الأصل في الوجود هو التحوُّل والتغيُّر والحركّة، لا السكون والجمود والركود. "إنّك لا تنزل إلى النهر مرتين؛ لأنّ مياهًا جديدة تتدفّق فيه"، هكذا لخَّص "هيراقليطس"، الفيلسوف اليونانى الشهير، فلسفته للحياة قبل أكثر من (25) قرنًا من الزمان، وهكذا هي سيرورة الحياة، ونهرها المُتدفّق – أبدًا – وبلا انقطاع.
ومهما بَدَتْ لنا حالة الركود، أو بالأحرى مظاهر الارتكاس والنكوص إلى الخلف في أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الراهنة، إلا أنّ ذلك لا يعني نهاية العالم، ولا فصلُ الخِتام، فالأيامُ دُوَل، وحركةُ التاريخ تقدُّمية، تمضي إلى الأمام.
إنّ تعثُّر حركة التغيير في العالم العربي بصورة عامة، وفي اليمن بصورة خاصة، لا ينبغي أن يقودنا إلى اليأس والقنوط، بل ينبغي أن يحفّزنا إلى البحث والتفكير بعمق في عثراتِنا وأخطائِنا بقصد استخلاص الدروس والعِبر، وامتلاك الوضوح المنهجي لاجتراح فعل تغييري مستقبلي يليق بإنسان هذه البَلدة الطيبة.
وأولى خطوات امتلاك الوضوح المنهجي هو في تفسير الحدث الثوري، أي تفسير إرهاصاته وعوامل اندلاعه، تفاعلاته، وسيرورته، ومآلاته، وصولاً إلى استشراف رهاناته وآفاقه. وهذه مهمة كبيرة وشاقة ينبغي أن ينهض بها المفكرون والباحثون والسياسيون المنحازون لمشروع التغيير المنشود، وقد قدّم كاتب هذه السطور مساهمة متواضعة في هذا المسار النقدي تضمّنها كتابه: "إشكالات الواقع اليمني: الثورة الشعبية والحرب.. الهوية الوطنية وبناء الدولة" الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة – القاهرة، مطلع عام 2023.
غني عن القول إن ثورة 11 فبراير لم تكن وليدة الصدفة، أو ظاهرة طارئة، بل كانت نِّتاج عمليّة تراكميّة، وعوامل موضوعيّة، وهي وإنْ كانت مفاجئة في توقيتها، إلا أنّ نشوبها كان تعبيرًا صارخًا عن وصول المجتمع إلى ذروّة التأزُّم التي تغدو معها العودة إلى الخلف، أو الاستمرار على نفس الوتيرة ضربًا من المُحال.
انبلجتْ الثورةُ في لحظة انفجار التناقضات، ووصول الأزمة (التراكمات الكميّة الداخليّة) ذروتها، وهي لحظة فارقة، حيث لا يستطيع الحاكم أن يستمر في حكمه بنفس الأدوات، والآليات القديمة، وفي الوقت نفسه، لا يستطيع الشعب التكيُّف، أو الاستمرار في العيش بالوضع القائم.
لقد جاءت الثورة الشعبيّة استجابةً للتحدي الذي خلقته السلطة، والمتمثّل في سيّاسات الإفقار، والتجويع، والإفساد، والخصخصة، ونهب المال العام، وتقييد الحريّات، والقمع، والتهميش، والحرمان الاجتماعي.
كانت الثورة ردَّة فعلٍ على سلوكِ السلطة، ومساعيها في التوريث، وقيامها بإعادة بناء العلاقات السياسية والاجتماعية على أساس الولاءات، والاستزلام السياسيّ والزبائنيّة، والاحتكار الأقلويّ للثروة الوطنيّة، التي أفضتْ إلى نشوء طبقة طفيليّة مكوّنة من كبار موظفي الدولة، وقيادات عسكريّة، ومشائخ قبليّة، ورموز دينيّة.
إذن، الثورة، كانت حدثاً موضوعياً، فرضته عوامل موضوعية واقعية، ولأنّها كذلك فقد اندفعت جماهير الشعب اليمني إلى ساحات الحرية وميادين التغيير بشكل عفوي وتلقائي تدفعها رغبة جامحة في التغيير، وأشواق جمعية نحو تحقيق الحريّة، والعيش الكريم.
وقدمت الجماهير هذا المضمار تضحيات كبيرة وجسيمة، حيث سالتْ دماء الشهداء والجرحى في معظم شوارع ومدن اليمن.
وعلى الرغم من جسامة تلك التضحيات، فإن المآلات لم تكن على نفس المستوى، ذلك أنّ اختلالات كبيرة رافقتْ مسيرةَ الثورة؛ بفعل جملة من الأسباب والعوامل الذاتيّة والموضوعيةّ.
لقد كان لعفويّة الثورة، والتدفُّق التلقائيّ للجماهير أهميّة حاسمة في تعاظم زخم الثوّرة، وإقناع فئات واسعة من المجتمع بكون ما يجري هو ثوّرة حقيقيّة. لكن تحوّل ذلك إلى عِبء ومأزق خنق الثورة، خاصة مع تطاول الزمن الثوريّ ودخول عناصر جديدة إلى الساحات الثوريّة.
إنّ غيابَ الفكر العلميّ لدى الشباب الثائر، وافتقادهم للخبرة السياسيّة، والتنظيميّة، اللازمة، والقصور الذي شاب خطابهم، وعدم القدرة على النفاذ إلى قاع المجتمع بتبنيّ هموم الناس المباشرة، ناهيك عن العشوائيّة والارتجاليّة التي وسمت حَرَاك الثورة، والعجز عن إنتاج القيادة والتنظيم، وغياب التخطيط، والوقوع أسرى للطوباويّة، والرومانسيّة الثوريّة، والشطحات والأوهام ذهنيّة التي لا تتسق مع الحاجة الواقعيّة الثوريّة. ولعل الرَّواج الواسع لعبارة "دَعُوها فإنّها مأمُورة" في صفوف الشباب، التي تعني السَير بالثورة إلى الأمام دونما رؤيّة ودونما تخطيط مسبق؛ تُلخص فداحة هذا المنطق الأسطوريّ الساذج، وحجم انفصاله عن التاريخ، وحركة الواقع.
وهناك أسباب موضوعية تتعلق بطبيعة سلوك النظام إزاء الحراك الثوري، وقيام بعض القوى بتخفيض سقف الثورة برفع مطالب شكليّة كـ "إسقاط الرئيس" عوضًا عن "إسقاط النظام". ناهيك عن التحاق (علي محسن)، والفرقة الأولى مدرع إلى الثورة بُعيد جمعة الكرامة، والذي دفع بالمخاوف من اختطاف الثورة إلى السطح، وهو ما ألقى بظلالِهِ القاتمة على مسار الثورة، ووحدة قواها.
لقد كان لجملة تلك الأخطاء ثأثيراتها السلبيّة على الثورة، فتحوّلت بفعل المبادرة الخليجيّة إلى "أزمة حكم"، والتي بمقتضاها مُنح المخلوع صالح صكّ الحصانة في مقابل قيامه بتسليم السلطة، لكنه لم يسلّمها إلا شكليًا. فعلى الرغم من أنّ الحكومة تشكّلت مناصفة بين النظام السابق، وقوى الثورة ممثّلةً بأحزاب اللقاء المشترك، إلا أنّ أجهزة الدولة الأمنيّة والعسكريّة، والتشريعيّة، والقضائيّة، والإعلاميّة، وغيرها ظلَّت بيد المخلوع صالح؛ ما أَمْكَنه من لعب دور تقويضيّ للمرحلة الانتقاليّة والدفع نحو حرب أهلية لا نزال نعيش مراراتها حتى اليوم.
بفعل عثرات الثورة، وعجزها عن تحقيق الآمال المنشودة، ارتدَّت تلك الاندفاعة الجماهيرية التغييرية في 2011 إلى النقيض، وأصبحت الثورة في محل إدانة، ليس من مناوئيها هذه المرة، وإنما من أنصارها وعامة الناس..
هذا الارتداد العكسي له تفسيراته ومسوغاته، ويحتاج إلى تناولة مستقلة. ما أود التشديد عليه – هنا – هو أن الثورة من حيث هي فكرة، وممارسة، لا تزال قائمة، ومستمرة، فالثورة حاجة اجتماعية، أولاً وأخيراً، وهي مشروع مفتوح على المستقبل، لأنها تمثل التجسيد الاجتماعي لفكرة التغيير، ومعنى الحياة، وما دام نهر الحياة لا يزال يتدفق، فإن مبدأ التغيير لا يزال يمثّل الإطار الناظم للوجود، وبالتالي لا تزال الثورة سارية.