أخـــر الأخبــــار

 

اليمن بين الدين والدولة والقبيلة والعنف

الإثنين, 02 تشرين2/نوفمبر 2015 20:50 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

مدخل

إن غياب مؤسسات الحكم الرشيد ، والتوزيع العادل للثروة في مجال التنمية المجتمعية والاقتصادية المستدامة للبلاد ، فإنه لا النفط ولا عائداته الناضبة ، قادرة على أن تؤمن للنظام ما اعتاد عليه من رعاية واسعة لضبط شبكة التوازنات العشائرية والقبلية وأصحاب المصالح المعتمدين على تقاسم الثروة ومقدرات البلد ، من دخل النفط والقروض والمساعدات والهبات ، والنتيجة استفحال مكونات الأزمة السياسية التي تطوق البلاد وتنحو به نحو الانهيار والتشظي والانفجار وتقاطع العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي تتجلى في شكل إرهاب وتطرف ديني عنيف ، وصراعات قبلية وجهوية دينية ذات منزع طائفي أو جهوي ، مما قد ينذر بانهيار شامل للدولة ومكوناتها ، وانفراط عقد المتحد الاجتماعي ، الذي حاول اليمنيون عبر تاريخهم الطويل ، النضال من أجل تحقيقه ، ولا يزال عزيز المنال عليهم ، فقد وصلت الدولة درجة من الضعف إلى حد لم تعد قادرة على مواجهة الحركات الاجتماعية المقاومة للهيمنة التسلطية للفئات الحاكمة المتمثلة في التحالف العشائري القبلي مع المؤسسة العسكرية والأمنية ، والتضييق على ما تبقى من الهامش الديمقراطي والتعددية السياسية ، وما يترتب على ذلك من ازدياد واتساع رقعة العنف والمواجهات المسلحة (حروب صعدة) والحروب القبلية (مأرب ، الجوف ، عمران ، ذمار ، البيضاء ، شبوه) ...إلخ والحركات الاجتماعية الاحتجاجية السلمية الجنوبية ، جراء الانقلاب على اتفاقات الوحدة ، التي توجت بحرب صيف 1994م ، وما نتج عنها من تهميش وإقصاء واستيلاء على الأراضي والمزارع والمؤسسات والحيازات التي كانت تملكها دولة الشطر الجنوبي قبل الوحدة ، كذلك خصخصة المؤسسات الاقتصادية المتواضعة بالرغم من الدعوات المتكررة التي نادت بها القوى السياسية والاجتماعية الداعية بضرورة تطبيع الحياة السياسية والاجتماعية ، وتصفية أثار الصراعات السياسية ، ولكن القوى المتحكمة بالقرار السياسي لم تلتفت إلى مثل هذه الدعوات ، التي استشعرت خطورة ما تمر به اليمن من أزمات تمثل تهديداً حقيقياً لمكونات المجتمع والدولة من جهة . ومن جهة أخرى على المحيط الإقليمي والدولي ، الذين ينظرون إلى هذه الحالة اليمنية ونظامها السياسي بأنه نظاماً فاشلاً وعلى شفا الهاوية .

مظاهر الأزمة:

 وتتمظهر الأزمة بأشكال مختلفة أبرزها الواقع السياسي واتساع رقعة المعارضة للحكم وبنيته العشائرية والقبلية ومركزيتها الفردية ، التي تتجلى في

(‌أ)      المؤتمرات القبلية .

(‌ب)    ومؤتمر قبيلة حاشد.

(‌ج)     ومؤتمر السلام الذي دعا له تاجر السلاح فارس مناع ، ومؤتمر قبائل بكيل .

بالإضافة إلى ما سبق الإشارة إليه من الحركات الاجتماعية المناهضة للحكم ممثلاً بحروب صعدة الستة ، ومطالب الحراك السلمي الجنوبي ، وأحزاب اللقاء المشترك ولجنة الحوار الوطني التي تقدمت برؤيتها للانقاذ الوطني ، والتي ضمت إلى صفها في معارضة الحكم فئات وشرائح اجتماعية كانت إلى عهد قريب في القلب من بنية الحكم والكل يرى في هذا النظام العشائري العصبوي السبب في ممانعته إقامة نظام سياسي ، وطني يقوم على المؤسسات الدستورية والمواطنة ، والمساواة في الحقوق والحرية والديمقراطية والعدالة نظام يعكس ويمثل كل اليمنيين وطموحاتهم الراهنة والمستقبلية .

إن تآكل شرعية النظام الاجتماعية الممتدة من الشمال إلى الجنوب ، ومن الغرب إلى الشرق ، وبروز حالات التذمر واتساع قاعدتها السياسية والشعبية التي طالت حتى صفوف الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام وامتداده الإستراتيجي القبلي ما هو إلا رفض للأساليب والأدوات والكيفية التي تدار بها البلاد ، المتمثلة في الحكم بالأزمات والحروب الدورية التي وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم ، ولم يعد المجتمع قادراً على التحمل والاستمرار الذي يفضي به إلى الهاوية والإنهيار والتشظي، ولم يعد الأمر مقبولاً حتى على الصعيد الخارجي "الدولي والإقليمي" الذين يرون بأن الحروب واللعب بالورقة الدينية والطائفية كأوراق سياسية يستمد منها النظام مشروعية استمراره غير مجدية بل أنها غدت من العوامل التي ينتج عنها الكوارث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وتسريع لحالة الانهيار والتشظي للمجتمع اليمني والتحديات المتعلقة بالأمن والاستقرار ومدى العجز في مواجهة التطرف والإرهاب للجماعات التكفيرية والمليشيات المسلحة "القاعدة والسلفيين وصلته التاريخية بهذه الجماعات منذ آواخر الستينيات من القرن الماضي وبالذات بعد المصالحة الوطنية الملكية الجمهورية والعلاقة المتينة بهذه الجماعات قد برزت في أوائل الثمانينيات من نفس القرن".

 أن النظام السياسي فيما كان يسمى اليمن الشمالي قبل الوحدة 1990م قد دفع بعدد غير قليل من اليمنيين في عقد الثمانينيات من القرن الماضي للذهاب إلى أفغانستان للمشاركة في مقاومة التدخل السوفيتي في أفغانستان بدعم لوجستي من دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ، الأكثر تمويلا للجماعات السلفية وللمجاهدين العرب في أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتي آنذاك لأفغانستان. 

شجع النظام السياسي اليمني عند خروج السوفييت من أفغانستان عام 1990م مواطنيه على العودة وسمح في نفس الوقت لعدد غير قليل من المجاهدين العرب للإقامة في اليمن " وقد استغل النظام السياسي جماعات الإسلام السياسي والناشطين الإسلاميين طيلة الثمانينيات لقمع المعارضة الداخلية . كما تم استخدامهم وبعد الوحدة عام 93-1994م في مواجهة شريك الوحدة الحزب الاشتراكي واغتيال عدد كبير من أعضائه وناشطيه السياسيين وقد عمد النظام في اليمن منذ وقت مبكر خصوصاً بعد عودة المقاتلين (المجاهدين) من أفغانستان على دمج الجماعات الإسلامية المتطرفة في الأجهزة الأمنية المختلفة وفي العديد من وحدات الجيش وفي قيادة المؤتمر الشعبي العام ، ذلك ما كشفه عبد النبي والفضلي ، وعلي جار الله الذي أغتال الشهيد جار الله عمر الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي في أكتوبر من عام 2004م ، كما أن الاستقطاب والتنسيق بين الدولة ومجاهدين أفغانستان من اليمنيين لم يعد خافياً على الداخل والخارج "ومنذ العام 1993م أشارت وزارة الخارجية الأمريكية في تقرير للمخابرات رفعت عنه السرية ، أن اليمن أصبح محطة هامة بالنسبة إلى كثير من المقاتلين الذين يغادرون أفغانستان -وقد قاتلوا جنباً إلى جنب- خلال حرب صيف 1994م مع القوات الحكومة ، وفي الآونة الأخيرة قاتلوا مع القوات الحكومية في صعدة وضد الجنوبيين ولكن وعلى الرغم من أن المقاتلين الإسلاميين من مختلف المشارب ربما قاتلوا في أي من الميدانين المذكورين"( 1). أي في حرب صعدة وضد الحراك السلمي الجنوبي ، والأمر هنا ليس بصيغة ربما كما ذهب الباحث كرستوفر بوتشيك، بل أكيد ، ومعلن عنه ببيان أخير للقاعدة الذين قاموا بتفجيرين للسيارات مفخخة في منطقتي الجوف وصعدة نهاية العام الجاري 2010م انتقاماً لشهدائهم من رجال السنة الذين قتلهم الحوثيين أثناء الحرب كما زعم البيان القاعدي .

إلى جانب ذلك يقوم النظام في اليمن إلى دعم ورعاية المليشيات القبلية المسلحة وتمويلها بالسلاح والأموال ويعتبرها الرديف الثاني بعد القوات المسلحة والأمن في مواجهته الداخلية كحرب صعدة والحراك الجنوبي ، وقد أسموهم "بالجنجويد" على غرار جنجويد السودان ، كما يعمل على دعم الاحتراب فيما بين القبائل ، وتغذية النزاعات القبلية متمثلاً قول الإمام أحمد بن سليمان في القرن السادس الهجري :

ولأضربن قبيلةً بقبيلةٍ         ولأملئن بيوتهن نياحا

وهو الأمر الذي يعمق مكونات الأزمة المتشابكة من خلال إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات التقليدية كنهج سياسي واع في مواجهة التحديث وترسيخ أسس الدولة الوطنية الديمقراطية . دولة القانون والنظام يستمد شرعيته من الشعب ، لا من الموالاة والقرابة والأعوان مقابل مايُغدقه عليهم من أموال ، نتيجة السيطرة على الثروة والقوة ، وإنتاج الشقاقات الداخلية وكبح التطورات السياسية والاقتصادية للمجتمع ، كما أنه -أي النظام السياسي في اليمن- صار مصدر قلق للمحيط الإقليمي والدولي ، بسبب صلته بالجماعات الجهادية والتكفيرية "القاعدة" التكتيكية حسب ما تشير إليه التقارير الدولية ، كما أنه يعمل على سلفنة "من سلفية" المجتمع في المدرسة والجامع والخطاب الإعلامي منذ زمن بعيد ، ويتكئ على الفتوى الشرعية في مواجهة أزماته الداخلية ، لا إلى الحلول والمعالجات السياسية العقلانية والديمقراطية ، للمشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تنتصب أمامنا ، ويندفع باتجاه الصوملة والسودنة ، وإمكانية "أقلمة وتدويل أوضاعه الداخلية " .

"إن القضية السياسية الجنوبية وحرب صعدة ، والأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية الطاحنة ، وظاهرة القاعدة ، والمليشيات المسلحة المختلفة (القبلية والدينية) وغياب الدولة المدنية الوطنية الحديثة ، وهيمنة الحكم العصبوي العشائري والفردي ومركزية القرار ، أفقد الحكم القدرة على إدارة البلاد ، إلا بالأزمات والصراعات الاجتماعية . والاضطرابات والإرباك في واقع تعدد مراكز القرار والقوة فيه ، وخير شاهد على ذلك الموقف غير الواضح والمرتبك من القضية الجنوبية وتصفية آثار حرب صيف 1994م ، والحراك السلمي الجنوبي بالرصاص والقتل والاعتقالات والمحاكمات ، وهو قمة الاعتراف العملي بالقضية الجنوبية وكذا الموقف المرتبك المتناقض والمضطرب في تفسير وقراءة حرب صعدة"( 2)

أما طبيعة التكوين القبلي في المجتمع اليمني فقد باتت مفهومه وهي جذر أساسي لأزماته السياسية المزمنة وتعقيدتها المؤثرة في كل مفاصل الحياة في اليمن وتشابكاتها مع الحالة السياسية الاقتصادية والدينية عبر التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر فمنذ أن بدأ عصر النفط في اليمن في ثمانينيات القرن الماضي ، شوه نظام المحسوبية الذي رعته الدولة في صراعاتها القديمة الجديدة وما تزال كآلية تقليدية معتمدة في السياسة والنهج السياسي "لتسوية النزاعات ، وتوزيع الموارد"(3 ) على شيوخ القبائل لكسب ولائهم واعتبارهم ركائز النظام التقليدي المدعوم رسمياً بقوة ، وكلما ضعف ، يعاد انتاجه ، بالرغم من أن نظام المحسوبية والحصول على الميزانيات والهبات الذي تقدمه السلطة السياسية للمشائخ ، يعمق من الفجوة بينهم وبين مجتمعاتهم المحلية في مقابل الإذعان السياسي لها الذي يبرز بعد ضعف ذلك النظام تحت وطأة الأزمة الاقتصادية وتناقص الموارد ، مما أدى إلى التحاق الجماعات الدينية الجهادية المتطرفة والتكفيرية بالقبيلة والتركيز على التحالف معها وإعداد نفسها كبديل قابل للتحقق للنظام السياسي القائم في اليمن ، وبالعودة إلى العدد العاشر من مجلة تنظيم القاعدة صدى الملاحم أغسطس 2009م يدعو قاسم الريمي أحد المؤسسين للقاعدة في شبه الجزيرة العربية كل الفئات الاجتماعية من فنيين وعمال مهرة وتجار وأطباء ومهندسين ...إلخ إلى الالتحاق بالمجاهدين من أجل إقامة الخلافة الإسلامية إبتداء من اليمن ، الذي يعتبر في نظرهم على وشك السقوط في قبضتهم، وانقلب التكتيك السياسي على المتكتك . والسحر على الساحر ، فقد انتقل التنظيم الجهادي التكفيري ممثلاً بالقاعدة إلى حشد الأنصار بالدعوة للالتحاق بالمجاهدين والسعي إلى القضاء على النظام السياسي القائم وتدميره بالقوة وبالتحالف مع البنى القبلية في اليمن ، وأن النظام السياسي القائم ، لم يعد يمثل أي عقبة أمام الطموحات التي تسعى لتحقيقها وهو اسقاط النظام في السعودية كهدف رئيسي ، لأن الضعف الذي يدب في جسد النظام السياسي في اليمن على حافة الانهيار ورئيسه علي عبدالله صالح على وشك الفرار من اليمن كما أدعت مجلة صدى الملاحم المشار إليها آنفاً .

إن قسماً كبيراً من المناطق النائية في اليمن ، يفتقر إلى حكم رسمي فعال تديره الدولة ، لكنه لا يعني أن هذه المناطق غير ممكن خضوعها والسيطرة عليها من قبل الدولة ، وفرض هيبتها عليها ، وإنهاء بالتدريج المكونات القبلية واحكامها التي تدخل في تناقض وتضاد مع مؤسسات الحكم الرشيد ، فالقبيلة قوة محلية مؤثرة على الحكم ، ومسلحة بأسلحة مختلفة ، دائماً ما تدخل في صراعات ونزاعات مسلحة مع الحكومة المركزية في اليمن ، حيث تلجأ فيها الدولة إلى الأعراف والقواعد القبلية لحل ذلك النزاع فيما بينها وبين القبائل المسلحة ، بل أنها تشجع وتدعم فرض وسيادة أعراف القبيلة على القانون وتطبيقه ، الأمر الذي أضعف من تواجدها في المناطق القبلية وبسط سيطرتها عليها ، بل أنها أضحت تهدد أي محاولة لإقامة متحد اجتماعي ، وكابح للتطور السياسي والاجتماعي الذي سعت وتسعى لإقامته جميع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ، ويعرقل العملية الديمقراطية برمتها .

ولهذا فإن الجماعات الجهادية التي اتخذت من المناطق القبلية والنائية أماكن لتواجدها وممارسة أنشطتها وأقامت معسكراتها لتدريب عناصرها بشكل علني ، (حطاط ، الجوف ، مأرب ، شبوة ) ، التي أسميت فيما بعد بخطاب رسمي "مثلث الشر" (لرئيس الجمهورية) ، وقد أشارت العديد من التقارير الصحفية إلى أن قوى نافذة في الدولة والنظام السياسي تدعم هذه الجماعات الجهادية ، وفي مقابلة تلفزيونية مع الشيخ حميد الأحمر مع قناة سهيل اليمنية أكد في حديثه أن فواز الربيعي كان في دار الرئاسة ، وخرج من هناك لمزاولة نشاطه الجهادي ، والالتحاق بعناصر الجهاد من تنظيم القاعدة . ومن منطلق إستراتيجي لتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب ، تيمناً بما هو حاصل في باكستان وأفغانستان الذي اتخذت من مناطق القبائل هناك قاعدة انطلاق نشاطاتهم الجهادية والعسكرية ، اتخذت قاعدة شبه جزيرة العرب من المناطق القبلية في اليمن والنائية منها قاعدة انطلاقها "ففي فبراير 2009م أظهر زعيما القاعدة في جزيرة العرب ناصر الوحيشي وأيمن الظواهري نائب أسامه بن لادن تفهمهما بأن النظام القبلي ، لا يزال ضرورياً للحكم والسلطة في أجزاء واسعة من اليمن ، فقد دعا الوحيشي القبائل اليمنية إلى مقاومة الضغط لمنح الدولة السيطرة على اراضيهم ، وبالمثل دعا الظواهري قبائل اليمن إلى القيام بمثل ما قامت به قبائل باكستان وأفغانستان بدعم تنظيم القاعدة حيث قال : " أخاطب القبائل اليمنية النبيلة وأقول لها ، لا تكونوا أقل من إخوانكم في قبائل البشتون والبلوش الشجاعة ، الذين أعانوا الله ورسوله ، ودوخوا أمريكا والصليبيين في أفغانستان وباكستنان ... ياقبائل اليمن الكريمة والشجاعة ... لا تكونوا عوناً لعلي عبدالله صالح عميل الصليبيين ... كونوا عوناً وسنداً لإخوانكم المجاهدين" ؛ عزفت هذه التصريحات على وتر الشرف القبلي ، والاستقلال الذاتي والأهم من ذلك على عداء القبائل القديم للسلطات المركزية ومن الواضح أن تنظيم القاعدة يستفيد من عدم الثقة المترسخة لدى القبائل بالدولة"( 4)

ولعل الضغوط الدولية والأمريكية على وجه أخص بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م قد أجبرت النظام السياسي في اليمن على ضرورة المجابهة العسكرية مع الجهادية التكفيرية لتنظيم القاعدة في اليمن ، والسماح للطائرات والصواريخ الأمريكية بضرب بعض القواعد والتجمعات لتنظيم القاعدة وعناصرها الخطرة مثل أبو علي الحارثي في مأرب والمعجلة في محافظة أبين الجنوبية عام 2010م ، تحت تغطية إعلامية من النظام السياسي اليمني ووسائله الإعلامية المختلفة بأن القوات المسلحة والأمن اليمنية هي التي تقوم بهذه العمليات العسكرية لكي تتحاشى الاستياء الشعبي لتفريطها بالسيادة الوطنية وهو ما كشفته مؤخراً وثائق ويكيليكس ، من أن الرئيس علي عبدالله صالح قابل الضربات الأمريكية في المعجلة بارتياح ، طالباً من الأمريكيين استخدام طائرات نشر القنابل الموجهة بدلاً من استخدام صواريخ كروز الموجهة كونها ليست دقيقة جداً في الوقت الذي سوف نقوم أو نستمر بالقول بأن القصف بالقنابل هو أمر يخصنا ولا يخصكم أنتم ، مما دفع بنائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع والأمن رشاد العليمي مداعباً على طريقته بحسب الوثيقة عندما أخبر البرلمان بأن القنابل التي قصفت أرحب وشبوة ، وأبين ، كانت أمريكية الصنع ، ولكنها استخدمت لقصف تلك المناطق بواسطة الـ(ROYG) قوات الدفاع الجوي اليمني"( 5)

وبهذا تكون الدولة التي كانت ترعى وتحضن الجماعات الجهادية وعناصر تنظيم القاعدة تتجه نحو فك الارتباط مع هذه الجماعات التي بدأت توجه ضرباتها الإرهابية وعملياتها باتجاه المصالح الأجنبية وباتجاه النظام السياسي في الوقت الذي تحاول فيه القيادات القاعدية استمالة القبائل في مناطقهم أو السماح لها بإيجاد موضع قدم بينها وإيجاد موضع قدم لها ولعناصرها في المناطق القبلية ، وفرض رؤاها الأيديولوجية التي تتناقض مع النظام القبلي ونزوعه نحو الاستقلال عن مركز الحكم ، وعن مكتسبات القبيلة ومصالحها التي حققته عبر التاريخ بالسلطة والأنظمة الحاكمة المتوالية على البلاد منذ القرن العاشر قبل الميلاد ، وأقامت العديد من الدول والدويلات وكانت الرافعة التي قامت واتكأت عليها الإمامة منذ القرن الثالث الهجري وحتى قيام الثورة 26 سبتمبر 1962م "وبدت الحرب الأهلية بين الملكيين والجمهوريين 1962-1969م أقرب إلى الحرب بين القبائل الجمهورية والقبائل الملكية ، وهذا يعود إلى حد كبير إلى سياسة الاسترضاء التي أتبعها العسكريون المصريون والسياسيون اليمنيون الجمهوريون ، وبالنسبة إلى المصريين كانت التعقيدات الغريبة التي اتسم بها الوضع اليمني مفاجئة تماماً . ويتخذ الدور الخطير للقبيلة في الأحداث التي تلت مشكلة في الإعلان الدستوري الذي أصدره مجلس قيادة الثورة في 21 أكتوبر 1962م بعد زهاء شهر واحد من قيام الثورة ، أعلن عن تشكيل مجلس الدفاع الأعلى ليتكون من مشائخ الضمان ... كما صدر في 30 نوفمبر 1963م قرار جمهوري ينص على تكوين المجلس الأعلى لشؤون القبائل برئاسة رئيس الجمهورية وعضوية مشائخ القبائل الكبار ، وقد سبقه قرار جمهوري آخر بتأسيس مجالس مشائخ القبائل في جميع المحافظات ويمنح لهؤلاء المشائخ سلطات دستورية ، ولا يرفعون تقاريرهم إلا إلى المجلس الأعلى لشؤون القبائل ، ونص القرار على إجراء انتخابات دورية للمشائخ الذين يتم اختيارهم على أساس نسبي ، مع الأخذ في الحسبان حجم القبيلة التي يمثلون ، فيختار المشائخ المحليون المجالس المحلية القبلية التي تختار بدورها أعضاء المجلس الأعلى للقبائل .

ومنذ ذلك الحين عززت هذه المؤسسة وجودها في السلطة وفي تسيير شؤون البلاد (وبخاصة لأن مجلس الدفاع الأعلى تولى مسؤولية الأمن في البلاد ، حيث باشر كل شيخ قبيلة الدفاع عن حدود قبيلته مع السعودية) وكان حضورهم الإداري قوياً من حيث أن ستة محافظين كانوا مشائخ قبائل"(6 )

وبهذا خرجت القبيلة مسلحة ، بل وأكثر تسليحاً بعد الحرب الأهلية اليمنية في الستينيات وأكثر قوة ، واستفادت من هذه الحالة الاجتماعية السياسية التي مكنت القبيلة من لعب أدوار سياسية مهمة في ما بعد ، بل ومنذ قيام الثورة 1962م ، حيث بدأ نشاطها السياسي في عقد المؤتمرات "مؤتمر عمران ، وخمر" التي فرضت بقوة تأثيراتها على المشهد السياسي العام في اليمن ، وتتابعت هذه المؤتمرات حتى 2010م، مثل مؤتمر قبيلة حاشد ، ومؤتمر السلام في صعدة ، ومؤتمر قبائل بكيل في الجوف في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ، تأكيداً واجتراراً لخرافة رابطة النسب القحطاني العدناني وعودة بالعقل إلى الصراع فيما بين هاتين العصبتين كمخزون ورأسمال رمزي ومادي ، يظهر عند كل أزمة سياسية اجتماعية في اليمن وعندما يستجد أي جديد في مواجهة أي تطور اجتماعي سياسي ديمقراطي، فالصراع القبلي العدناني القحطاني الذي أخضع للنقد والتفنيد منذ أحمد بن حنبل وابن خلدون، لا يزال يمسك بتلافيف من يتصدرون القرار السياسي والشأن العام في اليمن، ويكبل اليمنيين بقيود عديدة فمازال الملبس واللهجة والمنطقة والمذهب تطغى ثقافياً ووجدانياً على الرابطة الوطنية، ولأن البنية القبلية ضد كل متحد اجتماعي، فإنها تلجاء إلى استخدام الدين وتسخره كشعار، في مواجهة الدعوات المدنية الحديثة الحاملة لأسس النظام والقانون والمواطنة المتساوية وحرية الاختيار، ودائماً ما تقتات النخب القبلية على النزاعات والصراعات الداخلية وتقوى بتأجيجها، وتنتعش في ظل النزاعات السياسية والقبلية والطائفية وغلبة الفكر الظلامي ميدانها المفضل.

