عن الاعتداء الذي تعرضت له بعدن

الجمعة, 28 تشرين2/نوفمبر 2014 19:48
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

كانت الساعة الثامنة مساء الخميس، استلمت راتبي الضئيل من أحد مراكز البريد في مدينة عدن. حثيت الخطى، وانا مملوء غبطة، لأني سأتمكن من شراء بعض الأشياء، لأسرتي، ولأصدقاء كنت قد وعدتهم بها.

وصلت إلى سوق مدينة كريتر، ومن هنا سأشتري بعض الملابس أحذية نسائية، عطورات، وأغراض أخرى، كان الزحام قد خف في هذا السوق، وأنا على عجالة من أمري، كما هي عادتي في كل مرة أتهيأ فيها للسفر.

أنا في عدن منذ أكثر من شهرين، وهذا غياب طويل عن أسرتي، تذكرت وانا اهم بمغادرة السوق الحلوى، نعم الحلوى التي طلبها مني الرائع فتحي ابو النصر، وسيكون من المناسب شراء كمية اضافية لبعض الاصدقاء، لا يمكنك أن تكون قادما من عدن دون ان تعود ومعك "الحلاوة".

كنت قد قدمت إلى هذه المدينة، ضمن الفريق المكلف بمهمة تنفيذ البصمة والصورة في المنطقة العسكرية الرابعة "عدن" التي تنفذه وزارة الخدمة المدنية لمعالجة حالات الازدواج الوظيفي في الجهاز الاداري للدولة والمؤسسة العسكرية والامنية. هو مشروع قديم، لكنه تعثر خلال الأربع السنوات الماضية، وكان لابد أن يعاد تحريكه مؤخرا، بعد تنفيذ الجرعة السعرية في المشتقات النفطية كجزء من المعالجات الاقتصادية التي قد توفر اكثر من فرصة عمل امام العاطلين.

في وقت قياسي انتهيت من التسوق، هذه المهمة التي يكرهها الرجال، معهم الحق في كرهها. وبينما كنت اغادر السوق، والأكياس في يدي، رحت اتخيل فرحة اطفالي بما اشتريته لهم، بالتأكيد سيفرحون، وستكون فرحتى الكبرى بمعانقتهم واحدا واحدا. كنت لا أزال مع هذا الخيال الجميل، عندما قاطعني صوت امرأة.

- حق العشاء يا اخي لو سمحت الله .....

تجاهلت الصوت، محاولا العودة إلي انسيابي مع الحلم وضحكات اطفالي الصغار. لكن الصوت يرفض أن يتجاهلني، فالمرأة كررت توسلاتها بعبارات متعددة.

توقفت عن الحلم والمشي والتفت إلى ناحية الصوت، واذ بالمرأة تبالغ في الاستجداء، "حق العشاء" هي أكثر عبارة تكررت، يبدو أنها تعني ذلك، لعلها لم تجد حق العشاء، كانت هذه هي الأفكار التي خطرت لي، فهي لم تكن واحدة من أولئك المتسولين الذين نصادفهم كل يوم.

في الغالب لا اتعاطف مع المتسولين، لكن هذه المرأة كانت قد نجحت في استعطافي، قلت لها: فلوس ما فيش، تعالي إلى ذلك المطعم وخذي العشاء الذي تشتيه وانا بحاسبه.

فجأة انقلب ذلك الصوت المستجدي إلى صوت حاد، اختفت نبرة المسكنة وتحولت إلى صراخ في وجهي. أصبت بالدهشة، لم استوعب هذا التصرف. حاولت الانصراف بينما صراخها يعلو أكثر. من الرصيف المقابل هرع نحوي خمسة شبان كان اكبرهم غليظ ومتوسط الطول يرتدي فانيلا حمراء رياضية ومعوز وله لحية كثيفة، الاربعة البقية كانوا اصغر مني طولا وحجما متساويين في البنية بثياب شبابية، أحدهم كان اعجما او انه ادعى ذلك. كانوا يحاولون الامساك بي فتدخل رجل اخر واقال لي: امشي يا ابني خلاص، وأنتم ايش في معاكم؟ موجها الحديث نحوهم. مشيت بخطى مرتعشة، مدرك ان خطرا أصبح يتربص بي، رأيته بعيون تلك العصابة.

حاولت التواري عنهم ودخلت احد المحلات؛ فتبعوني الخمسة. اخرجوني من المحل بالقوة وقالوا انهم سيقتادوني إلى قسم الشرطة واحكموا عليّ السيطرة، بسبب ذلك لم اتمكن من المقاومة، فاقتادوني وهم يوجهون لي التهم بمضايقة النساء بالسوق اي "التحرش" ويوجهون لي الأسئلة بطريقة تهكمية: من أينه انت؟ ايش اللي تسويه هنا؟ وايش اللي جابك هنا؟.

تلاشت مني في تلك اللحظات كل تلك المشاعر التي اجتاحتني وانا اتجول في السوق، اشتري الاشياء، عشرين متر هي المسافة التي اصبحت تفصلني عن الدكان الذي حاولت الاختباء فيه، وسط جولة كريتر الشهيرة بجولة "الفل"، وهنا انهال عليّ الخمسة الاشخاص بالضرب المبرح، مرت لحظات ثقيلة كالموت، بعدها التقطت أنفاسي، لم أعرف ما الذي حدث، لكني اصبحت مضرجا بالدماء، يداي فارغتان من تلك الاشياء التي كنت قد اضفيت عليها كثير من المشاعر. لقد فقدتها، أعني تلك المشاعر، بالأصح كنت قد فقدت أدميتي في تلك اللحظة.

ما قيمة الانسان ان لم تصان ادميته؟ ما أقساه من شعور أن ترى نفسك مهدور الادمية. الخطر لم ينتهي بعد، لهذا حاولت ان اتمالك نفسي وان لا اصاب بالانهيار امام ذلك التوحش. 

بعد كل ذلك الضرب وبعد ان فقدت اشيائي وما تبقى لدي من مال، وأيضا نظارتي الطبية، كان أفراد العصابة الخمسة يواصلون اقتيادي وسط عيون المارة الذين شاهدتهم، وكأن هذا حدث في حلم، يوسعوني ضربا لأسباب لم استطع استيعابها. كانوا يدفعوني امامهم بقوة، ورأيت بجوارهم شخص ذو لحية طويلة، حليق الشارب، قسمات وجهه تعقد من هذا الموقف، لديه عينان غائرتان كانت ترمقني بحقد ارعبني اكثر من الضرب الذي تعرضت له.

سمعت ذلك الشخص الممتلئ ذو اللحية الكثيفة والذي بدا وكانه زعيم لتلك العصابة وهو يخاطب ذلك الرجل المرعب:

- كيف يا شيخ؟ أيش نسوي مع هذا، جالس يضايق الحريم بالسوق؟ فين نوديه؟

لحظتها ادركت اني ميت لا محالة، وتراءت لي صور الموت بأشكاله المتعددة، حاولت ان اتماسك اكثر رغم الانكسار والفزع الذي انا فيه، حاولت أيضا ان أظهر لهم استسلامي اكثر. ربما أستطعت أن أطمأنهم بالانصياع الكامل، كان أحدهم يمسك يدي اليسرى، تجلت في تلك اللحظة صورة ابني الصغير اوسان وهو يجهش بالبكاء في حضن امه، وأمام مشهد من هذا النوع كان عليّ أن أتحلى بمزيد من الشجاعة، لهذا سحبت يدي بقوة وركضت وأنا أصرخ: تبعونا القسم يا..... واطلقت تلك الجملة البذيئة وانا اركض اسرع باتجاه القسم.

وصلت القسم منهار القوى وغير مستوعب، هل نجوت منهم ام ان الخطر لا زال قائم؟ غير مستوعب ما يدور بالمجمل من تلك اللحظة التي سمعت فيها صراخ المرأة.

تمالكت نفسي قليلا، بكلمات خائفة شرحت لضابط القسم ما واجهته للتو، حاول تهدئتي وطمأنني بأني سأخذ حقي من الجناة، كان قصيرا ممتلئ الوجه، بشارب خفيف، ويرتدي ملابس مدنية. أجريت اتصالات بالزملاء والمشرفان على اللجنة في بادئ الامر، رد مشرف الدفاع على اتصالي وابلغته اني تعرضت للاعتداء من قبل عصابة وتمكنت من الهرب إلى القسم وباني انتظرهم هناك وكان هذا اول شخص ابلغه بذلك. بعدها رفض الرد على كل اتصالاتي.

اتصلت بمشرف الخدمة المدنية الزميل نجيب البعداني واخبرته بالقصة فقال انهم بالطريق. وبينما انا منتظر وكل شيء يتلاشى امامي وتبرز بدلا عنه علامة استفهام كبيرة، كنت لا أزال غير متأكد من كوني قد نجوت فعلا بوصولي إلى هذا المكان.

بدا لي المكان مألوفا حيث كنت قد اقمت في الاستراحة التابعة لهذا المبنى في العام 2010م وكنا حينها في لجنة البصمة والصورة الخاصة بوزارة الداخلية في محافظة أبين.

وانا اجري المزيد من الاتصالات تفاجأت بذلك الشخص الذي كان يقود العصابة، سأعرف فيما بعد بأنه يسكن في حافة القطيع "كريتر"، وبأنه واحد من عناصر الامن التابعة للقسم، وأكثر بأنه ينتمي لحزب الاصلاح ويتبع جماعة تغيير المنكر التابعة لجماعة القاعدة في عدن.

وصل ومعه المرأة واثنين اخرين من الذين اعتدوا عليّ، كان احدهم الاعجم ومعهم ذلك الشيخ المرعب، أي نظرات حقد يمكن لهذا الرجل أن يمتلكها؟

ادخلهم الضابط المستلم إلى مكتبه وبقيت انا منتظرا خارج المكتب. بعد خمسة دقائق تم استدعائي، فدخلت، لم يكن نفس الضابط الذي استقبلني في البداية. لم ادرك متى وصل الزملاء وكيف دخلوا. بعد دخولي إلى المكتب، تفحصتهم كانوا نجيب وفؤاد وعمي صالح وكلهم من الخدمة المدنية وجميل السبئي من فريق الدفاع.

ساد هرج في المكتب، ثم قدم الضابط للمرأة التي كانت تجلس امامي ورقة قال انها تنازل منها عن تهمة التحرش الذي قمت به وان هؤلاء الشهود مع المرأة. كانوا هم انفسهم الذين نفذوا الاعتداء يقومون بدور الشهود.

 ابديت اعتراضي على ذلك، لكن الضابط قال لي:

- اتحمد الله انك وصلت لعندي بهذا الشكل، اغلبهم يصلون مكسرين، وبعدين هذه حرمة، الكل سيصدقها فيما تدعيه وستروح انت فيها.

وجه حديثه للمرأة بصوت تصنع فيه الاستعطاف:

وانت يا اختي وقعي على التنازل وهو يكفيه اللي فيه.

واصلت اعتراضي، وقلت له بأن هؤلاء الثلاثة هم من اعتدوا عليّ وانهم اخذوا ما بحوزتي من اشياء كنت اشتريها من السوق ونظارتي الطبية والفلوس.

واصل اقناعي بلغة فيها من الترهيب والتخويف وسط صمت كل الزملاء الذين استنجدت بهم. وقعت المرأة على تلك الورقة ومضت، وأمر الضابط الشخص الذي كان يقود العصابة بالاعتذار لي، خاطبه: وانت يا "بوشة" قوم اعتذر له. عرفت انه يدعى البوشة، وهو أحد جنود القسم. رفضت الاعتذار وغادرنا القسم بسيارة احد الزملاء بعد رفض الضابط القيام بتدوين محظر تحقيق واتباع الاجراءات القانونية.  قال لي الضابط ومعه زميلي عمي صالح الضبياني أن ما قام به هو لصالحي انا.

شعرت بالخذلان الكبير في تلك الاثناء فوق ما اعانيه من الام. لا يبدو أن هذا القسم يستطيع انصافي وردع هؤلاء الوحوش ومنعهم من الاعتداء على الناس، شعرت بانكسار ورحت أغوص في أعماق الألم السحيقة.

فكرت بإثارة الموضوع اعلاميا، قد اتمكن من تحريك القضية والدفع بها إلى مستوى آخر غير المستوى الهزلي الذي سعى القسم وضعها فيه، لا يمكن اغلاق القضية بتلك الصورة المستهترة.

تواصلت مع الزملاء واثير موضوع الاعتداء في اكثر من وسيلة اعلامية، كان ابرزها موقع الاشتراكي نت وصحيفتي الشارع والاولى وعدد من المواقع الالكترونية الاخرى. وجدت القضية من يتفاعل معها، وهنا بدأت استعيد تماسكي. اتصالات الكثير من الزملاء والرفاق والاصدقاء اشعرتني بالطمأنينة، خفف عن هول الصدمة جراء كل ما تعرضت له.

نقابة الصحفيين والامانة العامة للحزب الاشتراكي، ادانت الحادثة وحملت الاجهزة الامنية المسئولية، كل هذا، والتغطية الاعلامية تلك ارعبت الجناة وازعجت قسم شرطة كريتر. ربما لم تكن بحساباتهم اني اعمل صحفيا وان الامور ستذهب الى هذا المستوى. القسم الذي لم يدون بلاغ بالحادثة ولم يفتح محضر بالتحقيق، رغم طلبي، بدا مرتبكا.

 مساء السبت ورد اتصال من ادارة القسم، استقبله العم صالح، فقدم الى الفندق الذي ننزل فيه منفعلا ويشتط غضبا من ما تناولته صحيفة الاولى وكانت الفاظه متهكمة، تعاملت معه ببعض البرود حتى وصل بأن ينعتني بقلة الحياء لعدم تقديري موقفه امام معاريفه في القسم بعد حضوره وتخليصي من المشكلة حد قوله. طلب من الزملاء الحضور للقسم للشهادة الساعة العاشرة صباح الاحد، لكي يتم عمل محضر بأن القضية قد أنتهت. أخبرته ان هذه قضيتي انا وباني سأتوجه صباح الاحد الي النيابة لتقديم شكوى بالقسم وكنت عازم على ذلك فعلا لولا التداعيات التالية.

بعد ساعة من اتصال القسم وصلتني رسالة اخرى، حملها أحد الأصدقاء ومفادها بان المعتدين يهددون بتصفيتي اذا لم أهدئ اللعب واغادر عدن. قال ان جماعة تغيير المنكر تبحث عني لإقامة شرع الله وان كل الخلايا التابعة لها في التواهي والفتح والمعلا تترصد تحركاتي. كانت النصيحة بمغادرة عدن في الحال، فأذعنت لها وسط هذا الرعب وغادرت عدن منكسرا.

بداية الامر كنت اظن ان الموضوع مجرد عصابة بلطجة وسرقة وتتعامل بحقد مع كل ما هو وافد إلى عدن، لكن من خلال تتابع الاحداث ومجرياتها يتضح لي ان المسألة تتعدى هذا البعد الي استهدافي شخصيا ومحاولة ارعابي او الانتقام لأسباب تبدو لي حتى هذه اللحظة غامضة. احاول ربط الاحداث من خلال تفاعلي مع محيطي خلال الفترة الماضية. احيانا اصل الى نتائج تبدو منطقية فأتراجع عن اعلانها لمزيد من التأكد.

سأظل انتظر ان تقوم الاجهزة المختصة في محافظة عدن بإجراء تحقيق شفاف بالقضية وضبط الجناة ومعرفة دوافعهم الحقيقية بعيدا عن القصص الملفقة والتي يتم من خلالها تمييع القضايا واخفاء دوافع المجرمين.

 

قراءة 1863 مرات آخر تعديل على الجمعة, 28 تشرين2/نوفمبر 2014 19:54

من أحدث

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة