مائة عام من الحرب

السبت, 16 نيسان/أبريل 2016 19:18 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

يبدو أن "العالم الغربي" يحتاج أن يتغذّى على الحرب حتى يعيش. فمنذ 1914 وحتى يومنا هذا، تقريبًا بلا انقطاع، يحارب "العالم الحر" ضد عدو ما، متغير، لكن دائمًا موجود. في 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى بين أوروبا الديمقراطية (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة، وإلى جانبهم روسيا) وأوروبا المتأخرة (ألمانيا، الإمبراطورية النمساوية-المجرية، الإمبراطورية العثمانية). وبعد سلام قصير وهش بدأت الاستعدادات للحرب الثانية (1939-1945) التي هَزم فيها "العالم الحر" (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة، وإلى جانبهم الاتحاد السوفيتي) الفاشية (ألمانيا وإيطاليا واليابان). وما أن وضعت تلك الحرب أوزارها حتى أعلنت الحرب الباردة عن نفسها، حيث تقاتل "العالم الغربي" مع "الكتلة الشيوعية" لمدة 45 عامًا في حروب بالوكالة وسباق تسلح وردع متبادل، حتى انهزم الاتحاد السوفيتي شر هزيمة في مطلع تسعينات القرن العشرين. ثم دخلنا، بعد هدنة قصيرة، في حرب جديدة، مختلفة عن سابقاتها، أسماها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، جورج بوش الابن "الحرب على الإرهاب". وما زلنا نحارب حتى الآن!

تقول الأسطورة، التي يطلق عليها منظّرو العلاقات الدولية اسم "السلام الليبرالي"، إن البلدان الديمقراطية الليبرالية لا تحارب بعضها أبدًا. لكن الحقيقة أن الوجه الآخر لـ"السلام الليبرالي" هو "الحرب الدائمة" كما شرحنا. فمن لا يحاربون بعضهم أبدًا يحاربون الآخر دومًا. ألا يدعونا هذا للتفَكّر قليلًا؟ ألا يدعونا إلى الشك أن أسباب الحروب ليست الطبيعة الآنية لهذا الصراع أو ذاك، بل بنية النظم الليبرالية الغربية ذاتها؟ أوليس من المنطقي أن نطرح السؤال: هل تركيبة الديمقراطية الغربية تفرض الحرب "العالمية" كأحد مكونات وجودها؟

نظريات "الإمبريالية" تقول إن قرنًا من الحروب المهلكة لا بد وأن سببه نزوعًا عدوانيًا استعماريًا كامنًا في قلب البلدان الرأسمالية الغربية. فوراء تفاصيل كل صراع، وراء القصة الحية لكل حرب، هناك ميل عام للتوسع/السيطرة لدى القوى الكبرى اقتصاديًا وعسكريًا. هذا الميل يكشف عن نفسه بطريقة أو بأخرى وبذريعة أو بأخرى، بغض النظر عن التبريرات الأخلاقية، والدعاية والدعاية المضادة، وعن أي شيء آخر. بهذا المنطق فإن "الحرب على الإرهاب" هي أحد التعبيرات عن شكل الإمبريالية اليوم. وبتشريح "الحرب على الإرهاب" يمكن فهم الشكل الذي يأخذه الميل التوسعي للقوى الكبرى في عصرنا الراهن.

الملاحظة الأولى، والمفتاحية، في هذا السياق هي أن كل الحروب العالمية السابقة، من الأولى إلى الباردة، كانت بين تكتلات من الدول، أما الحرب الحالية على الإرهاب فهي حرب تخوضها تكتلات متغيرة ومتعددة من الدول، على جبهات مختلفة، ليس بالأساس ضد دولة أو دول، بل ضد حركات سياسية قد تتخذ من بعض الدول ملاذًا آمنًا، وقد تختفي في الصحاري والأحراش وأعماق المدن. خطوط المواجهة/التماس هنا ليست حدود الدول، والقوى المتحاربة ليست الجيوش النظامية، بل تدور المعركة داخل الدول وبين ميليشيات وتنظيمات سرية من ناحية وأجهزة دول واستخبارات من ناحية ثانية.

ما معنى هذا؟ معناه أن الوجه الظاهري للعدو الذي تواجهه "الكتلة الغربية" (الرجراجة) لم يعد بزوغ دولة/دول منافسة تريد أن تفرض إعادة اقتسام حصص الهيمنة الدولية بقوة السلاح، كما كان الحال في الحربين الأولى والثانية (حيث كان المنافس هو ألمانيا بالأساس) وفي الحرب الباردة (حيث كان المنافس هو الاتحاد السوفييتي بالأساس)، بل صعود حركات سياسية، بدأت تأخذ شكل شبكات أممية متداخلة، تسعى إلى تقويض النفوذ الغربي في مواقعه المختلفة أو إلى منعه من الاتساع.

هل يعني هذا أن المنافسة الإمبريالية بين الدول الكبرى انتهت؟ بالقطع لا. لا تزال المنافسة الإمبريالية هي المحرك الأول للصراع الدولي. لكن الفرق بين الماضي والحاضر يدور حول أمرين أساسيين: الأول أن الدول الكبرى نبذت فكرة الحرب الشاملة المباشرة بينها (سواء ساخنة أو باردة) وذلك لأسباب تتعلق بالتكلفة والعائد، والثاني أن السيولة هي السمة الأكثر ظهورًا للأوضاع الدولية الراهنة، إذ تتبدل التحالفات من معركة إلى معركة ومن لحظة إلى لحظة، بحيث لا يصبح مفيدًا بناء كتل جامدة ثابتة تعيق الحركة. ولذلك فإن المنافسة الدولية بدلًا من أن يكون عنوانها كتل متحاربة واضحة، تظهر في الخريطة المعقدة لتمويل الميليشيات المتحاربة، وفي تصويتات مجلس الأمن، وفي ترتيبات القصف الجوي هنا أو هناك، وفي ما يطلق عليه  "تحالفات الراغبين" (coalitions of the willing)، وفي آليات تحتية وتفصيلية أخرى كثيرة.

هذا الشكل الجديد للإمبريالية هو ابن شرعي للنيوليبرالية وأزمتها. هذا عصر التفكك. ضغط التنافس العالمي العسكري والاقتصادي في عصر العولمة الرأسمالية فكك الكتلة الشرقية والاتحاد السوفييتي، وضغط التراجع الاقتصادي الأمريكي المتواصل، مصحوبًا بالفشل في المغامرة الأفغانية والعراقية في مطلع الألفية، هز الهيمنة الأمريكية في أعماقها، ودفع التابعين (سابقًا) إلى الاستقلال النسبي، وضغط سياسات النيوليبرالية والأزمات الاقتصادية والسياسية فكك الدول أو أضعف قبضتها، كل هذا تسبب في، وتزامن مع، صعود غضب واسع النطاق ضد الغرب والإمبريالية والأنظمة المتواطئة، غضب نجحت قوى رجعية في استثماره بالتعبير عنه في صورة طائفية مقيتة، فظهر ما سُمي بـ"الإرهاب"، وهي تسمية حمقاء بعض الشيء إذ يتم تعريف قوى سياسية بتكتيك تتبعه – "الإرهاب" – وليس بمشروعها السياسي أو مواقفها الأساسية.

وهكذا برزت إحدى السمات الرئيسية للإمبريالية الجديدة: التنافس الدولي على النفوذ بين تحالفات مؤقتة وهشة، عالمية وإقليمية، تغذي نوعًا من "الإرهاب" (بالتمويل والدعم) بيد، وتحارب نوعًا آخر منه (بالقصف والأنشطة الاستخباراتية) باليد الأخرى، في دائرة جهنمية لا تنتهي. نرى هذا بوضوح في سوريا والعراق، فمن يحارب داعش اليوم، هو من موّل القوى الجهادية السنية بالأمس في العراق، ومن يستدعي الإخوان في سوريا هو من حاربهم في مصر، وهكذا.

عصر التفكك والحروب الصغيرة والإمبريالية الجديدة والحركات المناوئة الرجعية لن ينتهي بسهولة أبدًا. فهزائم الإمبريالية الأمريكية في العراق وأفغانستان ألجمت أمريكا جزئيًا، لكن هذا بالضبط هو ما شجع آخرين (روسيا، السعودية، إيران) على التنافس ليحلوا محلها. وانهيار الثورات العربية، مع تصاعد العربدة الإمبريالية، يغذيان الداعشية كبديل. الأمل يبدو شاحبًا، والمستقبل صعبًا. لكن رغم ذلك كله، فأحرار العالم لا يزالون يأملون في تبلور حركة ذات عمق جماهيري تناضل ضد الإمبريالية من ناحية، والأنظمة المهترئة وبدائلها الرجعية من ناحية أخرى.

نقلا عن: مدى مصر

قناة الاشتراكي نت على التليجرام _ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

 

قراءة 1378 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة