طباعة

مات وفي صدره ثورة حمراء لا تموت

الأحد, 08 حزيران/يونيو 2014 21:01
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

السبت قبل الماضي، زرت الرفيق محمد قائد الصبري، إلى داخل مستشفى الثورة العام بالعاصمة صنعاء. لم أصدق أنه هو ذلك الشخص الذي وجدته ملقى هناك على سرير المرض.

ما وجدته كان جسدا نحيلا ووجها شاحبا بعينين صفراوين. شعرت بمسامير حادة تمشط جسدي بالكامل، وأنا أتفحصه ولم أعثر فيه على رفيقي الذي جئت لزيارته. لقد هده المرض كثيراً، ولا شيء يدل على أن من وجدته في السرير جوار الردهة كان هو الرفيق محمد قائد.

عندما جاء دوري لمصافحته، كانت قدماي قد غاصتا في البلاط بعيداً، وبصعوبة انتزعتهما لأتقدم خطوة واحدة نحو ذلك الجسد الذي يفترض أنه الرفيق محمد.

يدي التي أرسلتها لمصافحته أخطأت طريقها، وحطت فوق رأسه دون أن أشعر، وألحقتها بقبلة وضعتها على جبينه، وأنا أطمأنه بأنه سيكون بخير. لست أدري هل كان ما قمت به هو الصواب، أم أخافني ضمور كفه الناحلة، وتلك "الكانيولا" البنفسجية اللعينة التي كانت مغروسة على ظهرها وكأنها في قلبي.

"أهلاً يا رفيق هاني!"، قال محمد، ودخل في نوبة بكاء. قدماي لم تحملاني ساعتها. كدت أسقط على جسده، الذي لم يعد جسده. على يميني كان يوجد كرسي صغير رميت عليه نفسي فاقدا السيطرة عليها تماماً.

الرفيق مروان الوجيه يحاول تهدئته ورفع معنوياته، أو بالأصح كان يهدئ من روعي ويرفع من معنوياتي التي سقطت إلى الصفر وأنا أشاهد ما حل بالرفيق. "أنت الآن تمام، وصورتك ما عادهاش زيما كانت قبل يومين، وقدك تتكلم كويس، كنت ما تعرفش ولا واحد...".

ظللت أحدق في ذلك الجسد الممدود أمامي وشردت في التفكير. كان صاحبه يتحدث عن مرضه وعن الوضع السيئ داخل المستشفى، وعن الخدمات الرديئة، وكيف يموت الناس هنا بسبب الإهمال والفساد... لم أدرِ من هو الصومالي الذي كان يحدثنا عنه؛ هل هو مريض تعرض للركل من قبل أحد العاملين في المستشفى، أم هو عامل وقام بركل أحد المرضى.

"يا رفيق، صحتك أهم من هذا كله، وما فيش داعي تتعب نفسك، لأنك مريض. البلاد كلها خراب في خراب، ونحن محتاجين لك، وبكرة لما تخرج من المستشفى بانرجع نناضل معاً ضد كل هؤلاء المجرمين". حدثته هكذا، فطلب مني قلادة جيفارا خاصتي، فأجبته بأني فقدتها ولا أعرف أين هي.

الرفيق إبراهيم الأزرقي وعده أن يعطيه فانيلة لـ جيفارا، فتبسم رفيقنا محمد، وواصل حديثه عن النضال وعن الثورة التي ينوي القيام بها داخل المستشفى لإنقاذ حياة المرضى من العبث والفساد.. آه كم كان رائعا وصادقا هذا الصبري الجميل!

يزن الأزرقي يضحك ويقول: "أنت مريض يا رفيق محمد، والآن مُش وقت جيفارا والنضال. نشتيك تهتم بصحتك وما تتعبش نفسك، عشان تخرج بسرعة ونرجع نناضل سواء". فيرد عليه: "نحن دعاة ثورة أينما جينا، ولن نسكت عن الذي يحصل في البلد، وسوف نناضل حتى ننتصر...".

لم يكن حديث رفيقنا محمد قائد من على سرير المرض عن الثورة والنضال مبالغا فيه، فأنا أصدق كل كلمة كان يقولها، وأدرك جيداً أن داخله ثورة حمراء لا تعرف الموت أو الانكسار. أعرفه منذ الأيام الأولى لثورة التغيير، وكيف كان يناضل بشراسة وبشجاعة نادرة.

أخبرته، قبل أن نقطع الزيارة وننصرف، أنه رفيق رائع ومناضل حقيقي. أخبرته ألا يكترث لكلام الرفيق يزن، وطلبت منه أن يواصل النضال حتى وهو على سرير المرض؛ لأن الرفيق تشي جيفارا كان يحمل الكلاشينكوف ويقاتل رغم إصابته بالربو. كان حديثي هذا جزءا من العلاج الذي أعرف أنه يحتاجه محمد لينجو من الموت ويتماسك ويعود للحياة.

ولأني لم أكن أتوقع أنه سيموت، لم أهتم بالبحث عن القلادة التي طلبها مني، ولست أدري هل الرفيق إبراهيم جلب له الفانيلة قبل أن يموت أم لا.

الراحل محمد قائد كان، طوال أيام الثورة، بل وطيلة حياته، مناضلا صلبا نفخر به، ولم يكن انتهازيا يسعى لأي مكاسب شخصية. كان يناضل فقط، ومستعدا للتضحية من أجل الوطن والفقراء المساكين. كان يحب الحزب وجيفارا وغاندي وعبدالفتاح اسماعيل... ويحب رفاقه أيضاً؛ لكن صامد السامعي كان الأحب إليه بين الجميع.

شهور قضيناها معاً داخل خيمة جيفارا، التي كان الرفيق محمد مسؤولا عنها ويهتم بكل من يرتادها من الرفاق ومن شباب الثورة في ساحة التغيير. لقد كان يخبئ لنا حتى الطعام في حالة عدم تواجدنا داخل تلك الخيمة، التي ظل يزينها بصور "تشي" والمهاتما و"فتاح" و"جار الله"، وصور شهداء الحركة الوطنية وشهداء ثورة فبراير...

مات الرفيق محمد قائد الصبري؛ لكن الثورة التي في صدره لم تمت؛ فهي "قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن".

 

قراءة 2447 مرات

من أحدث