في الذكرى الأولى لانفجار ناقلة النفط في تعز وسقوط أكثر من مائة ضحية مميز

  • الاشتراكي نت/ خاص - وسام محمد

الأربعاء, 25 أيار 2016 21:10
قيم الموضوع
(0 أصوات)

عن أولئك الشجعان

في مثل هذا اليوم 25 مايو من العام الماضي، كان حي الضربة وسط مدينة تعز على موعد مع الكارثة التي سيذهب ضحيتها أكثر من 106 شابا من أشجع الشباب على الإطلاق. انفجرت ناقلة نفط، وسط حي سكاني بينما كان عدد كبير من الشباب منهمكين مع رائحة البترول التي افتقدوها طوال شهر من الحرب، وكل يجتهد في الحصول على أكبر كمية من البترول.

هي قصة شجاعة في الأساس تطلبتها الظروف التي كانت تعيشها المدينة جراء الحرب. لا مشتقات نفطية، لا كهرباء، وهذا بالضرورة كما ينعكس على كل مناحي الحياة فهو أيضا يجعلك غير قادرا على إيصال الماء إلى خزان في سقف العمارة. "لهذا السبب وحده كان يمكنني المغامرة، لم نكن نستطيع الحصول على الماء الكافي بسهولة، كانت الأسابيع الأولى للحرب جحيم حقيقي، ولعل انفجار قاطرة النفط احد الفصول الأليمة لذلك الجحيم". يقول شابا لا يبدو أنه يحب المغامرة بينما يتذكر تلك الحادثة المحزنة، ويضيف أن المسألة كانت تتعلق في صعوبة الانتقال من نمط حياتي إلى نمط آخر. ورغم اشتداد ضراوة الحرب خلال الأشهر اللاحقة واقترانه بحصار خانق، إلا أن الأمر لم يكن بنفس وطأة الشهرين الأولين. "لقد جرى الاعتياد مجراه".

لم تكن الطاقة الشمسية قد وجدت حينها. الكثير من السكان غادروا وانشغلوا بترتيب نزوحهم في الريف، بينما بقى من لم يعد لديه صلة بالقرية، وعندما حدثت الكارثة كان الإعلام مرتبك بسبب هذه الحرب وغير قادر على الوصول إلى المعلومات من مصادرها الحقيقية. هل هي جريمة منسية؟

ربما، وربما كثيرين لم يسمعوا عن كارثة ناقلة النفط في تعز، أو ربما لا يعرفون لماذا حدث ما حدث وكيف؟

حتى الآن هي واحدة من أكبر الجرائم التي لن تُعدم المساعي التي تريد لها أن تغدو جريمة منسية، وفي أحسن الأحوال جريمة غير مفهومة ويكتنفها الغموض، بل أن هناك من يحاول أن يحمل الضحايا السبب.

اشتعلت الناقلة كأي شيء آخر اشتعل بسبب الحرب، أما تلك القصة المحزنة، فستظل رغم كل ما قيل، قصة شجاعة في المقام الأول. لم تكن على صلة بثقافة النهب والفيد شبه السائدة في المجتمع اليمني، وإلا لكان أولئك الشباب توجهوا لنهب المؤسسات الحكومية التي كانوا يطردون مسلحي الحوثي والرئيس السابق منها (جاء الناهبون في وقت لاحق)، أو كانوا سيذهبون بدافع من الحقد الطبقي لنهب بيوت المسئولين والتجار الكبار الذين غادروا المدينة قبل شهر من خروج من سماع أول طلقة رصاص في المدينة تبشر بالحرب.

ما يتعلق بالناقلة، على الأقل كان ثمة شجاعة نادرة وسياق مفهوم يقف خلف وقوع كارثة بهذا الحجم.

وهؤلاء الشباب يمكن القول أنهم إبان ثورة فبراير كانوا قد "استيقظوا للمرة الأولى على الوعي السياسي”، أصبح لديهم، فجأة، ذلك الحدس الذي لا يخطئ بأن النظام السياسي في البلد هو من أوصلهم إلى الوضع الذي أصبحوا عليه. شاركوا بالثورة بكل الجنون والصدق، واكتسبوا وعيا لم تسمح الظروف بأن يصبح قادرا على إنهاء فصول المأساة، ولكنه لا يزال ينمو رغم كل شيء.

قصة شجاعة

كان لحضور أبناء المدينة في الثورة دلالته الرمزية، فقد عرف حتى وقت قريب عن هؤلاء الذين ولدوا وترعرعوا هنا وتوفرت لهم شروط معيشية أفضل من تلك التي حصل عليها أبناء القرى، من الصعب أن تجذبهم السياسة بأي صورة من الصور. كانت الرياضة وكرة القدم على وجه التحديد هي عالمهم المفضل، والمقترن بالعجز لطالما اقتصر الأمر على المشاهدة والتشجيع وليس الممارسة. ورغم معاناتهم بسبب البطالة التي تنال منهم في كل لحظة، فهم حتى الآن، لا يهتمون بذلك الذي أوصلهم إلى ذلك الحال.

طاقات هؤلاء الشباب المتفجرة، كانت تتبدد هباء في مشاغبات لا تتوقف، وفي بعض الاحيان يصبح الانخراط ضمن نشاط عصابة شبه منظم هو المجد والبطولة بعينها. وحتى وقت قريب كان معروفا في تعز أن العصابات ما تفتأ أن تختلق المشاكل وتكون لنفسها سلطة موازية لسلطة أجهزة الدولة الأمنية. ويصبح الصراع منحصرا بين هذه العصابات وزعمائها من جهة وبين الأجهزة الأمنية من جهة ثانية، وغالبا ما يكون التفوق للعصابات.

مثلا في المدن والمناطق اليمنية الأخرى، تكون السلطة الموازية لسلطة الدولة محتكرة من قبل مراكز النفوذ القبلية (مشايخ) أو برجوازيين انخرطوا في السياسة وأصبح لديهم شبكات واسعة داخل أجهزة الدولة، وفي كلا الحالتين لا يحدث بين أصحاب هذه السلطات الموازية وبين أجهزة الدولة صراع من أي نوع، لطالما كانت سلطات صاحبة قرار فعلي داخل جهاز الدولة وليس فقط داخل المجتمع.

بعكس العصابات التي تمتلك سلطتها وسطوتها ليس فقط من ارتكابها لجرائم معلنة، بل في الأصل من مقاومتها للدولة ومن صراعها مع أجهزتها، رغم أن الدولة استطاعت استمالة الكثير منهم وتوظيفهم لخدمة أهدافها خصوصا أثناء ما يكون هناك استحقاقات سياسية كالانتخابات أو احتجاجات قوية تحتاج إلى شجاعة نادرة لقمعها. كانت السلطة تجعل زعماء ورموز تلك العصابات يرتدون زى قوات الأمن ليقوموا بمهمة غاية في القذارة. وفي لحظة من اللحظات أصبح كثير من أولئك المشاغبون جنودا في أقسام الشرطة وأصحاب مواقع ورتب ضمن الجهاز الأمني، وتوكل لهم مهام كبيرة.

مع ذلك لم تكن السلطة بقادرة على احتواء العصابات التي هي في تنامي مستمر، وكان الخيال الشعبي يضفي على زعماءها هالة تبجيل ترفعهم إلى مصاف الأبطال الحقيقيين، لطالما عرفوا بمقاومتهم الشديدة لأجهزة الأمن.

لكن مهما بلغ حجم هذه العصابات وقوتها، فهي حتما لن تكون بالشيء الملهم بالنسبة للغالبية العظمى من الشباب العاطل عن العمل والذي لم يفقد الأمل كليا. غير أنها نجحت في استقطاب الكثير من الشباب إلى عالمها الخاص وعاداتها اليومية، والمتمثلة بالسهر طوال الليل على رصيف أحد الشوارع، والنوم طوال النهار، وأيضا تعاطي المنشطات بأنواعها وكل أنواع الكيف ابتداء بالقات وليس انتهاءً بالحشيش. وقد تعاظم عدد الذين يتعاطون الحشيش خلال الخمس السنوات التي سبقت الثورة، كردة فعل أولية على البطالة والفراغ، ومن بوابة الإدمان يصبح من السهل استقطاب الشباب وإقناعهم بأهمية الانخراط ضمن صفوف تلك العصابات.

عندما اندلعت ثورة فبراير في العام 2011، كان من الغريب حقا أن معظم شباب المدينة هم من يتقدمون فعاليات الثورة رغم القمع الوحشي الذي واجهتهم به أجهزة السلطة وبلاطجتها. كان أولئك الشباب قد ربوا الشجاعة بما يكفي، وينتظرهم فقط الميدان الذي من خلاله سيبرعون في إظهارها. بالنسبة للأجهزة الأمنية التي كانت خبيرة في قمع الاحتجاجات طوال السنوات الماضية، وهي الاحتجاجات التي عادة ما يكون معظم المشاركين فيها هم من أبناء القرى الوافدين والذين كان لهم علاقة بالسياسة، رأت فشلها الذريع وهو يسرح أمام أعينها، فهي لم تعتاد مواجهة هذا النوع من المحتجين إلا في العمليات الأمنية المحدودة والمخصصة لملاحقة العصابات، وكانت دائما ما تهزم في تلك العمليات أو تفشل في تحقيق النجاح المرجو. هكذا استطاع أبناء المدن وشبابها صناعة الفارق الكبير لصالح الثورة واستمراريتها

وكان من السهل ملاحظة كيف أن العصابات ذابت وتلاشت خلال عام من الثورة. الكثير منهم أصبحوا منخرطين في النشاط الثوري ويكتسبون كل يوم وعيا جديدا لا عهد لهم به، بينما البقية أصابهم الإحباط وأحيانا الانكفاء وهم يشاهدون كيف أن للحياة طرق كثير في التعبير عن نفسها تختلف عن تلك التي ألفوها.

بالتدريج آخذ المد الثوري يخبو، بينما الثورة لم تحقق ايا من أهدافها، وبسبب الصدمة الجديدة والوعي الذي أصبح عليه الشباب العاطل عن العمل، فهم لم يعودوا للانخراط ضمن أنشطة العصابات، بل أن تلك العصابات اختفت ولم يعد لها من وجود، حتى رصيدها البطولي تسرب لصالح البطولة الحقيقية التي مثلتها الثورة والتي تبعث على الحنين. لو قدر لهؤلاء الشباب خوض مائة ثورة فهم لن يتوانوا لطالما ظلوا بلا عمل ويعانون من البطالة، لكنهم وفي انتظار أن تسمح الأجواء القيام ببطولة مماثلة، عاد معظم الشباب تقريبا إلى بعض طقوسهم وعاداتهم القديمة، خصوصا تلك المتعلقة بالكيف والمنشطات وبقدر مبالغ فيه هذه المرة.

البطولة الجديدة

الأزمة في البلد تتفاقم، وتسارعت الأحداث السياسية. وفي غمرة غيبوبتهم الصوفية وصل إليهم ذلك الخبر الذي مفاده أن قوات صالح الذي ثاروا ضد نظامه قد تحالفت مع المسلحين الحوثيين، وهم في طريقهم لإشعال الحرب على المدينة. كثير من شباب مدينة تعز الذين قرروا الانكفاء وهجر الواقع إلى الأبد، لم يفتهم التفاعل اللازم مع خبر كهذا، فسارعوا إلى البحث عن طريقة للاشتراك في القتال، كانت شجاعتهم لا تزال كعهدها أثناء ثورة فبراير، طرية وناضجة، ومتسلحة بكثير من الوعي هذه المرة. وكان لاشتراكهم في الحرب ذلك الدور الكبير في إفشال اقتحام المدينة والسيطرة عليها بل ودحر القوات المعتدية إلى مناطق خارج المدينة.

أولئك الشجعان هم بالتأكيد ناس يعيشون ظروف الحروب اليومية وتطالهم معاناتها، بل أن مسئوليتهم في مواقع القتال عادت لتذكرهم بمسئوليتهم التي تخلوا عنها دائما اتجاه أسرهم. تقريبا نفس الآليات التي أقصتهم أثناء الثورة والتي كانت الأحزاب مسئولة بدرجة ما عنها، جعلتهم لا يحصلون سوى على القليل، فقد أتوا من الشارع ولن يحصلوا على نفس تلك الامتيازات التي يحصل عليها ذلك المقاتل الذي اشترك في القتال بعد أن تقدم بمذكرة عليها ختم الحزب. كانت شجاعتهم هي من أهلتهم لتأدية الدور. وهي نفس الشجاعة التي قادتهم إلى جوار الناقلة مع معرفتهم المسبقة بحجم المخاطر.

 الكارثة

عشية ليلة الكارثة، كان ثمة ناقلة مليئة بالبترول في وسط المدينة. سعر دبة البترول حينها وصل الى 50 ألف ريال (أكثر من 200$). لم يكن أحد يعرف لمن تعود ملكية الناقلة وكان عدد من المسلحين قد قرروا الاستيلاء على الناقلة أو على الأقل معرفة وجهتها.

وبعد آخذ ورد لم يخلو من العراك مع سائق الناقلة وأيضا إطلاق الرصاص من قبل جماعات مسلحة تنازعت على القاطرة وادعت أحقيتها بكمية البترول الذي بداخلها، وصلت الناقلة إلى المكان الذي وصلت إليه بعد منتصف ليل ذلك اليوم المشئوم. (سأحتاج إلى نزول ميداني خلال الأيام القادمة لكي أضع القارئ أمام تفاصيل ما حدث وملابساته).

دخلت أطراف سياسية، لاحتواء المشكلة، وكانت "قصة موت معلن" بحسب توصيف الرفيق ريان الشيباني الذي يستدعي قصة شهيرة للكاتب العالمي غارسيا ماركيز هي أكثر ما ينطبق على تلك الحادثة. الجميع يعلم أن ثمة كارثة ستقع، لكنهم غير قادرين على منعها. وحدها السلطات الرسمية من كانت تستطيع أن تضع تجد حلا وتمنع سقوط ذلك العدد الكبير من الضحايا. السلطات لم تعد متوفرة في تعز بعد أكثر من شهر على الحرب.

جاءت التحذيرات لسكان المنازل المجاورة بإخلاء مساكنهم، فالقاطرة أصابها عطل ولا يمكن نقلها إلى مكان آخر، ثم أن النزاع عليها يتصاعد وأصوات الطلقات النارية لم تتوقف تقريبا. بلهجة شديدة قال عقلاء في الحي وهم يخاطبون السكان: قد تقع الكارثة في أي لحظة لهذا عليكم أن تغادروا في أسرع وقت ممكن.

وفعلا غادرت جميع العائلات وبدأ الحضور بإفراغ الناقلة دون توفر أدنى متطلبات السلامة.

ألتهم الحريق عدد من المنازل، وألتهم سيارات كانت في الجوار، كما لاحق ضحاياه إلى مسافات بعيدة. كان الجو قد أصبح مشبعا بالنفط وكذلك ملابس الضحايا، لهذا استطيع تخيل ذلك المشهد السينمائي بينما النار تلاحق شابا وتخرج عن مجال الحريق الفعلي. لكني رغم سماعي لقصص كثيرة حول الحريق والضحايا وأسرهم، فأنا أعجز عن تخيل حجم المأساة التي لا تزال تلقي بظلها على الحي وسكانه.

لم يسجل كشف الضحايا أية ضحية من الأطفال، بفضل تلك التحذيرات، كما لا يوجد من النساء سوى سبعينية قدمت قبل الحريق بلحظات وهي تحمل في يدها "دباب" تريدها أن تصبح مليئة بالبترول. لعل تلك المرأة لديها ابنا يمتلك دراجة نارية وغاب عن المنزل في تلك الليلة وإلا لكانت ستحثه على الذهاب والحصول على بضع لترات قد تحدث فارقا في حياتهم المعيشية، لكن القاطرة اشتعلت في حوالي الساعة السادسة صباحا لسبب رغم أنه مفهوم ومتوقع لا يزال غامضا حتى اليوم.

كل الذين ذهبوا ضحايا للكارثة، كانوا شبابا في عقد العشرينات. كانوا أولئك الذين أشعلوا الثورة، وأولئك الذين حملوا السلاح في وجه الثورة المضادة. وإذا كان ثمة مسئول عن تلك الجريمة المروعة الآن وإلى تتكشف كل خيوطها وأبعادها، فالمسئول الأول هو من كان يستطيع أن يقرن تلك الشجاعة بالوعي الثوري، المسئول هو من كان يشاهد أجهزة الدولة تنهار وباستطاعته المبادرة لتشكيل سلطة شعبية بديلة تتولى إدارة مصالح الناس، ولم يفعل.

وبعد عام كامل من الكارثة تبدو تعز بلا سلطة حقيقية في الواقع، ما يعني أن الأبواب لا تزال مشرعة أمام أية كوارث.

لمتابعة قناة الاشتراكي نت على التليجرام

اشترك بالضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet

قراءة 1865 مرات

من أحدث

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة