الاستثمار في حقل المعرفة

الخميس, 04 كانون1/ديسمبر 2014 18:25
قيم الموضوع
(0 أصوات)

نعلم جميعا أن الحزب الاشتراكي اليمني يقف اليوم موقف الحائر ازاء أي نشاط استثماري للأموال التي في حوزته، ويعود هذا لأسباب كثيرة، أغلبها واضحة، وتتعلق بتجربة الحزب في المجال الاستثماري الخاص، وهي التجربة التي سبقت حرب صيف 94.

بعد تلك الحرب تعرضت أموال واستثمارات الاشتراكي للنهب من قبل السلطات والمتنفذين، كما تعرضت للمصادرة والانكار من قبل القائمين عليها، لعدم وجود ضوابط صارمة تحكم هذه الأموال، وأيضا لأن الحزب بعد الحرب أصبح غير قادر على متابعة استثماراته، نتيجة الضعف الذي عاشه وفرض عليه، وأصبح بفعلها بالكاد يستطيع أن يناضل من أجل البقاء سياسيا وشعبيا.

وفرت نتائج الحرب ظروف مغرية لتصادر أموال الحزب، سواء تلك المستثمرة بشكل علني أو المستثمرة بشكل سري، عندما كان الحزب يعهد بالأموال لأشخاص ينتمون له، بناء على عقد الثقة وحدها، دون أن يكون هناك علاقات قانونية واضحة تحكم هذه الأموال، وتمكن الحزب من استعادتها، مهما كانت الظروف.

يتعلق الأمر بطبيعة الحزب الاشتراكي، فقد كان يفتقر للخبرة الكافية للاستثمار في المجال الخاص، فهو حزب دولة وصاحب مشروع ريادي في الاستثمار العام عبر مؤسسات الدولة، لهذا عندما قرر الدخول في الاستثمار الخاص، فإنه كان بحاجة لاستثمار أمواله، بتلك الطريقة التي ستجعله يخسر معظمها، ثم يحجم بعد ذلك عن الدخول في أي تجربة جديدة.

ولدت تلك التجارب ونتائجها حالة من الفوبيا اتجاه أي استثمارات خاصة لأموال الحزب، خصوصا وأن هذه الأموال بهيئتها الحالية شبه المجمدة لا تسلم من عمليات الفساد. فقد استطاع الفساد أن يغزو مؤسسات الحزب القائمة، بفعل ثقافة الفساد التي عمل النظام على ترسيخها في المجتمع طوال سنوات، وكان لابد أن تشمل هذه الثقافة الحزب وان بحدود ضئيلة كونه أحد مكونات هذا المجتمع، وهذا الأمر ضاعف من مخاوف قيادة الحزب من تكرار تجربة الاستثمارات الخاصة، باعتقادهم، فإن هذا سيجعلها أكثر عرضة للفساد.

بأي حال من الأحوال، لا يمكن لأموال الحزب أن تبقى شبه مجمدة، بينما يواجه الحزب اليوم مسؤوليات كثيرة ملقاة على عاتقه، بل ويحتاج إلى ميزانية كبيرة لكي يستطيع أن يقوم بنشاطه السياسي والاجتماعي على نحو مقبول، وفي ذات الوقت لا يمكنه أن يدرج المبالغ المتوفرة لديه اليوم في ميزانية دون أن يكون لديه مصادر دخل متعددة، توفر له، ميزانيات السنوات القادمة.

يمكن تفهم التوجس الذي ينتهجه الحزب عندما يتعلق الأمر بالمال، لكن أيضا يبقى من غير المعقول، أن يتوقف الحزب عند هذه النقطة، وكأنها الحدود النهائية لما يمكن القيام به.

ومع التسليم بأن الحزب لا يستطيع أن يدخل مجال الاستثمار الخاص من الباب الذي يدخله أغلب مرتادي النشاط التجاري الذين يفضلون مجالات الاثراء السريع والأنشطة المشبوهة التي لا تعتمد على الانتاج الحقيقي، بل عبر احتكار التوكيلات الخارجية واغراق السوق المحلي بالبضائع الأجنبية، ومع التسليم بأن الحزب لا يستطيع بالأموال القليلة المتوفرة لديه، وبالوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلد، أن يشيد المصانع ويساهم في تنمية الاقتصاد الوطني وباستثمار أمواله بالطريقة الصحيحة، إلا أن هذا لا ينفي وجود مجالات أخرى يستطيع الحزب من خلالها استثمار أمواله بما يتسق مع توجهاته، وبما يخدم أهدافه، وأيضا بما يعود عليه بالأرباح الكافية ليقوم بنشاطاته المختلفة.

المجالات التي أتحدث عنها هنا، لا تعدو عن كونها مشاريع صغيرة، يمكن انشاءها بالشراكة مع مستثمرين أخرين، بشرط أن يكون نصيب الحزب فيها، بما يزيد عن 51 %، لكي يستطيع أن يرسم الخطوط العريضة لهذه الاستثمارات، والقيام بدور الاشراف المباشر عليها، ولكن بشرط أن يتحقق لها القدر الكافي من الاستقلالية المالية والادارية، ووفقا للعلاقات القانونية التي تحكم مجمل الاستثمارات الخاصة، فهذين الأمرين كفيلان بأن تحقق الاستثمارات النجاح، وبجعلها بمنأى عن الفساد، الذي ينخر النشاطات العامة وشبه العامة.

أحد تلك المجالات المتاحة أمام الحزب للاستثمار فيها، هو الاستثمار في حقل المعرفة، وهو حقل واسع، ويحقق نجاحات كبيرة في كثير من البلدان، لكن حظ بلادنا من الاستثمار فيه لا يزال ضعيفا، وهذا يوفر عامل اغراء، وبالطبع يتسق مع توجهات الحزب، ومع الأهداف التي يناضل من أجلها، ويأتي في مقدمتها رفع مستوى الوعي لدى الشعب.

من الاستثمارات التي يمكن الحديث عنها في هذا الحقل، تأسيس دار نشر كبيرة، تقوم بأنشطتها على المستوى الوطني والعربي، بحيث تواكب نشر أحداث الأعمال الفكرية والسياسية والأدبية اليمنية والعربية، وأيضا الأعمال المترجمة لأول مرة من لغات أخرى، على أن تنشأ لهذه الدار علاقات تجارية في مختلف البلدان العربية، وتشارك بفعالية في مختلف معارض الكتب التي تقام فيها.

المجال الثاني الذي يمكن للحزب الاستثمار فيه، هو انشاء مكتبة ضخمة وشاملة في العاصمة صنعاء، توفر جميع الكتب والاصدارات التي تحظى باهتمام القراء، وأيضا الأفلام السينمائية، والمطبوعات المحلية والعربية، مع انشاء فروع لهذه المكتبة في عواصم المحافظات الكبيرة، أو في جميع المحافظات التي يوجد فيها حراك ثقافي، بهدف الاستثمار أولا، وبهدف تنمية هذا الحراك، ومحاولة خلق سوق رائجة للكتاب وللمعرفة.

أما المجال الثالث فيتمثل بإنشاء مؤسسة للصحافة والطباعة والنشر، توفر المطابع الحديثة اللازمة لعملها التجاري، وتصدر عنها صحيفة يومية مستقلة، لا تحمل بالضرورة توجهات الحزب، بقدر ما تسعى لخدمة المجتمع على أساس مهني، إلى جانب اصدار المؤسسة لمجلة شهرية، أدبية فكرية سياسية، واصدار صحيفة ثقافية نصف شهرية.

هذه مجالات متوفرة، وامكانية الاستثمار فيها لا يمكن اعتباره مغامرة، فعوامل النجاح فيها كبير جدا.

وفي هذا الحقل، حقل المعرفة هناك ايضا مجالات أخرى يمكن التفكير في الاستثمار فيها، حتى وان بدا الربح الذي سيتحقق من ورائها في البداية بسيطا، لكن بالنظرة البعيدة فإن هذه المجالات ستمنح الحزب فاعلية أكبر، وستستهدف أعضائه وقياداته بشكل مباشر، مع الانتباه إلى أن الاستقلالية الادارية والمالية شرط أساسي لنجاح أي مشروع.

من هذه المجالات: انشاء مركز للدراسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية توفر له الامكانيات اللازمة. انشاء مراكز لتعليم اللغة الانجليزية في مختلف المحافظات، تمارس أنشطتها بشكل عام، وتمنح أعضاء الحزب تسهيلات وخصومات كبيرة. انشاء مركز لتعليم الكتابة الإبداعية والاحترافية، على غرار المراكز والمدارس المنتشرة في معظم دول العالم، تستهدف المهتمون في هذا المجال برسوم معقولة، أو بمنح مجانية يعطيها الحزب للمهتمين، ويبحث عن داعمين يغطون نفقاتها.

أترك هذه الاقتراحات على طاولة المجلس الوطني للحزب الاشتراكي، المنتظر انعقاده منتصف هذا الشهر، لإيماني بأن هذا الحزب هو من يعول عليه اليمنيون في احداث الفارق لصالحهم، لكن الحزب لن يستطيع تحقيق ذلك مالم يبدأ التفكير بشكل جدي في احداث الفارق أولا داخل مؤسساته، مع العلم أن هذه الاقتراحات ليست الخيارات الوحيدة المتاحة.

جدير بالإشارة أن حالة التعالي ازاء حقوق الحزب المنهوبة، وحقوق أعضائه، من المهم أن تتوقف وأن تشكل لجنة لمتابعة هذه الحقوق بطرق قانونية.

نعلم جميعا بأنه لا يوجد حزب تعرض لعملية تنكيل كما تعرض له الحزب الاشتراكي خلال العشرين عام الأخيرة. وأمام المجلس الوطني الكثير من المهام السياسية والتنظيمية، ومع ذلك فإن المهام الأخرى لا تقل أهمية، من بينها ما طرحه هذا المقال. فالحزب لن يبقى فاعلا ما لم يعالج مختلف المشاكل التي يواجهها، وأيضا خلق البيئة والظروف المناسبة التي ستجعله يقوم بدوره المطلوب.

 

 

 

 

قراءة 1339 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة