هل سيصبح لدينا في اليمن أدب حرب؟

الأربعاء, 16 كانون1/ديسمبر 2015 20:18 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

طوال الفترة الماضية كنت أتساءل: هل سيصبح لدينا في اليمن أدب حرب؟ هل سنقرأ أدب من هذا النوع خلال السنوات القادمة؟ تناقشت مع اصدقاء مهتمين، وبحثنا الأسباب التي تمنعنا من الحصول على أدب حرب. نعم لدينا اسباب متعلقة بمثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم، بالطبع تتغير حياة الأديب والكاتب، ليصبح الكثير منهم جزء من التيار، وليس هذا بمشكلة كبيرة، غير ان المشكلة ان هذا الاديب أو الكاتب ينجرف مع التيار الى النهاية ثم لا يخرج لنا بشيء.

منذ اندلاع الحرب بشكل عملي في أواخر مارس من هذا العام، أحتاج كثيرين الى شهرين على الأقل لكي يستوعبوا مسألة أن الحرب قد لا تنتهي قريبا. في تلك الأثناء كانت المشاريع الشخصية قد توقفت، باستثناء أولئك الذين اصبحت مشاريعهم القتل في حرب مجنونة. ولأن الحياة يجب أن تستمر بطريقة أو بأخرى، كانت تلك المدة كافية ليبدأ المرء التفكير بإيجاد طريقة للتكيف مع الوضع القائم، واستئناف أي مشروع أو عمل، وفي الغالب البدء بشيء مختلف يناسب ظروف هذه الحياة الجديدة، أما تلك الظروف القديمة فلن تعود كما كانت سواء توقفت الحرب أو لم تتوقف.

اذن بعد أشهر من الحرب، عرفت أن هناك خمسة اصدقاء على الأقل شرعوا في كتابة مشاريعهم الروائية التي لابد أنها كانت قد تأجلت من سنة لأخرى، أثنين منهم أصبحا بصدد المراجعة الثانية للمسودة الأولى. للحياة طرقها الغريبة في تقديم الفرص النادرة. هذه الفرص لن تتوقف حتى في أعقد الظروف. أولئك الأصدقاء الذين يكتبون اعمالهم الروائية هم بالتأكيد يكتبون عن اشياء ليس لها علاقة بهذا الواقع الذي نعيشه. بالطبع لا يزال من المبكر القول أن هناك من يستطيع ان يستخلص فنا من المأساة وهي ماثلة.  لكن حتى الآن نحن لم نصادف عملا حاذقا قد جعل من ثورة فبراير مادة فنية ملهمة. وعلينا ارجاء أي توقعات في هذا الشأن، لأن الفن هو أحد الأشياء التي يصادف أن الحرب تبغضها فالتعريف النهائي للحرب: ذلك الشيء المناهض لكل ما هو جميل وخالد.

مصير الانسان أن يبتعد عن المأساة اقدام فقط، ونكتشف أنه قد كون اعتقادا راسخا أن ما عاشه للتو يتعلق بالماضي وهذا الماضي لن يعود من البوابة الخلفية للزمن. وعندما تعود المأساة بهيئة أخرى، فهي تدخل من أوسع الأبواب، تداهمنا كشيء جديد (غول يصلح أن يتكرر في الأحلام) وفي الأثناء نكون قد نسينا الطريقة الأجدى في المقاومة.

يبدو أن ثمة سبيل واحد لتخليد المأساة، هذا السبيل هو الفن والأدب، بالطبع ليس لأننا وحشين أو كمن أدمن البشاعة، ولكن لأن هذي هي الطريقة الوحيدة التي ستجعلنا نتذكر الزمن المر بكل تفاصيله لنعمل بكل طاقتنا من أجل ألا يتكرر مرة ثانية.

لا يكفي ان نسمع خطب الساسة وهي تحذرنا من أنه ثمة حرب قادمة ستقلب حياتنا جحيما، فنحن تدربنا منذ زمن بعيد على عدم تصديق أي شيء يقوله السياسيون، ولكن بوسعنا أن نصدق الفن دائما. يقول فلوبير: "لنُحب الفن. من بين جميع الأكاذيب هو الأقل خداعا". يقول كمبرلي پاين أيضا، أن العمل الأدبي أو الفني لا يوجد عبثا " إنك لا تلطخ الألوان بعبث حول لوحة قماشية. إنك تنقذ حياة شخص ما". في النقاشات التي فتحتها مع بعض الاصدقاء، وجدنا ان أغلب كتابنا يفتقدون للأصالة، لذا تأخذهم الأحداث بعيدا عن الأشياء التي يجدر بهم الاخلاص لها، لهذا ستجد ان الشاعر الذي كان يكتب قصائد جميلة حتى وقت قريب قد اصبح محللا سياسيا، أو ناشطا حقوقيا أو أي شيء آخر ليس له علاقة بما عرف به من سابق. لا تكمن الاشكالية في أن الأديب اصبح صحفيا او ناشطا، غير انها تكمن في الأساس أن الاضطرابات توفر فرص من أي نوع، ويجد الاديب أو الكاتب أنه قد ينجح في تحقيق ذاته في مكان آخر مستثمرا الشهرة البسيطة التي حققها من خلال نشاطه السابق. هذا ما عنينا به انعدام الاصالة وقلة الاخلاص. وعندما نتحدث عن أدب الحرب، نحن نتحدث عن التأسيس وليس عن المراكمة، لم يوجد لدينا ادب سابق من هذا النوع معتبر ويمكن البناء عليه. لا يكفي أنه اصبح لدينا حرب ليصبح لدينا أدب حرب. ان أبرز الكتاب المآخوذين بالأدب البوليسي، يقول الروائي التركي أورهان باموق، كانوا يشتكون دوما من فقر الخيال الاجرامي عند المجرمين الأتراك، ويعزون لهذا السبب عدم وجود أدب بوليسي تركي وربما شرقي يوازي ذلك الانتاج الضخم من الأدب البوليسي الذي لدى الغريبين، لأن الجريمة هناك أصبح من أبرز سماتها الذكاء. لن تجد جريمة ترتكب بشكل فج كما يحدث عندنا. يقول باموق ما معناه أن اللص في تركيا ليس لديه مخطط لكي يسرق حفنة من المال وقد يقتل ويترك ضحيته والمعالم الدالة على الجريمة خلفه، هكذا بوضوح ثم يقضي بقية حياته في السجن، لأن أي شرطي مفغل يستطيع ان يقبض عليه. لا اعرف السياق الذي تحدث فيه باموق ربما في كتابه "ألوان أخرى"، لكن ما علق في بالي هو هذه المسألة. اذن ها هي المجتمعات الشرقية تغرق في الحروب، هذا شيء أصبح ملموسا، غير الملموس وما يثير الأسئلة هل سيصبح لدينا أدب حرب؟ هل يستطيع الفن أن يقترب من الواقع المرير لينقله لنا على نحو لا يشعرنا بالبؤس وفي نفس الوقت لا يكون هدفه تقديم العبرة؟ الفن الحقيقي لا يقدم العبر، ولا يأخذ على عاتقه أن يبدو واعضا أو حتى محذرا من الشرور، ولكن لأنه فن حقيقي فهو يقوم بوظيفته الفنية على أكمل وجه، وفي الأثناء سنكتشف أنه قد وعظنا وحذرنا، وجعلنا قلقين عن رضى ازاء كل تلك المآسي التي حدثت والتي نرغب حقا وسنعمل جهدنا من أجل أن لا تتكرر.

اذن تبقى الاصالة هي الاشكالية الأولى في التعبيرات الفنية التي تستلهم الواقع بمختلف تقلباته. قبل أيام صادفت في "فيس بوك" عدد من النصوص للكاتب أحمد شوقي أحمد، نصوص قصيرة اقتربت من مآسي الحرب على نحو بالغ في الادهاش وبالغ في الفنية. لم يبدو أحمد متحيزا أو حاملا للحقد وهو يكتب، ومع ذلك استطاع ان يحملنا على كثير من الحقد ازاء هذه الحرب القذرة. وأنا أقرأ تساءلت: كيف استطاع أحمد شوقي الافلات من ضغط الأحداث؟ كيف استطاع وهو يعيش في مدينة تعز التي تعاني في دقيقة؟ أحيانا يخطر على البال أثناء معالجة اشكالية الكتابة الأدبية اثناء الأوضاع المضطربة، أن هذا النوع من الكتابة لن يتوفر للجميع ولكن فقط لأولئك الذين يمتلكون الأصالة، وبوسع صحفي اجنبي يتواجد في قلب الأحداث وموفد من أجل تغطيتها، ربما بوسعه أكثر من غيره أن يكتب أدبا عن كل هذه الوحشية، ولكن ليس في هذه الأثناء، فهو على الأقل لن يكون بمنأى عن التأثيرات، ولكن عندما يعود لعالمه الآخر الذي لا يشبه هذا العالم. كما فعل همنغواي. عندما يتحرر من أي رابط اخلاقي ازاء كل تلك الأحداث. لكن نحن في قلب هذه الأحداث، وهي تمسنا على نحو مباشر، وستظل تأثيراتها تلاحقنا مدى الحياة كما تلاحقنا المسؤولية الاخلاقية التي يصعب الشفاء منها والتي أيضا ستظل تفرض علينا مهام جديدة في كل مرحلة. هذه المسئولية الاخلاقية هي من تظل تدفعنا كل يوم في طريق ايجاد دور يخفف من معاناة الناس، ايجاد دور لمجابهة المتسلطين الذين يشعلون الحرب من أجل مصالحهم الخاصة. اذا نجحت هذه المسئولية في دفعنا الى ميدان المعركة، فإن هذا سيكون من أجل القتال وليس من أجل ان يكون لدينا الخبرة لإنتاج ادب حرب في وقت لاحق. حتى اذا اردنا أن نقوم بدور انساني، سنذهب للمستشفيات وسيستحيل ألم الضحايا إلى غصص يكفي انها تكومت لدينا ونحن لا نزال بعيدين. أنا حقا ابحث عن ذلك الذي يستطيع ان يخلق من غصصه الماثلة فنا دون ان يضطر لكتابة عويل أو هجاء وفي احسن الأحوال بيانات سياسية. على أن هناك نصائح يقدمها كتاب خبروا التجربة ويمكن أن تمد الأديب أو الكاتب الذي يجد نفسه في وسط الجحيم بالطاقة الكافية ليعرف دوره ومن ثم يقوم به. "بإمكان الحياة أن تكون قاسية، قبيحة، وعنيفة. بإمكانها أن تجعلك تزحف على الأرض وتبكي وتتوسل الرحمة. إننا نتعرض للقصف باستمرار، تقصفنا الصور التي تجعلنا نشكك في كل ما هو خالد. الحروب تمزّق العائلات. الطبيعة تستطيع -في يوم واحد- أن تسلبك ما عشته في حياة بأكملها. الأطفال يموتون قبل وقتهم. القلوب تتشظّى. والحياة سوف تحترق". وأمام هذا يتساءل كمبرلي پاين: كيف يمكن للخالد والأبدي أن يوجدا، وكل هذه الوحشية حولنا؟ ويجيب على تساءله مخاطبا الفنانون، الموسيقيون، الكتّاب، والراقصون" لم تهبط على الأرض لتضيع وقتك في خلق مجوهرات لا قيمة لها، بل خلقت لتذكر الناس بأن الحياة تستحق أن تعاش. لتذكرهم بأن الحياة لها احتمال آخر، أنها يمكن أن تصبح جميلة مرة أخرى. وعائلتنا البشرية سوف تحتاج لهذا التذكير دائمًا".

قراءة 2150 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة