مجلس التنسيق الحزبي للدوائر (18،17،16) يقيم أمسيته الرمضانية الثالثة

  • الاشتراكي نت / صنعاء

الجمعة, 07 نيسان/أبريل 2023 23:55
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

أقام مجلس التنسيق الحزبي للدوائر (18،17،16) بالمنطقة الشمالية لمنظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء مساء الخميس 6 أبريل 2023م الموافق 15 رمضان 1444هـ، ندوة فكرية وثقافية، قدم فيها الرفيق/ إياد هديش، سكرتير أول القطاع الطلابي للحزب الاشتراكي اليمني في العاصمة صنعاء، ورقة بعنوان: (قراءة في كتاب النظام الابوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي لهشام شرابي).

 وفي الأمسية التي أدراها الأستاذ رائد النينو أستعرض الرفيق إياد هديش الأفكار الواردة في الكتاب موضحاً  بعض المصطلحات مثل النظام الابوي البطريركي، ومدى تأثير الأبوية على مجتمعنا العربي، ودور الأسرة والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في هذا النظام، ومدى تحكم النظام الرأسمالي في إبقاء النظام الابوي بشكل مشوه حتى يظل المجتمع العربي بتبعية وحالة تخلف

كما أستعرض في محاضرته ظهور النظام الابوي تاريخياً وكيف أصبح في الوطن العربي، ومن ثم قدم الحاضرين المداخلات والاسئلة والاستفسارات،  كما اشادوا بالجهد المبذول من الرفيق إياد هديش في التصدي لهذا الموضوع الشائك.

نص الورقة

قبل ظهور الأبوية وسلطتها قديماً كانت السلطة للمرأة، والتي كما يعرف أنها هي التي اكتشفت الزراعة قديماً وكانت هي مهنتها الرئيسية، وهذا أعطاها سلطة في البداية، إلى جانب أنه في تلك المرحلة لم يظهر الزواج الفردي. ولأن الزواج الجماعي كان سمة ذلك العصر، فالأبناء والبنات كانوا ينسبون للأم لسببان؛ الأول نتيجة للزواج الجماعي فلم يظهر ما يعرف اليوم بتحديد النسل، وشاعت ظاهرة جهل الأبناء والبنات بأباءهم، ولأن الأم هي وحدها المعروفة في هذا النظام نسب الأطفال لها، والسبب الثاني هو نتيجة للأول، فالتجمعات الإنسانية تركزت حول الأم لأنها أًصبحت مسؤولة عن توفير الطعام من الحقل أو المزرعة، والإطعام في المنزل عبر الطهي، وهذا ما أكسبها سلطة على أبناءها، سماها البعض بالماطريكارية، حتى مارس الرجل تربية المواشي ورعيها، والتي أظهرت له نوعين من الممارسات نقلت إليه، السلطة الأولى هي ظهور العبودية نتيجة للمبادلات البشرية بالمواشي، والثانية حل محل الزواج الجماعي الزواج الفردي، وأصبح الأبناء والبنات ينسبون إلى أباءهم، وحتى الزوجة تنسب إليه في شكل من أشكال تكريس الملكية الخاصة، التي أظهرت مع تطورها الزعامة القبيلة ثم أشكال الأبوية المتسلسلة المعروفة، وهذا لا يدل إلا أن الأبوية نظام عريق الإرث الإنساني، فهو ليس وليد لحظه أو طفرة في هذا الإرث، بل أن هناك تراكم من القدم أدى إلى ترسيخ النظام الأبوي الذي نشهده حتى في العصر الحديث، وبطرق مستحدثة رسخت الأبوية من جديد على حساب تخلف المجتمعات التي لم تستطع الانتقال إلى الحداثة، نتيجة الهيمنة الغربية التي مارست الإرهاب على الشعوب أثناء استعمارها، وبدلاً من تحديث تلك الشعوب أوجدت كنتيجة أنظمة استجرت من إرثها الثقافي الأبوية، وحدثتها بما يضمن بقاءها واستمراريتها لحقبة مجهولة النهاية، كرست فيها التخلف كأمر واقع، وحافظت على ملامح هجينة لا تعبر عن الحداثة بشكل حقيقي، وليست تراثية أصيلة.

ويشير مفهوم البطريركية المستحدثة أو الأبوية المستحدثة إلى اتجاهين؛ بنى كبرى وهي المجتمع والدولة والاقتصاد، وبنى صغرى هي العائلة والشخصية الفردية، كما يقول هشام شرابي ويستمد هذا المصطلح أو الظاهرة معناه من ظاهرتين آخرتين هما الحداثة والنظام الأبوي، فالنظام الأبوي شكل عام للنظام التقليدي، والحداثة تطور تاريخي يشكل انفصال عن النظام التقليدي، أي أن النظام الأبوي المستحدث هو نظام هجين وظاهرة فريدة، فلم يصبح نظام يستند على التراث أو نظام حداثي، لأنه يعوزه مظاهر الحداثة الحقيقية، بما يعني أن النظام التقليدي قام بتحديث نفسه نتيجة سيطرة أوروبا الحديثة والتبعية للغرب التي نشأت بسبب غياب التطور الرأسمالي في الوطن العربي، مما سبب وبشكل رئيسي لعدم ظهور طبقة برجوازية ناضجة، وطبقة عمالية أصيلة، ظهور طبقة اجتماعية هجينة تختلف عن الاثنتان، سميت بالطبقة البرجوازية الصغيرة الأبوية المستحدثة، وكانت أبرز صفوفها ضباط الجيش وقادة الأحزاب السياسية الذين قاموا بالاستيلاء على السلطة بعد الثورات على الإمبريالية الغربية، فلا استطاعت هذه الطبقة القيام بمهام البرجوازية أي التنمية الاقتصادية الرأسمالية ولا القيام بمهام البروليتارية أي التحول الاجتماعي الثوري، بل أعاقت نضجهما وحجمتهما، ولأنهما كانتا أدوات الانعتاق من التبعية، تعرضت الثورة والوحدة العربية إلى هزيمة في ظل تصدر البرجوازية الصغيرة للسلطة، فتفكك مشروع الوحدة العربية، وتأخرت التنمية، وتعثرت حركة التغيير الاجتماعي، وبرزت مظاهر الانشقاق والاغتراب بين النخبة والجماهير، وهذا ما ساعد في انتشار الأصوليات الإسلامية المقاتلة، وجماعات الإسلام السياسي بين الجماهير العربية، وانقسمت الأنظمة العربية من حيث أصول الحكم إلى علمانية (ليبرالية أو قومية أو اشتراكية)، تنهض على أكتاف المثقفين النقديين من الكتاب المحترفين والبحاثة والطلاب.. إلخ، وأصولية (إصلاحية أو محافظة مقاتلة) أضحت حركات جماهيرية واسعة، ولأن التيارات الإسلامية اعتبرت الماضي تجسيد لحقيقة الإسلام وعصره الذهبي، استطاعت التمدد بين الجماهير على حساب التيارات العلمانية، لسببان: الأول لعدم تبني الأخيرة سياسات التغيير الجذري، ونهوضها على أساس العلم بدلاً من تفوق التراث القومي، والسبب الآخر انحياز الأنظمة الأبوية المستحدثة التي أحكمت السيطرة على السلطة للتيارات الإسلامية للحصول على مشروعية الاستمرار منها، لأن التيارات العلمانية محدودة التأثير على المشهد السياسي، ولمواجهتها إجماعاً جماهيرياً دينياً يناقضها، بل وتعرض معظم النقاد للهجوم والاغتيال بصورة دائمة في معظم الأنظمة العربية، بينما بسط الأصوليين عقائدهم بحرية، وبدعم قوي من تلك الأنظمة مستمدتاً زخمها من ضعف الطبقات الحاكمة مقابل شرعيتها المهتزة، وهنا يمكن القول أنه إذا ما حدث نصرٌ ساحق للأصوليين، فهذا قد يؤدي إلى تفكيك النظام الأبوي المستحدث، والعودة به إلى النظام الأبوي.

ويعتقد مؤلف كتاب النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي هشام شرابي؛ أن تفكيك النظام الأبوي المستحدث من قبل الأصولية، قد يسهم في تحقيق إمكانيات الحداثة بتفجير الطاقات الثورية المتقدمة داخل المجتمع، إلا أني أرى أن فرص ذلك ضعيفة، لانتشار الجهل بين معظم الجماهير خصوصاً في الأرياف، وقدرة الأصوليات الدينية على التأثير عليها بالخطاب العاطفي، بل وجر هذه الجماهير إلى أتون الصراعات الطائفية التي ربما قد تستمر لعقود، ولن تتوفر إمكانيات تحقيق الحداثة التي ستترعرع نتيجة ذلك في أجواء خارج الأوطان، إلا بعد إنهاك هذه الجماهير، بالعنف والصراع الدموي واستجرار الماضي الإسلامي بصراعاته، وبما يؤسس لاستمرار هذا الصراع وديمومته لأطول فترة.

تعتبر الأبوية مقوله تشير إلى مجتمع تقليدي وسابق على الحداثة، حيث تعتبر في أوروبا هي المرحلة السابقة للرأسمالية، بما يعني أنها الإقطاعية الأوروبية، فالإقطاعية هي شرط لظهور الرأسمالية، وهذا يعني أن أوروبا هي الوحيدة التي انتقلت من الأبوية إلى الحداثة مباشرة بمفردها نتيجة لصيرورة، فهي ظاهرة تتميز بها أوروبا، وهذه حقيقة يترتب عليها عواقب وجودية مدمرة للعالم غير الأوروبي، لذا فإن الحداثة تمثل وحدة متماسكة، وذات خصائص واضحة المعالم في التجربة الأوروبية، وهذا غير موجود في المجتمعات الأوروبية، ولأن الحضارة قابلة للانتقال إلى الشعوب الأخرى، عبر التفاعل والتواصل والاطلاع على إنجازات الغير، فهذا طرح كافي يفسر التبادل الثقافي بين المجتمعات التقليدية أو السابقة على الحداثة، فيطرأ ذلك التحول والتطور ويصبح علاقة قائمة بين مركز هيمنة ومحيط تابع وخاضع، ومن الممكن القول أن المجتمع الأبوي المستحدث كان نتيجة استعمار أوروبا للعالم العربي الأبوي، بمعنى أنه كان محصلة لاقتران الإمبريالية بالأبوية، ويعني مفهوم التحديث: في الحوائج اليومية الملبس والمأكل ونمط الحياة، وفي المؤسسات كالمسارح والمدارس والبرلمانات، وفي الأدب والفلسفة والعلوم يشير لبنى متكاملة مثل الثقافة والمجتمع، وبذلك يمكن القول أن المجتمع محدث، وهو يرتكز بالأساس على توفر عامل خارجي يؤثر في تطور عامل داخلي يدفعه للتحول، ولكن هذا العامل الداخلي تابع، وينتج تشوه ملازم لعملية التحديث، فيتخذ شكلاً لم يكتمل نضوجه، لأنه لم يعتمد على نفسه في تخطي أبويته، والانتقال إلى الحداثة ففي المجتمعات الأبوية المحدثة؛ يصعب الوقوع على فرد أو مؤسسة حديثين حقاً أو تقليدين حقاً، فالنوع المهيمن هو النوع المحدث، وإن الخاصية التي يتميز بها الوعي المحدث، ميله إلى اعتبار نماذج الحداثة على أنها ترجمات عن النماذج الغربية.

إن مراحل الأبوية في النظام الإسلامي والعربي بدأت بشكل مبكر، حيث لم يكن قبل العصر الجاهلي وجود لدولة، بل لمجموعة من قبائل متناثرة حول قريش، عدا الدول التي لها جذور تاريخية في اليمن والشام ومصر.. إلخ. لكن أولى مراحل الأبوية بدأت في العصر الجاهلي، وكانت أبوية بدوية في التشكل القبلي الرعوي أو المستقر، ثم ظهرت الأبوية التقليدية في عصر النبي الكريم والخلفاء الراشدين، حتى عصر الخلافة العثمانية، وأخيراً ظهرت الأبوية المستحدثة عقب الاستعمار والتحرر منه، ويمكن القول أن هناك سمتان للشكل الاجتماعي العربي والإسلامي؛ ساعدتا على صمود الأبوية وبقائها ومقاومتها للحداثة، وهما المقاومة العنيدة لنمط القبيلة في وجه التغيير منذ العصر الجاهلي، ونشوء نظام عقائدي تشريعي قوي منذ عصر النبي الكريم عزز صله القرابة، ودعم العلاقات الأبوية، داخل أشكال متقدمة، وتعتبر الرابطة القبلية هي النوع القديم للشكل الأبوي، إلا أن عملية تنامي الوعي الذي يتخطى القبيلة متعثر منذ نهاية القرن الماضي، لأن المدينة أو المجتمع لم يلفحا في تطوير أشكال اجتماعية بديلة، وبالمقابل فإن مسألة الالتزامات الأخلاقية والاجتماعية محدودة فقط بداخل القبيلة، وليس هناك ما هو محرم تجاه القُبل الأخرى أو أي شكل اجتماعي آخر، بما يعني أن نظام القرابة في الريف والقبيلة هو الأساس، أي أن المجتمع الأبوي يحبذ شيوع العائلة الموسعة (القبيلة) على حساب انتشار الأسرة الديمقراطية.

إن وجود الأسرة الديمقراطية التي يتعلم فيها أبناءها عامل مهم لتفسخ الأبوية بالنتيجة كلما تعلم الأبناء والبنات وجدوا الطريق لتحقيق استقلالهم على أباءهم، وهنا يجد الأباء أنفسهم مجبرون على إقامة أشكال جديدة للعلاقات في المنزل، وبروز العلاقات الديمقراطية، والمساواة، وهذا بسبب الاستقلال الاقتصادي الذي هو أساس نشوء الديمقراطية، وهذا يؤكد أن تعليم المرأة شرط أساسي لتحررها، ولصياغة مكانة لها في البنية الأبوية، وهذا لا يكفي، فلا يأتي التغيير إلا مع تبديل العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، عن طريق الممارسة عبر علميات طويلة تضمن تحققه.

 

وبالنسبة للأبوية والقومية؛ فالأولى استطاعت التغلب على الثانية، فهي عامل رئيسي يعيق تطور الوعي القومي، ولأن الوعي الجماهيري ظل يرفض القومية العلمانية، فقد أستطاع النظام الأبوي الصمود أمام المد الوحدوي والقومي الذي بدء في الخمسينيات والستينيات، ونجح في إرساء كيانات عربية مستقلة، برغم أن المشروع القومي والوحدوي كان بإمكانه تفتيت الأبوية، وإلى جانب هذا لعبت الثروة النفطية دوراً في إجهاض الوعي القومي، مما أدى إلى تصاعد الأصوليات الإسلامية على حسابه، وهذا ما أدى إلى تشكيل المجتمع العربي المعاصر الذي نشهده اليوم.

إن الأبوية في المجتمع العربي، تتمحور بشكل رئيسي على ضياع الفرد في العائلة التي يهيمن عليها الأب، والمجتمع الأبوي المستحدث وتكاتف الأخيرين في وجه إمكانية تحقيق الذات، فيصبح الأب وهو النموذج الأصلي للأبوية المستحدثة أداة القمع، وبما يكتسبه من قوة ونفوذ ينفذ العقاب، ومن خلال التنشئة التي تقوم على القمع والعقاب، فيغيب الاستقلال الذاتي وتظهر التبعية وتصبح نظاماً اجتماعياً، فهي تبدأ من الطفولة من خلال نظام الطاعة والخضوع لدى الأطفال بفضل سلطة الأب، فمنذ الطفولة المبكرة يرضخ الأطفال بعلاقة أحادية، تقوم على الاحترام الأحادي والخوف، وبذلك يتكرس الخضوع لإرادة الغير من الطفولة، ولا يتعلم الاحترام المتبادل والحرية والمساواة، وبالتالي هذا يقود إلى شيوع مواقف غير عقلانية وخرافية في صفوف غالبية الناس، أي سيطرة الأبوية الحديثة على كل فئات الناس، ومن هذا يظهر نظام ولاء للسلطة الأبوية؛ (العائلة، العشيرة، المذهب، الطائفة)، (الأب، شيخ القبيلة، الزعيم الديني)، وليس للأمة والوطن، وما يميز نظام الولاء هذا هو بروز الواسطة التي توفر له المرونة والحيوية ويتجذر ويترسخ من خلالها، فهي التي تضمن حماية الفرد والمجتمع ومصالحهما المادية، لأن الفرد هنا لا يشعر بأن انتمائه للأمة هو الذي سيوفر له الحماية، بل هذه الانتماءات الصغيرة هي التي تمنحه الإحساس بالرضى، ومن خلالها يعزز شعوره بالهوية للمجتمع، وتعمل على الحد من الشعور بالاغتراب، ومن الواسطة يصبح المستفيد من هذه الأبوية، هم أصحاب النفوذ والجاه، فهم الأقدر على المساعدة، وهذا ما يعزز الولاء الأبوي على حساب الولاء للدولة، الذي إذا ما التجأ إليها الفرد أكتشف أنها لن تضمن له العدالة والحماية، وهذا انعكاس طبيعي لوجود السلطة الأبوية المستحدثة على حساب وجود الدولة، وهذا النظام بمجمله لا يمكن التمرد عليه لأن هذا مرفوض، كالابن الذي يعصي إرادة أبية في العائلة التقليدية، وهذا الابن العاجز مسلوب الإرادة، لا يمكنه إلا عمل كل ما يمكن من خلاله الحصول على رضا والده، فالثورة جريمة، والعقاب ليس للإصلاح، بل لحماية السلطة الأبوية نفسها، ولأن الأبوية المستحدثة لا عقلانية، وتعتمد معظمها على الخرافة للاستمرار، وردع الحداثة، والمحافظة على الوضع القائم، يصبح الفرد لا عقلاني تابع يفتقد لعوامل الانتقال إلى الحداثة، أو تفكيك الأبوية المستحدثة.

لقد بدأت الأبوية منذ العصر الجاهلي، وما قبل الإسلام، وهو نمط الأبوية البدوية أو القبلية، وبعد ظهور الإسلام أعقبة النمو الأبوي الإسلامي منذ زمن النبي الكريم، حتى الخلفاء الراشدين، ولحقتهما الخلافة الأموية والعباسية اللتان أضافتا على النظام الأبوي شكل الدولة العامة، وحين أنحلت هذه الخلافة وظهر السلطنات التي تحولت إلى حكم مطلق، ثم لحقها ظهور الدولة العثمانية، وكلها افتقدت إلى أسس جغرافية واضحة، وكانت دائماً ترتكز على الهوية الدينية والأثنية، بمعنى آخر ارتكزت الأبوية العربية إلى تشكل تجاري أكثر من تميزه بالإنتاج الزراعي، وهذا يدل أن المجتمع العربي لم يمر بذلك بالتطور الذي مرت به أوروبا من خلال الإقطاعيات التي استبدلت الروابط الأثنية بروابط اجتماعية وسياسية، شكلت نهاية الأبوية الأوروبية، حيث أن صلات القرابة في المجتمع الأبوي العربي بقيت هي الروابط الأساسية، فلم يساعد هذا على خلق سلطات محلية متزامنة مع السلطات المركزية كما في أوروبا، فالمدن العربية لم تتطور إلى بلدات مستقلة، وبقيت دائماً منعزلة عن الريف، ولهذا لم ينشأ في المجتمع الأبوي العربي مفهوم العقد بين الحاكم والمحكوم، لأنه لم يمر بالتطور الأول إلى الإقطاع، ولسبب آخر إرادة الحاكم عند الأبوية العربية مطلقة لا تحدها إلا مشيئة الله، ومستمدة من حقه الإلهي في الحكم، وليست من الرضا الشعبي. وحتى القرن التاسع عشر لم يكن هناك وجود لنظام تشريعي عقلاني، فقد كانت الشريعة الإسلامية تقوم على ثقة أخلاقية، أو تهديد مادي، وليس على نظام تشريعي، وهذا لم يساعد على نشوء الملكية الخاصة التي انحصرت في المدن بالأسر والمؤسسات الدينية، وفي الريف كانت مرهونة باستغلال الأرض، ودفع الجزية، ومع تمليك الأراضي الزراعية تمتع شيوخ القبائل بأملاك مميزة، وهذا أوجد للأبوية القبلية امتداد للمستقبل، فأصبحت هذه التحولات تغذي البنى الأبوية السابقة على الرأسمالية، ولا يخفى أيضاً أن الاستعمار عزز موقع شيوخ القبائل ورجال الدين والعائلات التجارية، وهذا لم يؤدي إلا إلى تحديث التشريع للبنى الأبوية في المجتمع، وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى أصبح الوطن العربي هامشاً آمناً للسوق الرأسمالية العالمية، وهذا ما رسخ علاقة التبعية بين الغرب والشرق، وأفقد الأخير عوامل الانتقال الداخلي من الأبوية للحداثة، وحتى مع تحقيق الاستقلال وتنامي الاشتراكية العربية لم يتم دحر هذه التبعية، بل نمى على أثرها مجتمع أبوي مستحدث؛ ذو بنى سياسية واقتصادية واجتماعية مشبوهة، ولأن القومية العربية والوحدة العربية لم تعبر عن نفسها بشكل واقعي بعد الاستقلال، ظهرت كيانات قُطرية لم ترسم بمليء إرادتها الوطنية بناها الداخلية، وبرز التأثير الأوروبي والأمريكي مؤخراً في التعليم والثقافة وأساليب المعيشة، وهذا بعد تأثير الاستعمار على بيروقراطية الدولة والمحاكم والجيش والشرطة، وكل هذا من مظاهر المجتمع الأبوي الذي أنتقل من الأبوي التقليدي إلى الأبوي المستحدث، ومع الاستقلال كانت هناك يقظة لم تستطع في النهاية تفكيك النظام الأبوي، فقد أخفقت الليبرالية والقومية العربية واليسار وتعثرت جميعها في الوقت الذي بدا خلاله المجتمع العربي المستحدث متهيئاً للتغيير الاجتماعي، وتعرض لنكسة، فبدلاً من التحول إلى الديمقراطية الرأسمالية، أو الاشتراكية الديمقراطية، أرتد إلى ما يشبه السلطنات القديمة التي تقوم على سلطة فردية قائمة على السيطرة الكاملة على مختلف نواحي وأشكال الحياة، ونشأت الدولة ببنيتها الأبوية المستحدثة التي كانت نتاج طبيعي للتبعية الرأسمالية والإمبريالية الغربية.

وخلال فترة الاستعمار بأشكاله ظهر نوعين من القيادات المحلية أو النخبة، الأول نوع انتهازي مستعد للتعاون مع الاستعمار مقابل الحصول على مكاسب في السلطة، يخلط بين المصلحة الشخصية والمصلحة الوطنية، وبالتالي يعتقد أن الوسيلة السلمية هي أهم وسيلة للتحرر من المستعمر، والآخر قوي ومعاد للاستعمار وطني ينتهج المقاومة المسلحة كأداة للتحرر من الاستعمار، واستطاعت في الأغلب التحرر منه، وقادت الثورات ضده، ولكنه بعد ذلك واجه بعض الإرهاصات من بعد التحرر والثورات، أثر الهيمنة الإمبريالية والتبعية، وبسبب التغيرات التي طرأت على البنية الاجتماعية أثناء الاستعمار، وأدى إخضاع اقتصادات المستعمرات للدول الاستعمارية إلى عمل تعاضد شيوخ القبائل ورجال الدين والأعيان في المدن إلى ادعاء ملكية الأراضي، وبموافقة الاستعمار تعززت بنية السلطة التقليدية، وأدى إلى تسهيل ذلك الإخضاع، كما ساعد الرافد الثقافي للدول الاستعمارية للمستعمرات في تحديث الأبوية، عن طريق مؤسسات مشابهه لتلك التي في الغرب، مما شكل نخبة ثقافتها ذات ميول غربية، لكنها وإن كانت علمانية لم تستطع الإفلات من الثقافة التقليدية، وتبين أنها بعلاقاتها الخاضعة للاستعمار لم تنتج إلا نمط هجين من الأبوية، سميت بالأبوية المستحدثة خلال ما بعد الاستعمار، وتباين بعد ذلك وجود تيارين تغريبي كما يطلق عليه، لم يستطع التأثير على الجماهير، أو عمل تغيير جذري في البنى الاجتماعية، بما يضمن عملية تحديثها بشكل حقيقي، وأصولي إسلامي، لم يكن يمتلك حضوراً بين النخب التي قادت عمليات التحرير، ولكنه وبعد الاستقلال بعقد أستطاع التأثير على الشارع، نتيجة لرفضه القيم والأفكار الأجنبية، برغم أن الاستعمار عمل على تحديث هذه الأصوليات أيضاً، بل وصناعته في معظم الحالات، وكلا الشكلين العلماني المتغرب والأصولي الإسلامي ارتبطا ارتباطاً وثيقاً ببنية الثقافة الأبوية المستحدثة التي ولدها التأثير الأوروبي.

لقد قامت بعد الاستعمار الدولة بشكل طبيعي، لكن تلك الدولة لم تكن إلا تحديث للسلطنات القديمة فقط، أي سلطنات قديمة بشكل حديث، وفي هذا النمط اتخذت الهوة بين المظهر والواقع أشكالاً مفرطة من المغالاة، حيث تعايشت المثالية السياسية أو الدينية معاً، ودون تناقض واعي، بل وكان هناك تناقض بين القول والفعل، بين الأفكار والممارسة، بين المبادئ والأهداف العامة والمصالح الخاصة؛ العائلية أو القلبية أو الأثنية، واستطاعت هذه السلطنات -سواءً كانت ملكية أو جمهورية- الاستمرار برغم المصاعب التي اعترضتها، بما في ذلك عجرها السياسي والاقتصادي واغتراب الجماهير عنها، ومحاولاتها الانقلاب عليها.

إن النهضة العربية لم تكن ظاهرة مستقلة، بل نتيجة صيرورة التطور والتصادم بين الأبوية والحداثة في ظل الهيمنة الأوروبية، إلا أن التنوير الذي أدعته الهيمنة الأوروبية لم يكن طبيعته إلا الاستغلال وبث الرعب، فقد كانت السيطرة الأوروبية ذات نظام تدميري، مضى في التخبط العشوائي، حتى حقق نهايته، إما بالاستسلام لتناقضاته الداخلية، أو تفكك بفعل الاستقلال، كما أن الإرهاب كنظام عقلاني للقمع والسيطرة ابتكار أوروبي، طبق أساساً على الشعوب غير الأوروبية، نتيجة اعتقاده بالتفوق العسكري والثقافي والعرقي الأوروبي، وأصبحت الدعوة إلى تمدين العالم أو تحضيره التي كان يجاهر بها الغرب، وبسبب الجشع الرأسمالي الأوروبي، إمبريالية ضارية، وغدا الإرهاب العقلاني ممارسة قانونية ومنظمة، طوال فترات الاستعمار لم ينتج سوى التخلف العقلي لتلك المجتمعات المستهدفة، والقحط العاطفي والشلل الفكري، وكان المفر الوحيد من السيطرة الأوروبية، هو المقاومة التي أفرزت طبيعياً ذلك الشكلان من أشكال المقاومة العلمانية والأصولية، وكان أهم التحديات للنظام العربي الأبوي بعد إحكام السيطرة الأوروبية عليه، هو العودة إلى التقاليد الإسلامية، فالاستجابة من قبل الجماهير لحركات التحرر كان عبر الشعارات الدينية، وإلا لما نجحت، وكان خير دليل على ذلك، هو عدم استجابة الجماهير لثورة ظفار، لأنها اتخذت من الخطاب التحرري الماركسي طريقاً لكسب الجماهير، ولهذا بالذات أخفقت بما يعني أن هذه السيطرة الأوروبية عززت من مكانة الأصولية الإسلامية بشكل أو بأخر، لأن العلمانية الوطنية لم تكن قادرة على التعامل بنجاح مع القضية السياسية للهيمنة الأجنبية، ولم تتمكن من تحقيق الوحدة العربية، وبالتالي استفادت الأصولية الإسلامية من إخفاق العلمانية، ونجاح الإمبريالية، مما أدى في نهاية المطاف إلى التطرف الديني، وبإيجاز كانت الإمبريالية مسؤولة عن تفتيت الوطن العربي سياسياً واقتصادياً، وتعزيز السلطة الأبوية التقليدية بتحديثها، ويمكن الفهم أن الأصولية الإسلامية كعقيدة أو كحركة سياسية على أنها حصيلة الاستعمار الثقافي.

إن لغة خطاب النظام الأبوي هي العربية الفصحى، وهي التي تنقل سبل المعرفة، إلا أن هذه اللغة لم يتم تطويرها، إلى جانب كونها صعبة، وبقيت تستند على الموروث الديني، فهي تستند بشكل أساسي إلى نقل النص القديم كحقيقة لا يمكن الجدل فيها، فتُغيب التفكير العقلاني والنقد الجذري لهذا التراث، أي أنها اعتمدت على القراءة والتأويل، وعلى هذا تكون الفكر العربي نتيجة للطبيعة العقائدية لهذه اللغة ذات الطابع الديني والأبوي، إذ أنها تقوم بإنتاج خطاب يعبر عن الواقع بأيديولوجيات مزدوجة، أيديولوجيا كامنه في سحرية اللغة، وأيديولوجيا مستمدة من سلطوية اللغة، ويتجسد هذا الخطاب في خطاب أحادي يكرس التبعية، أي أن المتكلم ثابت يمثل السلطة، يفتقد للحوارية، وعلى الآخر المستمع قبوله دون إخضاعه للنقد أو العقلنة، وكذلك هي الكتابة، فيوجد هناك كتابة أحادية، تتسم بعدم إبداء التردد أو الشك، وترسخ كل ما تحتاجه السلطة، وتدعي الحقيقة المطلقة، ولا تقبل حتى تحليل مضمونها، وهذا ينعكس على العلوم والآداب والترجمات، فلديها رؤية تعتبر أن الماضي المجيد الذي فهم الحضارة الغربية على أنها حاصل الحضارة العربية، ولأنها لم تنجح في الاتكاء على الماضي، والتخلص من عظمته وضعت حاجزاً بينها وبين العلم الغربي، ولن تنجح اليقظة العربية دون إحداث انقطاع عن تراثها الأبوي، واستيعاب منطلقات الحداثة، وعصرنه حياتها بقبول العلم كأساس للنهضة.

إن اعتماد الأبوية المستحدثة في لغتها على النصوص المقدسة، والخطاب التقليدي الذي يستمد قوته من التراث، لتكريس سلطوية النص الذي يخدم بقاء هذا النظام الأبوي، لن يؤدي إلى إرساء نظام تعليمي يعتمد على العقل، بل على الحفظ عن ظهر قلب، ولأن النص المقدس يقبل التأويل ولا يقبل النقد، فهذا يدرب على الخنوع الفكري والتسليم للنص دون جدل، وإن كان امتداده يصل إلى قرون، ولا يعد إلا لتأسيس الضمانات التي تكفل تفوق المقولة الدينية، وتلغي أي مقولات أخرى، وإن هذا لا يؤدي إلا إلى إشاعة نوع معين من المعرفة، أي النشاز المعرفي الذي يتغذى على الجهل، ويلغي كل التساؤلات التي تأتي من العقل.

إن اللغة الحديثة تحتاج إلى إحداث تطورات في الفصحى، وتحديث هذا النمط الخطابي، بما يجعلها سهلة على جميع الفئات في فهمها، وليس لفئة معينة احتكارها، بتوجيه خطابها الذي لا يكرس إلا التبعية، وتكريس النصوص المقدسة والتراثية على حساب الوعي النقدي، وكما لوحظ بعد الاستقلال انتقلت الأمة العربية من حقبة النضال من أجل الإحياء العربي، والانطلاق إلى الحداثة إلى النضال العقائدي، والنظام المتعدد الدول فقد انحسر بعده الخطاب الإصلاحي والليبرالي والقومي والاشتراكي، وتناما خطاب الأصولية الإسلامية بوصفها رد فعل دفاعي، عما يأتي من الغرب سواء كان إيجابي أو علمي أم لا، وأصبحت مرحلة الانتقال مرحلة عودة إلى الماضي، وتراجع العقل، وهيمن الفكر الساذج على حساب المنطق، وهيمنت الخطابة والوعظ على حساب التحليل والتفكيك، وتبنت الميكافيلية بعد انهيار الأحزاب الحداثية، وقيام دولة السلطنة الحديثة.

إن الفكر الأبوي المستحدث يتسم بأنه هامد وغير فعال، كما الحداثة ولا يعتمد على النقد، بل على الإتباع، ويفتقد للتأليف، ويقوم على التبعية، ولا يبدع بل يقلد، هذه أهم سماته، هذا الفكر في أوج ازدهاره في السبعينيات والثمانينيات، بدأت مرحلة ركوده الاجتماعي والاقتصادي، لأنه كما ذكر فكر هامد، وقد ظهرت خلال هذه الفترة ثلاثة اتجاهات أساسية لنقد الأبوية المستحدثة: علم الاجتماع النقدي الرائج في الثقافة الأنجلو أمريكية، والماركسية الغربية، والبنيوية الفرنسية وما عقبها، ويتمثل النقد الجديد في كتابات أهم أعلامه: محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وعبدالله العروي، وهم أول من قاموا بابتكار مقولات تحليلية مكنت القيام بقراءات جذرية للتاريخ والمجتمع، ويمكننا القول أن النقاد الجذريين للثقافة الأبوية هم أصحاب منهج أكثر منهم أصحاب نظرية، ذلك أنهم منشغلون بترويج منهج نقدي بدلاً من نظرية أصيلة، فلا يستمد فعاليته من الكشف، بقدر ما يستمدها من أنماط تحليل وتفسير مكتسبة، كما أن لغة النقاد الجدد لهي لغة غربية، بمعناها الغربي، ومدلولها المجازي، وحتى لو أتقنوا العربية، فإنهم يعتمدون على لغات غربية، وهذه الازدواجية في اللغة لها تبعات ثقافية ومعرفية، لأنهم يعتمدون على لغات غربية عند ترجمتها يصعب فهمها إلا من قبل المثقفين الحداثيين لصعوبة مفاهيمهم، لأن المناهج والتصورات التي يستخدمونها هي مستمدة من ثقافات غربية وتقاليد أخرى غير متعارف عليها في المجتمع الأبوي المستحدث، وبرغم هذا يبدو أنه واقع خارجي يمكن رصد ظاهرته عن بعد بموضوعية وعلمية، بما يعني أن هناك صعوبات تعترض الحركة النقدية، لإحداث نقلة من نموذج إلى آخر، وجعل النظام المعرفي مفهوماً في نظام آخر.

إن البرجوازية الصغيرة نشأت في المدينة والريف، وهي واقع عن ثقافة هيمنة ترتبط بجذورها الفلاحية والبرجوازية، وقد ظهرت هذه البرجوازية مع صعود صغار الضباط والأحزاب العقائدية إلى الحكم في الخمسينات، وقد نجحت في ثوراتها التحررية ضد المستعمرين، وما إن تسلمت السلطة إلا وأعلنت عن أن هدفها هو إعادة تشكيل المجتمع بكله، وتبنت الاشتراكية والوحدة والحرية، ولبعض الوقت بدا أن التوجه إلى التحول الاشتراكي يسيراً وآمناً، وحتى منتصف الستينيات بدى أن أغلب الأنظمة العربية اشتراكية، وما إن دخلت السبعينيات حتى بدى واضحاً أن المشروع الذي بادرت إليه البرجوازية الصغيرة الثورية، والتي تسلمت الحكم في تلك الدول لم يكن ممكناً تحقيقه، وكان أبرز عوامل الفشل استخدام سلاح النفط وعائداتها للتآمر على تلك الأنظمة، وبتعثر السكان واغترابهم عن دولهم نتيجة العزلة، وعدم المشاركة السياسية، وتعثر الماركسية العربية وتخلفها، ويمكن القول بإيجاز أن أهم عوامل هذا الفشل للثورات أن البرجوازية الصغيرة الوطنية لم يكن باستطاعتها أن تتحول بشكل فعلي للماركسية، بما أن يعني أن هذه الطبقة غير مؤهلة لإحداث تحول اجتماعي جذري، ولأن الجماهير بقيت مغتربة عنها ومحافظة، ساهم ذلك بالفشل السريع، كما أنها صاغت لنفسها فهمها الأبوي المستحدث للاشتراكية، أي لم تأخذ بجدلية الطبقة والصراع الطبقي، بل أقامت تعايش متجانس بين الطبقات في ظل زعامتها أي الأبوية، وأتضح أن تعبئة الجماهير سواء في الأنظمة الثورية أو المحافظة مستحيلة، نتيجة لاغتراب المجتمع ولطبيعته المحافظة، والملاحظ أن البرجوازية الصغيرة بدأت في الانشقاق والتذبذب منذ وصولها إلى السلطة في الخمسينيات، ومن خلال التناقضات التي ظهرت في داخلها، فقدت شرعيتها أمام الجماهير، ونتيجة لانهيار الثقة بها اتجهت نحو الإخضاع والسيطرة والقمع والإكراه مع بداية السبعينيات، ووسط هذا التدهور ظهرت الأصولية الإسلامية على أنها عقيدة الخلاص لجماهير هذه البرجوازية من الإحباط والاغتراب، ووجدت هذه الأصولية تلك الطبقة كأداة تحركها وفق أهدافها، وبدأ الارتداد في البرجوازية الصغيرة الوطنية إلى الأصول الدينية لكل منتميها بدلاً من الاندفاع إلى العلمانية أو الثورة، وانحسرت بقية التيارات الاشتراكية والليبرالية والقومية، وحتى الحركات الإصلاحية الدينية على حساب نهوض الأصولية الإسلامية في صيغتها البرجوازية، إلا أنها ليست حركة دينية مع ذلك فقد كانت من قماشة العقيدة الإسلامية نفسها، ولكن في شكلها البرجوازي لم تكن إلا ظاهرة سياسية، وإذا كانت الأصولية ملاذاً للمثقفين والمفكرين السياسيين، فإنها شكلت خلاصاً للجماهير، فهي المصدر الوحيد الذي منحهم الهوية والقوة من خلال الخطاب البسيط والمباشر الذي اعتمدت عليه هذه الأصولية في حوارها مع الإنسان البسيط والمثقف المحبط على حد سواء، وتفاقمت معارضة الأفكار العلمانية أو الغربية، كما يسمونها وعبرت عن رؤيتها لكيفية معالجة الهزائم والنكسات العربية مستمدة كل ذلك من تراثها الإسلامي، واعتبرت أن العودة إلى الله هو الطريق الأول للنجاح والازدهار بدون تقديم أي رؤية إصلاحية يمكن تطبيقها على الواقع.

إن التحول الديمقراطي عملية لا تحدث دفعة واحدة، بل محصلة سياق طويل من التغير، ومن خلال ذلك فإنه لا يمكن القبول بضرورة ربط التحرر بالاستيلاء على السلطة عبر الثورة، بل إن الاتجاه نحو الديمقراطية هو ضمان تفكيك الأبوية المستحدثة، ومن الصعوبة الاعتقاد أن التربية والتحديث والتنمية حسب النموذج الغربي، سيؤدي إلى حلول سريعة، ولا يمكن الاعتماد على الثورة لإحداث ذلك التغيير، فكما رأينا أن الفكر الثوري الذي بدء في الخمسينيات تحول إلى تيارات رجعية، ويمكن أن تدخلنا أي ثورة في نظام أبوي مستحدث من نوع جديد، ولكن من الممكن اللجوء إلى الوسائل السلمية للتغيير ودون اللجوء إلى العنف في محاولة لإقامة علاقة بين الدولة ومواطنيها، لا ترتكز على العنف بل علاقتها تنهض على القانون، وتعيد للشعب سلطته، وبإتباع السبل القانونية وبمناهج تحظى بقبول الشعوب، وتأسيس خطاب نقدي يتمكن من إضفاء الوعي الصحيح للإطاحة بالخطاب الأبوي المستحدث ونظامه الاجتماعي والسياسي، وإعادة صياغة رؤية لمفاهيم الديمقراطية والوحدة والعدالة الاجتماعية وفقاً لمعطيات الواقع في المجتمع العربي، ويتطلب هذا كله أشكال متعددة من التنظيم قائم على نشاطات النقابات العمالية والجمعيات النسائية والاتحادات الطلابية والأحزاب السياسية، وتشكيل مؤسسات قطرية وقومية للتغيير الاجتماعي والثقافي، تخطو كلها على طريق الحداثة والديمقراطية والعلمانية، وتستطيع دحر الأنظمة الأبوية في الوطن العربي.

ومع ثورات الربيع العربي التي اندلعت في نهاية العام 2010، التي وفرت طريقاً جديداً للتغيير عبر الوسائل السلمية، كان من المرجح أن تسقط هذه الثورات الأنظمة الأبوية المستحدثة بسلاسة إلا أن الواقع أفرز مشهداً أكثر سوءً، فالأصولية الإسلامية ركبت على الثورات، واعتبرت أنها الوريث الشرعي لهذه الأنظمة، وتارة عبر الوسائل السلمية قفزت إلى السلطة، في محاولة لتفكيك الأبوية المستحدثة، ولكنها سرعان ما أخفقت نتيجة للانفصام بين الشعارات والطوباوية التي تدعيها، وبين الممارسة وتحول الشارع ضدها هذا في الحالة السلمية، وتارة بالنعف في الدول التي أخفقت بها في الوصول بالطرق السلمية للسلطة، فقد مارست كل أشكال العنف والإرهاب، فصارت البديل الأسوء لتلك الأبوية المستحدثة، وأصبح من الصعب عليها تفكيكها بمقابل تدمير كل شيء، ففقدت التأييد المحلي والدولي لها، بل وتوزعت على بعض الأطراف الدولية ذات الأطماع، وتحولت لقيادة صراع طائفي في الدول التي مورس فيها العنف كوسيلة للتغيير، ومن كل هذا أصبح أفق الانتقال إلى الحداثة صعب المنال، لأن الطريق السلمي أخفق في تفكيك البنى الأبوية المتجذرة في السلطة، بل وانتهزت الفرصة من خلاله الأًصولية الإسلامية للسيطرة على تلك الأنظمة، وأخفقت تلك الثورات في إعادة صياغة مفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وفقاً لطموحات الشارع الذي سئم من الأبوية واستبدادها، بل وجرت تلك الأصوليات المنطقة إلى صراع طائفي يعيد المشاهد، وبشكل مباشر إلى حروب الثلاثين عام التي حدثت في أوروبا، وربما أنها أشد تخلفاً منها، عدا في بعض الأنظمة استطاعت بعض التحالفات المتنوعة الانقلاب على الأصوليات الإسلامية، وأدخلت بعض التحديثات على أنظمتها، بما أدى إلى كسب تأييد شعبي، برغم الاحباط من جدوى تكرار نفس التجربة السلمية، وما زلت دول تمارس الفعل السلمي لتفكيك تلك الأبوية، والتي قد يبدو حتى الآن أنها سوف تنجح للتأسيس لتحول ديمقراطي ذو أبعاد حديثة كالسودان.

 

قراءة 4188 مرات آخر تعديل على السبت, 08 نيسان/أبريل 2023 02:41

من أحدث

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة