الطابع اليساري للمزاج العام وتحولاته مميز

الجمعة, 13 تشرين2/نوفمبر 2015 18:24 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

لا يزال المزاج العام في اليمن، رغم التحولات العاصفة التي تبعت ثورة فبراير، لا يزال يتجه نحو اليسار. ليس بالمعنى الواضح للكلمة، ولكن نحو أغلب المضامين التي يحملها اليسار. بالطبع يمكننا القول ان هذا المزاج لا يعي ذاته تماما، لكنه يندفع ليعبر عن نفسه كمزاج يساري شديد الضراوة. قبل التقرير ان كان المزاج اليمني أو توجه الغالبية يساري الطابع أم تتخطفه رياح شتى، قبل ذلك هناك مسألتين يتوجب تعقبهما لاستيضاح الامر.

الأولى: هل كان هذا المزاج يساري الطابع من البداية، أي من اللحظة التي اندلعت فيها ثورة فبراير؟

المسألة الثانية: ما الذي يجعلنا نعتقد أن هذا المزاج أو التوجه لم يتغير خلال الأربع السنوات التي لحقت الثورة نتيجة للتغيرات الكثيرة على أكثر من صعيد؟

المسألة الأولى

نعرف ماهي الظروف التي اشعلت الثورة، من بؤس وفقر وامتهان للكرامة، نعرف كيف اصبح القهر بمثابة دستور وعلى الجموع الانصياع له. تجربة الاشتراكي في الجنوب وتوالي نضالات الحركة الوطنية مرورا بتجربة الحمدي، كل هذا ترك اثرا، رغم كل التشويه رغم اقصاء المجتمع من المجال العام، فقد تجلى الاثر في اندلاع ثورة فبراير.

لم تأتي ثورة فبراير من فراغ أو لمجرد ان هناك ثورة قد اندلعت في مصر وتونس. لتلك الثورات دورها في تحفيز اليمنيين غير ان الاسباب الرئيسية كان اتساع رقعة البؤس، انتشار سياسة الافقار والتهميش، تسيد القهر ومزيد من القهر ليصبح هذا هو الشيء الوحيد الذي يربط الطبقات الشعبية، السواد الاعظم، بالسلطة الحاكمة وطبقاتها الخاصة.

كانت الثورة تعرف ما الذي لا تريده. لا تريد هذا النظام الذي خرب كل شيء وجعل حياة اليمنيين جحيما، هذه الطريقة في ادارة شؤون البلد، هذا التراتب والهوة والواسعة التي اصبحت تفصل الطبقات الشعبية الواسعة عن غيرها.

حملت الثورة كما هي عادة الثورات مزاج عام يساري، غير ان الثوار حتى تلك اللحظة عرفوا ما الذي لا يردونه، ولم يعرفوا حقا ما الذي يريدونه.

تقريبا كان المجتمع قد شارف على انجاز مهمته، راكم الكثير من مشاعر الاحتقان وراكم رغبة جبارة في الخلاص، ما شاهدناه في الساحات كان تحول كيفي لذلك التراكم. ثم كان هناك حلقة مفقودة ربما تكون النخب مسئولة بطريقة ما عنها. فهي لم تبادر لبلورة هذا الاندافع لكي يستمر في طريق واضحة، كانت الجماهير تستشعر هذه الطريق غير انها لم تكن لتعيه تماما لوحدها.

تزامن هذا مع صراع موازي بين اقطاب السلطة القديمة، لكنه صراع لم يستقطب الجموع، ولأنها ظلت بلا قيادة وبرنامج، فقد تم حرف الصراع لصالح تلك الاقطاب بسهولة.

 في منشور سابق* كنت قد كتبت عن وضوح وعي الحاكمين وجلائه مقارنة بوعي الجماهير. عندما كتبت ذلك كان في بالي هذه المسألة، لطالما كان صالح رغم جهله المعرفي، أكثر من يعي المزاج العام ويعي متطلباته، بل وأكثر من ذلك يعي متطلبات تخريبه. إذن صالح أكثر من يعي المسألة وعلى راي الرفيق نشوان العثماني: الرجل يجيد اللعب على المتناقضات، لا يصنع الأحداث بقدر ما يستغلها، بالضبط وكأنه أحد ألمع مهندسي السياسة الأمريكية، لولا في أن الفرق أن الأمريكان دمروا وأحرقوا بلدان غيرهم فيما صالح دمر بلده الذي حكمه أكثر من ثلاثة عقود. بالطبع لا يزال صالح ساخطا على الاخوان المسلمين، هو يعرف أن الامكانيات المادية التي تراكمت لديهم الى جانب القدرة التنظيمية، كل ذلك كان سببا في تقويض سلطته، لكنه يدرك وهو يحث الخطى للانتقام أن ذلك لم يكن كل شيء. هكذا كان الأمر: تنظيم الاخوان وامكاناتهم الكبيرة، وضعت في طريق المزاج العام الذي ليس بالضرورة أن يكون منسجما مع توجهات الجماعة ـ لعل هذا أكثر شيء يحقد إزاءه على الاخوان ـ لقد نجح هذا المزيج غير المتجانس من تقويض سلطته، بينما كان يعتقد أن الشارع بدون تلك الامكانات لم يكن ليستطيع فعل شيء، وبنفس القدر لو أن تلك الامكانات وحدها سخرت لإزاحته فإن فشلها كان لابد محتوما. أستطاع صالح أن يميز مزاج الشارع الذي هو يساري الطابع، ويميز أن هذا المزاج لم يتبلور كليا بعد، ومن هنا كثف جهوده لاستقطاب أكبر قدر من هذا المزاج. في مقابلة عقب الاطاحة به قال أنه "كان شيوعيا في بداية حياته" بينما رأينا كيف أن الجناح المثقف في أجهزته الاستخباراتية أرتدت سريعا معطف اليسار، حتى قبل أن يفطن اليساريون الحقيقيون للأمر. عزز من رغبة صالح في الانتقام من جماعة الاخوان ورفضه عروض بعض قيادات الجماعة بإعادة التحالف بينهما، هو أن المزاج العام في الشارع لم يكن مؤاتيا لهذه الجماعة، خصوصا وأنها لم تعد محتمية بالجماهير كما فعلت اثناء الثورة. ثم أن هناك توجه اقليمي ودولي لمحاربة التطرف، الذي يشكل الاخوان بصورة ما أحد اعمدته. صالح بذلك كان يخرب الميدان الحالي للعبة، وعندما توجه لاستثمار اليسار، هو ايضا سعى لتخريب الميدان القادم.

من جهة أراد صالح تملق هذا المزاج، (الأمر ذاته بالنسبة للحوثيين، الذين لم تسعفهم أوهامهم التاريخية وحدها على التواجد، وأخذوا يسرقون مصطلحات اليسار على نحو بائس) ومن جهة أخرى أراد صالح ان يخرب ميدان المعركة القادمة في هذا الوقت المبكر، وذلك من خلال اعادة بعث الفوبيا ازاء كل ما يتعلق باليسار، ووضع أساسات مشوهة لأي مبادرة قد تنشأ وتحاول ترجمة هذا المزاج إلى برنامج.

أندفع مثقفي صالح (صالح كمنظومة وليس كشخص فقط. لزم التنويه) لبعث تراث اليسار بطريقة فجة من شأنها أن تثير حفيظة الشارع مجددا، بينما يطمح الشارع إلى ترجمة طموحاته في برامج واقعية بعيدة عن الشطحات. برامج اقتصادية واجتماعية وسيكون من الجيد أن اليسار الذي راكم الخبرات هو من يقوم بالمهمة.

 لقد عبر المزاج الشعبي عن ذاته من خلال مظاهر شتى، ولعل اشتراك المرأة في ثورة فبراير على ذلك النحو المدهش في بلد محافظ وغارق في تقاليده المحافظة، لعل ذلك أحد أبرز الشواهد على طبيعة المزاج العام. وهناك شواهد أخرى كثيرة لا نحتاج لتعدادها تؤكد الطابع اليساري لهذا المزاج. ما يعني أن واجب اليسار الملح، هو دراسة هذا المزاج كمقدمة لاستيعابه وتجديد نفسه من خلاله، وفي نفس الوقت كأولوية قصوى حمايته من العبث.

المسألة الثانية

تحيلنا المسألة الثانية المذكورة في مطلع هذا الحديث، الى زمن قصير مضى، فقد مرت اربع سنوات على اشتعال ثورة فبراير، وخلال هذه الفترة كان هناك الكثير من التغييرات المتسارعة، حلفاء الأمس أصبحوا اليوم شبه اعداء، وأعداء الأمس أو لنقل بعضهم عقدوا صفقتهم التاريخية وربما انجزوا المهمة الملقاة على عاتقهم، وأصبحوا في مكانهم الطبيعي. في الحضن الذي اعتقدنا انهم ثاروا عليه. لو أن هذه الأحداث وغيرها قد حرفت المزاج العام أو غيرته، فإن الظاهرة التي يفترض أنها حاضرة الآن، هي الاحجام الكلي عن الانخراط في كل ما يتعلق بالشأن العام. وهذا ما لم يحدث ولا يبدو أنه سيحدث على المدى القريب. لكن هناك سؤال آخر يتعلق بحقيقة تولد مزاج آخر موازي أو أمزجة متعددة تتنازعها الجماعات الدينية المتطرفة؟

كانت انتكاسة الثورة ومخلفات النظام الحية، ان جعلت المزاج العام عرضة لاستقطابات لحظية، استثمار حالة اليأس وفقدان الامل. غير ان هذه الاستقطابات لم تذهب في اتجاه واحد، بل في اتجاهات متطرفة عدة ليس جميعها تدعي الثورة، فقد تم استدعاء عوامل جديدة الى مسرح الاحداث. هذه العوامل مصطنعة كالعادة، وفي اول فرصة تتضح فيه الرؤية ستفقد فاعليتها.

 أعتقد أن الأمر عابر لا أكثر، فمثلا الظاهرة الحوثية اليوم، ليست بمنأى عن غيرها من الظواهر التي تطفو على السطح في أكثر من بلد عربي. بمعنى ان الربيع العربي، فتح الباب أمام مشاريع متخلفة كانت كامنة، مشاريع لها جذورها التاريخية والثقافية، وجاءت مرحلة مناسبة لتستنفر ذاتها في فورة سريعة لن تلبث ان تزول. نحن في مرحلة انتقال مهمة، حيث المجتمع يرتب اولويته بناء على معطيات أخرى وليس بالاستناد لتلك المشاريع. مهما يكن تحتم علينا ثورات الربيع العربي أن لا نسلم بكون الجماعات المتطرفة اصبحت العنوان الأبرز الذي يستقطب المزاج العام، لأننا سنقع في تناقض صارخ، فقد كنا في قلب تلك الأحداث ونعيش اليوم تأثيراتها. واذا ما عدنا للمشهد اليمني فيكفي أن الخيبات التي اعقبت ثورة فبراير لم تمنع الناس من الاندفاع الى ميدان المعركة بما توفر لديها من سلاح. لو أن التوجه العام اليوم يختلف عن التوجه الذي أشعل الثورة، فإن تلك الخيبات كانت كفيلة بحمل الناس على الإحجام وتفضيل الحياد التام. سيقال بأن المشاريع المتطرفة هي من تقود الصراع اليوم وليس التوجه الذي نتحدث عنه؟

 القوى المتطرفة تقود. هذا صحيح، ولكن بسبب أنها القوى الوحيدة الجاهزة عسكريا، ثم ان الظروف مؤاتيا لها، ليس تماما، هي فقط توفر لها فرصة حدوث تلك الفورة السريعة التي تحدثنا عنها سالفا والتي لن تلبث أن تخبو.  

خلاصة أولية

بالطبع لا يزال المزاج العام أقل من أن نصفه بالتوجه، فهو حتى الآن يفتقر للتنظيم، ولهذا السبب رأينا كيف أن تلك الجموع فضلت الخيار السلمي في اندفاعتها، وقبلت ان تدفع الكلفة عن رضى. الى جانب غياب التنظيم، كان ذلك بسبب ان السلاح ليس في متناول الجماهير. لم تكن السلمية في ثورة فبراير ترفا، بقدر ما كانت تكشف عن حجم الوعي الذي بلغته الجماهير، وعن مدى قدرتها على المغامرة. 

أهمية انخراط الجماهير في الصراع الحالي (تلك الجماهير التي شكلت اساس الثورة) مبعثه أنها بحاجة الى مراكمة الخبرات وتعويض كل ما فاتها. القول أن هذا صراع قوى متخلفة لا علاقة للجماهير الواسعة به، هو قول يريد لنا أن نسلم لتلك القوى منفردة أو مجتمعة دفة ان تقودنا في المرحلة القادمة، ان تظل متحكمة بالصراع لوقت طويل بل ومنحها الحق في هندسة مستقبلنا الذي بلا شك سيكون جحيمي. يوفر الصراع الحالي فرصة ثمينة ونادرة لجعلنا قادرين على تخمين أي مستقبل ينتظرنا، سيكون جيدا لو أننا قررنا الانخراط الواسع فيه.

كان البلاشفة يرفضون الحرب التي سبقت ثورتهم في روسيا، فهي حرب رأسماليات هدفها الأساسي مزيد من استعباد الشعوب، لكن تنديدهم بالحرب لم يمنعهم من الاشتراك فيها. لقد كانت تلك الحرب بمثابة معمل كبير يختبر فيه البلاشفة قدراتهم، يكتسبون فيه الخبرات، ولا ينسوا أن يعملوا على تقويضه.

الاشتراك في تلك الحرب وفر للبلاشفة فرصة استقطاب قطاعات واسعة كانت تقاتل بدون هدف، وكان نجاحهم ذاك أن جعلهم قادرين على اشعال ثورتهم والاطاحة بالقيصرية وافشال كل المحاولات اللاحقة التي ارادت استبدال القيصر بالعسكر. هو مثال مع الفارق بالطبع، لأن اليسار اليمني لم يمتلك حتى الآن تلك الرؤية التي ستترجم المزاج العام في برنامج للمرحلة القادمة. كما ان الحرب الحالية قادتها ثورة مضادة لثورة فبراير، ومن مصلحة الجماهير ان تدافع عن ثورتها. إلى جانب ان تحالف الحوثي وصالح في جوهره، يقوض كل النضالات التي خاضتها الحركة الوطنية، ويدمر الدولة التي هي الرمزية الأخيرة لتلك النضالات.

ــــــــــــــــــــــــــــ

*وعي الحاكمين

الحدس لا يزال هو السائد في الغالب عند الجموع المضطهدة، ووفقا لذلك تحدد هذه الجموع انحيازاتها، من موقف ضعيف ومتذبذب. نادرا ما يحقق هذا نتيجة ملموسة. بعكس الحاكمين. وعيهم يظل طوال الوقت صافيا وعمليا. في مثل حالتنا الراهنة صورة الحاكمين تهتز كل يوم وتهتز ثقتهم بأنفسهم، ذلك الوعي الصافي الذي اشرنا اليه يصبح مشتتا لدرجة كبيرة.

هذا ما تحققه الحرب التي تخاض لأجل أهداف قد تبدو واضحة ولكن في مسالك وعرة يكتنفها الغموض.

على تلك الجموع ان تستثمر فرصة ذهبية من هذا النوع، لو انها تريد الانعتاق فالكرة في ملعبها، عليها ان تترك الحدس وتبلور وعيا يمدها بالطاقة الكافية للظفر. على ان ذلك الوعي المتراكم في الواقع لن يتبلور كيفيا ما لم يكن هناك قيادة حقيقية تأتي من اوساط الجموع وتحوز على ثقتها.

نشاهد اليوم كيف ان القوى التي بادرت لتحمل المسئولية أصبحت تتصارع فيما بينها قبل ان يكون قد تحقق شيء على ارض الواقع. يعني هذا ان الثقة التي منحت لها لم تحملها على تجسيد المهمة. هي اولا قوى لا تعبر عن الجموع وثانيا منح الثقة والاتكال بدون ان يرافق ذلك مبادرة حقيقية لن يساعد على انجاز ولو جزء يسير من المهام. بكثير من الخطورة يصبح الأمر وكأنه مشكلة في الوعي، وحتى مع ادراك المشكلة فإن بحثها بنفس الاسترخاء السابق لن يمدنا بالحلول بل بتهويمات لا نهاية لها، حينها ربما سنعود لنشتاق لذلك الحدس الذي يمدنا بالامل. لكي اختم هذا الحديث على نحو خالي من التجريد، سوف استدعي ملخص نقاش سابق من هذا النوع مع الرفيق راشد محمد. المعنى الذي لخصه راشد يقول: وعي القاهرين هذا تشكل في سنوات طويلة، رغم ما تمنحه السلطة من صفاء وتفوق فإن أولئك الحاكمين من لا يزالون فاعلين اليوم، كانوا ايضا قد راكموا خبرة القهر من فشل كل محاولات الانعتاق التي قامت بها الاجيال السابقة. باختصار تعلموا بأباءنا وجاء الدور لكي نتعلم بهم.

قراءة 1769 مرات آخر تعديل على الجمعة, 13 تشرين2/نوفمبر 2015 20:44

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة