعض شكك فيها من منطلقات أخذت تداهن القبح الذي تجلت به أسبابها ومبرراتها.

الاغتيالات في اليمن مسألة قديمة تتجدد بإيقاعات مختلفة ، ولكنها إيقاعات شيطانية في كل الأحوال ، الذين سنوا هذا الأسلوب القبيح لتصفية حساباتهم مع خصومهم يتحملون وحدهم مسئولية تكريسه كنظام لتصفية الخصوم ، الأمر الذي يجب الاعتراف بأنه منتج محلي ولا يمكن الخلاص منه إلا بإرادة وطنية بحتة .

بلاش اللعب على أوتار "قضايا أخرى" في موضوع الاغتيالات ، لأن عملاً كهذا لن يكون أكثر من تمويه الطريق إلى مكمن المشكلة ، وعندها نكون قد فتحنا للمأساة أكثر من باب .

لا بد أن نفكر بمسئولية لنقف أمام هذا العمل الاجرامي ونواجهه بكل ما أوتينا من حب لبلدنا .

الأحد, 01 نيسان/أبريل 2018 16:35

الأيديولوجيا في الصراع العالمي

ظلت أوروبا تصدر حروبها الايديولوجية إلى خارجها وتكتفي في جغرافيتها وداخل رقعتها بحروب باردة ، وأحياناً نادرة نارية ، من منطلقات تتحكم فيها مصالح إقتصادية وجيوسياسية وعرقية .

وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وقسم العالم بين الدول العظمى المنتصرة في الحرب على أساس أيديولوجي .. وأخذت الأيدولوجيتان الرأسمالية والاشتراكية تتصارعان إقتصاياً وسياسياً وعسكرياً.

تحكمت أوربا في عملية الصراع وقادته بحذر شديد ، حيث جنبت نفسها الصراع العسكري ، فيما عدا ما شهدته دول البلقان أثناء تقسيم إتحاد يوغسلافيا القديم .. وخاضت أوربا حروبها الايديولوجية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية . وشهدت أفغانستان المعركة الايديولوجية الحاسمة التي تناسلت منها بعد ذلك حروب لم تسلم منها أوربا وأمريكا .

اليوم ، وبعد أن بدا أن المشهد قد استقر لصالح الديمقراطية الرأسمالية بالصيغة التي كانت فيه السلاح الأمضى في مواجهة المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي القديم ، يخيم على أوربا شبح الحرب الباردة بصورة تثير المخاوف العالمية من توظيف هذه الأجواء لغايات يصعب التحكم فيها خاصة وأن الأبواب مفتوحة على صراعات اقتصادية وأمنية بما فيه الهجوم الإلكتروني cyberattackلا أحد يعرف امتداداتها الجيوسياسية ، وهي على عكس الصراع الأيديولوجي القديم والذي كان كل طرف فيه يعرف حدود علاقته بالآخر وهو ما حفظ أمن أوربا على النحو الذي أبقاها قادرة على خوض حروبها خارج حدودها بغطاء أيديولوجي.

وعلى عكس ما جرى الترويج له في زمن الحرب الباردة لم تكن الايديولوجيا هي سبب أو ميدان الصراع الرئيسي بقدر ما كانت تخفي وراءها أسباباً أكثر أهمية تتعلق بالاقتصاد والأمن وصراع المصالح والشركات العابرة للقارات ، وهذا ما تكشفه حقيقة الوضع المقلق الذي يمر به العالم اليوم .

يومذاك كان الاستقطاب السياسي والاقتصادي أغزر وأكثر سهولة بالنسبة للدول العظمى ، فالأيديولوجيا تحرك المشاعر على النحو الذي يجعل التعبئة أيسر ، أما اليوم فلا بد من عناوين بارزة ومقنعة للعالم لمواصلة الاستقطاب على هذا الصعيد ، وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة ، حتى أن التلويح بالحرب وبالسلاح أصبح من الامور المألوفة على عكس ما كان عليه الحال في العهد الايديولوجي .

 

الإثنين, 26 آذار/مارس 2018 20:00

ما يمكن أن يقال بهذه المناسبة

 

١/ أن مشروع التمدد الايراني في اليمن والسيطرة على المداخل الاستراتيجية للبحر الأحمر قد فشل فشلاً ذريعاً ، لكن معاودة التفكير بذلك المشروع يتوقف على طبيعة التسوية التي ستتوقف أو ستنتهي بها الحرب . وبين التوقف والإنتهاء تاريخ من المغالطة التي نتج عنها استمرار الحروب.

٢/ اليمن مهمة بالنسبة للمشروع الايراني وذات حيوية خاصة سواء بذاته، أو من حيث موقعها الاستراتيجي وقربها من الشواطئ الإفريقية الشرقية ، حيث يدور صراع قديم في هذه الجزء الحيوي من المحيط الهندي وبحر العرب أصبحت إيران جزءاً منه بفعل الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الجزئي للقوى الكبرى ، ويمكن القول اليوم إن سياسة إيران بجعل اليمن قاعدة للتمدد في أفريقيا قد فشل هو الآخر وسقط من حسابها ، وستعمل بكل السبل على أن يكون السقوط مؤقتاً بالاعتماد أيضاً على التسوية التي إما أن تجعله سقوطاً نهائياً أو أن تبقي على شقوق يتسلل منها منها حلم العودة بروافع أكثر دموية.

٣/ تحمل اليمن وشعب اليمن عواقب إفشال المشروع الايراني وتعرض لخراب مهول ، وعانى شعبة كارثة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً في المنطقة ، ويسجل بهذا أنه البلد الذي تتأصل فيه الحقائق التاريخية المنشئة لواقع الاستقرار الذي تتطلع إليه المنطقة بعيداً عن الاستقطابات المربكة لأمنها وسلامتها.

٤/ يتحمل الحوثيون ومعهم الرئيس السابق صالح مسئولية جلب هذا المشروع الكارثة إلى اليمن وكل ما قاد إليه من دمار وخراب ، بعد أن كان اليمنيون قد غادروا مشاغبات الماضي بشأن بناء الدولة واتفقوا على صيغة توافقية تضع اليمن على طريق المستقبل.

٥/ التحالف ممثلاً خاصة بالاشقاء المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة  وقفا إلى جانب اليمن وشرعيته الدستورية في تصديه لهذا المشروع ، مدركين ما سيترتب عليه من تغيرات استراتيجية سياسية وأمنية وثقافية في المنطقة كلها تعيد بناء المعادلات برمتها لصالح هيمنة شوفينية يجسدها نظام لم يستطع أن يغادر هذه الثقافة ، بل قام بتكريسها بهوية طائفية خطيرة على النسيج الاجتماعي بين شعوب المنطقة ، وكان عليهما أن تتحملا إلى جانب اليمن عبء التصدي لهذا المشروع الكارثي.

٦/ إفشال المشروع وقطع دابره على هذا النحو أربك حسابات النظام الإيراني وحلفائه مما دفعهم إلى المناورة بإطالة أمد الحرب ، وبالحديث عن تسوية سياسية لا تنهي الحرب بل تبقي على المشروع كطرف في معادلة هذه التسوية تحيناً لفرص أخرى . وحتى لا يبدو أنهم يستعجلون هذه التسوية ، فقد راحوا يناورون بمنطق مراوغ عن حقيقة الصراع الذي يتجلى في الاساس بين مشروع وطني أجمع عليه كل اليمنيين ومشروع خارجي مستولد من رحم المشروع التوسعي الايراني . تكمن المراوغة بوضع المملكة العربية السعودية كطرف في مواجهة " اليمن" ، ولتأكيد منطقهم هذا فهم يوجهون إليها يومياً الصورايخ الباليستية الايرانية الصنع والتطوير  تمشياً مع سياستهم بإطالة أمد الحرب وتمويه أسبابها ، أو لفرض منطق التسوية الذي يناورون به.

٧/ إن إسقاط هذا المشروع بصورة لا تسمح بعودته من جديد يجب أن يتجسد في إدانة التدخل الايراني في اليمن ،  فلم يعد من المقبول القول إنه لا يوجد ما يدلل مادياً على مثل هذا التدخل . تسويق هذا المنطق هو اللامنطق بعينه بعد كل هذه الشواهد التي جعلت من بلدنا وشعبنا هدفاً لنزعة شوفينية وطائفية لنظام مؤذي ومغامر.

٨/ مكونات الشرعية الدستورية التي تنضوي في إطارها الحكومة والأحزاب والقوى السياسية والمدنية وشرعيات المقاومة بقيادة الرئيس هادي لا بد أن تستعيد مبادرتها في التصدي أولا لكل ما يجمعها على قاعدة استراتيجية موحدة وخطة شاملة تضع بموجبها رؤيا العمل الموحد على كافة الأصعدة ، بعيداً عن الحسابات التي أثبتت أنها تعمل على نقيض كامل مع شروط الانتصار واستعادة الدولة وحل مشكلة الجنوب حلاً يرتضيه أهل الجنوب ، ولا بد من الصراحة في نقد الأخطاء والنواقص وتصحيحها ، بدلاً من الغرق في تفاصيل المشكلات أو الأخطاء التي لا بد وأن تبرز لدى كل من يعمل . وفيما عدا الفساد بأي صيغة كان ، فإن الأخطاء يمكن تصحيحها . الوضع القائم يجمع بين الدولة والمقاومة في صيغة تكوينات سياسية وقانونية وشعبية وعسكرية لها خصوصيتها التي تتطلب إدارة مرنة ودينامية لا بد أن تؤثر فيه ثوروية المقاومة على بيروقراطية السلطة ، وترشد فيه أدوات السلطة أداء المقاومة ..وهذا دواليك في عملية متواصلة ومتصلة الأجزاء وفقاً لديناميات الفعل الذي تحركه أهداف وطنية كبرى. 

٩/ نكرر ، وسنظل نكرر ، أن العلاقة مع التحالف في صدارة المسائل التي يجب بحثها بجدية . ويجب أن تبحث في إطار استراتيجي من حيث الرؤيا والموضوعات ومستوى البحث ،  فذلك هو المستوى الذي يمكن أن يتم فيه تجاوز المشكلات التي ترتبت على أسلوب إدارة التحالف وموضوعاته المتشعبة ، والرد على الأسئلة التي تتعلق بالمستقبل.

اللغط الذي يدور هذه الأيام حول تسوية سياسية قريبة للأزمة اليمنية منشؤها في الأساس مصدران .

الأول ويعكس الرغبة في إيقاف الحرب على أي نحو كان بعد أن استبد اليأس بأصحاب هذا المصدر من تحقيق أي مكاسب عسكرية حيوية من شأنها أن تفتح الطريق نحو حل ينهي الانقلاب وما ترتب عليه من نتائج على الأرض .

أما الثاني فيأتي من وسط الانقلابيين الذين نشطوا في الآونة الأخيرة في فبركة تسريبات عن اتفاقات تسوية على وشك أن توقع بين الأطراف المختلفة بعد أن وصلت الحرب ، على حد زعمهم ، إلى طريق مسدود . وهم لا يتورعون في وصف الحرب بأنها فشلت ، وأن التسوية السياسية هي الطريق الوحيد للخروج من المأزق ، وكأن ما قاموا به من عدوان على الدولة والشعب ليس حرباً ، بل إن مقاومة إنقلابهم هي الحرب .

والمتتبع لما يضخه المصدران من أخبار حول التسوية يستطيع أن يميز الطيب من الخبيث .

فالأول تتناسق أخباره في سياق متصل مع ما وصل إليه حال الناس من بؤس شديد . وهو يعبر عن رغبة في حل سياسي يمنع الانزلاق نحو مزيد من التدهور والغرق في المأساة بما يرتبه ذلك من أوضاع إنسانية أكثر خطورة . ولكن عندما يجري تفكيك هذه الرغبة عند الكثير من هؤلاء بمزيد من الاسئلة لتوضيح مضامينها ، نجد مثلاً أن الإجابة على سؤال من قبيل : هل تريد سلاماً دائماً ومستقراً ينهي الحرب أم سلاماً مؤقتاً وهشاً يبعثها أكثر دمامةً من ذي قبل ؟؟ تكون الاجابة : بالطبع سلاماً دائماً ومستقراً يضع حداً لتكرار الحروب . ثم يتبعه سؤال عن شروط تحقيق مثل هذا السلام وهل قبول الأمر الواقع الذي فرضه الانقلاب يحقق مثل هذا السلام ؟ وتكون الإجابة بلا ، واثقة أحياناً وحائرة أحياناً أخرى .. لكن في كل الأحيان يتم التأكيد على أن السلام الدائم والمستقر يشترط في الأساس إنهاء الوضع الانقلابي وتصفية كل العوامل التي تسببت في هذه الحرب بحيث لا تكون سبباً في نشوب صراعات وحروب أخرى . ويأتي دور هؤلاء في طرح السؤال : ولكن كيف سيتم ذلك وقد مضى على الحرب ثلاث سنوات ولا نرى في الأفق ما يبعث على الثقة من أن الحرب قد فتحت طريقاً نحو الحل ؟ ويبقى السؤال محور حديث فيه كثير من الاتفاق وقليل من الإختلاف.

ويجعل الثاني من التبشير بالتسوية وسيلة لإحلالها محل السلام الذي تختلف شروطه بدوافعه ونتائجه . ولذلك فهم لا يكلون من الحديث عن هزيمة " العدوان" وإرغامه على الذهاب إلى التسوية في مشهد تراجيدي تحيط به السخرية المترتبة عن اعتقاد بأن التمسك بمكاسب الانقلاب سيكون هو الطريق المفضي إلى تسوية سياسية لن تلزمهم سوى بالقليل من التنازلات التي تجعل مطلب حمايتهم "كأقلية" -وفقاً لما يروّجون له - مقبول دولياً .

وهم وإن تحدثوا عن السلام فإنما بهذا المفهوم الذي يبقي الباب مفتوحاً أمام الحروب . والحقيقة هي أن ما يبشرون به يعكس الضغوط التي يتعرضون لها من المجتمع الدولي ومن حليفهم من ناحية ، وحالة اليأس والتخبط الناشئة عن الفساد الذي استشرى وسط الجماعة وحالة الإنهاك العامة وسوء إدارتها للمناطق التي تحت قبضتها .

إيران المنهكة إقتصادياً وعسكرياً لم تعد قادرة على مواصلة تقديم الدعم السخي لبؤر الصراع والحروب التي خلقتها خلال السنوات الماضية في المنطقة ، حيث شهد المجتمع الايراني إحتقانات ضخمة شكلت تحديات كبيرة قامت السلطات بقمعها بقوة . وكانت النتائج المباشرة المترتبة على كل هذه التحديات قد ولدت عدداً من شروط الثورة الاجتماعية في بلد وصل فيه النظام السياسي إلى طريق مسدود . ولذلك فإن أول حلقة سيتم التضحية بها في مضمار البحث عن مخرج من المأزق السياسي الداخلي هي حلفاؤهم في اليمن بعد أن تحولوا إلى معضلة اقتصادية وسياسية ومالية . لا سيما وأن توقعاتهم بالسيطرة على اليمن قد ذهبت أدراج الرياح ، واتضح لهم أن شروط السيطرة على بلد مثل اليمن تتجاوز الممكنات التي أخطأوا في إحتسابها جيداً ، بما ذلك إقامة النظام الطائفي الذي يتعسف الواقع الثقافي والاجتماعي اليمني ، خاصة بعد أن توصل اليمنيون في مؤتمر الحوار إلى صيغة تاريخية للدولة التي تكفل حماية حقوق كل اليمنيين ونبذوا التعصب والعنف والقوة المكرهة لارادة الناس في تكوين الدولة . ولكي يتجنبوا هذه الخطوة ، بما تعنية من خذلان ، فقد أخذوا يدفعون بوسائل الضغط على الحوثيين بقبول التسوية السياسية في الوقت الحاضر وهم في وضع يستطيعون فيه أن يحققوا مكاسب سياسية كي لا يأتي وقت آخر وقد خسروا هذه الفرصة . خطاب زعيم الحوثيين الأخير فيه من المراوغة ما يكفي لمعرفة موقفهم من السلام ، فجل ما يسعى إليه هو تسوية توقف الحرب لا سلاماً ينهيها ، وهو لا يحمل غير رسائل استغاثة بعدد من تفعيلات المشهد السياسي . فآخره ، الذي يتمسك فيه بسلاح " الشعب" ، يتناقض جوهرياً مع الرسائل التي أطلقها تجاه بعض خصومه كإشارة واضحة إلى أن عملية التسوية ممكنة بجامع الهوية التي باتت الجماعة تتحسسها من منابت تعكس حجم الهوة السحيقة التي وضعت نفسها فيها بالانقلاب على التوافق الوطني.

إن تحويل مشاورات عملية السلام إلى ضجيج يذهب به بعيداً عن شروطه التي تجعل منه سلاماً مستداماً ومستقراً سيهدد بكل تأكيد فرص السلام التي يتطلع إليها الناس .

لا يجب التعامل مع هذه العملية التاريخية بالخفة التي تعيد إلى الأذهان سخرية الحوثيين وحليفهم من إتفاق اليمنيين على مشروع الدولة الوطني والذي تم الانقلاب عليه بقوة السلاح ، تماما مثلما تم الانقلاب على وثيقة العهد والاتفاق التي كانت هي الاخرى تؤسس لبناء دولة الوحدة.

تجارب النخب اليمنية المتنفذة في إفشال مشروع الدولة كثيرة ، ومحصلتها هذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس. عملية السلام يجب أن تكون بالوضوح الذي لا يترك مجالاً لتمويهها بتسوية فوقية لا تذهب بالمشكلة إلى جذرها ، كما عبرت عنها مخرجات الحوار الوطني، على أن لا تترك لنفس النخب المتنفذة التي أفشلت مشروع الدولة ، فلا بد من إحاطتها برعاية ومشاركة شعبية واسعة لارتباطها بمستقبل هذا البلد . والمستقبل لا بد أن ينتقل إلى أيدي الشعب .

الثلاثاء, 20 آذار/مارس 2018 17:52

هوامش على جدارية قضية هي الاساس

يجندون الأطفال... يزرعون الألغام .. يمنعون وصول مواد الاغاثة إلى الناس... يغيرون المناهج الوطنية لخدمة مشروعهم .. يحاصرون تعز .. لا يدفعون رواتب الموظفين .. يصادرون ممتلكات الناس ... يقتحمون ويفجرون منازل خصومهم ..يسجنون الصحفيين وخصومهم السياسيين .. يرفضون السلام .. يطلقون الصواريخ الباليستية المحرمة ...يمارسون أسوأ أنواع الفساد .. يدمرون الاقتصاد .. استنزفوا الإحتياطي النقدي للدولة ..إلخ

من الممكن أن نسترسل في سرد قوائم من الخطايا التي ارتكبها ويرتكبها الحوثيون وحليفهم القديم المتجدد بقيادة تحت الإختبار .

والسؤال ما الذي كنّا ننتظره منهم ؟ هل كنّا نأمل أن يمارسوا عكس ذلك؟ هل نريد أن نقول للعالم أنهم لو لم يكونوا كذلك لكنا قبلنا إنقلابهم وسيطرتهم على الدولة ؟!

لا يجب أن تغيب القضية الأساسية وسط هذا الغث الذي يحول الصراع عن جذره السياسي ، إلى مجادلات في علم الأخلاق والسلوك والادارة .

كل المآخذ "الأخلاقية" والسلوكية والإدارية التي نحاول أن ندلل بها على أنهم لا يصلحون للحكم مسألة سيختزنها المجتمع الدولي في ثلاجة ضخمة لتنام هناك إلى جانب غيرها من آلاف القضايا، فمثلها الكثير مما ترد إليه من شكاوى مرة من جهات العالم الأربع وعلى مساحة واسعة من الأنظمة السياسية والاجتماعية التي أنهكت شعوبها بمثل هذه الممارسات الفادحة . وهي لا تقدم ولا تؤخر عندما يتعلق الأمر بمقاومة استعادة الدولة اللهم إلا كعناوين مصاحبة لإبراز جسامة المأساة التي ترتبت على الانقلاب وسحق التوافق الوطني بقوة السلاح .

المبارزة أمام المجتمع الدولي مع هذه الجماعة الانقلابية بالاعتماد على تضاعيف تختفي معها القضية السياسية ، أو تتحول إلى قضية ثانوية ، يفقد المشكلة العنصر الحاسم الذي يتعين بموجبه حل المعادلة بالإستناد إليه.

ما يلاحظ في الآونة الأخيرة هو أن كثيراً من فعاليات المجتمع الدولي أخذت تتجاهل جذر المشكلة وتركز على أخطاء الأطراف المختلفة ، بزيادة هنا ونقصان هناك ، حتى أن خطابنا أخذ يتطبع مع هذا التوجه .. وهنا تكمن خطورة المشكلة .

محاولة انتزاع المعركة من إطارها السياسي ، الذي يقضي بأن إستخداماً للقوة بواسطة مليشيات وبمشاركة جنرالات فاسدين ودعم خارجي قد انقض بصورة دموية على الشرعية الدستورية وصادر الدولة وانقلب على التوافق الوطني وأغرق البلد في هذه الحرب اللعينة ، والتعامل من ثم معها "كمباراة ملاكمة " يحتج فيها بعدم نظافة الخصم ونزاهته ، مسألة في حاجة إلى مراجعة ليستقيم الفعل المقاوم لهذا التعدي على الدستور والارادة الشعبية على قوائم لا يصيبها الرعاش أو الإرتباك حينما تصطدم بصعوبات الواقع ومتغيراته .

الانخراط في لعبة تغييب القضية السياسية وراء كومة الخطايا والأخطاء على نحو مستقل عن جذر المشكلة خلق فجوات كبيرة في مبادأة الحل السياسي الذي أخذ يتبلور في بيانات مراوغة ، وهو ما يبدو أنه قد وفر للإنفلابيين فرصة الخروج من عنق الزجاجة من خلال الانتقال من الجذر السياسي للقضية إلى هوامش سلوكية لا تشكل بجملتها معنى ذَا قيمة حينما تجرد من الجذر السياسي للمشكلة .

لا بد من إعادة بناء الخطاب السياسي والاعلامي على النحو الذي يجعل الانطلاق من جذر المشكلة رافعة الفعل في ميدان العمل السياسي . فهناك من يدفع القضية الأساسية المتمثّلة في الانقلاب ومصادرة الدولة عمداً إلى زاوية جانبية ليحل محلها خليط من هواجس تشرعن لتغيير عنوان القضية.

وحينها سيكون الحل مجافياً لحاجة البلد إلى حل يحميها من غطرسة القوة وفسادها .

تصريحات المبعوث الأممي السيد مارتن جرافيتس الاخيرة ربما أعادت الزخم للقضية من خلال التذكير بجذرها السياسي ، وفي هذا تصحيح لمسار يجب التمسك به .

السبت, 17 آذار/مارس 2018 17:13

الانتصارات الهامشية


في الظروف التي تغيب فيها الانتصارات الكبيرة تصبح الانتصارات الهامشية محطة لاستعادة الزخم المعنوي، ولكن دون إفراط في الإستمتاع ببهجة اللحظة.

إدمان الانتصارات الهامشية بطبيعتها مشكلة، فهي تبعث الخدر في الجسم المتحفز للانتصار فتروضه على الهزيمة.

لا شيء يروض على الهزيمة أكثر من تكرار الحديث عن انتصارات لا تغير كثيراً من واقع الحال . بالأمس القريب صفقنا للبيان الرئاسي لمجلس الأمن في حين تعذر علينا أن نستخلص منه إدانة واضحة تضاهي من حيث الأهمية جزءاً ولو بسيطاً مما حواه القرار ٢٢١٦.

بين اليوم والأمس مساحة واسعة من الانتظار المفرغ من أي رجاء يتناسب مع الحاجة إلى انتصار يغير المعادلة ويفتح الطريق نحو السلام لبلد أنهكه الحرب.

وللحقيقة فإن ما يغطيه هذا التمويه يفضحه خطاب الشكوى الدائم والممل مما يمارسه الخصم ، وهو الخطاب الذي غدا شهادة أكثر منه تشهيراً.. فالتشهير لا يتم إلا بالخصم الذي يحظى بقدر من الاحترام ، أما الذي يفتقر إلى كل ذلك فإن تكرار الشكوى منه يحوّله إلى أسطورة.

الإكثار من الشكوى من الخصم في معادلة الصراع المصيرية بدون أن تكون قادراً على تأديبه لا تعني المجتمع الدولي شيئاً سوى إشعاره بأنك ضعيف، ولا يوجد على الأرض من يهبك القوة غير إيمانك بعدالة قضيتك.

عدالة قضيتك هي المصدر الوحيد للقوة التي ستمنحك التفوق . أنشر عدالة قضيتك على نطاق واسع ، وأحملها فوق إرادة لا تكسرها الصعوبات، وخفف من الشكوى ، واحم انتصاراتك الصغيرة بانتصارات أكبر في كل الميادين.

السبت, 10 آذار/مارس 2018 15:53

التهافت في توظيف المأساة اليمنية

تضمن البيان السعودي البريطاني الصادر عن زيارة ولي العهد السعودي الامير محمد ين سلمان ، في جانب ، منه الوضع في اليمن .

تناولت الفقرات المتعلقة بالوضع في اليمن عناوين هامة لخصت الرؤيا المشتركة للحل ،غير أن أهم ما يمكن الإشارة إليه هنا هما الفقرتين التاليتين:

- أكد البلدان أهمية التوصل إلى حل سياسي للازمة في اليمن بالاستناد إلى المرجعيات الثلاث : المبادرة الخليجية ، مخرجات الحوار الوطني ، القرار ٢٢١٦.

- اتفق البلدان على أن أي حل سياسي يجب أن يؤدي إلى إنهاء التهديدات الأمنية للملكة العربية السعودية وغيرها من الدول الأخرى .

وهناك فقرة أخرى لها دلالتها والتي تشير إلى الاتفاق مع شركاء دوليين ، بما في ذلك الأمم المتحدة ، للاتفاق على آلية لدفع رواتب القطاع العام في جميع أنحاء البلاد .

جاء البيان مخيباً لآمال كل من راهن على توظيف الأزمة الانسانية في اليمن للتشويش على الموقف البريطاني من الازمة اليمنية .

فالتمسك بالمرجعيات الثلاث أعاد إلى الأذهان تلك التسريبات التى جرى التطبيل لها عن أن بريطانيا ستتخلى عن القرار ٢٢١٦، وعن أن هناك حلول سياسية يجري التحضير لها خارج المرجعيات الثلاث . كما أن الحل السياسي إرتبط بأمن المنطقة بتعبير واضح لا لَبْس فيه ، وهو أمر له دلالته التي لا يمكن أغفالها حينما يتعلق الأمر بمشروعية دعم النظام الشرعي والدستوري في اليمن والذي يؤمن الاستقرار والسلام واحترام الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق وكذا القانون الدولي .

ويمكن القول أنه منذ أن تسربت أخبار عن زيارة ولي العهد السعودي أخذت جهات كثيرة تعمل ليل نهار على تكوين سيناريو لتوظيف الوضع الانساني في اليمن ليقذفوا به في وجه الزياة .

وبخسة المتهافت الذي يرى في عذابات الناس غنيمة ، عمل هؤلاء على تحويل الكارثة اليمنية ، التي تسببوا بها ، إلى وسيلة لإقتحام مسار الزيارة متناسين أن بريطانيا بلد يتسع للرأي ولكنه يضيق برداءة التعبير عنه ، وأن خصوبة الثقافة السياسية في هذا المجتمع لا يمكن أن تسمح بحملٍ مشوه ينتقص من الموقف المحترم لبريطانيا تجاه القضية اليمنية ببعدها السياسي الذي تسبب في هذه الكارثة الانسانية ، والذي لن لا يمكن حل المسألة الانسانية قبل التوصل إلى حل بشأنه .

إن حركة الجدل الواسعة التي شهدتها هذه الفترة قد ارتدت على هؤلاء المتهافتين في صيغ سياسية ونقاشات راقية في البرلمان البريطاني وغيرها من مراكز اتخاذ القرار ، متناولة البعد السياسي للأزمة والذي حاولت الدعاية الإعلامية لهؤلاء إخفائه وراء الكارثة الأنسانية .

لقد خدموا القضية اليمنية إعلامياً من حيث أرادوا توظيفها لمشروعهم الفاشل ، ولا أدل على ذلك من البيان الذي تناول القضية اليمنية ببعدها السياسي والانساني معاً وبموقف ازداد وضوحاً ولم يتغير قيد أنملة .

ومما تضمنه البيان مثال شديد الوضوح على التحول في فهم تفاصيل الأزمة ، وهي أن البعض بالأمس عندما كان يملأ الدنيا صراخاً حول الحصار البحري وأثره الانساني على حياة الناس فيخرسون كثيراً من الألسن ، وجاء تقرير لجنة الخبراء الدولية ليبرز مسألتين ذاتا صلة إلى الواجهة، وهما تهريب الأسلحة الايرانية الى الانقلابيين الحوثيين من الموانئ والمنافذ البرية ، والحصار الظالم الذي يمارسه الانقلابيون على تعز والمدن التي تحت سيطرتهم واللذان كان استشهد بهما بوريس جونسن وزير الخارجية البريطاني في مؤتمره الصحفي في تأكيد على أن الوضع الانساني هو نتاج للحرب التي "تسبب فيها الحوثيون (the insurgents) " بلسان ألستر بيرت الوزير في وزارة الخارجية لشئون الشرق الأوسط وشما أفريقيا.

بريطانيا ساحة لعرض الحجج ، وليست خشبة مسرح للاستعراض الديكوري الذي لا يحترم عقل الانسان .

الإثنين, 05 آذار/مارس 2018 19:15

التدمير الذاتي


حينما يبدو أن هزيمة العدو قد أصبحت تحدٍ لا يجوز الاستهانة به ، تذكر أنك في حاجة إلى تصحيح وإعادة بناء قواعد المواجهة.

إحذر أن تبدأ بتضخيم مشاكلك ، وتفريعها ، والغرق في تفاصيلها.

في هذه الحالة انت لا تعمل أكثر من تشتيت طاقتك لهزيمة نفسك بنفسك .  كل ما يجب أن تقوم به  هو الاعتراف بأن جزءاً كبيراً من ممانعة العدو يكمن فيما وصل إليه حالك ، وهو ما يعني أن إصلاح هذا الحال أصبح ضرورياً لمواصلة المعركة.

 وفي إطار هذه العملية التصحيحية يتم استحضار عناصر هذه الطاقة وإعادة بنائها بأسس جديدة تستخلص من التجربة.

هزيمة النفس عملية تتم بتدمير كل عناصر القوة الذاتية عنصراً عنصراً بدوافع وذرائع مختلفة ، وبأدوات تستبطن الخيبة أكثر من أي شيء آخر. وهي تتم بتدبير من تقديرات خاطئة في قراءة الصعوبات ومسارات الأحداث.

لا يوجد ما هو أسهل من أن نختلق المعارك والخصومة مع عناصر قوتنا في ظروف التحديات الكبرى ، لا لشيء إلا لأن الطبيعة البشرية ميالة في ظروف الشدة إلى أن تستعدي محيطها والعناصر المكونة لقوتها لتفتح لنفسها أفقاً نحو مظلومية وهمية تُمارس فيه طقوس هذه المظلومية التي تغلف الشعور بالخيبة.

كم هي التجارب البشرية التي وقعت في فخ هذا الخلط الناشئ عن هذه الخيبة التي يولدها الاحساس بصعوبة هزيمة العدو والهروب من ثم إلى تدمير عناصر القوة الذاتية في معارك داخلية طاحنة.

اليوم ينصب فخ كبير ، من حيث نعلم ولا نعلم ، لتدمير القوة الذاتية "للجبهة" الواسعة التي تسعى لاستعادة الدولة من أيدي الانقلابيين.

تغذي عملية التدمير تلك أخطاء سجلتها وقائع لم نحسن إدارتها في ذات اللحظة التي كان يجب أن ننتبه فيها إلى أن المعركة التي نخوضها هي ذات أبعاد مركبة ، فيها ما يمكن السيطرة عليه ، وفيها ما يحتاج إلى تصحيح حاسم في حينه ، وفيها ما يحتاج إلى تسويات ، وفيها ما يتطلب تنازلات ، وفيها ما يستدعي النوم على وجع ... غير أن الأهم من كل هذا هو الإصرار على تحقيق الهدف الذي يبرر تضحيات الناس ، ومعه الإمساك بالحلقة الاساسية التي تستطيع بواسطتها ضبط ما ينشأ عن هذا الوضع من تداعيات.

 الأقوياء وذوي الاهداف العظيمة وحدهم القادرون على ترتيب خياراتهم بايقاعات متناغمة مع هذه الاهداف ، وإعادة ترتيب خطواتهم في ميدان المواجهة بعيداً عن الخصومة المغلقة على حسابات لا تسمح بالمراجعة لتصحيح الأخطاء ، وبعيداً عن تعسف طبائع الواقع الذي يجري التحرك فيه ، وبعيدا عن سلوك الإقصاء والزعيق الذي تستولده نرجسية لا تستطيع في لحظة الجد أن تبرر دوافع فعلها، لا بد من القول إن كل مؤشرات الأزمة بفواجعها الكبيرة تطرح في اللحظة الراهنة مسئولية إعادة بناء قواعد المواجهة متجاوزين ما أصاب "الجبهة" منشروخ.

الأربعاء, 28 شباط/فبراير 2018 18:33

ما يجب أن نذكر به أنفسنا ونذكر به الأصدقاء

خطاب المبعوث الأممي السابق "ولد الشيخ" أمام مجلس الامن في اجتماعه الأخير لخص بأصدق العبارات طبيعة القوى الانقلابية التي لا تعطي لعملية السلام أي إعتبار ، سوى أنها تتمسك بانقلابها وتناور بالمفاوضات لتعزيز مكاسبها .

هذه شهادة للتاريخ ينهي بها مهمته الشاقة التي أفشلها الانقلابيون ليتحملوا وحدهم مسئولية المأساة التي أغرقوا فيها البلاد.

تتجسد المأساة اليوم في أن ما يتكشف من أبعادها لم يعد يخفي حقيقة ما يراد لهذه المنطقة أن تغرق فيه . يراد لها، باختصار، أن تغرق في حروب تفكك بناها الوطنية ، وتشعل الصراعات في مجتمعاتها لتبقى خارج معادلة العصر بحماية إقليمية ودولية .

مشروع النظام التسلطي الايراني الذي يجري تسويقه بمراهنات لا يصدق معها في كثير من الأحيان صوت الاحتجاجات التي تصدر من هنا وهناك ، هو الذي يقوم بهذه المهمة ، وهو يتكون من مستويين : يدور المستوى الاول في إطار النظرة الشوفينية الاستعلائية التي تقطر عنصرية من قبل الأنظمة المستبدة الإيرانية ، وتهدف إلى إشاعة الفوضى وتفتيت الدولة العربية لتبدو إيران وكأنها الأمة الوحيدة المستقرة والمؤهلة لزعامة المنطقة . والحقيقة التي لا غبار عليها هي أن هذه الأنظمة الاستبدادية لم تكن مؤهلة لإقامة إيران مستقرة ومتطورة ، ولذلك أخذت تتوارث مشروع إثارة الفوضى في المنطقة لتخفي خيبتها وفشلها في تحقيق ما حلم به الإيرانيون وقواهم الوطنية وناضلوا من أجله وهو بناء دولة مستقرة لكل الإيرانيين .

تحمل هذا المشروع النخب التي تحرس الميراث التسلطي الايراني والميراث الشوفيني الذي بدأ بقمع وتصفية القوى الثورية الوطنية الايرانية وتعبيراتها المدنية لتتمكن من تسخير مقدرات وثروات الشعوب الايرانية لهذا المشروع الخائب. وبهذا الصدد تعمل المؤسسة الثقافية "الشوفينية" التي نمت في كنف هذه الأنظمة التسلطية على استحضار تاريخ العلاقة مع الجيران العرب على النحو الذي يسهل فيه توظيفه لتكريس نظرة الاستعلاء تلك ، ومن منظور سياسي تاريخي لا يمت بصلة للاندماج الحضاري الذي شهدته كل الأعراق في إطار الدولة الأسلامية .

إن العودة بالعلاقة إلى تلك الصورة المشوهة التي احتفظ بها "الشوفينيون" ممن حملوا ميراث " الشعوبيين" ، الذين فجروا الحضارة الاسلامية من داخلها بوحي من عصبيات عرقية لئيمة ، لا يستقيم مع ما تستلزمه علاقات الجوار من تكامل وتفاهم واحترام .

ولأنها لا تستطيع أن تقوم بهذا الدور بصورة مباشرة وبأدواتها الخاصة ، فقد أخذت توظف المستوى الثاني للمشروع كأداة تفكيكية للمجتمعات العربية ، والمتمثل في إحياء الانقسام الطائفي ومقاومة بناء الدولة الوطنية عبر وكلاء في كل دولة على حدة يرفضون الدولة الوطنية ، ويعتقدون أن استقرارهم ومستقبلهم يكمن في الدولة الطائفية .

هذين المستويين لمشروع الدكتاتورية الايرانية في المنطقة : الشوفينية الاستعلائية وأداتها الطائفية ، يشكلان المأزق الذي تورط فيه نظام إيران ، ويعمل على توريط المجتمع الدولي فيه لتغرق المنطقة بأكملها في صراعات وحروب لا تنتهي .

وما يثير الدهشة هو أن تقبل دولة عظمى كروسيا الإتحادية بأن تتورط في الدفاع عن مشروع كهذا يتناقض موضوعياً مع البنية السياسية والقومية والعرقية والثقافية المتماسكة لهذا الاتحاد، والذي صمد أمام عواصف ضخمة لم تستطع ابتلاعه بسبب المناعة التي إكتسبها من الصيغة الوطنية والمدنية التي تشكل منها .

ما مصلحة روسيا إذاً في الدفاع عن نظام قرر أن يؤذي جيرانه بمشروعه الاستعلائي  الشوفيني وأدواته الطائفية ؟؟ في الحسابات الاستراتيجية لا يمتد التأييد إلى ما لا نهاية وبدون ضوابط، لا بد أن يتوقف عند النقطة التي تبدأ فيها الأسس المكونة للدولة بإرسال إشارات قوية اسياستها الخارجية بأنها قد تجاوزت هذه الأسس .

البلدان الكبرى التي قدر لها أن تقرر مصائر العالم لا يجب أن تغفل مسئوليتها تجاه الشعوب الاخرى حينما يتعين عليها أن تأخذ قراراً بهذا المستوى ، لأنه لا يجوز أَن تجعل من مصلحتها المجردة وسيلة للتأثير على عمل المؤسسات الدولية . فحق الفيتو يلزم هذه الدول باستخدامه لمصلحة الشعوب ، ولصالح الحفاظ على أمن العالم ، ومكافحة الاختلالات الناشئة عن الأنظمة الفوضوية المصدرة لمشاكلها بهدف زعزعة الامن والاستقرار في مختلف بلدان ومناطق العالم .

هذا ما يجب أن نذكر الدول الكبرى به ومنها روسيا "الصديقة" التي لا يجب عليها أن تتخلى عن مسئوليتها تجاه استقرار اليمن والمنطقة عموماً .

أما ما يجب أن نذكر به أنفسنا دائما هو اننا لن نستطيع أن نهزم هذا المشروع التفكيكي إلا بموقف صادق وجاد من بناء الدولة الوطنية التي ترعى وتحترم حقوق الجميع .

الأربعاء, 21 شباط/فبراير 2018 22:09

أيديولوجية الكراهية


يقف البريطانيون ، مدعومين بثقافة التسامح التي أسهمت في بناء مجتمع متعدد الثقافات والديانات والقوميات ، في مواجهة مع أيديولوجية الكراهية لأسباب دينية أو عرقية أو ثقافية ، والتي ما إن أخذت تتبلور في صيغ من العنف والخطاب الشعبوي التفكيكي حتى اهتز المجتمع كله ليواجه الخطر الناجم عن ذلك.

القاضي البريطاني الذي قضى بحبس المتهم " دارن أوزبورن" لمدة ٤٣ سنة ، قبل أيام ، اصدر حكمه بالاستناد إلى ما اعتبره المحرك لجريمة المتهم ، والذي لخصه في العبارة التالية " ideology of hate" أيديولوجية الكراهية. كان المتهم أوزبورن قد قاد شاحنته لتصدم بصورة متعمدة عدداً من المصلين الذي كانوا قد غادروا مسجد "فينزبري بارك " في رمضان الماضي وتقتل شخصاً واحداً وتجرح إثني عشر آخرين.

لقد حاكم القاضي الجريمة المرتكبة في صلتها بالظاهرة التي تحركها "أيديولوجيا الكراهية" وهي ما تهدد كيان أي مجتمع بالتفكك . ومكمن الحكمة هنا في محاكمة الظاهرة من خلال الحدث ومرتكب الحدث باعتبارهما التعبير المباشر للظاهرة الخطيرة التي يجب استئصالها لما تمثله من خطر على المجتمع.

الزيارات المتبادلة الى المساجد ومراكز العبادة الاخرى والتي يقوم بها الكثير من المسئولين الحكوميين والبرلمانيين والسياسيين والاعلاميين أوجدت مناخاً لتطويق "أيديولوجية الكراهية " التي كانت تحركها دوافع كثيرة ومتنوعة سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية وعرقية ، إضافة إلى العزلة الناشئة عن غياب العلاقة المباشرة بين منتسبي الأديان المختلفة.

وقد بينت الزيارات وفقاً "للجارديان" أن بحثاً كان قد أجري حديثاً وأظهر أن ٩٠٪ من البريطانيين لم يزورا أي مسجد ، وأن واحداً من كل أربعة أشخاص لم يتعرف بمسلم ، وينطبق نفس الشيء على بقية الأديان ومنتسبيها في علاقتهم ببعضهم حيث ينعكس هذا سلباً على التماسك الاجتماعي social cohesionوما يستتبع ذلك من تأثير على قيم التسامح.

أدناه صورة من مسجد "فينزبري بارك" توضح إحدى الزيارات واللقاء مع ناشطات وناشطين اسلاميين. في هذه اللقاءات يفتح حوار مباشر بين أبناء المجتمع البريطاني حيث (الدين لله والوطن للجميع).

الثلاثاء, 13 شباط/فبراير 2018 16:35

سياسة بريطانيا بشأن الازمة اليمنية

 

تتناول بعض الصحف البريطانية أحياناً اخباراً عن الوضع في اليمن ، أو تنشر تحليلات مطولة عن مستجدات النزاع ومستقبل الحل السياسي من وجهة نظر الكاتب أو المحلل السياسي الذي قام بالبحث ، وهو بهذا لا يعبر إلا عن وجهة نظره ، وربما الجهة التي تمول بحثه . وفي كثير من الأحيان نجد أن الصحيفة أو المجلة التي تنشر التقرير لا تلزم نفسها بالنتائج التي يتوصل إليها الكاتب ، فقد تنشر في أعداد أخرى تقارير لكتاب أو محللين يحملون وجهات نظر مختلفة. المهم فيما ينشر في الصحف "الجادة" هو سلامة قواعد البحث أو منهج التحليل في صورتهما العلمية أو المهنية.

ينطبق نفس الشيء على ما يقدم من موضوعات ومحاضرات في مراكز الأبحاث من قبل باحثين متخصصين أو شبه متخصصين سواء في شاتم هاوس " المركز الملكي للبحوث" أو مركز " روسي" أو غيرهما من المراكز التي تعودت أن تطل علينا بين حين وآخر بفعاليات حول الوضع في اليمن.

كما أن هناك لقاءات عابرة ليمنيين من كافة الاتجاهات تتم مع بعض المسئولين البريطانيين أو المختصين منهم بالشأن اليمني لغرض تكوين صورة أوسع عما يجري من أحداث ، وهذا تقليد بريطاني عريق في الاستماع إلى كل الأطراف وإلى كل وجهات النظر ، وبالتأكيد فإن السياسة البريطانية لا يتم التصريح بها في هذه اللقاءات لأنها في الأساس لقاءات إستماع ، كما أن الذين يكلفون بهذه اللقاءات ليسوا مخولين بالحديث عن هذه السياسات.

تتناقل الكثير من مواقع الاخبار اليمنية هذه الفعاليات واللقاءات والتقارير والنتائج findings على أنها تمثل السياسة الرسمية للحكومة البريطانية ، وبصورة مثيرة تذهب إلى التأكيد ، بالاستناد إلى هذه النشاطات، على أن هناك سياسات رسمية جاهزة تعمل الحكومة البريطانية على تطبيقها لحل الازمة اليمنية.

هناك الكثير من النماذج التي راحت تخلط بين السياسة الرسمية وهذه الأنشطة التي يتكوم بعضها بيد صناع السياسة ولكن من بين مئات التقارير السياسية والعسكرية والاستخباراتية والمالية والتقارير الاستراتيجية التي تفرز في ضوء ما يسمى ب "معاملات الارتباط" الاساسية التي تحدد الموقف السياسي للدولة من قضية ما في نهاية المطاف.

من الطبيعي أن يقوم الباحث اليمني الجاد من متابعة وتتبع كل ما يؤثر في صناعة السياسة البريطانية عندما يتعلق الأمر بمستقبل بلده ، غير أنه من المفيد أن يترك لاستنتاجاته مساحة للمراجعة تتناسب مع تعقيدات البحث وعدم صوابية استخلاص نتائج مطلقة.

السياسة البريطانية في اليمن حتى الان منسجمة مع موقفها المعروف من دعمها للعملية السياسية التي عبرت عنها بدعمها المبادرة الخليجية ومساندتها للحوار الوطني ووقوفها إلى جانب قرارات مجلس الأمن الداعمة للحل السياسي ثم بعد ذلك مواجهة الانقلاب الحوثي /صالح ودعم الشرعية ، وهي مع خيارات الشعب اليمني على أسس ديمقراطية ، ولا يحوز شيطنة الموقف البريطاني بالاستناد إلى ما يكتب أو ينشر من تقارير أو أبحاث أو غير ذلك من الفعاليات التي بتسع لها العقل السياسي الديناميكي دون أن يلزم نفسه بها.

وفي تساوق مع هذا لا يجب أن ننسى المصالح البريطانية في منطقة الخليج وأهمية استقرار هذه المنطقة بعيداً عن العوامل التي تهدد أمنها ، مع ما تمثله اليمن من أهمية على هذا الصعيد . المنطقة بالنسبة لها ميراث كولونيالي ، إن كان قد خرج من دائرة الكومنولث ، فإنه لا يجوز أن يخرج من دائرة المصالح الحيوية المشتركة.

وفي منطقة حساسة بهذا المستوى الذي تتزاحم فيها مصالح القوى الكبرى فإن رسم السياسة يأخذ أبعاداً دولية إلى جانب الأبعاد الإقليمية والمحلية ، وبريطانيا تدرك ، وهي تتولى ملف اليمن ، أن مهمتها أشمل في صلتها بتحقيق الاستقرار في منطقة تتجاذبها صراعات حادة ، دوافعها خارجية وشروطها داخلية.

لا شك أن السياسة البريطانية في اليمن تتعرض لكثير من الضغوط بسبب الوضع الأنساني الذي يجري توظيفه خارج مسار الحل السياسي الذي يضع حداً لانتهاك الدولة ومصادرتها بقوة السلاح ، وهو الأمر الذي تجري مقاومته في سياق المنطق الذي يجمع بين السياسي والانساني لحل المشكلة اليمنية .

هذه الضغوط لا تقتصر على ما تمارسه المعارضة وقوى الضغط البريطانية من استخدام للوضع الانساني على صعيد واسع في سياق تسجيل المواقف السياسية لكسب الشارع ضد حكومة المحافظين ، وإنما يتعداها أحياناً إلى انسداد الوضع بحيث لا يرى منه غير الجانب المأساوي للناس ، والذي تغيب وراءه قضية سياسية تتعلق باستقرار هذا البلد على المدى البعيد ، وهي احترام إرادة الشعب بعيداً عن نزق السلاح والقوة الغبية.

الجدل الذي يدور حول ثورة فبراير ٢٠١١ اليمنية السلمية لا يحكمه منهج معتبر يمكن الاستناد إليه في تقييم موضوعي لهذا الحدث التاريخي الهام ..ما يدور مجرد تجاذبات يغلب عليها في كثير من الأحيان الحالة الانفعالية أو الباعث الشخصي الذي يدور في فلك اللحظة وتداعياتها . 

والحقيقة أن ثورة فبراير ليست الأولى ، ولن تكون الأخيرة ، من بين الثورات الشعبية التاريخية التي تثير مثل هذا الجدل بين من يسعى إلى تشويهها في محاولات يائسة للدفاع عن أنظمة الاستبداد التي أغرقت الشعوب في الفساد والفقر والتخلف التي قامت هذه الثورات لتغييرها ، وبين من يتصدى للدفاع عنها من منظور لا يلتفت إلى حقيقة أن الحركات الاجتماعية الثورية لا تبقى ثورية إلا بمقدار ما تحققه من أهداف بنفس الأدوات التي أعلنتها ولنفس الغرض الذي تبنته . 

يحاول البعض اليوم أن يسيء الى ثورة فبراير ، ضمن موجة الثأر الجارية والقراءة "نص - كم" لمسارها وما تلاها من متغيرات ، بتوظيف تعسفي للأحداث التي تمر بها البلاد .

يتحدث البعض وكأن ثورة فبراير هي المسئولة عن الحرب وتدهور الأوضاع الناشئة عنها ، بينما يعرف القاصي والداني أن المسئول عن هذه المأساة والفوضى  في الأساس هو إنقلاب الغدر المليشاوي ضد الدولة ومشروعها الوطني ، ذلك المشروع الذي استخلصته هذه الثورة بكفاحية عالية من ركام اليأس والاحباط الذي وصلت إليه البلاد على أيدي تحالف هجين من أوليجاركية النظام السابق وأوتوقراطية سبق أن حكمت اليمن طويلا باستبداد لا مثيل  ، وهو الهجين الذي استنزف البلد وأفقره ، ثم عمل على تدميره بروح المنتقم.

يتجاهل هؤلاء أن هذا الانقلاب المشئوم قد استهدف كل المعاني والاهداف النبيلة لهذه الثورة السلمية التي جسدتها تضحيات الشباب الضخمة في ميادين الحرية والتغيير ، وما حملته من أحلام للحركة الوطنية اليمنية ونضالاتها الطويلة ، وعبر عنها بعد ذلك الحوار الوطني في صيغة العقد الاجتماعي لبناء الدولة وحل القضايا العالقة المرتبطة بذلك.

أما بعض الذين يدافعون عنها بصورة إنتقائية ويذهبون إلى إدانة ما ارتبط بها من محطات مثل المبادرة الخليجية والحوار الوطني وينسون أنها كانت عملية ثورية سلمية تسعى إلى تحقيق أهدافها سلمياً فهؤلاء لا يختلفون كثيراً عن أقرانهم ممن لا يحتكمون إلى منهج موضوعي لتقييم هذا الحدث التاريخي الهام ، وجميعهم أصحاب قراءة (نص - كم ) لهذه الثورة .

 لقد كانت هذه الثورة بمجملها عنواناً لتحول جذري في الفكر السياسي اليمني ، يعد العدة لإنتشال الحياة السياسية ، ونظمها الاجتماعية والسياسية ، من براثن الغلبة إلى الحوار والسلام والتعايش والديمقراطية ، ومن إرادوية النخب التي تعسفت المناهج الموضوعية في تسيير شئون البلاد الى تسوية تاريخية تعتمد الارادة الشعبية وخياراتها السياسية.

 ليس من المعيب أن تكون هناك مراجعات من أي نوع كان ، وهو حق يتمتع به كل شخص وكل مجموعة ، لا سيما وأن صدمات عنيفة قد لحقت بالكثيرين ممن حلموا بالتغيير ، غير أن المراجعات التي تذهب إلى ذلك المدى الذي تتحول فيه المراجعة إلى إتهامات ظالمة تتوسل تلفيقات لا صلة لها بالحقيقة ، تخطئ مرتين : مرة حينما تبدو مدافعة عن أنظمة الفساد التي أهدرت فرص البناء والنهوض الاجتماعي لصالح بناء الثروات الخاصة للنخب الحاكمة ، والثانية حينما تفتقر إلى الموضوعية في التقييم باستخدام الأدلة على نحو معاكس .

كل ما نحتاج إليه هو النقاش الموضوعي بدلاً من مواصلة التنكيل بالرأي الذي يمارس من هنا وهناك ، وخاصة من قبل  أؤلئك الذين حملتهم سفينة الثورة وفرقتهم بعد ذلك الأمواج التي أحاطت بها وضربتها بشدة .  

لا يمكن بأي حال أن نضع هذه الثورة الخالدة تحت مجهر لا يسمح برؤيتها إلا من خلال شخص أو أشخاص أو مجموعة أو فئة ، أو أي عنوان من العناوين الاعتباطية التي يحاول البعض أن يحشرها عنوة كرديف لعنوان الثورة ، ليحكم عليها أو يبرر الاساءة لها تبعاً لذلك .

المجهر الوحيد المنصف هو الذي لا مكان فيه لهذه العناوين الفرعية والصغيرة .. المجهر الذي يبرز اللوحة الهائلة لحاجة هذا البلد للتغيير ، والذي طالما حلم به شعب مكافح وقدم التضحيات الكبيرة من أجله .

سيبقى فبراير عنواناً ضخماً وبارزاً لقوة التغيير التي ستعيد اليمن إلى أيدي الشعب . وما يشهده اليمن اليوم من مأساة إنما هو بسبب مقاومة الرافضين لهذا التغيير ، ومحاولة مواصلة فرض قبضتهم عليه بقوة السلاح ، ومن وراء ذلك كل عناوين الجمود المعبرة عن "سلطات" إفتراضية مقوضة لكل حلم بالتغيير .

 

تعمل بريطانيا على استعادة التوازن بعد صدمة التصويت الشعبي على الخروج من الاتحاد الاوربي في يونية عام ٢٠١٦.

وخلال السنتين الماضيتين أسفر التحرك الدبلوماسي البريطاني على الصعيد الدولي عن استقراء عملي لواقع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية لبريطانيا مع بقية دول العالم بعد مغادرة الاتحاد الاوربي في مارس ٢٠١٩. وكانت زيارة السيدة تريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية الى الصين خلال اليومين الماضين أحد أهم هذه التحركات الدبلوماسية التي يعول عليها كثيراً في ترسيخ العلاقات التجارية بين البلدين والحفاظ على الامن والاستقرار، وبالرغم من التحفظات التي أبدتها السيدة ماي تجاه المشروع العملاق "طريق الحرير" الذي يربط الشرق بالغرب والذي تتبناه الصين وتقدر تكلفته بحوالي ٩٥٠مليار دولار، إلا أن سياسة النفس الطويل التي أبداها الطرفان في صياغة موقف متوازن من القضايا المختلف حولها ومنها موضوع الديمقراطية في هونج كونج، المستعمرة البريطانية القديمة والتي تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي والنظام الاقتصادي الحر الذي حافظت عليه الصين وجعلت منه نافذة الى العالم الرأسمالي، قد مكنهما من معالجة كثيرة من القضايا الاقتصادية المعلقة ومنها موضوع تجارة الحديد والصلب حيث أغرقت الصين السوق الأوربية ومنها بريطانيا بمنتجات الصلب والحديد بأسعار رخيصة مما هدد صناعة الحديد في بريطانيا بالإغلاق. وبهذا الصدد وافقت الصين على تخفيض إنتاجها من الحديد والصلب بمقدار مائتين مليون طن بحلول عام ٢٠٢٠، وهي خطوة ستمهد لعلاقات أكثر دينامية على الصعيد التجاري.

وعلى صعيد آخر حافظت بريطانيا على موقف ثابت من قضايا الصراع في كثير من مناطق العالم، فقد رفضت قرار نقل السفارة الأمريكية الى القدس مؤكدة على ضرورة الحل الشامل للقضية قبل موضوع العاصمة الذي من شأنه أن يعيق عملية السلام.

كما أن موقفها من القضية اليمنية لا يزال ثابتاً ويتمثل في رفض الانقلاب الحوثي وأي تغيرات يرتبها على صعيد الدولة والحياة السياسية، مع التمسك بالحل الشامل بالاستناد الى المرجعيات الثلاث. وكل مايثار خلافاً لذلك ليس له أي أساس.

ويوم أمس الخميس ١فبراير ٢٠١٨ نشرت وزارة الخارجية البريطانية على موقعها الرسمي بياناً أوضحت فيه أن نائب مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة السفير جوناثان ألآن قد قدم أدلة تؤكد تزويد النظام الإيراني جماعة الحوثي بصواريخ وأسلحة، وعرض مجموعة من الصور أظهرت لوحة مفاتيح الصور باللغة الفارسية ، وأختام المصنع ، وطرق الامام بدائية الصنع. وأشار إلى أن "طريقة اللحام البدائية ( مقارنة بطريقة اللحام في المصنع) تدل على أنه تم قطع الصواريخ الى نصفين لتهريبها إلى الحوثيين، كما أكد أن تاريخ ٢٠١٥ الذي تحمله يُبين توريدها بعد فرض حظر الأسلحة في اليمن".

الخميس, 01 شباط/فبراير 2018 18:12

السؤال البيزنطي القديم

 

كثيراً ما أدى التوقف عند نصف الحل، أو الحل المسلوق، إلى إعادة انتاج المشكلة بصورة أسوأ وأشد إيلاماً.

لا يجب التغاضي عن حقيقة أن الإنتصار على تحالف الحوثي/ عفاش في الجنوب شكل إستحقاقاً وطنياً بكل المقاييس ما كان يجب أن يترك للفوضى التي رتبتها التقديرات الخاصة للقوى والمجاميع التي اشتركت في عملية التحرير. كان لا بد من الامساك بهذا المنجز الكبير وفي تلك المرحلة المبكرة من الحرب لصياغة "الخطة الحاكمة" لاستكمال مهمة استعادة الدولة، وفي نطاقها وضع الخطط التفصيلية لحل القضايا المعلقة، وخاصة قضية بناء الدولة ومستقبل الجنوب باعتبارها القضية التي تستقطب جزءاً حاسماً من مقدرات معركة استعادة الدولة من أيدي الانقلابيين. غير أن التقديرات الخاصة استمرت تنخر كل شيء وتضعف القوة التي أخذت تتأهل، بالتعاون مع التحالف العربي بكل ما قدمه من تضحيات، لإنجاز هذه المهمة.

أخذت هذه التقديرات والحسابات، بسبب غياب الخطة الحاكمة، تستنزف القدرات في مواجهات جانبية وتحديات خارج المعطى الوطني الذي شكله، في لحظة تاريخية، قرار مواجهة الانقلاب الحوثي العفاشي على مشروع الدولة.

ويمكن القول بكل ثقة أن القوى اليمنية التي جمعت في يدها عوامل "الانتصار" قد أحجمت، لأسباب مجهولة، عن إختراق الجمود السياسي الذي رافق العمليات الحربية بمشروع تستحضر فيه كل المشكلات والقضايا وأطرافها السياسية والاجتماعية، ومن ثم تشكيل المنظومة السياسية ككتلة صانعة للقرار الاستراتيجي. وبدلاً عن ذلك راحت الأجنحة المختلفة تنصب جلسات محاكمة لبعضها وتصدر الاتهامات والاحكام فيما يشبه الجدل البيزنطي الذي أخذ يستثير الانقسامات في مواجهة الخطر الخارجي لبيزنطة باشعال فتنة انقسام مجتمعي حاد بشأن ما عرف يومها بالرد على السؤال الذي وضعه عراف مشهود له بالدهاء وهو: هل يمكن أن يقف مائة شيطان على رأس دبوس واحد؟؟

ما أشبه حكاوي التاريخ !!

اليوم ، وبعد هذه الاحداث المأساوية التي استطاع الرئيس هادي بصبره وحكمته وبتعاون تحالف دعم الشرعية على احتوائها، هل بالإمكان أن نجعل منها محطة لتصحيح الاختلالات، وإصلاح الخطاب السياسي، وتجنب مواصلة إنتاج التحديات بحساباتها القديمة، وتجريم استخدام القوة في تحقيق الاهداف السياسية، وبناء علاقة شراكة سياسية على كل المستويات، وإصلاح البنية السياسية المصاحبة لعملية استعادة الدولة، وحصر القضايا التي لا بد من معالجتها بمسئولية، ووضع الخطة الحاكمة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وتعزيز العلاقة مع التحالف بإصلاحات جوهرية بانتظامها في إطار مجلس مشترك على مستوى قيادي مقرر.

ما لم، فإن ما سيتمخض عنه هذا الوضع، كما يدلل الخطاب الذي لا زال يصدر عن كل الأطراف، سيضع الجميع في نفس المجرى المفضي إلى إعادة انتاج المشكلة، وأن اعادة انتاج المشكلة سيتقرر خارج الحاجة الوطنية الفعلية لهذا البلد المنهك بالحروب وقليلي الخير، وأن السؤال البيزنطي القديم بشأن "ما إمكانية أن يقف مائة شيطان على رأس دبوس" سيظل يستنزف كل مقدرات اليمنيين ويبعث فيهم روح الاستهانة بجسامة ما يواجههم من مشكلات.

الخميس, 18 كانون2/يناير 2018 16:35

إقتصاد الحرب..أدوات ادارته مختلفة

 

بعد أن استنزف الانقلابيون الإحتياطي النقدي للبنك المركزي والبالغ خمسة مليار دولار، والذي تراكم على سنوات بين فائض وعجز في ميزان المدفوعات إضافة الى الودائع التي كانت تضخها الدول الشقيقة وخاصة المملكة العربية السعودية، فإن العملة الوطنية الريال أصبحت بلا غطاء فاقدة الدفاع عن نفسها ومعرضة للانهيار في أي لحظة. وقد اجتمعت العوامل الدافعة نحو الانهيار على نحو لا مثيل له في تاريخ أي بلد آخر: عملة من غير احتياطي نقدي، انهيار منظومة الاقتصاد بما في ذلك الصادرات وتحويلات المغتربين والدعم الخارجي والاقتراض، وانقسام السوق الاقتصادية والمالية ببقاء الجزء الأكبر من السوق الاقتصادية والمالية بيد الانقلابيين وخارج نطاق سياسة وأداء الحكومة الشرعية، والأخطر من هذا أن السوق المالية بكل أدواتها وآلياتها لا تخضع لسياسة موحدة وإجراءات إدارية موحدة.. أصبح الإقتصاد رغماً عن الجميع إقتصاد حرب، واقتصاديات الحرب تدار كما هو معروف بأدوات إضافية غير الأدوات المالية والاقتصادية والإدارية المعتادة لتجنب الانهيارات الكبرى.

ما حدث للعملة هو نتاج لهذه العوامل وفي الظروف التي سادت وبالادوات والسياسات التي أدير بها الاقتصاد والأسواق المالية والنقدية، لكنه كان بالإمكان تجنب الوصول إلى هذا المستوى من الكارثة باتخاذ عدد من الإجراءات التي لا زال بالإمكان اتخاذها الان لترافق وديعة المليارين السعودية حتى يتحقق الهدف الرئيسي من وراء ذلك وهو وقف تدهور العملة ومعها تدهور القيمة الحقيقية للاجور والدخول بصورة عامة وبالتالي الحياة المعيشية للناس.

من هذه الإجراءات:

١/ إعادة النظر في نظام تعويم العملة الذي اتخذ منذ سنة تقريباً، وكان لا بد من التفكير جيداً قبل اتخاذه، لأن التعويم يحتاج الى سوق مالية مستقرة وأدوات مصاحبة غير متوفرة في الظروف الحالية في الاقتصاد اليمني، ولذلك فإن التعويم لم يحفز المؤثرات التي تدفع بتنمية موارد الدخل الأجنبي بل ارتد عكسياً على سعر صرف الريال اليمني.

٢/ احتساب سعر صرف وسطي للعملة ما بين السعر القديم والسعر الذي استقرت عنده مؤخراً، ويكون ذلك مؤشراً على أهمية استقرار العملة عند هذا المستوى بتدخل قوي للدولة لضبط السعر عند هذا المستوى وبإجراءات ادارية حاكمة تعكس حاجة اقتصاد الحرب، لأن التدخل بواسطة أدوات مالية ونقدية في الوقت الحاضر لن يؤدي إلى النتائج التي تحافظ على قيمة العملة والقيمة الحقيقية للاجور والدخول بصورة عامة.

٣/ التفكير بجدية في إيجاد أدوات لحماية الإجراءات الاقتصادية والنقدية التي ستتخذها الحكومة بالضغط على الانقلابيين بواسطة الامم المتحدة بضرورة التقيد بهذه الإجراءات وتنسيقها عبر وسيط اقتصادي ومالي تعينه الامم المتحدة لهذا الغرض.

٤/ القطاع الخاص، وخاصة العامل في الميدان النقدي، لا بد أن يلعب دوراً إيجابياً في هذ الظرف لمنع الاخلال بالسياسة النقدية التي ستقوم بها الحكومة، ويتم عبر الغرفة الممثلة لهؤلاء انشاء فريق عمل مشترك يومي مع البنك المركزي وتشرك في المشاورات البنوك التجارية على نحو دوري.

الصفحة 1 من 2