ثمة صراع بارز داخلي بين قطبين لا يكف أيا منهما عن إدماء أنف الآخر. لا يمكنني القول بعد اليوم أنها حرب باردة أو مجرد صراع بين قطبين.

قطب الصراع الأول:

هو ذلك المتعلق بالعزلة. تطالبني العزلة كل يوم تقريبا بإيجاد ذلك الحل الذي سيجعلها واقعا. لديها طريقة فاتنة في عرض حججها وكم أنها تلبي رغبتي القصوى لأجل أن يتأسس عالمي الأجمل ويبدأ في التعملق. وفي النهاية تهمس لي العزلة برقتها المعهودة: ألم تسمع لينين حين قال: "دراسة، ثم دراسة، ثم دراسة، ثم دعاية، ثم تنظيم".

تضيف: أنت شخص كسول، ومن الصعب عليك تغيير العالم، بينما لم تقرأ التاريخ بما يكفي، تاريخ الثورات على الأقل. من المستحيل أن ترضى عن نفسك، بينما لم تروي بعد شغفك من الأدب، تعرف أن الأدب هو الشغف الذي رافقك منذ زمن بعيد وصنع منك هذا الشخص الذي لا يتوقف عن الحلم والتطلع.

للعزلة طريقتها في الاسترسال أيضا:

 بنيتك التحتية هشة ومعرضة للانهيار في أية لحظة. عليك التوقف عن خلق الأعذار والقول انه ليس الوقت المناسب للانزواء بعيدا عن الضجيج الذي يجلب لك التشتت المضني. إذا أردت المشاركة (أسمح لي أن أقول أن هذا أغبى شيء سمعته) ما عليك إلا أن تنظر كيف انه يمكن لشيء تافه أن يستفزك على فيس بوك ويخرجك عن طورك، ثم تجد في آخر المطاف كما يحدث دائما أنك قد تفاعلت بطريقة خاطئة.

يمكنك أن تنام كالآخرين أيضا، لطالما سمعتك تقول أن النوم هو غذاء الروح الذي لا يضاهيه سوى المعرفة. أنت فعلا محق في هذا، لكنك ترفض الحلول الواقعية، وتظل تصرف وقتك الثمين في التفكير بالأشياء الخاطئة التي قمت بها، وفي البحث المضني عن الموقف الصحيح. هذا الموقف تعرف كيف انه يبقى متعذرا في أحايين كثيرة.

الانزواء او التحوصل هو ضرورة تاريخية لكل بداية مشرقة. ثم أخبرني كيف يمكنك التنعم بنزهة ما قبل الغروب عندما تقصد ذلك النهر، بينما أنت غير قادر على ترجمة مشاعرك، بينما لا تعرف نوع هذه الورود التي أستوقفتك. ولنفترض أنك قابلت الفتاة الجميلة، لنفترض أنك أردت تقبيلها، صدقني ستفعلها كما رأيت أحدهم يفعلها، بينما القبلة هي الثورة التي يجب أن تدرسها قبل كل شيء لكي تدعها تزلزل كل أعماقك ثم تصبح في النهاية ملحمة ينشدها الشباب في العمر الغنائي، ويحكيها المسنون لأحفادهم بالدموع.

قطب الصراع الثاني:

هو ذلك المتعلق بالمشاركة. وهو يعني عدم التردد في خوض غمار التجربة الكفيلة بتأسيس عالم صلب ومتماسك مهما كان حجمه. تخبرني المشاركة التي تحت أن يطلق عليها مجازا أسم "الانطلاق" أن كل لحظة تصلح أن تغدو بداية مناسبة لدخول المعترك. يقول "الانطلاق" إذن: كل دقيقة تمر لا تصبح من عمرك إلا عندما تتواجد في المكان المناسب لكي تقوم بالعمل المناسب، وهذا ما ستعجز كل كتب العالم عن تعليمه لك، بينما الممارسة تستطيع أن تلقنك أعظم الدروس على الاطلاق.

لدى الانطلاق طريقته في شد الانتباه. يظل طوال الوقت يذكرني: الواقع هو المعلم الأعظم. ثم يحتد في وجهي: ألم تسمع ماركس عندما قال أنه يفضل الممارسة العملية على دستة من البرامج.

يضيف وقد تمالك أعصابه: المعرفة، تلك التي عرفتها البشرية منذ بدء الحضارة، تأسست ونضجت في الواقع قبل أن تصبح في الكتب والمختبرات.

ثم يسترسل كما هي العادة:

من الصعب عليك بناء بيت جميل على مقربة من بحيرة هادئة، لمجرد أنك قرأت قصيدة عن ذلك البيت. اخبرني الآن هل تستطيع أن تمضي عزلة قصيرة بينما ليس لديك منزل لائق يمنحك القدر الضروري من الدفء، وتجربة تطرح عليك الأسئلة التي ستبحثها في عزلتك مثلا. أما اذا كنت تهوى العزلة لمجرد العزلة، فمن غير المفيد أنني أجري معك هذا النقاش.

 من المستحيل أن تعرف حتى الطريق للمكان الذي ستشيد عليه ذلك المنزل لمجرد أنك قرأت رواية تتحدث عن منزل مشابه.

 تظل العزلة (أسمح لي بالقول أن هذه العجوز الشمطاء أصبحت من الماضي) تغريك بمفاتن زائفة، فهي قد تجعلك قادرا على تخيل البحيرة، لكنها حتما لا تستطيع أن تعلمك كيف تسبح وتنعم بجو الربيع الآخذ. في النهاية عليك ان تعرف أن الثورة هي ذلك البيت الذي سيكون عليك أن تستمتع وأنت تتعلم كيف يتم بناءها طوبة بعد أخرى، حتى تستطيع أن تقول: هذا هو منزلي فعلا، عالمي الجميل الذي يستحق أن أعيش لأجله.

أنت شخص تقبل بالأحكام الجاهزة ولا تعرف حدود قدراتك. هذا هو زمن الانطلاق، الزمن العاصف بامتياز. يمكنك التوقف عن التفكير بالتراهات، لأنك تصبح منخرطا في مهمة عظيمة وتقوم بالعمل المناسب، أو بإمكانك التردد وخلق الأعذار، والتساؤل ببلاهة عن الشيء الذي ينقصك لتنعم بنوم ينعم به الآخرين.

 لطالما سمعتك تقول أن النوم هو غذاء الروح الذي لا يضاهيه سوى فتنة الحياة وغناها. أنا بالطبع احترم موقفك هذا، لكنك مع الأسف تظل مترددا ولا تعرف الطريق الصحيح إلى تلك الفتنة.

#كتاب_النوم والسهر

قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية

للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة
@aleshterakiNet