          وقد كشف هذه الحالة حميد الأحمر في مقابلة مع قناة  "سهيل " ونشرها موقع مأرب برس ، أواخر عام 2010م من أنه في حمى القبيلة حاشد لأنعدام النظام والقانون وسيطرة الدولة وبسط نفوذها وهيبتها على الجميع وغياب دولة الحق والقانون والمواطنة، واللجوء إلى الكيانات والعصبيات الضيقة وطلب الحماية منها، وحصر المواطنين في عبوات صغيرة، وهو ما يعكس علاقة الدولة بالقبيلة ومؤسساتها وبالمؤسسة الدينية التي تحتضنها الدولة التي تستند إليها وترجع لها عند كل أزمة، وما القرار الجمهوري الصادر في أواخر العام 2010م بإنشاء هيئة العلماء المرجعية برئاسة عبد المجيد الزنداني، ووجود جامعة الإيمان وأكثر من 4500 مدرسة دينية في عموم البلاد لا تشرف عليها الدولة إلا دليلاً واضحاً على هذه المزاوجه بين الدين والدولة والقبيلة والعلاقة التاريخية التي تربط هذه المكونات السياسية الاجتماعية الثقافية، بروابط وعري تقوم على تبادل المصالح والمنافع وتعميم العرف القبلي وسيادته على المجتمع اليمني، بدلاً من سيادة النظام والقانون والشرعية الدستورية والحق في المواطنة المتساوية، حالة حسن مكي نائب رئيس الوزراء السابق، والشبواني في مأرب الذي قتل عن طريق خطأ لوجستي، بصاروخ من طائرة بدون طيار، وقد سارعت الدولة ورأسها باسترضاء قبائل مأرب بإرسال جنبية (الخنجر مع العسيب) رئيس الدولة ومائة بندقية وثلاثمائة مليون ريال، لقبول التحكيم القبلي بحسب صحيفة الشارع، وكذا حالات اختطاف السواح الأجانب والتفاوض مع الخاطفين من رجال القبائل ودفع الفدية لهم في مقابل سلامتهم وإطلاق سراحهم مثال ذلك السواح الألمان الذين تم خطفهم إلى مأرب ، والإيطاليين في بني ظبيان وغيرها من الأمثلة .

          إن عقلية الأستبداد التي تخضع جميع مؤسسات الدولة لا تعترف بغير القبيلة وعلى رأسها الشيخ الموالي ــ حتى وإن قبلت بوجود هامش حراك سياسي معين لا تريده إلا على شاكلتها ــ " تنفي وجود المواطن وتنظر إليه في أحسن الأحوال باعتباره " رعوياً ". وتعتمد اعتماداً قوياً على النظام الطبقي القائم على الحرفة وعلى وهم السلالة والنسب، وعلى نحو أعم، لا تعترف القبيلة " والجماعات الدينية كذلك " بمفهوم وحدة الرابطة الوطنية ويبقى أي ذكر للوحدة الوطنية لغزاً، وفي أحسن الحوال أطناباً غير ضروري. ولأن البنية القبلية تعتمد على عصبية النسب " والجماعات الدينية على الرابطة الدينية " فهي لا تسمح بحرية الاختيار، وتتحدد حدودها على أساس الأرض والنابعين في حين تعتمد رابطتها الأساسية مع المجتمع والحكومة على النهب وعلى ما تحصل عليه من مكاسب مادية ولذلك لا دور لها في بناء وطن قوي وصحي "( 7). وما نهب صنعاء في 1948م وعدن في 1994م إلا شاهد على علاقة الدولة بالقبيلة وعلاقة هذه الأخيرة بالمؤسسة الدينية، كما ينفي ما يذهب إليه بعض الكتاب والباحثين من أن البنية القبلية جزء من مكونات المجتمع المدني الديمقراطي، والمساواة التي ينتفي في أوساطها التمايز الطبقي د. محمد عبد الملك المتوكل، د. فضل أبو غانم، فالسلاح والمال عملتان قياسيتان عند القبيلة، والإباحة والاستحلال من مكونات الوعي القبلي والديني الجهادي. وأرضية خصبة لممارسة النهب عند الأولى، والتطرف والإرهاب عند الثانية، ولا مكان في عرف القبيلة وبنيتها للديمقراطية، وتبعاً لذلك تقف مؤسسة القبيلة فوق الأفراد والمجموعات، فالدولة هي التي تولد المجتمع في حالة القبيلة. وليس المجتمع من يبني الدولة بحسب الدكتور أبوبكر السقاف المرجع السابق .

          فالحكم الذي يستمد شرعيته من القبيلة وأعرافها ومن الفتوى الدينيةوتدير الظهر للقوانين والأنظمة النابعة من إرادة الشعب بموجب عقد اجتماعي ممثل بدستور يكفل جميع الحقوق المدنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية يمنح القبيلة الوسائل التي يجعل منها قادرة على تكييف وتسخير الجديد لمصالحها، فإنها تقبل برعاية وحماية المجاميع الجهادية " تنظيم القاعدة " فيما إذا قدموا أنفسهم كتابعين لها وفي خدمة مصالح القبيلة، كما هو حاصل في باكستان وأفغانستان، أو كجزء منها. كحالة أبو علي الحارثي والشبواني في مأرب والعولقي في أبين على سبيل المثال، ففي سبتمبر 2009م وزع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب شريط فيديو عن العملية العسكرية التي قامت بها الدولة على مأرب ضد مجاميع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، نفذتها وحدات من الجيش والأمن كان المتحدث في الشريط قاسم الريمي الذي كان من ضمن المحتجزين في سجن الأمن السياسي وفر منه مع مجموعة من السجناء ، يستميل فيه رجال القبائل ، ويصور العملية على أنها موجهة ضد القبيلة بغرض نزع أسلحتها وكسر شوكتها، وأن نجاحها كان بسبب تواطئ بعض شيوخ القبائل وتحولهم إلى جنود وعبيد لعلي عبد الله صالح، الذي هو نفسه عبداً للريال السعودي والدولار الأمريكي مستثيراً فيهم قيم الرجولة والشهامة التي ماتت ودفنت مع الأسلاف، وما كان للحكومة أن تجرؤ على غزو أراضيهم بالدبابات لولا خيانة بعض المشائخ على حد قوله في ذلك الشريط .

          ومعلوم أن " بعض القبائل تستغل خطر تنظيم القاعدة لكسب النفوذ في مواجهة الدولة ففي أكتوبر 2008م واصلت الحكومة المفاوضات مع قبيلة عبيدة في مأرب وذلك في محاولة لتأمين استسلام الريمي. ويعتبر جزءاً كبيراً من قبيلة عبيدة موالياً للحكومة (ولاسيما كبير مشائخها) الأمر الذي يوحي بأن حماية الريمي كشفت عن وجود شقاق داخل القبيلة نفسها، حيث عرض بعض المشايخ الأقل شأناً على الريمي (وربما آخرين من أمثاله) ملجأ لزيادة نفوذهم داخل القبيلة في مواجهة الحكومة أو كبير المشايخ، وفي حين يستمر نظام المحسوبية الخاص بالدولة في التآكل، فإن ثمة نقصاً في الأموال المتاحة لمن هم على هامش ذلك النظام، ما يؤجج التنافس على الموارد المستنفدة. حيث أصبح المشايخ الصغار أكثر عرضة لأن تنقطع عنهم هبات الدولة، وربما يكونون أكثر ميلاً لمساعدة عناصر القاعدة الفارين لتأكيد أهميتهم أو ملء الفراغ الناجم عن تراجع سلطة الدولة(8) في مناطقهم .

          وفي عرف القبيلة وثقافتها فإن كرم الضيافة للأجنبي الوافد من خارجها وطالب حمايتها فإن تسليمه لخصومه يعد من الأمور توصمهم بالعار وانتقاص الكرامة والشرف والنخوة القبلية، وفي العدد " العاشر من صدى الملاحم الناطقة بأسم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب أثنت على المشايخ والقبائل بتوفير الملاذ للمجاهدين، مذكرةً إياهم بالسيرة النبوية التي أشارت إلى بعض القبائل التي وفرت ملاذاً آمناً للرسول (ص) مستفيدة من المظالم الكثيرة والأزمات الاقتصادية والسياسية التي يخلقها النظام بنفسه ويعيد إنتاجها، مما يوحي لعناصر القاعدة والجهاديين أنهم الورثة الفعليين لهذا النظام السياسي الذي يطوق نفسه بأزمات مرحلة منذ زمن والتنصل من واجباته تجاه المجتمع بالوفاء بالتزاماته الخاصة بتطييع الحياة الاجتماعية والسياسية والإصلاح الشامل لتطوير النظام السياسي، والتنمية المستدامة في جميع مناطق الجمهورية ، وأنهاء حالة الفساد والمحسوبية. فالحق في المواطنة المتساوية هو سيادة النظام والقانون، وتصفية مجمل الصراعات السياسية الاجتماعية المزمنة هو الأمر الذي يحد من طموح القاعدة والزبائنية القبلية القائمة على كسب الولاءات، والاتكاء على التناقضات الاجتماعية وتغذيتها من خلال الإمساك بالثروة والسلطة المتآكلة يوماً عن يوم والمضي نحو الهاوية والانهيار الشامل.

          أن النزوع نحو العنف الذي يجتاح المجتمع ويهدد كيانه بات يمثل مصدر قلق على المستوى الإقليمي والدولي، ويحاول النظام السياسي أن يقدم نفسه للعالم، بأنه شريك فاعل في مكافحة الإرهاب والتطرف، وإجراءاته لا تدل على ذلك البته، نتيجة الضعف والهشاشة التي تنخر في جسده، فالقاعدة والقبيلة مدعومتان بقوة من أطراف نافذة في صناعة القرار السياسي في اليمن، وكل المؤشرات والتقارير تشير إلى ذلك، فالدعم المنقطع النظير الموجه إلى الجماعات الدينية في المدرسة والجامع والجمعيات الخاصة والهيئات، لا تدل على أن النظام السياسي في اليمن يتحو باتجاه المكافحة للإرهاب وللجماعات المتطرفة والإرهابية، بل حاضناً وممولاً لها منذ وقت مبكر، ويستخدمها ويسخرها لخدمة أهداف سياسية آنية خصوصاً عند نشوب أو بروز أي أزمة " كروت بحسب التعبير الرسمي المفضل " ولكنها تنقلب بالضد منه، وتفلت من تحت سيطرته لنزوعها نحو الاستقلال والسيطرة على قرارها السياسي والإيديولوجي الخاص بها، شأنها شأن القبيلة التي تقاوم السيطرة عليها وعلى أفرادها من قبل أي نظام سياسي، مثال ذلك المؤتمرات القبلية القديمة والجديدة، لحاشد وبكيل.

ولكن النظام السياسي القبلي يلعب على بعض التناقضات التي تنشأ بين الحين والآخر ويستفيد سياسياً منها ولو إلى حين، فنزوع القاعدة إلى العنف المفرط ضد المدنيين يلحق الضرر بحالة الاستقرار والتوازن الذي تحاول القبيلة المحافظة عليه مع الأغراب من خارج القبيلة التي أضفت عليهم حمايتها، ففي العرف القبلي ينطوي على خرق السلام فيما بين القبائل إلى دورة من العنف والانتقام لا تنتهي " الثارات " القتل مقابل القتل إلى ما لا نهاية، ودورات العنف بين القبائل على مدى أجيال ممتدة في اليمن أدت إلى نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية كارثية، فبعد الهجوم على السياح الأسبان الذي نفذته تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في منطقة مأرب في شهر يوليو 2007م " نظمت الحكومة اليمنية مؤتمراً في مأرب لمناقشة الأسباب والحلول الخاصة بالإرهاب في المحافظة القبلية جداً مأرب، وكان يعتقد أن إحدى القبائل في مأرب تؤوي وتؤازر مقاتلي القاعدة الذين نفذوا هذا الهجوم على السياح الأسبان، وقد وجهت الدعوة إلى عدد من الدبلوماسيين الأجانب وموظفي عدد من المنظمات غير الحكومية الأجنبية العاملة في اليمن لحضور هذا المؤتمر، وقد ضمنت الحكومة اليمنية أمنهم من خلال استخدام مرافقة قبلية أمنية مختلطة، وفي سياق عملية المرافقة، جلس عضو من كل قبيلة من قبائل مأرب في القافلة التي نقلت الأجانب من وإلى مكان انعقاد المؤتمر، وكأن أي هجوم محتمل ضد القافلة من شأنه أن يعرض للخطر إما عضواً في القبيلة التي كانت تساعد تنظيم القاعدة، وإما عضواً من قبيلة مجاورة، الأمر الذي كان الهدف من هذا هو إشعال صراع دموي انتقامي وتعرض قبيلة المهاجم أو الراعي القبلي إلى الخطر "( 9). وبهذا تكون السلطة قد ضمنت حماية الأجانب، وبالتالي تعرف أن القواعد المعقدة للأعراف القبلية كفيلة بلجم تنظيم القاعدة والعمليات الإرهابية، كون التوجه القبلي ومكوناته الثقافية قد تدخل في تناقض بل وافتراق مع الإيديولوجية الراديكالية التي يحملها تنظيم القاعدة، وفي الأخير فإن القبيلة لها تطلعاتها وأهدافها التي تتعارض مع الأجندة السياسية للدولة ولتنظيم القاعدة انطلاقاً من مبدأ:

   " مانا قبيلي أحد ولا أحد دولتي                  أنا قبيلي من ملا كفي قروش"     

ويحاول النظام السياسي ذي الطبيعة العشائرية القبلية أن يستميل القبائل الذي يتمركز مجاميع تنظيم القاعدة في مناطقها، محاولاً إقناعهم بأن خيار التعاون معها هو الأفضل، لذا فقد قامت بتشكيل ما سمي " بالصحوات " على غرار التجربة العراقية، في مناطق شبوه، ودعمها بالأسلحة والأموال لكي تواجه عناصر القاعدة، وهو ما يعني انتشار مليشيات قبلية مسلحة، قد يكون الهدف منها مواجهة الحراك السلمي الجنوبي أيضاً، في الوقت الذي كانت المحافظات الجنوبية مسرحاً لنشاط الجماعات الدينية المتطرفة والجهادية، بدفع وتمويل الدولة ورعايتها كما شجعت إعادة الكيانات القبلية بقوة التي كانت في حالة كمون، قبل 1990م، ولا أقول زوال نتيجة الخطاب السياسي والإيديولوجي، ونهج الجبهة القومية وفيما بعد الحزب الاشتراكي، وإنهاء حالة الصراع القبلي العشائري القبلي والثارات المزمنة فيما بينها، ومحاولته إيجاد متحد اجتماعي فعلي وقائم على الأرض، صاهراً كل الكيانات من سلطنات وإمارات ومشيخات في كيان واحد، مفخرة الحركة السياسية اليمنية في المحافظات الجنوبية والشرقية في التحرر من الاستعمار البريطاني وزوال حالة التشطي الاجتماعي لكيانات ما قبل الدولة.

          وقد ساعد النظام السياسي العشائري القبلي إعادة إنتاج تلك الكيانات القبلية بقوة، كما دعم الحركات والجماعات الدينية المتطرفة بنفس القوة، ودفعت بهم إلى هذه المناطق بمن فيهم العائدين من أفغانستان، واستوعبت واحتضنت الأفغان العرب بأعداد غير قليلة. وسمحت لهم بإقامة المعسكرات للتدريب، بل ألحقتهم في الوحدات العسكرية والأمنية، ووظفتهم في الصراع السياسي الذي نشأ بعد قيام الوحدة بين الشمال والجنوب ضد شركاء الوحدة من الحزب الاشتراكي اليمني، كما دفعتهم إلى القيام بالاغتيالات السياسية لعدد غير قليل من نشطاء الحزب الاشتراكي، وشاركوا في حرب صيف 1994م، وكان من أبرز قادتهم آنذاك جمال النهدي، وطارق الفضلي والبناء، وقد قيل قبل عام أو أكثر بأن منطقة جعار أصبحت إمارة إسلامية.

          هذا التزواج بين الدين والسياسية والقبيلة أصبح من المعضلات التي تواجه المجتمع اليمني، والنهج السياسي العام الذي أوصل اليمن إلى أن تكون البلد الأكثر خطورة في أحتضان وتصدير الإرهاب في نظر العالم وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية " ففي 25/10/2010م صرح محافظ شبوه علي حسن الأحمدي، بأن السلطات على علم بعناصر القاعدة المتواجدين في مديرية الصعيد، وبالأسم في مهرجان أقامته المديرية بعد العملية العسكرية بمساعدة ميليشيا الصحوات القبلية، ونبه إلى أن جبال كور العوالق ليست جبال " تورا بورا " كما يشبهها الإعلام المحلي والغربي مشيراً إلى أن أبناء الصعيد سيقفون سداً منيعاً ضد الإرهاب والتطرف، .. وشكر القبائل في جيش الصحوات الذين شاركوا الجيش والأمن في تمشيط مناطق الصعيد من عناصر القاعدة "( 10).

          وهو الأمر الذي يثير الشكوك حول إدعاء النظام بعدم معرفته لتلك العناصر، والذي تتضارب التقديرات الرسمية عن مدى حجم وقدرات تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وعددهم وإمكانياتهم، فالدكتور الإرياني يذهب إلى أن عددهم لا يتجاوز المائتين، في حين وزير الخارجية القربي قد ذهب في أحد تصريحاته إلى أن عدد عناصر القاعدة وصل إلى حوالي ثلاثة ألف عنصر، ويذهب حميد الأحمر إلى التشكيك في موضوع مساندة القبائل لتنظيم القاعدة مشيراً إلى أن النظام هو الذي يحركهم ويوجههم للقيام بعمليات إرهابية ومن ثم يقوم باغتيالهم ومطاردتهم بطائرات الهليوكبتر " للتخلص منهم حيث يذهب القول بأن " الإرهاب لعبة تستخدم من قبل السلطة لتسويق نفسها وكسب مودة المنظومة الدولية الغربية، وواضح أن العملية مدفوعة الثمن ، تخلق الأشياء من العدم وتزهق أرواح أبناء اليمن لمكاسب سياسية رخيصة ، .. من الذي أوجد الحاضن ويرعى ؟، من هم الذين يدخلون إلى دار الرئاسة، ويخرجون من هناك لينفذوا عمليات تفجير، وفي اليوم الثاني تلاحقهم "الهيلو كبتر" وتقتلهم، وكانوا لأشهر وسنوات داخل دار الرائاسة ... من الذي حاورهم داخل سجون الأمن لعدة أشهر، وخرجوا لتنفيذ عمليات، وكل من تم محاورتهم من القيادات للقاعدة .. من الذي أعطى التصاريح لمن يقوم بالعمليات التي تنسب إلى القاعدة وينتقلون من محافظة إلى محافظة وبأسلحتهم ، وفي اليوم الثاني يقولون أصادتهم الهيلو كبترات أو الصواريخ ... الإرهاب تحتضنه الدولة وتربية "(11 ) . نافياً أن تكون القبيلة حاضن له. فالعنف والإرهاب الذي يجتاح المجتمع من قبل الجماعات الدينية المختلفة والمتعددة، وخطابها الإيديولوجي التكفيري والإباحة والاستحلال، وثقافة المغازي والملاحم، والقيد والبسط والثأر، والتقطعات التي تمارسه القبائل للطرق العامة والاختطاف، والأعتداء على السواح الأجانب وعلى المنظمات الإنسانية الدولية التي تقدم خدماتها الطبية الإنسانية وتقتلهم، حالة مستشفى جبلة عام 2004م والحديدة في العام نفسه، وصعدة عام 2009م، وفي المقابل العنف الممارس رسمياً من قبل النظام السياسي تجاه المجتمع، والقرصنة والتهريب والفساد الذي ينخر في كل مفاصل ومؤسسات الدولة، كل ذلك أضر ضرراً بالغاً بمكونات المجتمع اليمني وعمقت من أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واللعب على الورقة الدينية، واستحضار المخزون الثقافي التقليدي لمواجهة قوى التحديث والمدنية، لإعاقة التطور الاجتماعي والسياسي في اليمن، وأصبح الخطاب الديني والقبلي هو السائد في المدرسة والجامع والجامعات المختلفة الخاصة والعامة، وفي وحدات الجيش والأمن، ووسائل الإعلام الرسمية المختلفة وتعميم أعراف القبيلة وأحكامها، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تفتيت المجتمع، كما تنمي ثقافة الكراهية والحقد، وتقضي على ثقافة التسامح بين الجماعات المختلفة، وتنحو بالمجتمع باتجاه التمزق والتشظي والانقسامات التي تتسم بالعنف تجاه الأغراب من خارج القبيلة أو المذهب أو الطائفة أو المنطقة أو النظام السياسي الذي يكفل كل هذا أو يشرعن الفيد والبسط على الأراضي والنهب للثروة والسلطة والنتيجة أزمات دورية ومستدامة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، ونزاعات مسلحة طاحنة ومدمرة، أخطرها العنف والإرهاب الديني، والرقص على المزاوجة بين الدين والقبيلة والسياسة، لم تعد اليوم محل قبول واستمرار داخلياً وخارجياً، لأن العصر قد نفض عنه مكونات ذلك الغبار التقليدي، فالقوى السياسية الاجتماعية اليمنية المختلفة النازعة نحو فرض دولة النظام والقانون، والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وثقافة التسامح والتحديث والمدنية، هي الأمل الوحيد وسفينة النجاة للمجتمع للخروج به من النفق المظلم الكئيب الذي قُود إليه اليمن ليدار بالأزمات، والممانعة تجاه التطور، ويغذ السير بسرعة الضوء نحو الانهيار مالم يتدارك الجميع الكارثة ويستجاب لصوت العقل والشروع بعملية الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وتصفية آثار الصراعات السياسية والحروب، وتطبيع الحياة بتطوير النظام السياسي، والاندماج في العصر " الضمان الأكيد للخروج من هذا النفق المظلم والكئيب "، وحل المعضلات الاجتماعية القديمة الجديدة، وأبرزها مشكلة صعدة أو ما يسمى بالحوثية والحراك السلمي الجنوبي أو ما يسمى بالقضية الجنوبية وإصلاح مسار الوحدة"( 12).

الهوامش

(1)     كريستوفر بونشيك ، اليمن كيف يمكن تجنب الإنهيار المطرد ؟ أوراق كارنيفي ، برنامج الشرق الأوسط ، العدد 102 سبتمبر 2009م ، ص 17

(2)     .  - قادري أحمد حيدر ، رؤية تحليلية نقدية للأزمة السياسية والوطنية الراهنة ، صحيفة الوسط ، الحلقات من 1-10 ، 2010م ، مع التحوير في النص المقتبس .

(3)       - سارة فيلبس ، ماذا سيحدث بعد في اليمن ؟ ، تنظيم القاعدة والقبائل وبناء الدولة ، مؤسسة كارينغي ، برنامج الشرق الأوسط العدد 107 ، مارس 2010م ص 6 .

(4)       - سارة فيلبس ، المرجع نفسه ، ص 8 .

(5)       - وثائق ويكليكيس ، تفاصيل الحديث الذي دار بين الرئيس علي عبدالله صالح ، والجنرال ديفيد بترابوس ، قائد القوات المركزية الأمريكية في يناير 2010م ، صحيفة   - المصدر ، 142 ، نوفمبر 2010 ص 9 .

(6)       -د. أبوبكر السقاف ، الوحدة اليمنية أزمة إندماج ، كتاب اليمن المعاصر ، ترجمة د. علي محمد زيد ، الفرات للنشر والتوزيع ، لبنان ، ط 1 2008م ، ص 165 – 166 .

(7)       - د. أبوبكر السقاف ، نفسه ص 167.

(8)     سارة فيلبس ، ص 11، مرجع سابق .

(9)       - سارة فيلبس ، ص 14، مرجع سابق ، ويمكن الرجوع إلى الدولة والقبائل في اليمن الحديث ، بول دريش ، ترجمة د.علي محمد زيد ، CD، وكتاب القصر والديوان مجموعة من الباحثين إشراف د. عادل الشرجبي ، إصدار المرصد اليمني لحقوق الإنسان ، 2010م .

(10)  -تصريح محافظ شبوة علي حسن الأحمدي ، نقله موقع التغيير الأخباري اليمني ، 25/10/2010م .

(11)  -حميد الأحمر ، مقابلة مع قناة سهيل اليمنية نشرها موقع مأرب بوس . مع ضبط الصياغة إلى حد ما .

(12)  -أنظر وثيقة الإنقاذ المقدم من اللجنة التحضيرية للحوار الوطني 2010م .

قراءة 1546 مرات آخر تعديل على الإثنين, 02 تشرين2/نوفمبر 2015 20:53

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة