الاشتراكية في قلب التجربة

الخميس, 01 أيار 2014 20:19
قيم الموضوع
(1 تصويت)

 

في ممارسة السلطة ينفرد الحزب الاشتراكي عن مكمليه في المثلث الوطني أنه صاحب تجربة خالصة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة امتدت 23 سنة من الاستقلال1967 إلى الوحدة 1990. وأقل منه في المدة وفي الحضور توفر للناصري، إذ تولى دور الظهير الشعبي للسلطة في الجمهورية العربية اليمنية خلال حكم المشير السلال من الثورة في سبتمبر 1962 إلى الردة في 1967م، ومارسها بقيود في مرحلة إحياء الروح واستعادة الأمل مع إبراهيم الحمدي من يونيو 1974 إلى القتل الذريع في أكتوبر 1977م.

من المهم إلقاء نظرة من بعيد على تجربتي هذين الفصيلين حتى نستيقن بأنهما قادران في المستقبل بمقدار ما استطاعا في الماضي. والنظرة من بعيد لا تتحقق بها رؤية تفصيلية لدقائق الصورة، غير أنها تكفي لإظهار ملامحها العامة.. إما التفحص عن قرب من وظيفة البحث العلمي وإما المقال الصحفي فقد يكتفي بالتصوير من بعد.

وأزعم بدون مجازفة أو مبالغة أن هذا التصوير من بعد قد يخفي من وقائع الجمال بقدر ما يظهر من نقائضها، ولذلك فلا حرج عندي من البدء مما يعتبره خصوم التجربة في الجنوب نقيصة فيها ومعيبة، حيث إنها خنقت الحريات وصادرت الديمقراطية فيما يهتاجون.. وما من ديمقراطية سادت إبان الحكم الاستعماري حتى يقال إنه تم كسر عمودها الفقري، ثم إن أغلب من يبكون على حرياتهم هم من الرصيد الاحتياطي للمستعمر ومن كانوا مسلحين بالمطارق وبالصكوك، بالمطارق جاهزين للانقضاض على حريات المواطنين، وبالصكوك مستعدين لرهن الاستقلال أو بيعه لقوى خارجية.. ولقد كشفوا عن مقاصدهم باختيار العواصم التي استقروا فيها، ففي حين كانت القاهرة ملاذ الخائفين من بطش الأنظمة ذهب هؤلاء إلى عواصم النفط.

كانت أبواب القاهرة في تلك الحقبة مشرعةً بالهاربين من الاضطهاد أو المدعين به وإن اختلفت توجهاتهم معها، لكنها بالنسبة لهؤلاء مثلت موئلاً ليطمئنوا فيه على حياتهم دون أن يمارسوا المعارضة منه، ولم يكن هذا المكان الذي يقصده أعداء الثورة في اليمن وأما لدعاة الحرية فقد كانت قلعة مفتوحة ومنبراً متاحاً.

إن من شروط الثورة أن تنزع المعاول من أيدي خصومها، وذلك يلجئها إلى القسوة وكثيراً ما يضطرها إلى العنف وإن لم تفعل، فالدماء دفاقة في الشوارع، غزيرة في غرف الإعدام.

وسذاجة الثوار لا تثمر الكثير من الدماء فقط، بل والعظيم من البؤس.. والشاهد أن الذين أبقت عليهم ثورة سبتمبر في الحياة السياسية لم يكتفوا بإزاحة خصومهم حالما انقلبوا ضدها وإنما أسرفوا في القتل بداية من أغسطس حتى أوقف الحمدي نهر الدم ولكن إلى حين. فإن إفراطه في التسامح هيأ لهم أن يأخذوه على غرة في مجزرة بشعة لم تزل فصولها دامية إلى اليوم.. وفي تجارب الشعوب شواهد بلا حصر على فداحة أثمان المغالاة في البراءة الثورية ويكفي للدلالة عشرات الآلاف من ضحايا بيونشيه في شيلي الذي انقلب على الليندي الوقور والبريء.. والشعوب لا تدفع من دماء أبنائها وإنما من حياتهم أيضاً، إذ يغدو شقاؤهم زاداً لمباذخ المستغلين ونهازي الفرص.

لست في هذا داعياً للعنف ولا مبرراً له، وإنما هو توصيف ظاهرة ملازمة لأي ثورة، ومع هذا فإن أعداء الثورة في الجنوب اختاروا الرحيل بقرار من عند أنفسهم، والعنف الذي صاحب التجربة هناك طال قوى الثورة نفسها، وذلك لم تخل منه أي ثورة في التاريخ.. حدث هذا مع الثورة الفرنسية، إذ بعد إعدام الملك وأعوانه واصلت المقصلة الدوران فتطايرت رؤوس قادة الحزب الثوري المعتدل “الجيروند” ليلحق بهم قاتلوهم من اليعاقبة كذلك حدث في الثورة البلشفية في روسيا.

ودون مظاهاة ثورة الملالي في إيران بهما فإن الجلي في الأمر أن ما بقي خالداً في الثورة الفرنسية والروسية هو المجرى العميق الذي حفرته كل منهما في تاريخ البشرية.. ذلك الانتقال الهائل من الإقطاع إلى النهضة الصناعية وسيادة الليبرالية تحت الشعار المثلث «الحرية، الإخاء، المساواة»، وهذا التحول العظيم نحو الاشتراكية والصناعة الثقيلة والتنمية المتسارعة وبزوغ العملاق الجبار الذي ألحق الهزيمة الماحقة للفاشية في الحرب العالمية الكبرى وعلى هامش هذا المجرى احتلت حوادث العنف مساحة ضئيلة في تاريخ الثورتين.

لقد حرصت على أن لا أتجاهل ما ينظر إليه أعداء التقدم في اليمن، باعتباره نقيصة الثورة في الجنوب ثم يصنعون منه حبراً يلونون به التجربة كلها، مع هذا فإن جردة حسابية أمينة ودقيقة سوف تبين أن ضحايا القوى الرجعية في الشمال من سبتمبر حتى الآن يفوق أمثالهم في الجنوب.

وفي حساب التاريخ سيبقى ما أنجزته التجربة عملاً عظيماً وخالداً، فقد تلازم مع الاستقلال توحيد 22 كنتونة “سلطنات ومشيخات وإمارات” في دولة واحدة ومنها ناضل الحزب الاشتراكي وقوى اليسار الوطني في سبيل الوحدة.. وفي هذا السبيل لم يتردد عن التخلي عن الدولة لكي يرتفع على أرض اليمن علم واحد، وحتى تمثل الوحدة أساساً راسخاً لبناء دولة حديثة يتحقق فيها العدل ويسود الرخاء ويتعزز الاستقلال وتتوثق الوحدة الوطنية، بينما بيت شركاؤه على الجانب الآخر النية لرفع أعلام القبائل والعشائر وجعل الوحدة فسحة لتوسيع الحظيرة التي يحصلون منها على الذبائح.

بنى الحزب الاشتراكي في الجنوب دولة مركزية وفرت للمواطن الأمن وكفلت التساوي أمام القانون وأعلت من شأنه فوق كل هوى وقبل أي مطمع.. ولقد كانت دولة رعاية بالمعنى الحقيقي وفرت الخدمات الاجتماعية المجانية من التعليم والتطبيب إلى السكن والثقافة.. كانت دولة منحازة بالفعل، لكنه انحياز للفقراء، إذ حصنت العمال والفلاحين والصيادين بقوانين صارمة حمت مصالحهم ومكنتهم من إنشاء الجمعيات التعاونية والتنظيمات النقابية لتأمين الحرية وتعظيم قيمة العمل، ولقد حررت المرأة بصورة خاصة ونقلتها من عصر الحريم والعبودية إلى مصاف الانسانية الحقة وسيّجت كرامتها بسور قانوني منيع وهيأت لها فرص العمل من المصنع إلى منصة القضاء.

لا أحد يجوع هنا ولا أحد ينام في العراء.. وما من مواطن يقتله أرق التفكير في ثمن الدواء أو مصروفات الدراسة، وليس ثمة عائل يخاف على أطفاله رصاصة طائشة او عصابة تتاجر بالأعضاء، ثم إنه ما كان أحد من الناس يتميز عن غيره بالقصر الباذخ والسيارة الفارهة، حيث المسافة ضيقة بين الجالس على كرسي الوزارة والعامل على ترس المصنع.

كذلك هي الكرامة الانسانية، وهذا هو الحزب الاشتراكي في علاقته بالناس حاكماً، وأما في الدولة فقد حافظ على الاستقلال والسيادة واحتقر مغريات أصحاب النفط واختار التحالف مع معسكر التقدم وجعل من عدن منصة للحرية ومحجاً لأبطالها.

قراءة 1334 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة