عبد الحكيم الفقية أوراق من غصن الأرق

الثلاثاء, 04 شباط/فبراير 2014 18:17 كتبه 
قيم الموضوع
(2 أصوات)

حين قال الملك الضليل- فيما لو صح النسب إليه- معللا وضعه كصاحب دم يبحث عن نفسة "اليوم خمر.... وغدا أمر" غير إصبع واهن تماما يشير- من بعيد جدا- إلى الفرد نفسة بمفهومة الإنساني وعلى شفا حفرة من إرث يتطلب الفعل، يتمحور حول القبيلة بوصفها حالة جمعية موازية تماما ومتناقضة مع كينونته الإنسانية كفرد يعب الحياة كاملة البهاء.

وهذه الحالة الاغترابية- ظاهريا فقط- مع المجموع المتأزم والمتماسة معه في الوقت نفسه هي نقطة التفجير الأولى في هذه القراءة- وأقول مجرد قراءة تتسلق النصوص فقط ليس لها أي وجه تنظيري إطلاقا- حول ديوان الشاعر الجميل عبد الحكيم الفقيه "أوراق من غصن الأرق".

وكمحاولة لتحديد نقاط هذه القراءة ونقلها من المستوى الشعوري إلى حالة الانفعال بالنص عبر الكتابة نضع نقاطا أساسية أعدها من وجهة نظري مشاهد لقارئ ما حول الديوان الذي لازلت أشعر أنه- من فرط استقامة حالاته الوجدانية- نص واحد يدخل بهيا إلى القلب دون أدنى شبهة أو تعقيد، وذلك كالتالي:

أولا :- النص بوصفه وعيا دراميا

ثانيــــا :- النص بوصفه مزيج فرد / حشود

ثالثــــا :- النص بوصفه دالة وطن

رابعــا :- النص بوصفه تفجير دلالي عبر اللغة

أولا:- النص بوصفه وعيا دراميا

بدايةً ينزلق المتلقي في عبوره لهذا الزخم من الإنسانيات داخل الديوان إلى مغبة أشد ليونة من اللغة والتي تطيع الفقية بدرجة مدهشة نحو مشهديات تتخذ من التوصيف - وليس الوصف- لما هو متمثل في وجدان الشاعر منطلقا نحو خلق مشاهد حرة بمعنى أن على المتلقي أن يكون المخرج الأساسي والرائي الأول والأخير لهذا المشهد دون أن يحده بديكورات لغوية مسبقة ولا يلزمه بوجه نظر معينة تجاه ما يراه، فنجده في نص "الضمور" يؤكد على هذا بقوله:

تحلم البيوت أن تتنفس الصعداء

ويشتهي القاطنون أن تثلج الصدور

ممشوق قوام رماح الحزن

ومصقول سكين الأسى

يفتقر العابرون إلى المصابيح....

في الطرقات التي شرشفها الليل

قاطرة العقول تسير فوق سكة الجنون

وتغترف أباريق التمرد من نبع السكون الآسن

وقد يبدو السؤال المنطقي هنا عن كيفية دخول القارئ الى المشهد رغم أنه بلا أبطال أو يجمع الأبطال كي يفتتهم ؟؟ أرى أن هذا سبب أدعى كي يدخل القارئ جهارا إلى النص ودون إبطاء

فهنا يمكن تماما للقارئ أن يتوحد مع هذا المشهد الهلامي تماما فلا أبطال هنا يزاحمونه في تصوراته ويحكمون على وعيه بالتقييد المسبق لتصرفاتهم والمشهد مقسم بين العبارات ودلالتها المفتتة بطول الديوان... بالإضافة إلى أن المشهد هنا يعطي انطباعا عاما بالشعور وليس بالترتيب المحدد سلفا فهو يؤصل لمشاعر ما ...... دون الدخول في تفاصيل كثيرة حول ماهية المشهد نفسه فلا الأشياء- بوصفها موجودات داخل النص- تتعدى أكثر من الدلالة ولا المنظر يتجه نحو التصوير الضوئي إطلاقا، بل هو يحاول التوازي مع الحالة المطروحة داخله ويكتفي بسكره الخاص كشاعر ليضع في النهاية تصورا مغمغما- رغم تدوير الدلالة- يتيح للنص أن يتشكل عبر قراءات عدة تدور حول شمس واحدة هي الحالة وليس الفكرة.

والمتتبع لنصوص الفقيه- أظني اشتعلت ذات مساء حينما قرأت: " كأنك أنت " للشاعر نفسه - يجد أن الرجل يحرص بلا وعي على التمدد في الأشياء، بمعنى أن البيوت في أول الفقرة الواردة هنا- كمثال- هي امتداد أصيل أو فلنقل لقطة في حالة تصور كاملة يعيشها النص مع ذاته ما بين الرماح و حتى الأباريق لذا نجده يصر هنا - رغم أن المشهد قد امتلأ شهدا- على البراح أكثر وأكثر فيكمل قائلا:-

ضامرة سواسن الحنين

ونراجس الاشتياق

وعقيمة سحب الراهن

لا صيف ولا ربيع في دورة الفصول

مشنقة اليأس تحدق في الأعناق المشرئبة

وقبور الصمت تتربص بجسد الأغنية

ثمل هذا الوقت

ودائخ في القارعات

فهو يرفض فكرة أن يخرج من ملكوته الشعوري / الشعري موجودا يسقط سهوا من مائدة الشعر هذا بالإضافة إلى ما أشرنا إليه سلفا "بتدوير الدلالة" فنجد أن مقطع التدشين للنص يأتي بنفس الخاتمة (ثمل هذا الوقت / ودائخ في القارعات) للدلالة على أن الموقف كله هو وقوف على "حالة" تدور حلو نفسها وتتأمل الكون بنظرة غريبة تدفع باتجاه الحث على الدوران مره أخرى.

فالشاعر واع وبشده لما يقترفه من ألم في هذه السطور التي امتدت بطول الديوان وعرضه غير أن وعيه هذا ليس نابعا من العقل بل هو- حسب ما أشعر منذ فترة- منذ متابعتي لنصوص الفقيه- تعبير ما كالأسطورة التي تحوم حول أشياء حقيقة ولكن عبر التوازي معها.... تكتفي باللمس... الإشارة... العبور وترك بصمة قدم هنا وهناك... لكنها لا تأخذ على عاتقها التفسير ولا الدفع باتجاه ما؛ فالشاعر يمر حرا حول الكون... قد يتوقف قليلا ليلتقط زادا بشريا ما عبر تشكيله الشعري لكنه سرعان ما ينفض يده عن الأرض ويتطهر تماما كي يصعد إلى ذاته / الحلم.

ثانيا:- النص بوصفه مزيج فرد / حشود

النص الذي يغمر نفسه تماما في ذاته غالبا ما يكون أكثر أصاله... ولكنه في الوقت نفسه يبتعد كثيرا عن الأرض دون أن يمسسها حرف على الإطلاق؛ فهو يحلق كمفرد وحيد دون أن يشعر بالخطى الأخرى التي تمر فيه.

والنص / الديوان هنا يطرح مزاوجة كبرى بين الفرد بصفته الإنسانية- والتي تعد السمة الأساسية لنصوص الفقيه التي تعنى بالإنسان بوصفة فردا- والمجموع بواقعه المضطرب تماما.

فنجد الشاعر الذي يهوى تصوفه وخلوته التي يتنسك بها لا ينسى الحياة ولكن كإشارة مؤلمة للغاية؛ فهو لا يتذكر الأرض التي ابتعد عنها طويلا ويتجلى هذا النغم الخاص في المزاوجة في صورة جلية داخل نص الفقيه " انكسار " فهو الفارس الأول للنص الذى يأخذ على عاتقه هم بوح الشاعر ذاته فيسرد التشظى كحالة قائلا :-

الوقت مرتبك فيقذفني المساء إلى المساء

ليت لي قمرا يسامرني

وليت لنجمتي وهجا

وليت لشارعي عبق الضياء

أقفلت باب قصيدتي لينام هاجسها المبكر

والأغاني كلها نامت

فهو لا يكتفى بكون هذا الوجد بوحا خاصا ولكنه يتمادى أكثر فيشكل الكون حالة اغتراب عنه فقط وكأنه الحقيقي الوحيد فليس له قمر ولا قصيدة مفتوحة ولا بوابة ولا حتى أغنية تحرس ليله الذى أرقه ... وهنا نجد الشاعر يبتعد عن العالم تماما حتى يصل إلى الصرخة الأخيرة مرددا :-

أقطف وردة الأشواق

أبحر في عباب الوجد

استجدي من القلق المهيمن ما تيسر من بقائي

وأنا انكسرت

أنا انكسرت

وهنا نجده وللمرة الأولى ربما عبر الديوان يعطى تبريرا لهذه الحالة فيؤول الانكسار بالهزيمة أو الانبطاح العام :-

لا لون في الألوان ألمحه

فليس لرايتي قمم

وليس لعالمي أمم

وليس لساعتي إلا متاهات الخواء

وكانه يشير بأصبح مرتعش من قلة الاكتراث بالأشياء إلى الداء الأساسي الذى يترسب كل ثانية - ومن داخل ثنايا النصوص ذاتها - في وجدان الشاعر .

ثالثــــا :- النص بوصفه دالة وطن

قد يتبارد إلى الذهن أن الفقية كشاعر يمتلك حرفا شفافا جدا يتوحد مع ذاته ولا يسمح للأشياء من حوله بالمرور إلا للضرورة القصوى . . . قد أجدني أوافق على هذا الرأي من منطلق واحد أن الألم الذى يتفشى في كل نص للفقيه يحاول الاقتراب للأرض يخبر الجميع جهرا أنه يجيء متأبطا وطنا وحلما وبعض الدفاتر .

دعونا نتابع فقط ولا نعكر صفو النصوص كثيرا بالتعقيب كي نترجل عن أفكارنا الخاصة ونعيش هذه التمدد في النصوص بحجم وطن كامل البهاء خاصة في قصيدته " زنبيل الأسى " فنجده يقول :-

(1)

وصنعاء ملهمة العاشقين تسير الهوينا

وخلخالها الحميري يطقطق

تشعل حين تحدق شهوتها في المرايا

هي امرأة وجهها مفعم بالنضارة

عيناها نبعان

جبهتها واحة

فمها منجم

والرموش غصون

نويت الهوى وفتحت صنابير قلبي في كأسها

واتكلت على طيفها وابتدأت الهيام

وصنعاء زنزانة الحالمين

تراوغ عشاقها بالدلال

وتزهق أرواح أحلامهم

وصنعاء هذا الكمين الكمين.

وبالرغم من هذا الالتصاق الشديد مع الأرض إلا أنه أشبه ما يكون بضرورة النقود فأنت تدخل الأرض / الواقع لا لشيء إلا لضرورة الأسطورة كي تحتلب قليلا منها وتتريث قليلا قبل المضي تسال الشعر " هل ..... ؟ " و لكن لأنك مشغول حد الدهشة لا تحاول أن تنتظر كي تسترق السمع للإجابة فتحلق بعيدا:-

يوقص أحجاره الخوف في عرصات الجماجم

ينتحر العشب في هضبات الهواجس

في الشرفات يصب العبوس أباريقه الفارغات

ويخدع سوسنة

في ضجيج الشوارع تشتبك الكلمات تشكل أسئلة لا تجاب

يجوب شعاب الأحاسيس وخز الأنين المدبب

تفتح أبوابها دمعة وتخبيئ أسرار أمنية ظهرت في زفير الأزقة

والوقت لا يفقه المدركون تعرجه

والجهات تقايض موقعها بالشتات

ورغم أنك لست بعيدا أبدا ولكنك بعيد عن أعين المتلصيين على الملكوت وقريبا للغاية من الألم الجماعي كما أشرنا سابقا .... لذا نجد النهايات أشبه بإعلان إفلاس عام دون الدفع بأي اتجاه... إعلان أنك أيتها الأرض وأنت أيتها السماء وكلكم أيها السائرون كأنكم بشر .... تصيبونني بالإحباط حقا

وصنعاء زنبيل هذا الأسى المتورم في لحظات الغروب

المآذن تشتم فنانة كشفت شعرها

والنهار يودع حاراتها وهي مشغولة بالشجار

وبائعة الخبز تسأل : هل شاهدوا شعرة في " ملوجي " ؟

وعين المشاة تحدق دامعة في الوجوه التي تتبسم في الملصقات.

رابعــا :- النص بوصفه تفجير دلالي عبر اللغة

هنا سأتوقف تماما أمام نص أراه - من وجهة نظري- يستحق أن يعلق الفقيه اسمة على الديوان وهو نص " صور من البوم البعث " لذا لن أخربشه كثيرا فهو يقف وحده ونحن جلوس تماما.

هذا النص هو ما يمكننا أن نطلق عليه الحالة الكاملة.... أي أنه الملخص الغير قصير أبدا للديوان كله ونجد فيه الملامح الكلية والخطوط العريضة للنصوص التالية له في الترتيب حتى نهاية الديوان.

الديوان بشكل عام يمثل كما أشرت سابقا إلى حالة واحدة إنسانية بحته تتماوج مع الإحساس بالسخط العام والوحدة والحنين الجارف لأشياء صغيرة جدا تحمل على عاتقها معانى كبيرة للغاية فيئن الشاعر عوضا عنها .

والشاعر الواعي يدرك أن لغته هو صلصاله الخاص يشكلها بنفسه لذا فنجد في النصوص - وخاصة في النص الافتتاحي صور ألبوم البعث - تقدم بجانب وجبتها الأساسية من الإنسانية الصرفة علاقات ومزواجات غير نمطيه على الإطلاق بين كون الشاعر بعينه التي تملؤها العبارات وعين الفرد العادي وعبر اللغة - والتي عليها الآن أن تصمت تماما - يرسم الفقيه واجهة جديدة للأشياء ويحاول ان يؤطرها من جديد في كل سطر لهذه العلاقات الغرائبية مع الأشياء ولشعوره العارم بحتمية انتهاكه لها بل وحنينها إلى هذا الانتهاك أيضا : -

كراعية تتسكع أصواتها في فضاء البراري تحملق بائعة

الورد في أوجه العابرين مفتشة عن عيون تلائم لون

النراجس عن فاتنات تناسب ألوان بشرتها باقة الياسمين .

الجنود يمرون لا يلمحون الورود فتطلق قبوة كاذي نهدتها

والبنادق تفتح أفواهها للعصافير وهي تخط الوصايا على ريشها

بأصابعها تحسب الوقت بائعة الورد

والناس ينهمرون على قارعات الرصيف

وقلب المدينة لا يعرف النبض

وامرأة في الثمانين من عمرها تتوقف في الجسر

تمنح للنهر رؤيتها والسعال

وتسترجع الذكريات

وتضحك دامعة حين بان بياض جديلتها فوق سطح المياه .

في الطريق إلى دارها وضعت عملة في يد امرأة ذاقت الحرب

أولادها ، تتسول ، ثم أشترت كومة من بياض المناديل

وامتثلت للبكاء .

والشاعر لا يطرح دلالات معلبة ولا يأكل إلا من عمل يده تماما وخاصه داخل اللغة.... له الآن قوة طرح لغوى كبرى يحاول أن يستفزها فتلد أكثر كل ليلة قصيدة والأمر أكبر من مجرد إيجاد تراكيب مدهشة أو علاقات غير نمطية بين الشيء وتصوره الكتابي فهذا ديدن الأدب بصوة عامة ولكن المهم هنا هو محاولة الفقيه وسعيه الحاسم لتفجير اللغة من داخلها عبر إفراغها تماما من مضمونات قديمة و تشجيعها للخروج على السطر ذاته فضلا عن تكوين وعى خاص بالكلمة ذاتها وعبره تتخذ من نفسها ولنفسها منطقتها الكتابية الخاصة فهو الرجل المولع بالعلاقات الأكثر دفئا لا يحتضن حروفه بل يتركها تلعب في عين الشمس .... تلهو حوله كطفلة صغيرة وهو يبتسم من بعيد

فدعونا الآن نتسرب جهارا إلى النصوص نبتسم في وجهها ونضحك حين نرى إنسانا ينتشى بكونه نفسه فقط

شكرا للفقيه الذى انتصر للفرح الإنساني وحرك ما تجمد منه على رصيف المسافات

•شاعر وناقد مصري

قراءة 3185 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة